سباقات في كل مكان!
جاءت خطوات رقم «صفر» الهادئة القوية واضحة وهو يتَّجه إلى مكانه المعتاد … وساد الصمت في قاعة العرض السينمائي بداخل كهف الشياطين، الذين استقرَّت أعينهم تجاه شاشة العرض البيضاء انتظارًا للفيلم الذي سيعرض عليهم حالًا، والذي من أجله استدعاهم رقم «صفر» منذ دقائق قليلة بدون أن يفصح لهم عن المُهمة العاجلة التي استدعاهم لأجلها …
بعد لحظة أضيئت شاشة العرض … وظهر عليها صف طويل من عربات السباق ذات الماركات العالمية المختلفة، وكان بعضها عجيب الشكل غريب الهيئة … مقدمة طويلة مَسحوبة للأمام، ومؤخرة ضخمة منبعجة أو العكس، سيارات ضخمة وسيارات صغيرة خفيفة، ولكنها تهدر في قوة وصخب … وكان هناك عدد ضخم من المشاهدين الذين أخذوا يُلوِّحون بالأعلام الصغيرة في حماس شديد، بينما راح السائقون يطمئنون على سياراتهم للمرة الأخيرة.
وبدأ السباق؛ فتدافعت السيارات في زئير مُدوٍّ وانطلقت كالصواريخ بسرعة كبيرة وسط الحماس الجنوني للمُشاهدين الذين ارتصُّوا طوال طريق السباق … وانتقل الفيلم إلى مرحلة متقدمة من السباق، فشاهد الشياطين إحدى السيارات وقد اندفع قائدها ليصطدم بسيارة أخرى ليبعدها من أمامه فانقلبت السيارتان، وسرعان ما اشتعلت فيهما النيران، على حين اندفع رجال المطافئ والإسعاف نحوهما … ولكن كان واضحًا للشياطين أنه لا أمل في إخراج أي من قائدَي السيارتين حيًّا …
وصاحبت الكاميرا السباق في تتابع سريع عبر طريق تحفُّه التلال من الجانبين ثم تنبسط أرض رملية فسيحة أمامه، وقد تسابقت سيارتان في الأمام على حين تخلفت الباقيات في المؤخرة، وكل منها تتدافع وتصدم الأخرى للتقدم عليها … وقبل النهاية اندفعت إحدى السيارتين لتصدم الأخرى بطريقة مُتعمَّدة فأزاحتها من الطريق وجعلتها تنقلب على نفسها عدة مرات … واندفعت الأولى تُنهي السباق وسط حماس جنوني للمشاهدين، وجاء صوت رقم «صفر» أخيرًا يقول: ما شاهدتموه منذ لحظات هو سباق «ناسكار» الأمريكي، وهو أعنف السباقات للسيارات، ومسموح فيه بالتصادمات الخطيرة بين المتسابقين للفوز بالسباق ذي الجائزة التي تبلغ مليونَين من الدولارات … إن مثل هذا السباق الخطير يُشاهدُه الملايين بامتداد الطريق الذي يبلغ طوله ٨٠٠كم، ولا يجرؤ أحدُ مُحترفي السباق على المخاطرة بدخوله إلا بعد تصفيح سيارته فتَصير كالقلعة المدرعة التي يصل وزنها أحيانًا إلى واحد ونصف طن، وتصل سرعتها في ذات الوقت إلى ما يزيد عن ثلاثمائة كيلومتر في الساعة.
صمت رقم «صفر» … واختفَت سيارات سباق «ناسكار» وظهر سباق آخر … كان هناك آلاف المشاهدين غالبيتهم ذوو وجوه دائرية وعيون ضيقة وملامح صينية أو يابانية، وكانت هناك العشرات من سيارات السباق من الماركات العديدة قد ارتصت خلف بعضها انتظارًا لإشارة البدء … ثم انطلقَت السيارات مُزمجرة مع الإشارة بسرعة بالغة.
وجاء صوت رقم «صفر» شارحًا: هذا هو سباق «هونج كونج – بكين» الدولي … وجاءت مراحل السباق في قطعات سريعة خلت من العنف بين المتسابقين وإن لم تخلُ من بعض حوادث للسيارات المشاركة بسبب السرعة العالية وطبيعة الأرض المنحدرة …
وفجأة انتقلت الكاميرا إلى سباق ثالث كان يحمل بعض الوجوه العربية … كان واضحًا أن السباق يَنطلِق من «باريس» بعد أن ظهر برج إيفل في الخلفية … وكان من المُذهِل أن هناك ما يزيد عن خمسمائة سيارة وشاحنة ودراجة نارية انطلقَت كلها تهدر في صفوف ثعبانية طويلة، وقال رقم «صفر» وسط زئير السيارات المُندفِعة فوق الشاشة: هذا هو رالي «باريس – الجزائر – دكار» إنه من أصعب السباقات في العالم؛ فمَسافتُه تزيد عن ١٣ ألف كيلومتر، يقطع المتسابقون أغلبها وسط الصحراء الجزائرية والإفريقية بعد الوصول إليها من «باريس» ومسموح لجميع السيارات والدراجات النارية ولكافة السائقين بدخوله … غير أنه في العادة لا يتمُّ هذا السباق حتى نهايته سوى قلة من المتسابقين … أما الباقون فإما أن ينسحبوا بعد أن يُدركوا أنه لا قِبَل لهم بهذه المشقَّة … وإما أن يُصابوا بحوادث في الطريق الصعب … إن مؤسس هذا السباق هو «ثيري سابين» ومن المؤسف أنه لقي مصرعه في نفس السباق عام ١٩٨٦م، ولكن برغم ذلك فلا يزال هذا السباق الخَطِر يجذب العديد من هواة المغامرات والمخاطَرات …
علت ابتسامة وجوه الشياطين عند ذكر المغامرات والأخطار، وطاف بذهنِهم سؤال مُدهش، كيف أنهم لم يَشتركوا في أحد تلك السباقات من قبل، وهم الذين يعشقون المخاطرات … وهم البارعون في قيادة السيارات … ودار في رءوسهم في نفس الوقت تساؤل: ترى هل ستكون مُهمتهم القادمة الاشتراك في إحدى هذه السباقات أو الراليات … إنها بلا شك سوف تكون مُهمة ممتعة …
وتلاقت نظرات الشياطين كأنما استقرت أذهانهم على نفس الفكرة في نفس اللحظة … وقطع انتباههم رقم «صفر» وهو يقول: هو «رالي الفراعنة» الشهير …
استدارت رءوس الشياطين نحو الشاشة … وظهرت الأهرامات على البعد والسيارات المختلفة الطراز وهي تشق الرمال متجهة إلى الغردقة في سباق وعر … وقال رقم «صفر»: هذا الرالي من الراليات المستحدثة؛ إذ لم تمر عليه سوى سنوات قليلة، ولكنه برغم ذلك لاقى نجاحًا كبيرًا، ويشترك فيه كل عام العشرات من أبطال السباق في العالم، وهو رالي مُمتع بحق؛ إذ إن مسافته تزيد عن ثمانية آلاف كيلومتر وسط الصحراء العريضة، وأغلب المتسابقين فيه قاموا بصناعة سياراتهم بأنفسهم لتتحمَّل مشقة الطريق ووعورته، بالإضافة إلى زيادة قوة محركات سياراتهم وزيادة سعته …
انتهى الفيلم وأضيئت القاعة … وأنصت الشياطين انتظارًا لانتهاء حديث رقم «صفر» الذي أخذ يقلب عدة أوراق أمامه وهو يقول: لقد نشأت الراليات العالمية في الخارج، ولكنها بدأت تغزو المنطقة العربية، فهناك رالي الفراعنة، وفي الأردن يوجد رالي الأردن الدولي، ورالي قطر، وصار هناك العديد من أبطال سباقات السيارات العرب الذين استهوتهم هذه المخاطرة.
لم يستطع «عثمان» كتمان فضوله أكثر من ذلك فتساءل: هل ستكون مهمَّتنا القادمة هي الاشتراك في أحد هذه الراليات العالمية؟
ساد الصمت بعد تساؤل «عثمان»، وتطلعت أعين الشياطين نحو مكان رقم «صفر» في شغف؛ فقد عبَّر «عثمان» بتساؤله عما يدور في عقولهم من أسئلة كثيرة مثيرة منذ بدأ عرض الفيلم.
وجاء صوت رقم «صفر» بعد لحظة متمهلًا وهو يقول: إن مهمتكم القادمة هي الاشتراك في أحدث وأصعب رالي في العالم … وفي نفس الوقت غير مطلوب منكم الاشتراك فيه!
التفت الشياطين نحو بعضهم بدهشة بالغة وهم لا يفهمون ما يقصده رقم «صفر» بعبارته؛ فكيف سيشتركون في أحد سباقات السيارات … وفي نفس الوقت لا يشتركون فيه؟!
وجاءت إجابة رقم «صفر» لتُبدِّد غموض عبارته … بما هو أكثر إثارة!