قنابل موقوتة … ودبابة!
ظهرت تباشير الصباح في الأفق وسيارتا الفريق العربي تسيران متلازمتين، بدون أن يحس ركابهما بتعلُّق «أحمد» فوق سطح السيارة الثانية.
واستمرَّ السير ساعات الصباح حتى قرابة الظهر، ومرقت عدة سيارات متسابقة بجوار سيارتي الفريق العربي ولوحوا ﻟ «أحمد» وهو راقد فوق ظهر الشاحنة يظنُّونه يقدم ألعابًا بهلوانية خطرة فلوح لهم «أحمد»، على حين أصابت الدهشة وجوه الفريق العربي داخل السيارتين وهم لا يدرون علام يلوح قائدو السيارات المتسابقة كلما مروا بهم.
في الساعة الثانية عشرة ظهرًا توقفت السيارتان للراحة، فقفز «أحمد» من فوق سطح السيارة الثانية وأسرع يختبئ خلف بعض الأشجار القريبة. وكما توقع «أحمد» فقد انتوى الفريق العربي الراحة بعد السفر الطويل المتوالي، وقاد «سالم» سيارته بعيدًا عن الطريق وتبعته السيارة المعاونة، وفي بقعة ظليلة توقَّفت السيارتان، وهبط «سالم» ورفاقه وتبادلوا حديثًا قصيرًا، ولاحظ «أحمد» عن بُعد علامات الإرهاق البادية على وجوه الفريق لعدم نَومهم طوال يوم كامل من السفر الشاق …
ووضح ﻟ «أحمد» أنه تمَّ تقسيم نوبة الحراسة بين الأفراد الأربعة، بحيث يتولى الحراسة «سالم» و«ممدوح» بينما يحصل رفيقاهما على عدد من ساعات النوم، ثم تتبادل المجموعتان الحراسة والراحة …
وأحس «أحمد» بجوع، وتلفت حوله فشاهد بعض أشجار الفاكهة فاقتطف بعضها وأخذ يتناول منها في شهية واضحة، ثم تسلق إحدى الأشجار العالية وعينه مصوبة على أعضاء الفريق العربي بدون أن تغفل … ومر الوقت بطيئًا … وأحس «أحمد» بالنعاس يغزو جفنيه، فهو لم ينم منذ يوم ونصف، ولكنه قاوم إحساسه بالنوم بشدة … ولكنه ما لبث أن استغرق فيه رغمًا عنه، واستيقظ على أزيز من جهاز الإرسال والاستقبال الصغير لديه … وكانت المتحدثة هي «إلهام» تسأله عن موقعه …
انتبه «أحمد» تمامًا … كان الوقت هو وقت الغروب وقد أوشكت الشمس على المغيب وقد تأهب أعضاء الفريق العربي لمواصلة السباق فوضح ﻟ «أحمد» أنهم ينتوون السير ليلًا والراحة نهارًا، وفي الحال أرسل «أحمد» إلى بقية الشياطين رسالة بموقعِه واستعداد الفريق لمواصلة السباق ليلًا …
وبقَفزة بارعة نزل من فوق الشجرة العالية، واندفع نحو السيارة الثانية للفريق التي بدأت تتحرك، فتعلق بها ثم ارتفع بجسده في حركه بهلوانية فصار فوق سطحها، وتمدَّد في سكون وعيناه تراقبان الطريق من الأمام والخلف …
وبرغم هدوء الطريق وفراغه فقد أحس «أحمد» بشيء من القلق الشديد يَعتريه … كان هناك إحساس بالخطر يملأ كيانه ولا يدري له سببًا … وتطلع «أحمد» بعينين فاحصتين كالصقر يراقب الطريق المظلم الذي أضاءته لمسافة بعيدة كشافات سيارة «سالم» بدون أن يبدو فيه ما يُوحي بالخطر … وكانت أسهم طريق السباق الفسفورية تُضيء في الظلام عن بُعد في مسافات متوالية فتوحي بالطمأنينة والألفة …
ولكن برغم ذلك لم يخفَّ إحساس «أحمد» بالتوتر والقلق … بل زاد إحساسه وتضاعف وتساءل «أحمد»، أين يكمن الخطر هذه المرة … لقد جاء أولًا من سيارة ملغومة، وثانيًا من محاولة اغتيال بالرصاص، وثالثًا من طائرة مهاجمة بالصواريخ والقنابل، تُرى من أين سيأتي الخطر هذه المرة؟
وكان من المستحيل على «أحمد» أن يبقى مكانه وذلك الإحساس المتنامي بالخطر يتزايد في صدره حتى صار له دوي كقرع الطبول … كان «أحمد» لا يُريد أن يغامر بإفساد العملية بكشف نفسه ﻟ «سالم» ورفاقه، وكان عليه أن يتصرف وأن يحميهم من ذلك الخطر المجهول، بدون حتى أن يحسوا بوجوده …
انزلق «أحمد» من على سطح السيارة، وتعلق بجدارها الخلفي في رشاقة وقوة، وثبت أصابعه في مؤخرة السيارة وهبط أسفلها بحذر …
كانت السيارة تسير بسرعة بالغة تقترب من المائة والخمسين كيلومترًا في الساعة، فيهتز كل جزء فيها بقوة من تأثير السرعة، وكان أمرًا شاقًّا على «أحمد» أن يُواصل تعلقه بمؤخرة السيارة من أسفل، ولكنه تشبث بها في قوة حديدية، وشرع يتفحص بنظره في الظلام أسفل السيارة … وكما توقع «أحمد» فقد لمحت عيناه قنبلة موقوتة مُختفية أسفل السيارة قرب مؤخرتها، وأدرك «أحمد» أن الأعداء قد أخفوها أثناء راحة الفريق العربي، ولا شكَّ أن أفراده قد غلبهم النوم أثناء نوبتي الحراسة مما سهل للأعداء دس القنبلة …
وبهدوء مدَّ «أحمد» يده وانتزع القنبلة وألقى عليها نظرة فاحصة، كان باقيًا على انفجارها ثلاث دقائق فقط … واحتبست أنفاس «أحمد» وهو يضع القنبلة الموقوتة في صدره … ثم تعلَّق بمؤخرة السيارة ورفع نفسه لأعلى فصار فوق سطحها … كان باقيًا دقيقتان ونصف على انفجارها، وطوح «أحمد» بالقنبلة بين الأشجار المتراصة على جانب الطريق حتى لا يُؤدي انفجارها إلى إصابة أي من السيارات المارقة في الطريق …
كان عقل «أحمد» يعمل بسرعة خارقة، كان متأكدًا من شيء معين … أن هناك قنبلة أخرى تم إخفاؤها أسفل سيارة «سالم» … وكان على «أحمد» انتزاع هذه القنبلة من مكانها وتفجيرها قبل أن تنفجر أسفل السيارة في نفس توقيت انفجار القنبلة الأولى … بعد دقيقتين بالضبط … وكان من المستحيل على «أحمد» أن يستطيع تحذير «سالم» ورفاقه، بل كان لا يريد أن يكشف لهم عن مكانه، كما كان من المستحيل عليه أيضًا أن يتعلق بسيارة «سالم» وأن يستخرج القنبلة الموقوتة منها … وزاد توتر «أحمد» وهو يحس بالثواني تمر وتتآكل بسرعة … لم يعد باقيًا غير دقيقة واحدة … ولمعت الفكرة في ذهن «أحمد» كالبرق … وعلى الفور أخرج من جيبه إحدى القنابل اليدوية وانتزع فتيلها، ثم ألقاها بكل ما يستطيع من قوة إلى الأمام على جانب الطريق …
وكما توقع «أحمد» بالضبط، فقد انفجرت القنبلة على مقربة من سيارة «سالم» بدون أن تصيب السيارة بأيِّ أذى، ودار «سالم» بسيارته دورة حادة سريعة وأوقفها على جانب الطريق وقفز خارجها هو ورفيقه وهما يظنان أنهما يتعرضان لهجوم بالقنابل … وتوقفت السيارة الثانية المساعدة على مسافة أمتار قليلة ولحق أفرادها بزملائهم.
كانت اللحظة مناسبة تمامًا، وقفز «أحمد» بخفة من على ظهر الشاحنة وأخذ يعدو تجاه سيارة «سالم» … وانطلقت نحوه عدة رصاصات متتابعة أدرك «أحمد» أنها من مسدس «ممدوح» مساعد «سالم» وأنهم يظنُّونه من الأعداء …
تدحرج «أحمد» على الأرض حتى وصل إلى سيارة «سالم» فاستلقى أسفلها بسرعة وهو يعلم أن كل ثانية لها قيمتها الجوهرية … وشاهد «أحمد» القنبلة الموقوتة مخفاة بمهارة أسفل ماسورة العادم الخلفية فانتزعها وألقى عليها نظرة خاطفة … لم يتبقَ سوى عشر ثوان على انفجارها … نهض «أحمد» واندفع يعدو بسرعة محتضنًا القنبلة، وتطاير الرصاص حوله من مسدس «ممدوح»، وقفز «أحمد» قفزة واسعة في نفس اللحظة التي ألقى فيها بالقنبلة الموقوتة بعيدًا …
وما إن لامست أقدام «أحمد» الأرض حتى دوَّى انفجار القنبلة شديدًا وسط الأشجار البعيدة … تنفس «أحمد» الصعداء وارتسمت ابتسامة نصر فوق شفتَيه … وراقب أعضاء الفريق العربي المحتمين خلف بعض الأشجار القريبة وهم يظنون أنهم محاصرون بالأعداء … ولكن كيف يمكن ﻟ «أحمد» أن يطمئنهم؟!
ومرَّت الدقائق ببطء وسيارتا الفريق العربي تسد الطريق … وظهرت عدة سيارات متسابقة من الخلف لمعت كشافاتها وتوقفت خلف السيارتين اللتين تسدَّان الطريق … واضطر «سالم» ورفاقه إلى الظهور أخيرًا حذرين وهم يراقبون المكان حولهم … ولكن، كان السكون والهدوء يشملان المكان بعد الانفجار الداوي … واستقل «سالم» ورفاقه سيارتهما وهما لا يدريان سر ما حدث، ولا حقيقة القنبلتين المنفجرتين، ولا ذلك الشبح الذي أطلقوا عليه الرصاص … وأخيرًا بدأت السيارتان في الحركة، وفي خفة قفز «أحمد» إلى سقف السيارة الثانية وقد تفجَّرت عروقه حيوية ونشاطًا للعملية البارعة التي قام بها … وقام ببث رسالة إلى زملائه يخبرهم فيها بما حدث، فجاءت كلمات الإعجاب والتشجيع لتزيد من إحساسه بالزهو والانتصار …
واستمر السير طوال الليل والسيارتان تقطعان الطريق بسرعة بالغة … وبدأت أشعة الفجر تُلوِّن صفحة السماء السوداء … وعلى البعد لمح «أحمد» شيئًا متحركًا يعترض الطريق، وفي الضوء القليل حدق في كنه ذلك الشيء … وما لبثت نظرته المتسائلة أن تحوَّلت إلى نظرة دهشة عميقة وعدم تصديق … فقد كانت هناك دبابة ضخمة تسد الطريق، ومدفعها مصوب للأمام … تجاه سيارتي الفريق العربي المندفعتين نحوها بسرعة كبيرة …