أبو نواس والجارية جنان
كان أبو النواس يحب جنان حبًّا قاتلًا عظيمًا، وكانت هي فتاة حسناء، أديبة، عاقلة،
ظريفة، تعرف الأخبار، وتروي الأشعار، فرآها أبو النواس عند مولاها الوهاب، فاستحلاها
ووقع حبها في قلبه إلى أن صار يردد ذكرها في كل مكان، فقيل له يومًا: إن جنان عازمة على
الحج، فقال: إني على إثرها أحج، فلما علم أنها خارجة سبقها وما كان نوى الحج ولا أحدث
عزمه إلا خروجها، فصار يسترق منها النظرات ويبغي الفرص فلا يجد لها سبيلًا، فلما عادت
عاد معها وأنشد يقول هذه الأبيات:
ألم تر أنني أفنيت عمري
بمطلبها ومطلبها عسيرُ
فلما لم أجد سببًا إليها
يقربني وأعيتني الأمور
حججت وقلت قد حجت جنان
فيجمعني وإياها المسير
ثم كتب إليها يقول:
إلهنا ما أعدلك
مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك
لبيك إن الحمد لك
والملك لك لا شريك لك
والليل لما أن حَلَكْ
والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلك
ما خاب عبد أملك
أنت له حيث سلك
لولاك يا رب هلك
كل نبي وملك
وكل من أهلَّ لك
سبَّح أو لبَّى فلك
يا مخطئًا ما أغفلك
عجِّل وبادر أجلك
واختم بخيرٍ عملَكْ
لبيك إن الملك لك
والحمد والنعمة لك
والعز لا شريك لك
فلما بلغها الكتاب لم تُجبه عليه، وحدث أنها جاءت يومًا إلى عُرسٍ في جواره، فلما
عزمت على الانصراف رآها أبو النواس فأنشد بديهًا:
شهدت جلوة العروس جنان
فاستمالت بحسنها النظارهْ
حسبوها العروس حين رأوها
فإليها دون العروس الإشارهْ
وغضبت يومًا جنان من كلام كلَّمها به، فأرسل يعتذر إليها، فقالت للرسول: قل له: «لا
برح الهجران ربعك، ولا بلغت أملك ممن أحبتك»، فرجع الرسول، فسأله عن جوابها، فلم يخبره،
فقال:
فديتك فيما عتبك من كلام
نطقت به على وجه جميلِ
وقولك للرسول عليك غيري
فليس إلى التواصل من سبيل
فقد جاء الرسول له انكسارٌ
وحال ما عليه من قبول
ولو ردت جنان مرد خيرٍ
تبين ذاك في وجه الرسول
فلم تزل جنان من أبي النواس في معرض الصد والحنق إلى أن أنشد لها أبياتًا حسان نفت
عنها الكدر والشك وهي:
جنان إن جدت يا مناي بما
آمل لم تقطر السماء دما
وإن تمادى ولا تماديت في
منعك أصبح في قفرة رمما
علقت من لو أتى على أنفس
الماضين والغابرين ما ندما
لو نظرت عينه إلى حجر
وشد فيه فتوره سقما