الإسلام والتنمية١
(١) مقدمة: الموضوع والمنهج
موضوع التنمية موضوع حديث ارتبط بالتجارب الاشتراكية في العالم الثالث بالرغم من أنه كان مفهومًا سابقًا على ذلك في النظم الرأسمالية والشيوعية على حد سواء. وتداخل مع مفاهيم النهضة والتقدم والإصلاح والإحياء والتغير الاجتماعي والنمو. ولكل لفظ دلالته وسياقه. فالنهضة تعني الانتقال من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى، وهو ما غلب على الثقافة العربية الحديثة منذ القرن الماضي عندما يشار إلى فجر النهضة العربية الحديثة أو الفكر العربي في معركة النهضة. والتطور يشير إلى التغير على مستوى الأحياء والعلوم البيولوجية كما هو الحال في نظرية. التطور في علم الأحياء والطبيعة الحية وانتقالها بعد ذلك إلى علم الاجتماع كما هو الحال في الداروينية الاجتماعية. وتركز على التواصل بين المرحلتين أكثر مما تركز على الانقطاع. والتقدم لفظ الماركسيون ويعني التقدم الاجتماعي والتاريخي للنظم السياسية ومراحل التاريخ. والإصلاح لفظ يفضله رواد الإصلاح الديني ويعنون به التغير في فهم العقيدة والشريعة فهمًا أكثر عقلانية وحرية دفاعًا عن مصالح الناس. والإحياء مصطلح أصبح مستعملًا في الأدب العربي الحديث لوصف مدرسة إحياء القصيدة العربية القديمة. والتغير الاجتماعي هو التعبير الأثير لدى الاجتماعيين مع التركيز على التنمية البشرية. والنمو مصطلح في الاقتصاد ويعني زيادة الإنتاج بصرف النظر عن البشر. وهو مفهوم أضيق من مفهوم التنمية الذي قد يشمل معاني هذه المصطلحات جميعها، تنمية الموارد وتنمية البشر.
وربط الإسلام بالتنمية محاولة كما هي العادة في الفكر العربي المعاصر لربط القديم بالجديد وإيجاد وحدة عضوية بين الموروث والوافد. وهو ما يؤكده حرف العطف «واو». فالإسلام موروث من اجتهادات القدماء، والتنمية معروفة من نقل المحدثين، نقلًا بنقل، مع اختلاف جهة النقل فحسب. والسؤال هو: ما الصلة بين هذين المصدرين للمعرفة؟ هل يقدمان معرفتين مستقلتين، مختلفتين متباعدتين أو متناقضتين أم أنهما يقدمان معرفتين متداخلتين متشابهتين متقاربتين وربما متماثلتين؟ وربما تكون المعرفتان متشابهتين من جانب، مختلفتين من جانب آخر كما هو الحال بين أي شيئين للمقارنة بينهما وإلا لما كان هناك داعٍ لتفرد الأشياء وتمايز بعضها عن البعض الآخر حتى بين المترادفات في اللغة، والشبيهين بين البشر، والمتماثلين في الطبيعة.
كما تدل واو العطف بين الإسلام والتنمية على المقارنة بين شيئين متخارجين، وحدتين موضوعتين والمقارن بينهما طرف ثالث محايد يرصد جوانب التشابه والاختلاف بينهما. وهو أمر مستحيل نظرًا لاستحالة وجود الباحث المحايد الذي ينظر من علٍ وبتجرد تام على موضوعين في آن واحد هما في الوقت نفسه جزء منه، الإسلام والتنمية. وقد يميل إلى الإسلام أكثر مما يميل إلى التنمية إذا كان سلفي الاتجاه. وقد يميل إلى التنمية المعاصرة أكثر مما يميل إلى الإسلام إذا كان عصري الاتجاه. وقد يميل إلى الجمع بين الاثنين، يقرأ الإسلام في أدبيات التنمية، ويؤوِّل أدبيات التنمية من خلال الإسلام، إذا كان تحديثي الاتجاه. يجمع بين الاثنين على نحو انتقائي دفاعي تقريظي وعظي. كما يستحيل تخارج موضوعين نظرًا لأن منطق الهوية والاختلاف ينظم الأشياء، ويعم الكون، وتحتمه طبيعة الذهن وبنية العقل والقياس.
وقد تعني واو العطف، وهو ما يحدث بالفعل، قراءة طرف من خلال طرف آخر، قراءة الإسلام من منظور التنمية، وهو ما لا يمكن نفسيًّا وثقافيًّا نظرًا لأن الإسلام، وهو الموروث، أقرب إلى ذهن القارئ من التنمية، وهو الوافد. وقد يلعب الموروث لا شعوريًّا دور الأصل، والوافد دور الفرع بحثًا عن الأصالة إذا ما كان الباحث إسلامي الاتجاه. لذلك لم يبقَ إلا قراءة التنمية من منظور الإسلام. وهو الأقرب، نظرًا لأن لثقافة الأنا الأولوية على ثقافة الآخر، فهي الأصل وهو الفرع وفقًا للتقريب. وحتى لو كان الباحث عالمًا موضوعيًّا أقرب إلى البحث عن الأشياء ذاتها بصرف النظر عن مصادرها المعرفية فإنه يحاول الحفر في الموروث لبحث مقومات التنمية أكثر مما يتجه نحو الوافد لنقله ونقده من أجل تجاوزه. إذ يصعب التخلي عن الوافد باعتباره ثقافة العصر والرؤية التي من خلالها يتم الحفر في الموروث. فالذهن لا يعمل إلا من خلال تصورات ورؤى. يختلط فيها القديم بالجديد في فهم العصر.
والآن، هل يمكن الحديث عن الإسلام ككل؟ ومن أي مصدر يؤخذ الإسلام؟ هل من نصوصه الأولى، الكتاب والسنة وقد تعددت التفسيرات والاجتهادات فيهما عبر العصور؟ هل من العلوم الإسلامية العقلية النقلية القديمة، الكلام والأصول والفلسفة والتصوف؟ ولكل علم نظراته التي تتعلق بموضوع التنمية مثل الآجال والأرزاق والأسعار والفقر والغنى في علم الكلام، وحقوق الإنسان والحاجات الأساسية والمصالح العامة في المقاصد الشرعية في علم أصول الفقه، والسياسات المدنية عند الفارابي، والرقي الروحي من خلال الرياضيات والمجاهدات عند الصوفية. هل يمكن الاعتماد على العلوم النقلية الخالصة كالقرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه وهناك نظرات في كل علم تتعلق بموضوع التنمية، آيات القرآن والأحاديث النبوية الخاصة بالزراعة والأرض والماء والموارد والمعادن، ونظرات المفسرين في خلافة الإنسان على الأرض والسعي والكد والكدح والعمل والرزق، وحياة الرسول كنموذج إرشادي للزراعة والتجارة والصناعة، والفقه باعتباره تنظيرًا للمعاملات من إجارة ومزارعة وصيد وذبح وغنائم وخراج وقضاء وأوجه الصرف من بيت المال؟ هل يمكن الاعتماد على العلوم الإنسانية القديمة، اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ، وبها أيضًا نظريات تتعلق بالتنمية خاصة التحليل اللغوي الاشتقاقي للألفاظ، وما زخر به الأدب العربي من حديث عن الحيوان والنبات والمعادن، وتصورات الأرض والطبيعة في الجغرافيا، وما تمد به الروايات من قدرة القدماء على تنمية الموارد وطرق الزراعة والري ورفع المياه وإن لم تظهر التنمية كمفهوم نظري؟
وكما أن هذه الأنواع للتنمية لا تخلو من أيديولوجيات، بين الاشتراكية والرأسمالية، الوطنية والكوكبية، الإقليمية والعولمة كذلك لا يخلو فهم الإسلام من تيارات اعتزالية أو أشعرية في العقيدة، عقلية أو إشراقية في الفلسفة، حنفية أو شافعية أو مالكية في الفقه، وسلبية أو إيجابية في التصوف، إسلام في صالح الحكام، إسلام فقهاء الحيض والنفاس وفقهاء السلطان، وإسلام في صالح المحكومين، إسلام فقهاء الشعب والمضطهدين، فقهاء المقاومة والثورة والمعارضة والخروج على الحاكم على الظالم. فأي أنواع التنمية يتم عطفها على أي مدارس الإسلام وتياراته الفكرية ومذاهبه الفقهية واتجاهاته الفلسفية وطرقه الصوفية؟ ولما كان الإسلام والتنمية معًا يتعاملان مع المجتمع وطبقاته فإن كليهما يخضع لنفس البنية الاجتماعية. فالتنمية الرأسمالية مثل التفسير الرأسمالي للدين، والتنمية الاشتراكية مثل التفسير الاشتراكي للدين، والتنمية الأوتوقراطية مثل تصور فقهاء السلطان للدين، والتنمية الشعبية مثل إجماع الأمة، والتنمية الوطنية مثل الإسلام الوطني، والتنمية الدولية المتعددة الجنسيات مثل الإسلام العقائدي الشعائري الذي يتجاوز حدود الأوطان والإرادات الوطنية المستقلة للشعوب.
ويمكن الاعتماد بالإضافة إلى منهج تحليل النصوص منهج تحليل الخبرات المشتركة الفردية والاجتماعية التي مر بها هذا الجيل الذي عاصر تجارب التنمية صعودًا وهبوطًا، في البداية والنهاية وعاصر حصارها بين النقل عن التجارب الاشتراكية وأقلمتها طبقًا للظروف العربية أو الأفريقية. وهو الجيل الذي يعاصر الآن بروز الإسلام كاختيار وبديل، مما يقلل الاعتماد على المصادر المدونة من التراث القديم أو من التراث العربي في موضوع التنمية. كما أن البداهة العقلية والرؤية الحسية والتجربة المشتركة بين المؤلف والقارئ من مقاييس الصدق.
(٢) التصورات السلبية للتنمية
وهي التصورات الموروثة والتي تحولت إلى بنية في الثقافة الشعبية وفي ممارسات الحياة اليومية، وتحدد رؤي الإنسان للعالم، حاكمًا أو محكومًا. وهي أقرب إلى التصورات العامة للكون منها إلى فلسفات التنمية، التصورات العامة للطبيعة ودور الإنسان وفاعليته فيها، صلة الإنسان بالله وبالعالم، حياته ومماته سعادته وشقاوته، دنياه وآخرته.
وقد تصارع تصوران. الأول أن الطبيعية ثابتة، تخضع لقوانين مطردة ومنها العلية أو السببية. وقد دافع المعتزلة عن هذا التصور خاصة أصحاب الطبائع، والفلاسفة خاصة ابن رشد في دفاعه عن السببية ضد إنكار الغزالي لها. وهو ما يسمح بالعمل في الطبيعة والثقة بقوانينها وبالتالي تنميتها اعتمادًا على الجهد الذاتي. والإنسان فاعل في العالم، وأفعاله تبقي فيه أثرًا منه. فالعمل هو جوهر الإيمان. ومن لا عمل له لا إيمان له كما هو الحال عند الخوارج. ولم يبقَ هذا التصور في الموروث الثقافي القديم بعد أن تمت إزاحته مع استبعاد المعارضة السياسية. فقد كان المعتزلة مع الخوارج من أهم فرقتين للمعارضة السنية العلنية في الدولة الأموية. الأولى بالفكر، والثانية بالسلاح.
والثاني أن الطبيعة لا تخضع لقوانين ثابتة، وأن حركتها وسكونها من خارجها، وأن الفعل الإنساني غير مضمون الأثر فيها. فالإنسان ليس سيد الطبيعة بل هو غريب فيها، طارئ عليها. وقد لا يساعد هذا التصور على وضع أي خطط للتنمية لأن الإنسان ليس الفاعل الأوحد فيها. فالآجال والأرزاق والأسعار والغنى والفقر من الله وليس من البشر. وقد تبنى هذا التصور الأشاعرة والصوفية. الله هو الفاعل الحق، وما دونه فاعل بالمجاز. والطبيعة وُجدت بعد أن لم تكن، وتفنى بعد أن كانت. ولا يبقى من الإنسان إلا رحمة ربه. كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. والإنسان بإيمانه. تكفه التمتمة بالشفتين والإعلان باللسان عن الشهادتين حتى ولو أضمر في قلبه الكفر، حتى ولو كانت أعماله غير مطابقة لإيمانه أو لم تكن له أعمال على الإطلاق. فالله رحيم بالعباد.
وإذا كانت التنمية قد ارتبطت بمفهوم التقدم. فقد تنازع مفهوم التقدم في الثقافة الموروثة تصوران: الأول أن التقدم يتجه نحو الكمال بصرف النظر عن مسار التقدم إلى أعلى نحو التنزيه أم إلى الداخل نحو استقلال الوعي الإنساني عقلًا وإرادة. الوحي تقدم، من مرحلة إلى مرحلة، من آدم حتى محمد، من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام. وبعد اكتمال الوحي يستمر التقدم من خلال الفعل الإنساني، وتحقيق الوحي كمثل أعلى للطبيعة. الغد أفضل من اليوم، واليوم أكمل من الأمس. وهو أحد معاني الأمل ورفض اليأس من رحمة الله والقنوط منها. وهو تصور يساعد على التنمية والأمل في مستقبل أفضل. وتوضع خطط التنمية بناءً على التخطيط للمستقبل والإعداد له.
والتصور الثاني هو أن الإنسان ما زال قاصرًا بعقله عن الفهم وبإرادته عن الاختيار، وأن العقل ما زال في حاجة إلى وصي وهو النبي. ونظرًا للبعد عن عصر النبوة اليوم فإن التاريخ بعدها في انهيار مستمر، جيلًا وراء جيل. السلف خير من الخلف. حافظ السلف على الصلوات، واتبع الخلف الشهوات. وأفضل القرون قرن النبوة ثم الخلافة ثم التابعون ثم تابعو التابعين. ويقل الفضل جيلًا وراء جيل إلى يوم الدين. ومن هنا نشأ تاريخ الطبقات، طبقات المعتزلة، وطبقات الحنابلة، وطبقات الشافعية، وطبقات الأطباء، وطبقات الصوفية، والطبقات الكبرى. خير القرون قرن الرسول. والخلافة من بعده ثلاثون سنة تتحول بعدها إلى ملك عضوض. وجاء الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء. والنتيجة الحتمية لذلك ضرورة وجود حاكم قاهر يأخذ الناس بالنواصي ليمنع الانهيار الحتمي للتاريخ، تبريرًا للسلطة المطلقة. لذلك تنشأ بعض الحركات السلفية للعودة إلى الماضي. فالطريق إلى المستقبل هو الرجوع إلى الوراء في عصر ذهبي يُعاد إليه من جديد. ولن يقوم المهدي المنتظر إلا في آخر الزمان لرفع التاريخ بعد انهياره، وإقامة العدل بعد الظلم، وتعود حياة الروح إلى جسد التاريخ بعد انطفائها. وقد نشأ التشريع كرد فعل على هذا التصور المنهار للتاريخ، وقُدمت الإمامة باعتبارها استمرارًا للنبوة ومحركها ومبلغها ومبرزها ومؤوِّلها. فالحق قادم والظلم مولٍّ. وسيظهر الإمام فيما بعد يملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا في حركة سرية. فلا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يقوى على السلطان الجائر إلا الإمام العادل، ولا يقوى على الحاكم المتأله في السلطان إلا الإله المتجسد في الإمام.
وإذا ارتبط مفهوم التنمية بالسلطة، سلطة إصدار القرار ومتابعة تنفيذه فهناك تصوران موروثان للسلطة: الأول يجعل السلطة ممثلة للشعب ونابعة منه. فالإمامة عقد وبيعة واختيار. والعقد شريعة المتعاقدين، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والخروج على الحاكم الظالم واجب شرعي بعد النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاضاته أمام قاضي القضاة. وصفات الإمام الكاملة مثل العدل والقوة لا تغني عن المؤسسات المستقلة كالقضاء. والثاني أن الإمام من قبيلة معينة، قريش، وتظل الخلافة فيها إلى يوم الدين، وأن الطاعة للإمام واجبة حتى ولو عصى الإمام اتقاء الفتنة. وهو نفس التصور الذي استمر عند الفلاسفة خاصة الفارابي في «آراء أهل المدينة الفاضلة»، في ضرورة الطاعة لرئيس المدينة، الله أو النبي أو الملك أو الفيلسوف أو الإمام. وكلها أسماء مترادفة. ثم تتدرج الطبقات الاجتماعية إلى أسفل حتى الدرجة الدنيا من الصيادين والفلاحين والعمال. فلو ثار جزء منها فإنه يجوز بتره. فالأولى بتر عضو فاسد بدلًا من أن تنتقل العدوى إلى سائر الأعضاء، ويبقى الجسم كله صحيحًا معافًى. وهو ما ظهر أيضًا عند الصوفية في مدينة الأقطاب والأبدال وضرورة الرئاسة لقطب الأقطاب أو بدل الأبدال في النظام الكوني، وضرورة الطاعة المطلقة للشيخ من المريد في الطرق الصوفية.
إن التصورات القديمة الموروثة من القدماء بعد ترسيخها في الثقافة الشعبية أقرب إلى معوقات التنمية منها إلى مقوماتها. وإنها لمسئولية المحدثين الاكتفاء بالنعي على القدماء والتوجه نحو المحدثين في الغرب لإيجاد مطالبهم دون تطوير للثقافة الموروثة القديمة بزحزحة معوقاتها، وغرس مقوماتها سواء في موضوع التنمية أو في غيره من أجل إعادة بنائها على أسس جديدة اعتمادًا على المدارس الفكرية التي تمت إزاحتها منذ القرنين الخامس والسادس الهجريين مثل الاعتزال في العقيدة، والمالكية في الفقه، والرشدية في الفلسفة، والحلاجية في التصوف. فإذا ما استعصى هذا العمل الثقافي الذي يبغي تجاوز ما يقرب من ألف عام من أحادية الطرف في الفكر والتي أصبحت من معوقات التنمية، وإذا ما احتاج إلى وقت طويل وعمل عدة أجيال لا ينتكس جيلًا بعد جيل، وإعادة الاختيار بين بدائل أخرى تم استبعادها من قبل ولم تستقر كمكون رئيسي في الثقافة الشعبية، وإذا لم يسعف لمواجهة حجم التحديات المعاصرة حينئذٍ يمكن إنشاء مدارس فكرية جديدة تقوم على اجتهادات جديدة. فقد تغيرت الظروف القديمة، ونشأت ظروف جديدة تحتم قراءات جديدة للنصوص بناءً على احتياجات العصر بدلًا من حصار الحاضر بين قديم موروث غير مطابق للعصر، وجديد منقول غير مطابق للعصر أيضًا. فزمان القدماء وزمان المحدثين من الغرب غير زمان العصر. والحاضر لا يمكن رده إلى ما هو أقل منه في الماضي ولا إلى ما هو أكثر منه في المستقبل. وعلى هذا النحو تتطور الثقافة، وتتجدد من الداخل عبر التاريخ وعلى نحو متصل بدلًا من إحداث الانقطاع فيها، وتحافظ على وحدتها بدلًا من حصارها بين ثنائية القديم والجديد.
(٣) التصورات الإيجابية للتنمية
ويمكن إيجاد مقومات للتنمية في التصور الإسلامي للعالم بعد تجاوز الاشتباه القديم الذي جسده الصراع بين الأشاعرة والمعتزلة في العقيدة حول الله والعالم، والحنبلية والمالكية حول النص والمصلحة، والحنفية والشافعية حول الرأي والأثر إلى قراءة جديدة للعناصر المكونة لأيديولوجيات التنمية في القرآن، وهو المصدر الأول للفكر الإسلامي.
والأرض هي الأرض الخضراء التي إذا نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وليست الأرض الصفراء والمملوءة بالهشيم الذي تذروه الرياح. ينزل عليها الماء من السماء فتصبح مخضرة. وتحيا بعد موتها بعد أن كانت هامدة ساكنة خامدة خاملة. ينزل من المعصرات الماء الثجاج فتنبت الأرض الحب والنبات. وينزل الماء من السماء فتنبت الأرض حدائق ذات بهجة. كما تتفجر من الأرض العيون بعد أن ينزل الماء فيسلك في ينابيع الأرض. وبعد شقها وحرثها وبذرها وزرعها والعمل فيها والكد عليها والسعي إليها تنبت الزرع والشجر والنخل الباسقات ذات الطلع النضيد والقطوف الدانية. والنخل والزرع مختلف أكله. وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل. يأكل منها الإنسان الثمار والحبوب والبقول والقثاء والفول والعدس والبصل. وعلى الإنسان حماية الزرع، فإن نقصه بلوى. فلا يكون العمران إلا في الوديان المزروعة حيث تبدأ التجمعات السكانية الأولى. بل إن صورة جنات النعيم إنما أتت على منوال جنات الأرض. لذلك خص الفقهاء في الأحكام السلطانية بابًا خاصًّا «في إحياء الأموات واستخراج المياه» بناءً على حديث «من أحيا أرضًا مواتًا فهي له».
كما يركز القرآن الكريم على الثروة السمكية والحيوانية والطيور والسمك الطري في البحار للصيد، والطير في السماء ولحومها مما تشتهي الأنفس. والأنعام حلال طعامها وتوظيفها في الحرث واستعمالها في النقل، فيها دفء ومنافع، ومن جلودها تصنع الخيام والمنازل والخيل والبغال والحمير للركوب والانتقال وللزينة. والفلك تجري في البحر بما ينفع الناس للتجارة عبر البحار.
وبالأرض أيضًا بالإضافة إلى الثروة الزراعية والحيوانية، الثروة المعدنية من ذهب وفضة ونحاس وحديد للتصنيع وليس للحلي والتزين والتفاخر والاستهلاك. فقد طلب الإسكندر زبر الحديد. وأذاب داود ولان له الحديد. وتحتمي الناس بمقاطع الحديد. ففي الحديد بأس شديد في الحرب ومنافع للناس في السلم.
وبالرغم من نقد ابن خلدون للتجارة باعتبارها عملًا غير منتج وأخلاق التجار التي تقوم على الربح إلا أن صورة التجارة المزدهرة والربح والسعي في الأرض والكدح صورة إيجابية. بل إن العلاقة مع الله تم تصويرها علاقة ربحية كما فعل بعض الفلاسفة مثل بسكال في رهانه على الحياة الأبدية بلغة المكسب والخسارة. فالإيمان يقوم على رهان كاسب. إذا خسر الإنسان فإنه لا يخسر شيئًا وإذا كسب فإنه يكسب كل شيء. والكفر يقوم على رهان خاسر. إذا كسب الإنسان فإنه لا يكسب شيئًا وإذا خسر فإنه يخسر كل شيء. وهو ما قاله أيضًا الشاعر العربي:
والبيع غير الربا. البيع عن تراضٍ في بضاعة حاضرة، به مكسب وخسارة. والربا مضمون بالإكراه واستغلال الطرف القوي للطرف الضعيف. والتجارة تحتاج إلى نقل بحري وبري وجوي. فالفلك تسري في البحر كالأعلام. والدواب على الأرض تجوبها. والطير صافات في السماء. سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ.
(٤) التنمية المتكاملة
والنظام الاجتماعي هو المصب النهائي للتنمية، تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة في توزيع الدخل والخدمات العامة. فالمجتمع الواحد الذي فيه إنسان واحد جائع تبرأ ذمة الله منه. وليس من الأمة من بات شبعان وجاره طاوٍ. والله قرين الخبز والأمان الذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ، وتنهار المجتمعات بسبب التفاوت الشديد بين الطبقات، إقطاع وفقر فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. والزكاة دورة لفائض رأس المال بما يحقق مصالح الناس والصدقات للفقراء والمساكين. والخُمس لله وللرسول وللفقراء والمساكين والعاملين عليها ولأبناء السبيل. فالفقراء لهم حق في بيت المال. ويحرم الاقتراب من مال اليتيم أو نهره أو سوء معاملته وإلا كان ذلك تكذيبًا بالدين. والفقر من الشيطان كفر بالله وبنعمه وبلاء من الله.
والنظام القضائي في الإسلام يراقب الحاكم والمحكوم. وقاضي القضاة يُعين ولا يُعزل. والقانون واحد على الجميع، يطيعه الحاكم قبل المحكوم واستقلال القضاء يوفر له ضمانات العدل بين الناس.
• Development as social transformation: Reflections on the Global problematique, UNU, Hodden and Stonhton, London 1985.
• ابن تيمية: الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية، مكتبة القاهرة.
• القرشي: معالم القرية في أحكام الحسبة، تحقيق د. محمد محمود شعبان، صديق أحمد عيسى المطيعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٧٦م.
ومن كتب الإمارة والوزارة:
• أبو بكر الحضرمي: السياسة أو الإشارة في تدبير الإمارة، تحقيق علي سامي النشار، دار الثقافة، الدار البيضاء، ١٩٨١م.
• أبو الحسن الماوردي: قوانين الوزارة وسياسة الملك، تحقيق د. رضوان السيد، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ١٩٧٩م.
• إمام الحرمين الجويني: غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق د. فؤاد عبد المنعم، د. مصطفى حلمي، دار الدعوة، الإسكندرية، ١٩٧٩م.
وانظر أيضًا: يحيى بن عمر: أحكام السوق، تحقيق حسن حسني عبد الوهاب، تونس، ١٩٧٥م.
• أبو الفرج بن رجب الحنبلي: الاستخراج لأحكام الخراج، تحقيق عبد الله الصديق، دار الحداثة، القاهرة، ١٩٨٢م.
• ابن سلام: كتاب الأموال، تحقيق محمد خليل هراس، القاهرة، ١٩٦٩م.
• Hamiza Ibrahim, Hassan Hakim: Quest for Excellence, IKIM, Kuala Lumpur 1994.
• Sayed Othman Alhabashi, Sayed Omar Sayed Agil: the role and influence of religion in society, IKIM, Kuala Lumpur 1994.
• Nik, Mustapha Hj Nik, Hassan: Towards a better economic management: The role of public and private sectors in Islam, IKIM, Kuala Lumpur 1995.