هرب جميل عن أهله
ولما اشتهر جميل بحب بثينة اعترضهُ عبيد الله بن قطنة أحد بني الأحب وهو من أهلها الأقربين فهجاه، فأجابه جميل وتطاولا، فكف عنه ابن قطنة، ثم اعترضه عمير بن رحل من بني الأحب، فقاومه أيضًا مثل الأول، فشكا أمره إلى عامر بن ربعي الحاكم على بني عذرة وقال: يهجونا ويغشى بيوتنا ويشبب بنسائنا، فأباحهم دمه وطُلب فهرب، ولما علمت بثينة أن جميلًا هجا أهلها غضبت كثيرًا وأبدت له كدرها، فأنشد جميل يقول:
وبعد ذلك بمدة تصالحا وأخذ منها موعد اللقاء، فعلم به قومها وقد شاهدوه عندها فتوعدوه وكرهوا قتلهُ خوفًا من أن ينشب بينهم وبين قومه حرب بدمه، وكان أقوامه أشد باسًا من قوم بثينة فأعادوا شكواه إلى السلطان، فطلبه طلبًا شديدًا، فهرب إلى اليمن وبقي فيها مدة، فتذكر يومًا حبيبته بثينة فأنشد يقول:
ولم يزل في اليمن إلى أن عُزل ذلك الوالي وانتقل أهل بثينة إلى ناحية الشام فرجع إليهم، فشكا أكابر الحي إلى أبيه وكان ذا مال وفضل وقدر في أهله، فناشدوه الله وسألوه كف ابنه عن فتاتهم وعن تشببه بها وما يفضحهم به بين الناس، فوعدهم كفه ومنعه ما استطاع ثم انصرفوا، فدعا به وقال له: يا بني حتى متى أنت راتع في ظلالك؟ ألا تأنف من أن تتعلق في ذات بعل يخلو بها وينكحها وأنت عنها بمعزل تغرك بأقوالها وخداعها وتريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها، فيكون قولها لك تعليلًا وغرورًا، فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على جري عادتها. إن هذا لذل وخيم، ولا أعرف أخيب سهمًا ولا أضيع عمرًا منك، فأنشدك الله إلا كففت وتأملت في أمرك، فإنك تعلم أن ما قلته حقٌّ، ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها، ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له، وفي النساء عوض، فقال له جميل: الرأي ما رأيت، والقول كما قلت، ولكن هل رأيت قبلي أحدًا قدر أن يدفع هواه عن قلبه، أو ملك أن يسلي نفسه، أو استطاع أن يدفع ما قُضي عليه، والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي أو أزيل شخصها عن عيني لفعلت، ولا سبيل إلى ذلك وإنما هو بلاءٌ بليت به لحين قد أتيح لي، ولكن أنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام به ولو متُّ كمدًا، وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه، وقام وهو يبكي فبكى أبوه ومن حضر جزعًا لما رأوا منه من حب بثينة، ثم أنشد: