الحسن بن هانئ والجارية
قال الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس: حججت مع الفضل بن الربيع حتى إذا كنا ببلاد فزارة — وذلك إبان الربيع — نزلنا بإزاء ماء لبني تميم، ذا روض أريض، ونبت غريض، تخضع لبهجته أطايب الشذا، فقرت بنضرتها العيون، وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفرجت لبهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء فانشق غمامها وتدانى من الأرض ركامها، وقد غادرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألق رياض مونقة، ونوافح من ريحها عبقة، فسرحت طرفي راتعًا منها في أحسن منظر، ونشقت من رباها أطيب من المسك الأذفر، فلما انتهينا إلى أوائلها إذا نحن بخباء على بابه جارية مشرقة ترنو بطرف مريض الجفون وسنان النظر، فقلت لزميلي: استنطقها، قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قلت: اطلب منها شربة ماء، فطلب، فقالت: حبًّا وكرامة، ومضت تتمايل كغصن البان بقامة كقضيب الخيزران، فراعني ما رأيت منها، ثم أتت بالماء، فشربت منه وصببت باقيه على يدي، ثم قلت: وصاحبي أيضًا عطشان، فأخذت الإناء فذهبت، فقلت لصاحبي: مَن الذي يقول:
فسمعت كلامي، فأتت وقد نزعت البرقع ولبست خمارًا أسود وهي تقول:
فشبهت كلامها بعقد در وهي سلكه فانتثر بنغمة عذبة رقيقة رخيمة، لو خوطب بها صم الصلاب لانبجست مع وجه يظلم من نوره ضياء العقول، وتتلف من روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير، فَهِمْتُ بها أي هيام، وخررت ساجدًا، فأطلت من غير تسبيح فقالت: ارفع رأسك أيها الشاب ولا تذم بعدها برقعًا، فلربما انكشف عما يصرف الكرى، ويحل القوى، ويطيل الوجد والجوى، فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب، حيران لا أهتدي لطريق إلى أن آن وقت الرحيل، فانصرفت من عندها وأنا أقول: