المجتمع المدني بين التصور الإسلامي والمفهوم الغربي١
أولًا: الثقافة العربية بين الاستهلاك والإبداع
لا يوجد مفهوم أصبح متداولًا وشائعًا في الثقافة العربية المعاصرة، في مراكز الأبحاث والجمعيات الأهلية والصحافة مثل مفهوم المجتمع المدني وما يتعلق به من مفاهيم موازية مثل حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، وحقوق المرأة، والتحول الديموقراطي. فهو عنصر من عناصر برنامج كامل يصدر إلينا من الخارج من أجل إبعاد الفكر عن برنامجه الخاص وإبداعه مفاهيمه وتصوراته التي تعبر عن مرحلته التاريخية مثل التحرر والنهضة والثورة والإصلاح والتغير الاجتماعي والنقد الذاتي، والثقافة الوطنية والاستقلال. وهو برنامج للتصدير من ثقافة المركز إلى ثقافات الأطراف في مقابل برنامج ثقافة المركز والذي تشغل به الثقافة العالمية مثل العولمة وصراع الحضارات، ونهاية التاريخ، وثورة الاتصالات، والإدارة العليا، والتكنولوجيا المتقدمة. ولا توجد ثقافة تشرح متون غيرها وتقتصر على الحواشي والشروح مثل الثقافة العربية التي أجهدت نفسها في الشرح دون كتابة المتن حتى أصبحت ترقص على أنغام غيرها، وتدور في فلك الآخر، وكأننا ما زلنا في عصر الشروح والملخصات في العصر المملوكي العثماني. والتقدم الوحيد هو شرح نص الغير بدل شرح نص النفس، مضغ غذاء جديد بدلًا من اجترار الغذاء القديم. وأصبحت هذه المفاهيم «نوارة» البرامج الثقافية، والموضوعات الرئيسية في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية. ولا يوجد مثقف جدير بهذا الاسم إلا إذا كان له باعٌ فيها بالكتابة أو التصريح وإعلان المواقف، بالرغم من نطق أسماء هنتنجتون وفوكو ياما بنبرة أهل الريف أو أهل الصعيد. وحبذا لو نطقها بالإنجليزية أو الفرنسية وتطرق إلى جذورها اليونانية واللاتينية خاصة لو كان من الأساتذة الجامعيين أو من السفراء المتقاعدين أو من المهاجرين الزائرين أو من مذيعي القنوات الفضائية باللغات الأجنبية. والغاية أخذ الثناء من الجمهور أكثر من التطرق إلى الموضوع.
وهي مفاهيم غير بريئة، ظاهرها العلم وباطنها الأيديولوجيا. لم يعد العلم فقط هو التكنولوجيا بل الأسس النظرية التي يقوم العلم عليها. ولم تعد الأيديولوجيا فقط هي النظم السياسية والاقتصادية كالرأسمالية بكافة أنواعها والاشتراكية بمختلف اتجاهاتها بل أصبحت مفاهيم مساندة للرأسمالية بعد نهاية عصر الاستقطاب. كانت الرأسمالية في عصر الاستقطاب تؤسس شرعيتها في الليبرالية في مقابل الشمولية، الأساس النظري للنظم الاشتراكية. وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية بدأت الرأسمالية تبحث لها عن شرعية جديدة لها كي تجدها في العولمة أي شمولية رأس المال الذي يتخطى حدود الأوطان. ويتطلب إسقاط الحواجز الجمركية بين الدول، والتخلي عن سيادة الوطنية للشعوب باسم العالم قرية واحدة، وثورة الاتصالات، ونهاية التاريخ. وكأن العولمة آخر مرحلة من مراحل الرأسمالية. فقد توقفت عقارب الساعة. وانتهى تطور التاريخ، وبلغ الذروة، وستظل كذلك إلى يوم الدين. تشغل العولمة سائر الشعوب في الأطراف بصراع الحضارات لإخفاء صراع المصالح. فالشعوب في الأطراف ما زالت مرتبطة بتراثها القديم المكون الرئيسي لحضارتها ومنظومة قيمها ولم تقطع بعد معه كما فعل الغرب الحديث. فتدافع الشعوب التراثية عن تراثها دون مصالحها، وعن ماضيها دون حاضرها، وعن ذاتها بعيدًا عن هجمة غيرها. وقد أعلن الغرب لأول مرة عن ممارساته الفعلية في القضاء على لغات الشعوب المستعمرة وثقافاتها حتى لا تكون أداة للتحرر فيما بعد، الجزائر فرنسية، وأمريكا إنجليزية أو فرنسية أو إسبانية أو برتغالية، وأفريقيا أنجلوفونية أو فرانكفونية، وسواحل جنوب شرق آسيا بريطانية أو إسبانية أو هولندية أو برتغالية … إلخ. أعلن عما كان يخفيه. وصرح بما كان ينكره، مع أنه نفسه قضى على حضارته الخاصة بتدميرها بعد بنائها. فشتان ما بين مثل التنوير الأولى في القرن الثامن عشر، العقل والحرية والمساواة والإخاء والعدالة الاجتماعية والطبيعة والتقدم، وبين تدميرها الآن في عصر ما بعد الحداثة والتفكيكية والكتابات «ضد المنهج» و«وداعًا أيها العقل»، والإعلان عن «موت الإله» وحياة الإنسان، ثم «موت الإنسان» ولا حياة لأحد، وبداية عصر العدمية المطلق، والكتابة من نقطة الصفر، والعود إلى العماء الأول حيث لا قانون ولا نظام ولا تناسق ولا انسجام بل فوضى شاملة في البداية وفي النهاية.
وكان من الطبيعي أن ينشأ رد فعل إسلامي ضد مفهوم المجتمع المدني وجمعياته المنتشرة في الوطن العربي والعالم الإسلامي باعتبارها تعمل في جدول أعمال غربي وبتدعيم مالي منه ودون أن تدرك بعمق النيات غير البريئة لواضعي مثل هذه المفاهيم ودون أن تؤصل حاجات المجتمعات في تراثها وثقافاتها الشعبية. فقوي مفهوم الأمة، الذي يجمع الشعوب كلها في أخوة وبنية ورابط إنساني وتعاون إقليمي، وربما روابط سياسية دون أن تكون بالضرورة دولة إسلامية واحدة مترامية الأطراف كالشركات العابرة للقارات في عصر العولمة. المجتمع المدني ضد الدولة الإسلامية. والقانون المدني ضد الشريعة الإسلامية. المجتمع المدني هو المجتمع الوضعي. والقانون المدني هو القانون الوضعي. الأول يقوم على إرادة البشر، والثاني على إرادة الله. الأول نسبي والثاني مطلق. الأول يعبر عن مصالح الطبقات أو الطوائف والمذاهب والعشائر والأجناس بينما الثاني يعبر عن المصالح البشرية العامة دون تحيز لصالح طائفة أو مذهب أو قوم. الأول علماني يقوم على الفصل بين الدين والدولة، الدين لله والوطن للجميع، الدين في علاقة الإنسان بالله والقانون في علاقة الإنسان بالمجتمع. بينما يقوم الثاني على رؤية إسلامية توحد بين الدين والمجتمع، أو تنعكس علاقة الإنسان بالله على علاقته بالمجتمع. ليس الإسلام دينًا كهنوتيًّا كما كان الحال في الدين في الغرب. بل هو دين اجتماعي وسياسي، أسلوب حياة وطريقة عمل. كما أن مواثيق حقوق الإنسان في الغرب ونظريات العقد الاجتماعي إنما تقوم على معيار مزدوج في التطبيق، الدفاع عن المجتمع المدني داخل الحدود الجغرافية في الغرب ثم تدعيم أعتى النظم السياسية التي تقوم على التسلط والقهر خارج الحدود الجغرافية للغرب في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ليست القضية قضية مبدأ بل موضوع مصالح. فقد أصبحت المبادئ الآن في الغرب نسبية تتوقف على مقدار ما تقدم من مصالح. ويقدم المجتمع المدني الآن إلى شعوب العالم الثالث لأنه هو القادر على حماية الاستثمار الخاص والدفاع عن القطاع الخاص ضد هيمنة الدولة والتخطيط والقطاع العام.
كما ينشأ رد فعل حكومي لارتباط جمعيات المجتمع المدني بالتمويل الغربي وبتركيزها على ملفات حقوق الإنسان. وهي ليست في صالح النظم الحاكمة ملكية كانت أم جمهورية، رأسمالية أو اشتراكية، أئمة قريش أم ضباط الجيش. تستعملها النظم الغربية الأمريكية المعادية كسوط لإلهاب ظهر الأنظمة إذا ما هي خرجت عن بيت الطاعة، وانتهجت سياسات وطنية مستقلة بعيدًا عن مناطق النفوذ الغربية، والأحلاف الأمريكية والتطبيع مع الكيان الصهيوني. وهي في النهاية جزء من المعارضة المدنية تتعاون مع أحزاب المعارضة السياسية، وتدافع عن الديموقراطية والتعددية السياسية وحرية الرأي والتعبير. فهي جزء من حركة المجتمع والتي تريد الدولة السيطرة عليها ووضعها تحت المراقبة. وهي مصدر معلومات للقوى الغربية عن أوضاع حقوق الإنسان والتحول الديموقراطي في بلدان العالم الثالث وما تنشره ملفات منظمة العفو الدولية، وتقارير الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان. كما أنها تتمتع بحماية الغرب لها من خلال أجهزة الإعلام. فهي نوع من «الصداع» المستمر لأنظمة الحكم. وقد نشطت في الآونة الأخيرة لدرجة أنها أصبحت أعلى صوتًا من أحزاب المعارضة الرسمية الحكومية الممثلة في البرلمان بحيث التف حولها الشباب بعد أن يئسوا من الإصلاح عن طريق الحزب الحاكم أو الثورة عن طريق أحزاب المعارضة. وكانت في دوربان أكثر حضورًا وتأثيرًا من الوفود الرسمية للحكومات. وما زال صوتها مسموعًا عبر الحدود. ولا يمكن اتهامها بالولاء الحزبي أو الانتساب الأيديولوجي. تدافع عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان والبيئة في كل مكان ومن خلال كل الثقافات. فما فرقته النظم السياسية وحدته الجمعيات الأهلية. وما أفسدته الدولة أصلحه المجتمع المدني. فهو الدولة البديلة التي تحكم من أسفل وليس من أعلى. وهي سلطة الشعب في مواجهة سلطة الحاكم. هي الحق فوق القوة في مقابل القوة فوق الحق، منطق النظم السياسية.
والحقيقة أن الخلاف بين المفهومين للمجتمع المدني هو في الحقيقة خلاف مزدوج. الأول صراع على السلطة بين الدولة وخصومها، الدولة التي تقوم شرعيتها على السلطة الوطنية وريثة حركة التحرر الوطني والتي لا تميل في سياستها يمينًا أو يسارًا نحو الغرب أو نحو الشرق. فالكل لا يرد إلى أحد أجزائه. والقلب لا ينحاز إلى أحد أجنحته. وعادة ما يُشرَّع لذلك باسم الوسطية ورفض المغامرة، والتضحية بالاستقرار السياسي، والدفاع عن الأغلبية الصامتة التي لا تدري عن اليمين واليسار شيئًا، وتحقيق مصالحها العامة في الخدمات. الصحة والتعليم والإسكان والغذاء والمواصلات. الدولة هو الأخ الأكبر. وأحزاب المعارضة يمينًا ويسارًا هم الأخوة الصغار، الضالون الأشقياء.
والخلاف الثاني في مصدر المعرفة. مفهوم المجتمع المدني مصدره الثقافة الغربية والتاريخ الغربي في حين أن تصور المجتمع المدني الإسلامي مصدره الثقافة الإسلامية والتراث الإسلامي. فالخلاف في مصدر المعرفة وليس في موضوع المعرفة، نشأة السلطة في المجتمع. الخلاف في وسائل المعرفة، وليس في غاية المعرفة، حرية الفرد وديموقراطية الحكم. الخلاف ربما في لغة الخطاب، بين لغة العقل ولغة النقل. الأولى لغة عامة مفتوحة تقبل الحوار، والثانية لغة اصطلاحية خاصة تستبعد أكثر مما تتمثل. والثقافة العربية مولعة بالمصطلحات. واللغة ليست فقط وعاءً للمعنى، بل هي الوجود أيضًا. تحيل إلى الأشياء قدر ما تحيل إلى المعاني. ويتشبث كل فريق بلغته ومصطلحاته وخطابه أكثر مما يتمسك بمعانيه وأهدافه وواقعه. فينشأ النزاع حول الخطاب، والقصد واحد.
ثانيًا: المجتمع المدني في المفهوم الغربي
نشأ مفهوم المجتمع المدني في الفكر الغربي في القرن السابع عشر عندما بدأ لوك وهوبز يبحثان عن مفهوم جديد في مقابل المَلَكية والكنيسة. ففي المَلَكية المواطن رعية من الرعايا، وفي الكنيسة مؤمن في مجتمع المؤمنين. وفي كلتا الحالتين يستمد الوجود الإنساني مقوماته من خارجه، من السلطة السياسية أو السلطة الدينية. فجاء مفهوم المجتمع المدني كبديل عن الدولة والكنيسة. الإنسان فيه عضو بمحض إرادته. وتنشأ السلطة فيه عن طريق العقد الاجتماعي كما حددها لوك واسبينوزا في القرن السابع عشر، وروسو في الثامن عشر.
لذلك ارتبط مفهوم المجتمع المدني بمفهوم المواطن والمواطنة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين. وهو لقب واحد عام لكل الأفراد الذين ينتسبون إلى نفس المجتمع. وقد كان هو اللقب الأثير في الثورة الفرنسية قبل الرفيق في الثورة الاشتراكية الكبرى في روسيا عام ١٩١٧م. والأخ اللقب المفضل في الجماعات الدينية وباقي الألقاب الأسرية المجازية مثل الأب والابن والأم والأخت. وقد تعددت الألقاب في الملكيات مثل ملك وأمير ونبيل وكونت وبارون وولي العهد، وفي المجتمعات الدينية مثل القس والراعي والبابا والكاردينال. يعبر كل لقب عن وضع في التراتب الاجتماعي أو الكنسي. ولكل رتبة سلطة على الأخرى، وعلاقة الأدنى بالأعلى علاقة الطاعة العمياء، علاقة المأمور بالآمر وإلا فالطرد والحرمان.
جاء مفهوم المجتمع المدني مفهومًا متوسطًا بين الأسرة والدولة لحماية الفرد من الطابع البطرياركي للأسرة، الأب، والدولة، والحاكم، والتحول من النشاط الخاص إلى النشاط العام دون مروره بالسلطة السياسية. وهو عند هيجل خطوة نحو الدولة كما أن الأخلاق الفردية خطوة نحو الأخلاق الاجتماعية والتي تحقق المصالحة بين المصالح الخاصة والمصالح العامة. واعتبرته النظم الشمولية التقليدية مانعًا من السيطرة على المجتمع، وحصنًا في مواجهة الدولة. وهو مجتمع يحكمه قانون تضعه الدولة في مواجهة نفسها. يكفله الدستور. ولا يستطيع الأفراد ولا الجماعات ولا الدولة ذاتها اختراق قوانينه. فهو مجتمع متوسط، جسر مرور، بين الداخل والخارج، وبين الخاص والعام، وبين الفرد والجماعة، وبين الأسرة والدولة. يدين الفرد له بالولاء لأنه جزء من علاقاته الإنسانية وربما أكثر مما يدين بالولاء إلى الدولة. المجتمع المدني يتحد مع الحرية والعمل العام في حين أن الدولة تتحد مع النظام السياسي ومصالح الطبقة والنخبة الحاكمة والحزب الحاكم، والأيديولوجية التي تعطي الدولة شرعيتها. لا يعترض المواطن على المجتمع المدني فهو جزء منه وعنصر في حراكه الاجتماعي. وما يعاني منه في المجتمع مثل البيروقراطية إنما هي من صنع الدولة وقوانينها التعسفية. في حين يعادي المواطن الدولة ويصبح جزءًا من المعارضة العلنية أو السرية، السلمية أو المسلحة دفاعًا عن المجتمع ضد الدولة، ودفاعًا عن الأهالي ضد الحكومة، ونصرة للمحكوم من الحاكم، وأخذ حق المظلوم من الظالم. لا يخرج المواطن عن المجتمع، فالسمك لا يخرج من الماء، ولكنه قد يخرج على الدولة للإفلات من شبكة الصياد. المجتمع تحكمه الثقافة ويحمل تبعته التاريخ في حين أن الدولة تحكمها مصالح النخبة الحاكمة. وقد تنحرف عن التاريخ وتزيفه. لا يكون المجتمع إلا في التاريخ في حين أن الدولة قد تكون خارج التاريخ.
ويتجلى المجتمع المدني في الاتحادات والهيئات والنقابات المهنية والروابط الاجتماعية والجمعيات الأدبية والعلمية. وهو النشاط العام للفرد الذي لا تستطيع الدولة السيطرة عليه ولا منعه بل تستطيع فقط تنظيمه بما يسمى قانون الجمعيات الأهلية أو المنظمات غير الحكومية. لها ممثلون في المنظمات الدولية وهيئات الأمم المتحدة. ولا حدود لنشاطها إلا في مجتمعات العالم الثالث التي ما زالت نظمها السياسية والاجتماعية غير مستقرة، حيث يحظر عليها النشاط الديني والسياسي، فالنشاط الديني مجاله الجمعيات الدينية، والنشاط السياسي مجاله الأحزاب السياسية. النشاط الديني يخاطر بالنعرات الطائفية والمذهبية. لذلك يضعف نشاطها لأن الدين والسياسة هما أهم محركين في مجتمعات العالم الثالث. وكما بدأ الغربيون يتراجعون عن الانضمام إلى الأحزاب السياسية، في الحكم أو في المعارضة، عمال أو محافظين، ديموقراطيين أو جمهوريين، ديموقراطيين اشتراكيين أو ديموقراطيين مسيحيين … إلخ لصالح حزب الخضر دفاعًا عن البيئة، كذلك بدأ المواطنون في العالم الثالث يتركون النشاط السياسي العام للحكومة أو المعارضة والعمل في الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية وفي مقدمتها جماعات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني. فتغيير الواقع قيد أنملة خير من الخطابة السياسية. وتنشيط الجماهير وتوعيتها بحقوقها المدنية وحثها على التعليم والمشاركة السياسية والتصويت في الانتخابات والمظاهرات من أجل الحقوق النقابية وفرص العمل ضد البطالة أفضل من القرارات الفوقية التي تعطي القليل اختيارًا وليس انتزاعًا. فالحقوق تنتزع ولا توهب، تُكتسب ولا تمنح. تصعد من أسفل ولا تهبط من أعلى.
أصبح المجتمع المدني في المجتمعات الغربية أقوى من الدولة. إذ تقوم أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والصحافة بدورها في الرقابة على أجهزة الدولة. وطالما كشفت الصحافة فساد أجهزة الدولة بما في ذلك مؤسسة الرئاسة ذاتها وإقالة الرؤساء ومحاكمتهم. فقد أجبر نكسون على الاستقالة بفضل ما كشفته الصحافة عن تنصت الحزب الجمهوري على الحزب الديموقراطي فيما يعرف بفضيحة «ووترجيت». وكاد ينال كلينتون نفس المصير بسبب فضيحة جنسية أخرى. لا يُخشى على المجتمعات الغربية من الانقلابات العسكرية أو حل المجالس النيابية، وإلغاء الأحزاب السياسية، وإيقاف الدستور، وتعطيل أحكام القانون، وإعلان الأحكام العرفية وحالة الطوارئ ومنع التجول، والحكم بالقوانين الاستثنائية. وقد كان ديجول محل انتقاد دائم بسبب «المادة ١٦» التي تعطي رئيس الجمهورية بعض السلطات في حالات الخطر في أثناء حرب الجزائر، وتهديد الجيش الفرنسي في الجزائر بالانقلاب على السلطة والاستيلاء على الحكم، من الجزائر إلى باريس. وتجد أوروبا الشرقية صعوبة للحاق بأوروبا الغربية لهذا السبب وهو عدم استقرار المجتمعات في أوروبا الشرقية، وتسلط الأحزاب الحاكمة، وضعف المجتمع المدني بل وتحريم المعارضة قبل انهيار المنظومة الاشتراكية. وكان الاتحاد السوفيتي في نفس الموقف أثناء الحكم الشمولي واضطهاد المعارضة والنفي إلى سيبيريا. وما زالت الصين تعاني من هذه الصورة التقليدية، سيطرة الدولة على المجتمعات خاصة بعد حوادث ميدان «السلام السماوي». وربما استطاعت بعض المجتمعات الآسيوية الاعتماد على الحركات الشعبية والتنظيمات النقابية بدورها في إحداث التغير المطلوب في النظم السياسية مثل حركات العصيان المدني في الهند أثناء التحرر من الاحتلال البريطاني، وثورة الشعب في الفلبين ضد ماركوس، وثورة الطلاب في إندونيسيا ضد سوهارتو، وربما أيضًا في أفريقيا، حركة النقابات العمالية في السودان لإسقاط النميري في ١٩٨٦م، والحركات الشعبية النسبية في العواصم العربية لمساندة الانتفاضة ولو كان تتضامنًا معنويًّا وبموافقة النظم السياسية المحاصرة بين المطرقة والسندان، بين الشارع العربي من ناحية والضغط الأمريكي الصهيوني من ناحية أخرى.
أما في بلدان العالم الثالث فنظرًا لسيطرة الدولة على كافة النشاط الخاص والعام للمواطنين، أفرادًا وجماعات، قويت الدولة على حساب المجتمع باستثناء بعض الدول التي مرت بفترة ليبرالية كنظام للحكم مثل مصر في النصف الأول من القرن العشرين وقبل ثورة يوليو ١٩٥٢م. كما أن تجربة المجتمع اللبناني فريدة من نوعها من حيث إنها البلد العربي الوحيد الذي تتجاوز فيه قوة المجتمع المدني قوة الدولة ذاتها. فقد قام المجتمع نفسه بتنظيماته السياسية والمدنية بتحرير الجنوب من الاحتلال الصهيوني. وما زال هو الحامي للنظام الديموقراطي الذي يقوم على التعددية السياسية والوحدة الوطنية في آن واحد. وقد أدت حركة المعارضة في البحرين إلى فرض وجهة نظرها على نظام الحكم. وقام مجلس الأمة في الكويت بدوره في الرقابة على جهاز الدولة. وتقوم النقابات والاتحادات في مصر والأردن بمقاومة شتى أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني. وتناضل جمعيات حقوق الإنسان وروابط المجتمع المدني في تونس من أجل إقامة مجتمع وطني تعددي حر. وعندما يغيب المجتمع المدني، وعندما يغيب في تاريخ شعب فترة ليبرالية يتقاتل الفرقاء، الأخوة الأعداء كما هو الحال في الجزائر والصومال. لا يعني تقوية المجتمع المدني أن يكون ذلك على حساب الدولة وإضعافها. فالعلاقة بين المجتمع المدني والدولة ليست علاقة عكسية، إذا قويت الدولة ضعف المجتمع المدني، وإذا ضعف المجتمع المدني قويت الدولة. بل قد تكون علاقة طردية، حركة واحدة تقوى فيها الدولة الوطنية والإرادة المستقلة. وفي نفس الوقت يقوى المجتمع المدني حتى تضمن الدولة الوطنية بقاءها.
ثالثًا: المجتمع المدني في التصور الإسلامي
ولا يكاد يختلف مضمون المجتمع المدني في المفهوم الغربي عن مضمون المجتمع المدني في التصور الإسلامي حتى لو اختلفت المعايير النظرية والوسائل العلمية والأهداف والغايات. فالمجتمع الإسلامي مجتمع مدني بطبعه. وقد لاحظ الفارابي ذلك من قبل أن الإنسان مدني بالطبع. كما أكده ابن خلدون بعد ذلك بما يزيد على أربعة قرون بأن العمران طبيعي في البشر.
الدولة في الإسلام بنت المجتمع وليس المجتمع ابن الدولة. نشأت نشأة طبيعية بتخلق مجتمع جديد داخل المجتمع القديم بناء على الدعوة الجديدة. ولما تحول المجتمع القديم كله إلى مجتمع جديد، وكانت النبوة هي مصدر التشريع والباعث على الطاعة، أتت الخلافة لتسد الفراغ السياسي الذي تركته النبوة. فالسلطة نشأت تلقائيًّا في المجتمع الجديد. ثم تحولت إلى المجتمع القديم بعد الفتح حتى أصبح للمجتمع الواحد سلطة واحدة تنظم أمور المجتمع بناءً على القانون الجديد. فالمجتمع هو الأصل، والدولة هي الفرع. ومِن ثَم يمكن أن يقال إن المجتمع المدني في التاريخ الإسلامي هو أصل الدولة ومنشؤها.
ولقد أبقى المجتمع الجديد على كثير من تشريعات المجتمع القديم حرصًا على التغير من خلال التواصل. فالمجتمع لا يتغير من خلال الانقطاع، من الجاهلية إلى الإسلام بل «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام»، وقد قام «حلف الفضول» بين القبائل قبل الإسلام على قيم إسلامية طبيعية، نصرة المظلوم، قبل نزول الوحي بها. فالفطرة أساس العقل والوحي والطبيعة. المجتمع هو العنصر المستمر في التاريخ، يصبح بعدها حاملًا للأيديولوجيات والشرائع والقوانين، اليهودية والمسيحية والإسلام.
وتنشأ السلطة في المجتمعات الإسلامية طواعية واختيارًا بناءً على اتفاق بين الناس عن طريق البيعة. فعند علماء أصول الدين «الإمامة عقد وبيعة واختيار». تنشأ السلطة السياسية عن طريق عقد بين «أهل الحل والعقد» أي أهل الاختصاص أو ممثلي الأمة بالمعنى الحالي عن طريق الأهلية أي العلم بالشريعة وبمصالح الناس أو عن طريق تمثيل أولي للعامة من أهل العلم. والعقد شريعة المتعاقدين كما أوضح أبو بكر في خطابه في سقيفة بني ساعدة بعد مبايعته التي يتعلمها جميع التلاميذ في المدارس بحيث أصبحت جزءًا من الثقافة الشعبية في اللاوعي الإسلامي، «إني وليت عليكم ولست بخيركم. إن أحسنت فأعينوني. وإن أسأت فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم. فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم». فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة تعاقدية. يطيع المحكوم الحاكم طالما أطاع الحاكم القانون والدستور. فإذا ما خرق الحاكم شروط العقد من ناحيته انفسخ العقد وحق للمحكوم الخروج على الحاكم الظالم.
الحاكم ممثل للأمة وليس لله، والحكم للقانون وللدستور. الحكم الإسلامي ليس حكمًا «ثيوقراطيًّا» يقوم على الاختيار الإلهي كما هو الحال في اليهودية التقليدية. وليس حكمًا ملكيًّا وراثيًّا كما كان الحال في إمبراطوريتي الفرس والروم ومملكة بيزنطة. هو حكم أقرب إلى حكم الناس بأنفسهم عن طريق من يختارونه أقرب إلى العقد الاجتماعي عند المعاصرين. والأمر شورى بين الناس ضد الاستبداد بالرأي والتفرد بالقرار. «فلا خاب من استشار». الديموقراطية في الغرب مفهوم كمي، سيادة رأي الأغلبية على الأقلية. والشورى في الإسلام مفهوم كيفي، احترام رأى الأغلبية للأقلية. وقد يكون الحق مع الأقلية. الديموقراطية في الغرب تعبير عن الإرادة العامة التي قد تختلط بالمصالح الفئوية في حين أن الشورى في الإسلام تعبير عن إرادة عامة تعبر عنها الشريعة الوضعية التي هي تعبير عن الإرادة الإلهية التي لا تنحاز لطائفة أو فئة أو طبقة وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ. هي شريعة العدل وعليه قام الميزان في السماء والأرض.
وللمؤسسات الاجتماعية الحق في الرقابة على الأسواق العامة وأجهزة الدولة. بل إن هذه الرقابة هي الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية والتي سماها الفقهاء «الحسبة» وكما كتب ابن تيمية وابن القيم «الحكومة الإسلامية» أو الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية. فالحكومة سلطة تنفيذية وليست تشريعية أو قضائية. التشريع للقانون، والقضاء للفصل في الخصومات. وهي السمات الرئيسية للمجتمع المدني في الفصل بين السلطات الثلاث.
كما يقوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدور الرقابة على أجهزة الدولة من خلال خطباء المساجد يوم الجمعة ودروس العصر. فالدين النصيحة. ويكون شرطه ألا يؤدي إلى منكر أعظم منه، وأن يكون العالم على علم بالموضوع حتى تصح النصيحة، ويستفيد بها أولو الأمر، وتحقق الصالح العام. تعي العامة مصالحها، ويتبصر الحاكم، ويتدبر في قراراته. ويقوم العلماء بدورهم في تجسير العلاقة بين الحاكم والمحكوم، حقوق المحكوم وواجبات الحاكم.
فإن استمر الحاكم في عصيان القانون، وعدم الأخذ بالنصيحة، إذا ما تهاون في «الذب عن البيضة»، وتقوية الثغور، وحماية الحدود، وإذا ما صالح الأعداء وتحالف معهم ضد مصالح الأمة أو صلى في الأرض المغصوبة فإن على العلماء الذهاب إلى القضاء لشكايته أمام قاضي القضاة المعين من الحاكم والذي لا يمكن عزله حفاظًا على استقلاليته. وهو ما يعادل محاكمة الرؤساء أمام المجالس النيابية أو المحكمة الدستورية العليا أو مجلس الدولة. فإن عاد الحاكم إلى الحق بعد ثبوت التهمة عليه حققت الرقابة الشعبية دورها. وإن استمر في عصيان الحكم وفسخ العقد جاز الخروج عليه بقيادة علماء الأمة وقضاتها وقاضي القضاة.
والشريعة الإسلامية شريعة وضعية تقوم على رعاية المصالح العامة. وضعت ابتداءً تحقيقًا للمصالح، المحافظة على الحياة (النفس)، وحق الإنسان في البقاء، والعقل، وحق الإنسان في المعرفة، والتعليم، والمعيار العام الذي يتساوى أمامه الجميع (الدين) دون ازدواجية في التطبيق أو نسبية في الرؤية أو عدمية في الاتجاه، والكرامة والعزة (العرض) وحق الإنسان في الحياة الأبية ضد الذل والامتهان، والثروات الوطنية (المال) ضد السفه والتبذير والاحتكار والاستغلال. كما وضعت الشريعة للامتثال أي للاقتناع بها طواعية واختيارًا دون فرض أو جبر. كما وضعت للتكليف أي للتحقيق وإعطاء الناس حقوقهم قبل مطالبتهم بواجباتهم. والحدود جزء من الواجبات مشروطة بإعطاء الحقوق. ولكل حد سبب وشرط مانع. فلا تطبق الحدود إلا بعد توفر أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها. فلا تقطع يد سارق عن جوع أو بطالة أو مرض نفسي أو إذا كان المجتمع كله سارقًا، وكانت السرقة سلوكًا اجتماعيًّا عامًّا للأغنياء قبل الفقراء. ولا يطبق حد الزنا إلا بعد تسهيل الزواج المبكر ومنع الإثارات من أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة. وتؤتي الأفعال بالنوايا الصادقة منعًا للاحتيال والتحايل. ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. ومِن ثَم لا يجوز تكليف ما لا يطاق.
هذه كلها سمات المجتمع المدني الحر الذي يشعر فيه المواطن بالانتماء إليه لأن السلطة فيه من اختياره، والقانون فيه يعبر عن مصالحه، والعدل فيه أساس الحكم، والقضاء فيه مستقل، وحرية الرأي فيه مكفولة، والجهر بالحق فيه واجب، وأعظم شهادة قول الحق في وجه حاكم ظالم، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
مفهوم المجتمع المدني في الثقافة الغربية، وتصور المجتمع المدني في الثقافة الإسلامية متشابهان من حيث المضمون إن كانا مختلفين من حيث مصادر المعرفة والمصطلحات والظروف التاريخية لكل مجتمع. والصراع بين المفهومين أو التصورين إنما هو تعبير عن حالة الاستقطاب النظري والعملي الشائع في واقعنا المعاصر بين الأخوة الأعداء، السلفيين والعلمانيين، المحافظين والمجددين، التقليديين والإصلاحيين. الفريق الأول يدافع عن الخصوصية الثقافية، والفريق الثاني يدافع عن العالمية الثقافية. وكلا الموقفين صحيح. فلا خصوصية بلا عالمية، ولا عالمية بلا خصوصية. لا تنوع بلا وحدة، ولا وحدة بلا تنوع.
لا تهم المداخل النظرية لمتطلبات الواقع الراهن، وهي تقوية المجتمع المدني أمام سيطرة الدولة على كافة مظاهر نشاطه باسم القانون ومحاولة صياغة قانون جديد للجمعيات الأهلية لإخضاعها أكثر فأكثر لرقابة الدولة بدلًا من «الصداع» المزمن الذي تحدثه جمعيات حقوق الإنسان والمرأة والمجتمع المدني. المهم هو الموضوع أي المصلحة الاجتماعية العامة مع احترام الأطر النظرية فيه حتى لا ينشأ صراع أيديولوجي بين الموروث والوافد. الأول يكفِّر الثاني، والثاني يخِّون الأول. فيضعف الجناحان الرئيسيان، والبديلان الفعليان للقلب. فيقوى القلب على حساب الجناحين، وتزداد سيطرة الدولة على الجمعيات الأهلية والجمعيات مشغولة بأطرها النظرية، الموروث والوافد.
لقد كانت الغلبة باستمرار لحركة المجتمع على ثبات الدولة. وإذا كان اللحاق بالنموذج اللبناني، أولوية المجتمع على الدولة، صعب المنال فإن استمرار النموذج الآخر، أولوية الدولة على المجتمع، صعب التحقيق. إنما التعادل بين النموذجين في نموذج ثالث، مجتمع قوي ودولة قوية، قادر على تحقيق المطلبين في آنٍ واحد خاصة في هذا الوقت الذي يتم فيه حصار الدولة الوطنية وتفتيتها وتهميشها ليس لصالح المجتمع المدني ولكن من أجل التبعية للمركز الخارجي فيما يسمى بالعالم ذي القطب الواحد في عصر العولمة.