احتجاب بثينة عن جميل
خرج جميل لزيارة بثينة ذات يوم فنزل قريبًا من الماء يترصد أمةً لبثينة أو راعية يتخذها واسطة لتبليغ رسالته، وإذا بأَمةٍ معها قربة واردة على الغدير لتملأها، وكانت عارفة به، ولما تبيَّنها وتبيَّنته سلمت عليه وجلست معهُ وجعل يحدثها ويسألها عن أخبار بثينة ويخبرها بما يعانيه من ألم الفراق ويُحمِّلها رسائله إلى بثينة، ثم أعطاها خاتمه وسألها أن تدفعه لها وأخذ عليها موعدًا ترجع له فيه، ومكث ينتظر رجوعها، فذهبت الجارية إلى أهلها وقد أبطأت عليهم، فلقيها أبو بثينة وزوجها وأخوها فسألوها عمَّا أبطأ بها، فالتوت عليهم ولم تخبرهم بشيء عما حصل لها مع جميل وتعللت عليهم، فضربوها ضربًا مبرحًا ومن ألم الضرب أعلمتهم حالها مع جميل ودفعت إليهم خاتمه، وصادف أنه مرَّ بها في تلك الحالة اثنان من بني عذرة فسمعا القصة جميعًا وعرفا الموضع الذي فيه جميل، فأحبا أن يدرآ عنه هذا الخطر، فقالا للقوم: إنكم إن لقيتم جميلًا وليست بثينة معه ثم قتلتموه لزمكم في ذلك كل مكروه، وكان أهل بثينة أعز بني عذرة، فدعوا الأمَة وأعطوها الخاتم وأمروها أن توصله إلى بثينة وحذروها من أن تخبرها بأنهم علموا القصة، ففعلت، ولم تعلم بثينة بما جرى، ومضى الفتيان فأنذرا جميلًا وقالا: تقيم عندنا في بيوتنا حتى يهدأ الطلب ثم نبعث إليها فتزورك وتقضي من لقائها وطرًا وتنصرف آمنًا سليمًا، فقال: أما الآن فابعثا إليها من ينذرها، فأتياه براعية لهما وقالا له: قل حاجتك. فقال: ادخلي وقولي لها إني أردت اقتناص ظبي فحذره مني جماعة اعتوروه من القناص ففاتني الليلة، فمضت فأعلمتها ما قال لها، فعرفت قصتهُ وبحثت عنها ففهمتها تمامًا فلم تخرج لزيارته تلك الليلة، ورصدوها فلم تبرح من مكانها، ومضوا يقتفون أثره فوجدوا ناقته فعرفوا أنه قد فاتها، أما جميل فإنه زاد شوقًا وحزنًا وفاضت عبراته فأنشد:
ولما ضاقت بأهل بثينة الحيل ائتمنوا عليها عجوزًا منه يثقون بها يُقال لها: أم منظور، فجاءها جميل وقال لها: أريني بثينة، فقالت: لا والله لا أفعل وقد ائتموني عليها، فقال: أما والله لأضرنك، فقالت: المضرة والله في أن أريكها، فخرج من عندها وهو يقول:
فما كان إلا القليل حتى انتهى إليهم هذان البيتان فتعلقوا بأم منظور، فحلفت لهم بكل يمين، فلم يقبلوا منها وعاقبوها على ذلك.