العباس بن الأحنف
كان بعض الفتيان مجتمعين في حلقة لهو وطرب، فمر بهم رجل لطيف، حلو الوجه، سري الهيئة، عليه سيماء المجد والنعم، فقال: إني سمعت مجتمعكم وحسن منادمتكم وصحة ألفتكم، فأحببت أن أكون واحدًا منكم، فلا تحتشموني، فقالوا له: أهلًا وسهلًا على الرحب والسعة، فجلس وإياهم يحدثهم بألطف الأحاديث وأعذب الكلام ففتنوا به، ثم قالوا له: ما اسمك الكريم؟ قال: العباس بن الأحنف، قالوا: إن رأيت أن تحدثنا بسبب تشريفك إيانا، قال: السب في ذلك أني أحب جارية في جواركم، فكنت أترقب مرورها لأنعم نظري بوجهها الحسن، فما زلت على ما أنا به من الشغف والكلف والشوق إلى نور وجهها إلى هذا اليوم، فجلست حينًا أنتظرها فلم تمر فزاد مني لاعج الوجد وصرت كالحائر الولهان، فلما يئست من قدومها والنظر إلى رائق وجهها ورأيتكم على ما أنتم الآن من الأنس والطرب وددت مجالستكم والمؤانسة برقة كلامكم لأخفف عني ما ترون من العشق والصبابة، فقالوا له: ساعدك الله على ما تريد فإنا في قلق عليك، ثم ذهب عنهم ولم يعد إلا بعد عشرين يومًا، فتلقوه جميعًا بكل فرح وسألوه عن طول غيابه، فقال: دعاني أمير المؤمنين لأمر يهمه، فذهبت إلى يحيى بن خالد فقال لي: ويحك يا عباس، إنما اخترناك شاعرًا ظريفًا ونديمًا لطيفًا لقرب مأخذك وحسن تأنيك، فما لك لا تفتكر بنا ولا تأتي إلينا، فإنه حدث بين أمير المؤمنين وإحدى وصائفه التي يحبها عتب وملام وخلاف وكلام، فهي بصفة معشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك، وأرى أن تعمل بعض أبيات تكون أهلًا لاستمالة قلبهِ تسهل عليه استعباد الصبابة، ففكرت فلم يخطر لي شيء، فلما لج في لومي كتبت له أربعة أبيات أعقبتها بيتين آخرين، فقلت:
ثم كتبت تحت ذلك:
ثم توجهت بالكتاب إلى يحيى بن خالد فدفعه إلى الرشيد فقال: والله ما رأيت شعرًا أشبه بما نحن فيه من هذا، فكأني قُصدت به، فقال له يحيى: وأنت والله يا أمير المؤمنين المقصود به، هذا يقوله العباس بن الأحنف، ولما بلغ أمير المؤمنين قوله: (راجع من يهوى على رغم) استغرب ضحكًا حتى سمعت ضحكته الجارية، ثم دخل إليها بوجه بشوش على غير ما كانت تنتظر وبيده تلك الورقة، فلما رأته عجبت لذلك وسألت عن سبب رضائه، فقال: هو هذه الأبيات، فاقرئيها بالله، فلما قرأتها سُرَّت كثيرًا وقالت: مَن نظمها؟ قال: العباس بن الأحنف، قالت: لله دره، فكم أعطيته عليها؟ قال: ذهلت عن عطائه لكثرة فرحي واندهاشي، ثم أمرت لي بخلعة سنية، وعادت معه إلى سابق الحب ورائق العيش والوداد.