الناصرية والإسلام١
وحدة عضوية
(١) هل تتصادم شرعيتان: الدين والثورة؟
يمكن تلخيص مأساة جيلنا الحديث كله، جيل الثورة المصرية سواء
الذين قاموا بها والذين عاصروها في صدام شرعيتين، شرعية الماضي
وشرعية الحاضر، شرعية التواصل وشرعية الانقطاع. وقد تجسدها
الصدام في الصراع بين الإخوان والثورة منذ ١٩٥٤م، وحتى الآن في
صراع الدولة مع الجماعات الإسلامية. وقد هز هذا الصدام المروع
بين الشرعيتين جيلًا بأكمله تنازعه الولاء بين الإسلام
والناصرية، بين الإخوان والثورة. فقد كان من أنصار المفكر
الشهير سيد قطب صاحب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، «معركة
الإسلام والرأسمالية»، «السلام العالمي والإسلام». ثم انفعل
بالثورة باعتبارها تحققًا لما كان يؤمن به حتى ١٩٥٤م. وضاع سيد
قطب في أتون الصراع. فلا هو أفاد الإخوان بإسلامه الاشتراكي
المعادي للرأسمالية، ولا استفادت منه الثورة باعتباره جسرًا
بينهما وبين الإخوان. مع أنه هو الذي حرر «دعوتنا»، برنامج
الإخوان عندما طلبت الثورة من الأحزاب إعداد برامجها.
٢ وهو الذي ألقى عدة أحاديث في الإذاعة المصرية عن
الإسلام والثورة في بدايات الثورة المصرية قبل مرحلة الصدام.
وكانت تدور حول الاستعمار والكفاح والتكافل الاجتماعي وكأنها
مواثيق الثورة قبل أن تبدأ صياغاتها في الستينيات، وهي نفس
الأفكار التي عبر عنها عبد الناصر في نفس الفترة عام ١٩٥٣م في
«فلسفة الثورة». وعندما يقال الإسلام والناصرية في التجربة
المصرية فإن ذلك لا ينفصل عن الصراع بين الإخوان المسلمين
والثورة المصرية منذ ١٩٥٢م حتى ١٩٧٠م. بل ويمتد الصراع أيضًا
في عصر الثورة المضادة من ١٩٧١م حتى ١٩٨٠م انتهاء باغتيال
السادات على أيدي جماعة الجهاد. وهي فترة ما زالت مستمرة حتى
الآن ابتداءً من ١٩٨١م في الحقيقة الثالثة للثورة المصرية التي
هي أقرب إلى الثورة المضادة في الحقبة الثانية منها إلى الثورة
في الحقبة الأولى والتي كان آخر معالمها اغتيال رئيس مجلس
الشعب في ١٩٩٠م. فالإسلام والناصرية كفكرتين أو أيديولوجيتين
يتجسدان فعلًا وواقعًا في الصراع بين الإخوان والثورة.
٣
(٢) الإخوان المسلمون والنضال الوطني قبل ١٩٥٢م
وقبل هذا الصدام المؤسف بين الشرعيتين كان الإسلام من جانب
الثورة ضد الطغيان وفقهاء السلطان. فمنذ الثورة العرابية
ومناصرة رجال الدين لعرابي مثل الشيخ عليش والشيخ حسن العدوي
ومقابلة ذلك بفتوى السلطان بتكفير عرابي ومعاداة فقهاء السلطان
له مثل الشيخ العباسي والشيخ الإمبابي والشيخ الإبياري والشيخ
حمزة فتح الله ظهر الاتحاد بين الشرعيتين في الثورة العرابية.
وكان عبد الله النديم رمزًا لهذه الوحدة بين الشرعيتين،
الإسلام والثورة، أسوة بأساتذته وصحبه جمال الدين الأفغاني
ومحمد عبده.
٤ واستمر الحال كذلك في الحزب الوطني ربط بين
الإسلام والوطنية منذ مصطفى كامل ومحمد فريد حتى الوفد المصري.
واستمر نفس التيار في مصر الفتاة، ربط تركيا بمصر، والإسلام
بالثورة حتى فتحي رضوان.
ثم نشأت حركة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية على ضفاف
القناة في مواجهة جنود الاحتلال البريطاني وفي محافظة الشرقية
مهد العرابيين. نشأت الجماعة في مواجهة الاستعمار، وبطريق
الكفاح المسلح كما حدث في ١٩٥١م على ضفاف القناة بالتعاون مع
الضباط الأحرار (كمال رفعت) قبل أن يعرفهم أحد. وكان التعاون
بينهم في فلسطين في ١٩٤٨م. كان حسن البنا تلميذ رشيد رضا في
دار العلوم. أراد استئناف «المنار» بعد أن توقفت في مطلع ١٩٣٦م
وأصدر منها ستة أعداد. فجماعة الإخوان المسلمين إذن سليل
الحركة الإصلاحية الأولى من الأفغاني إلى محمد عبده، ومن محمد
عبده إلى رشيد رضا، ومن رشيد رضا إلى حسن البنا، بالإضافة إلى
تحقيق حلم الأفغاني وهو تأسيس حزب إسلامي ثوري تكون مهمته
تحقيق المشروع الإصلاحي الإسلامي في مواجهة الاستعمار في
الخارج والقهر في الداخل.
الإخوان المسلمون إذن مهد للحركة الوطنية منذ تأسيس الحركة
الإصلاحية. وإذا ما حدثت مهادنة هنا أو هناك أو ألقيت عبارة
هنا أو هناك إرضاءً لملك أو لأمير فإن ذلك يحدث نتيجة لأخطاء
في التحليلات السياسية الواردة في كل تنظيم سياسي من أشخاص قد
يؤثرون لعبة الحكم والسلطة على رؤية الجماعة ونضالها الوطني.
ولحظات الضعف السياسي لا تمحو تيارًا إسلاميًّا وطنيًّا
بأفكاره ورواده وجماهيره.
٥
(٣) الأحزاب الوطنية والإسلام الليبرالي قبل ١٩٥٢م
وكما بدأ النضال الوطني من الحركة الإصلاحية كذلك بدأ
الإسلام الليبرالي الحديث، والإسلام يبدو رمح التاريخ وأساس
الدولة وتصور المجتمع وفلسفة التعليم. فقد كتب الطهطاوي سيرة
«ساكن الحجاز» مبينًا نشأة الدولة الإسلامية الأولى ابتداءً من
الإسلام كعقيدة والرسول كرئيس دولة. وفي «مناهج الألباب» يبدو
الأساس النظري الإسلامي مثل نظرية الحسن والقبح العقليين لفهم
فلسفة التنوير أساس النظم الليبرالية الحديثة، واستمر الحال
كذلك عند تلاميذه علي مبارك من أجل نهضة التعليم وعند أحمد
لطفي السيد المؤسس الثقافي في الدولة المصرية الحديثة. وظهر
الإسلام العقلاني الحر وعاقه النظام الليبرالي عند طه حسين في
«على هامش السيرة» وعند محمد حسين هيكل في «منزل الوحي».
وارتبطت الليبرالية ببدايات الاشتراكية في «المعذبون في الأرض»
لطه حسين، «الأرض الطيبة» لحن كامل حسين. واستمر الإسلام
الليبرالي في كتابات العقاد الإسلامية خاصة في العبقريات عندما
يظهر الخلفاء كرؤساء دول حديثة يرعون مصالح الناس وينسون
أنفسهم. ويتداخل الإسلام الليبرالي مع الوطنية الإسلامية عند
قاسم أمين من أجل تحرير المرأة وعلي عبد الرازق وخالد محمد
خالد دفاعًا عن الدولة الحديثة، وتأكيدًا للحرية والوطن
والحداثة. وكانت الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط أحد
أبعاد هذا التفسير الليبرالي الذي يجمع بين المواطنين على حد
سواء بصرف النظر عن دياناتهم ومعتقداتهم. وقد مثل ذلك حزب
الوفد وثورة ١٩١٩م، والذي استمر فيه التفسير الليبرالي للإسلام
(علوبة باشا). ولم تتأخر الماركسية عن الركب فأعادت قراءة
الإسلام قراءة اشتراكية مثل «محمد رسول الحرية» للشرقاوي
«والآثار الأندلسية» لعبد الله عنان. فالإسلام تراث الأمة
الوطني وعبقريتها التاريخية. وبالتالي اتفقت كل الأحزاب
الوطنية قبل ثورة ١٩٥٢م على التفسير الليبرالي أو الاشتراكي
للإسلام بصرف النظر عن الحزب، حزب الأمة، وحزب الوفد، وحزب
الأحرار الدستوريين أو باقي الأحزاب والتنظيمات الماركسية في
مصر. لم تعرف مصر الفكر القومي في ذلك العهد كما عرفته الشام،
والذي ظهرت فيه كتابات ميشيل عفلق أيضًا تجعل الرسول العربي
رسول الحرية والوحدة.
٦
(٤) الوئام بين الإخوان المسلمين والثورة المصرية
كان تيار الإخوان المسلمين جزءًا من تكوين حركة الضباط
الأحرار. وقد ظهر ذلك في اتصالهم بالجماعة من خلال علاقة عبد
الناصر والسادات بحسن البنا وإخوانه أو من خلال الضباط الأحرار
المنتسبين إلى الجماعة مثل عبد المنعم عبد الرءوف أو
المتعاطفين معهم مثل رشاد مهنا. بل إن أحد أسباب قيام الثورة
كان التحقيق في أسباب هزيمة فلسطين وصفقة الأسلحة الفاسدة
وأيضًا التحقيق في أسباب مقتل حسن البنا المرشد العام للإخوان
المسلمين، استمالة للجماعة، وتقربًا إليهم، وتوددًا لهم، وظل
الوئام بين الإخوان والثورة منذ اندلاعها طالما لا يوجد صراع
على السلطة. قام الإخوان بدور السند الشعبي للثورة التي أتت
بانقلاب عسكري دون تنظيم سياسي. وعُهد إليهم ليلة الثورة
بحراسة المنشآت العامة. فقد كانوا على علم بموعد قيامها. وتمثل
الوئام أيضًا في عدم حل جماعة الإخوان في قرار حل الأحزاب
حرصًا عليها وأملًا فيها. لم تشارك في فساد الدولة ولا في
ألاعيب القصر. وقبل مفاوضات الجلاء كانوا رسل رجال الثورة عند
الإنجليز. أوفدهم عبد الناصر للتفاوض مع مستشار السفارة إيفانز
لوضع أسس اتفاقية الجلاء. وطلب منهم الدخول في الوزارة بثلاثة
أشخاص باعتبار أن الثورة والإخوان هم أصحاب الحق في الحكم بعد
طرد الملك وحل الأحزاب. والوقوف جبهة وطنية واحدة من أجل إجلاء
القوات البريطانية عن قناة السويس وقاعدة التل الكبير. وكان
محمد نجيب قائد الثورة يمثل هنا الوئام بين الإخوان والثورة.
فقد حظي كشخصية بكل الاحترام الواجب له من كل الرفاق بصرف
النظر عن اتجاهاتهم السياسية. كان يمثل الوطنية المصرية
التقليدية المتحدة بالإسلام، لا فرق لديه بين الدين والوطن،
بين الإسلام والثورة. رآه الإخوان نصيرًا لهم في الثورة خاصة
وأنهم قد التفوا حوله. وبدأ معه التدريب العسكري من أجل معركة
التحرير في قناة السويس. وكان خطابه السياسي ديني الطابع،
جماهيري الآفاق. يدعو إلى الوحدة الوطنية أو وحدة الأمة
الإسلامية. لم يكن طامعًا في الحكم. فلم تصدم به الإخوان،
وعينها على السلطة. كان رجل حوار، رأت فيه الإخوان منفذًا
لتحقيق أغراضهم السياسية. وكانت قمة الوئام تعيين رشاد مهنا
وصيًّا على العرش وكأن الإخوان قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من
الحكم، حكم من أعلى السلطة، وتنظيم سياسي شعبي بين
الجماهير.
(٥) الصدام بين الإخوان المسلمين والثورة المصرية
وكان من الطبيعي أن يُحدث الصدام صراعًا على السلطة. فالضباط
الأحرار لهم شرعية الانقلاب. والإخوان يتمسكون بالجزء. الضباط
الأحرار يرون أنفسهم بالسلطة فهم الذين اقتنوها. والإخوان يرون
كذلك أنهم أولى بها. فهم الذين مهدوا إليها بل وقاموا بها. كان
نصف أعضاء مجلس قيادة الثورة منهم أو من المتعاطفين معهم.
وكانوا هم التنظيم الشعبي القادر على تحريك الجماهير والذين
لهم رصيد قديم في النضال الوطني منذ تأسس الجماعة في
الثلاثينيات.
بدأ الصدام باستغناء الضباط الأحرار عن تنظيم الإخوان وإنشاء
تنظيم جديد خاص بهم، هيئة التحرير، كبديل عن تنظيم الإخوان،
وترك السند الشعبي الإخواني إلى سند مستقل مما أدى إلى بوادر
الصراع بين الجماعة والهيئة خاصة في الجامعة أثناء زيارة نواب
حضور أمير الجماعة الإسلامية في إيران في ١٩٥٤م. لقد رفض عبد
الناصر من قبل بناءً على طلب عبد المنعم عبد الرءوف انضمام
حركة الضباط الأحرار إلى جماعة الإخوان المسلمين حفاظًا على
استقلال الحركة داخل الجيش. كما رفض طلب الضابط أبو المكارم
عبد الحي أسلحة لتوزيعها على الإخوان لمساندة الثورة. ومن هنا
نشأت صعوبة التعاون والالتقاء بين الحركة والجماعة. طلبت
الثورة دخول الإخوان في الوزارة ولكن رفض الإخوان إلا بشروط
منها: عدد الحقائب الوزارية بحيث لا يقل العدد عن ثلاثة،
واختيار الإخوان الأشخاص وزرائهم دون تدخل من رجال الثورة،
وإعطاء وزراء الإخوان سلطات تفويض وليست فقط سلطات تنفيذ بحيث
لا يصدر قانون أو قرار إلا بموافقتهم، وفرض الحجاب على النساء
وغلق المسارح ودور السينما!
فلما أبرم عبد الناصر اتفاقية الجلاء في مارس ١٩٥٤م والتي
تنص على جلاء القوات البريطانية عن قناة السويس ومن قاعدة التل
الكبير التي كانت تضم حوالي سبعين ألف جندي، ولكن تنص أيضًا
على جواز عودة هذه القوات واستعمال مطارات القناة في حالة
الحرب بين بريطانيا وخصومها. فكان جلاءً مشروطًا بقيد. كانت
اتفاقية أقل مما تطالب به الحركة الوطنية المصرية منذ الاحتلال
البريطاني لمصر في ١٨٨٢م. تشبه معاهدة ١٩٣٦م التي أبرمتها
حكومة الوفد، الاستقلال المنقوص وليس الاستقلال التام. واعترض
الإخوان، ونقدوا المعاهدة، وتكهرب الجو، ونشط الإخوان في العمل
السري.
ثم انتصر الإخوان لمحمد نجيب ضد عبد الناصر في أزمة مارس
١٩٥٤م، بعد استمالة نجيب للإخوان بدعوته إلى الوحدة الإسلامية
في حرم الجامعة. فلما أُقصي نجيب واستأثر عبد الناصر بالسلطة
وإطلاق النار على مظاهرة الجامعة ثم تدبير حادثة المنشية في
يوليو ١٩٥٤م سواء دبرها المركز العام أو دبرتها إحدى الشعب
المحلية بناء على مبادرتها الخاصة تعبيرًا عن الرغبة العامة
التي تسري في الجماعة أو دبرها رجال الثورة للخلاص من الإخوان.
وبدأت أهوال التعذيب في السجون وراح ضحيتها الشهيد عبد القادر
عودة، كما راح ضحيتها بعد ذلك بعشر سنوات المفكر الشهيد سيد
قطب في ١٩٦٥م.
(٦) الإسلام بين الثورة المضادة
لقد رفعت معارك الإسلام والثورة المضادة على عبد الناصر بعد
الهجوم عليه وعلى الاشتراكية باسم الإسلام من النظم الرجعية
العربية في السعودية واليمن التي بدأت الهجوم على الثورة باسم
الإسلام لأن الإسلام هو تراث الأمة وحامي حماها ولأنها تحكم
بشرعيته، وتستمد سلطتها من سلطته لا من الناس وبعد أن هددتها
الثورة، واستقطبت الجماهير، وجندت الضباط الأحرار في كل الجيش
بل وعند بعض العلماء والأئمة. فبدأ عبد الناصر بتوجيه نفس
السلاح إلى صدر الخصوم، وإثبات أن الدين ثورة، وازداد الحجاج
بعد ثورة اليمن في ١٩٥٢م، ومساندة الثوار ضد مساندة السعودية
لفلول الإمامة. والتاريخ شاهد على ذلك. فقد تكاتف الضباط
الأحرار ورجال الدين أمام نابليون. كما انضم رجال الدين إلى
ثورة عرابي. واشتركوا في ثورة ١٩١٩م. فلا ريب أن ينضم الأئمة
إلى ثورة الضباط الأحرار في اليمن وبعد التأميم في ١٩٥٦م،
والتمصير في ١٩٥٧م والبناء الاشتراكي في ١٩٦١م، بدأت النظم
الرجعية العربية في الهجوم على الاشتراكية المادية الملحدة
أيضًا باسم الإسلام الروحي المؤمن مما اضطر عبد الناصر إلى
الدفاع عن نفسه بنفس السلاح، وإثبات أن الاشتراكية من الإسلام،
وأنها تتمايز عن الماركسية بأنها مؤمنة بالله وبرسالات
الأنبياء وليست ملحدة، وأنها لا تقوم على الصراع الطبقي مثل
الماركسية بل على السلام الاجتماعي، وأنها لا تستند إلى
دكتاتورية البروليتاريا مثل الماركسية بل إلى تحالف قوى الشعب
العامل: العمال والفلاحين والطلبة والجنود والرأسمالية
الوطنية. المال مال الله وليس مال الحكام. والمال مال الأمة
وليس مال الأئمة. ومال المسلمين للمسلمين. الإسلام أول دين
اشتراكي في التاريخ. عرف التأميم بجعله الناس شركاء في ثلاث:
الماء والكلأ والنار، وهي بلغة العصر الزراعة والصناعة. وفي
قول آخر يُزاد الملح وهو بلغة العصر التعدين والمناجم
والمعادن. وهو ما يتحقق مع نظرية الركاز في الشريعة وهو أن كل
ما في باطن الأرض من معادن ملك للأمة، وقياسًا عليه النفط.
فعائدات النفط ليست ملكًا للأئمة بل ملكًا لجمهور المسلمين.
وحياة الرسول شاهد على ذلك. لم يمتلك ولم يورث. ومات ودرعه
مرهون عند يهودي وكذلك فعل أبو بكر وعمر، بل لقد حارب أبو بكر
مانعي الزكاة في حروب الردة لأن الزكاة فرض المال، وحق الفقراء
في أحوال الأغنياء. كما حرَّم الإسلام الربا منعًا للاستغلال،
وهذا ما فعلته الثورة بتحريم الربا في السلف الزراعية.
الاشتراكية شريعة العدل، وشريعة العدل شريعة الله. تقسم الربح
على العمال وأصحاب الأعمال. وتقيم العدل والمساواة وتكافؤ
الفرص. وتبني مجتمعًا بلا أغنياء وفقراء. لا فضل لعربي على
عجمي إلا بالتقوى. وكما أتى الشرع متدرجًا كما هو الحال في
تحريم الخمر كذلك تطبيق الاشتراكية على مراحل حتى يتم تحقيقها.
والمجتمع العربي الآن في طريقه نحو الاشتراكية. فالاشتراكية من
الإسلام، والإسلام دين اشتراكي، إنما هم الحكام والأئمة،
الملوك والأمراء، وفقهاء السلطان ورجال الدين الذين يفتعلون
هذا التعارض بينهما دفاعًا عن نظم الحكم الرجعية الإقطاعية
التي تستولي على مال المسلمين ودفاعًا عن مناصب الإفتاء
والمشيخات وبيع الفتاوى، وتحليل الحرام وتحريم الحلال بأبخس الأثمان.
٧
ثم بدأ حصار النظم الرجعية العربية والإسلامية في الرياض
وطهران وإستانبول بالتعاون مع واشنطن للنظم الثورية الاشتراكية
العربية ممثلة في الناصرية فيما عرف بمعارك الحلف الإسلامي.
وهو طبعة جديدة لحلف بغداد القديم الذي وقفت الثورة أمامه وهي
في بدايتها في ١٩٥٤م حتى أسقطته الثورة العراقية في ١٩٥٨م.
برزت هذه المعارك في ١٩٦٥م لمحاصرة عبد الناصر والقومية
العربية في مصر وسوريا والجزائر والعراق. وجاء الرد بأنه حلف
استعماري بريطاني وضعت عليه العمامة بدلًا من القبعة حتى لا
تصبح الملكة فيكتوريا خليفة المسلمين! الإسلام مجرد قناع لحلف
بغداد. هو نفس حلف بغداد ولكن هذه المرة مضافًا عليه الإسلام
الأمريكاني، إسلام الشعائر والطقوس والموالاة للغرب المناهض
لتقدم الشعوب ومصلحة الجماهير، والهدف من حزب القومية العربية
ثم الصلح مع إسرائيل وتثبيت الرجعية والاستعمار في العالم
العربي. إن الشاه أداة للاستعمار، ومصلحة للصهيونية، وعميل
لأمريكا، وحليف الرجعية، ومتاجر بالدين، ومناهض للوطنية، وقاضٍ
على الحرية.
٨
واستمرت معارك عبد الناصر كلما فرضت عليه الظروف رد السلاح
إلى الخصوم وهو سلاح الدين سواء في المعارك الخارجية مثل
الثورة، والاشتراكية، والقومية العربية، والوحدة الوطنية، وعدم
الانحياز، والصمود بعد هزيمة ١٩٦٧م، أو المعارك الداخلية حول
الدين والسلطة في معركته مع الإخوان المسلمين. فإذا رفعت
الرجعية سلاح الدين والطائفية في لبنان في ١٩٠٨م رفع عبد
الناصر سلاح الدين والوحدة الوطنية دفاعًا عن استقلال لبنان،
ودفاعًا عن الوحدة الوطنية في مصر بين المسلمين والأقباط التي
تجلت في ثورة ١٩١٩م وفي فلسطين في ١٩٤٨م وفي رد العدوان
الثلاثي على مصر في ١٩٥٦م. فالمصريون سواءٌ أمام القانون
وتكافؤ الفرص في التعليم والعمل والوظائف العامة. وإذا رفعت
الرجعية العربية سلاح الدين ضد القومية باسم الأمة الإسلامية
التي لا تعرف حدود القوميات رفع عبد الناصر سلاح الدين من أجل
القومية العربية، ووحدة مصر وسوريا في مواجهة الغزو الصليبي،
وإذا رفعت الرجعية العربية سلاح الدين في مواجهة عدم الانحياز
واتهامه بأنه تحالف مع الشيوعية والكفر، أثبت عبد الناصر أن
دول عدم الانحياز في آسيا وأفريقيا مسلمون يفدون على الحج كل
عام في مؤتمر سنوي لمناقشة شئونهم العامة وكما يفعل قادة دول
العالم الثالث، وأن الدوائر الثلاث: الدائرة العربية، والدائرة
الأفريقية، والدائرة الإسلامية، دوائر التحرك المصري، هي صياغة
مصرية للعالم الإسلامي الذي يمتد عبر القارتين وكما وضح ذلك
مالك بن نبي في فكرة الآسيوية الأفريقية. وإذا رفعت الرجعية
العربية سلاح البعد عن الدين على أنه سبب هزيمة ١٩٦٧م رفع عبد
الناصر سلاح الدين من أجل الصمود والمقاومة. وأعد خطة العبور
«بدر». وكان هتاف الجنود والعابرين «الله أكبر» بالرغم من أن
المعركة مع إسرائيل سياسة قومية، معركة شعب طُرد من أرضه، شعب
فلسطين، وقومية يراد لها الذوبان أمام الصهيونية.
٩
(٧) الثورة إسلام والإسلام ثورة
إن معارك الإسلام كما جسدتها الناصرية كانت مفروضة من
الخارج، اقتنصتها الظروف، هجوم الثورة المضادة ودفاع الثورة عن
نفسها بنفس السلاح وهو الدين. كانت معارك جدلية تقوم على جدل
الدفاع والهجوم. وهي معارك وقتية تنقضي بانقضاء ظروفها وعصرها.
فبعد وفاة عبد الناصر وبداية الثورة المضادة من داخل الثورة في
مصر لم يهب أحد دفاعًا عن الاشتراكية والقومية والثورة الوطنية
باسم الإسلام بعد أن حققت الرجعية العربية أهدافها، وتم تحقيق
أغراض الاستعمار والصهيونية في القضاء على الثورة المصرية.
كانت المعارك خارجية دعائية كلامية إعلامية بين نظامين، كل
منهما يريد البقاء في السلطة والقضاء على الآخرين، كانت معارك
بين أشخاص وزعامات أكثر منها معارك بين نظم وأيديولوجيات.
وأحيانًا كانت الحجج واهية لا تستقيم مثل ضرورة الفصل بين
الدين والسياسة أمام خلط الإخوان بينهما لأن الإسلام دين
وسياسة، عقيدة وشريعة، تصور ونظام. فموقف الإخوان أقوى من موقف
عبد الناصر. كما أن تصوير المعارك مع الصليبيين على أنها معارك
القومية العربية ضد الاستعمار غير صحيح. بل كانت معركة
المسلمين ضد المسيحيين على مستوى النظر، واستعمار وغلبة وقهر
على مستوى الأهداف. ولم تكن القومية العربية واردة أيام
الصليبيين.
إنما تكمن الصلة بين
الإسلام والثورة داخليًّا باطنيًّا عضويًّا في أن الثورة تحقيق
لأهداف الإسلام وأن الإسلام هو في الحقيقة ثورة. فالمبادئ
الستة التي تم إعلانها في أول الثورة: القضاء على الملكية،
القضاء على الإقطاع، القضاء على الاستعمار، القضاء على
الرأسمالية، تكوين جيش قوي، إقامة حياة ديموقراطية سليمة وإن
لم تذكر الإسلام صراحة إلا أنها تحقق لمقاصده العامة الممثلة
في الضروريات الخمس: الحفاظ على النفس (الحياة)، والدين
(الحق)، والعقل، والعرض (الكرامة)، والمال (الثروة الوطنية).
الاستعمار مضاد للإسلام لأن الذي يقرر بالملكية العامة لوسائل
الإنتاج، ويجعل العمل وحده مصدر القيمة بدليل تحريم الربا.
والإسلام ضد الإقطاع لأن المجتمع الإسلامي مجتمع لا طبقي لا
يمتلك الثروة فيه قلة من الأغنياء. والإسلام ضد النظام الملكي
لأن الإمامة في الإسلام عقد وبيعة واختيار. وأمر المسلمين شورى
بينهم، وكما هو الحال في المبدأ السادس: إقامة حياة ديموقراطية
سليمة، ويتم تنفيذ ذلك بالفعل. والإسلام مع تأسيس جيش وطني قوي
من أجل الدفاع عن دار الإسلام وكما هو معروف في الجهاد.
وإن قرارات الثورة الأولى مثل الإصلاح الزراعي، ووضع حد أعلى
لملكية الأراضي وتوزيع الأرض على الفلاحين المعدمين والأجراء
الزراعيين، واسترداد الفلاحين أرضهم من الملاك الغائبين أقرب
إلى مبادئ الإسلام الذي يجعل الأرض لمن يفلحها، وأن من أصلح
أرضًا بوارًا فهي له. وأن قرار الثورة بالتأميم، تأميم قناة
السويس في ١٩٥٦م لهو قرار إسلامي يرد أرض مصر إلى شعبها وثورة
الأمة إلى أصحابها. تلقائية الإسلام وروح الثورة هي روح
الإسلام. لذلك أسرع عبد الناصر إلى الأزهر بعد التأميم وأثناء
العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر ١٩٥٦م وألقى خطابه الشهير
«سنقاتل … سنقاتل». فالأزهر مهد المقاومة الوطنية وليعلن بداية
الكفاح المسلح ضد العدوان الاستعماري. فتحول من قاهر للحركة
الإسلامية في ١٩٥٤م إلى بطل قومي وزعيم تحرري في العالم
الثالث. كما يعلن بداية سيطرة الشعوب المتحررة على ثرواتها
الوطنية. والتمصير في ١٩٥٧م أي سيطرة الإرادة الوطنية على
الشركات الأجنبية عمل إسلامي أصيل ضد الاستغلال للثروات
الوطنية. والوحدة مع سوريا في ١٩٥٨م عمل إسلامي وحدوي ضد تجزئة
الأمة وتبعثرها، اقترابًا من الوحدة الشاملة للأمة شيئًا
فشيئًا. فالوحدة العربية خطوة نحو الوحدة الإسلامية. وتأسيس
مؤتمر باندونج في ١٩٥٥م، وتكوين كتلة عدم الانحياز في بلجراد
منذ ١٩٦٤م، واتباع سياسة الحياد الإيجابي، كل ذلك تحقيق لمبادئ
إسلام في الاستقلال الذاتي عن الشرق والغرب، لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ. هذا
هو الإسلام الصاعد عن طريق تحقيق المصالح العامة دون ما حاجة
إلى تفسير للنصوص أو تطبيق مباشر لأحكام الشريعة، وليس العمة
والقفطان وإقامة الشعائر في أجهزة الإعلام، وأخذ ألقاب إمام
المسلمين، وخادم الحرمين.
هذه الوحدة العضوية بين الإسلام والثورة كانت طريق الإسلام
الأول في إحداث التغير الاجتماعي في الجزيرة العربية، حيث ظهرت
في الأعماق وحدة الإسلام والثورة وليس طريق التوفيق الخارجي
الدعائي بينهما. طبيعة الإسلام هي طبيعة الثورة والتغير
الاجتماعي. وإذا كانت الثورة إسلامًا صاعدًا من القاعدة فإن
الإسلام ثورة صاعدة أيضًا من أجل إحداث تغير اجتماعي في الواقع
وليس مجرد تطبيق شريعة علوية نازلة. الإسلام ثورة، واقع يتحرك،
نظام اجتماعي يتبدل، عبد يُعتق، وفقير يأخذ حقه من أموال
الغني، وأسود يتساوى مع أبيض، وعربي مع أعجمي، وقَبَلي يتحول
إلى مواطن للعالم، وبدوي يتحضر، وأقوام تتحول إلى دولة،
والدولة تفتح وترث القوى الكبرى المتهاوية، إمبراطوريتي الفرس
والروم. الاشتراكية شريعة العدل، والعدل شريعة الله يلخص
الطريقين معًا الصاعد والنازل: الثورة إسلام، والإسلام
ثورة.
(٨) اليسار الإسلامي والناصرية الشعبية
هذه الوحدة العضوية بين الإسلام والثورة التي لم تتحقق في
الناصرية الدعائية الإعلامية الحجاجية مع الخصوم هي التي يمكن
أن تصبو إليها أجيال جديدة من الناصريين عن طريق اليسار
الإسلامي والناصرية الشعبية. فاليسار الإسلامي يعيد تفسير
الإسلام لصالح الطبقات الكادحة، دفاعًا عن المظلومين، وأخذ
حقوق المستضعفين، وفي نفس الوقت تأكيدًا على الاستقلال الوطني
ومقاومة الاستعمار والصهيونية.
١٠ والناصرية الشعبية هي الناصرية كمبادئ زعامة مثل
الاستقلال الوطني والتنمية المستقلة، وتحالف قوى الشعب العامل،
والإصلاح الزراعي، والتصنيع، ومجانية التعليم وحقوق العمال،
ونسبة ٥٠٪ من العمال والفلاحين في المجالس النيابية، والملكية
العامة لوسائل الإنتاج، والقطاع العام، والتأميم، وسياسة عدم
الانحياز، ومقاومة الاستعمار والصهيونية والوحدة العربية … إلخ
لكن بالاعتماد هذه المرة على حركة الجماهير وبقواها الرئيسية
قبل الثورة مثل الماركسية والليبرالية والإخوان أو بعدها مثل
القومية أو الاشتراكية العربية، ومؤصلة في ثقافتها الشعبية،
ونابعة من تراثها، وهو الإسلام، والأمثال العامية وسير
الأبطال.
إن تجربة جريدة «الشعب» الأخيرة لتوضح إمكانية الوحدة
العضوية بين الإسلام والناصرية بالرغم مما يحدث أحيانًا من ميل
إلى أحد الطرفين أكثر من الطرف الآخر مما يسبب الانشقاق
والفرقة لعدل الميزان طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل. وقد وجدت
هذه الوحدة سلفًا لدى سيد قطب الأول قبل الثورة، المفكر
الاجتماعي صاحب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، «معركة
الإسلام والرأسمالية»، «السلام العالمي والإسلام». ويقتضي ذلك
تجاوز الإسلام الشعائري. فالإسلام في النهاية وسيلة لتحقيق
المصالح العامة وليس غاية في ذاته. كما يقتضي تجاوز التنازع
على الزعامات والقيادات وخلافة عبد الناصر ووراثة الناصرية.
فعبد الناصر هو مبادئه وجماهيره. وعلى هذا النحو لا تتصادم
الشرعيتان عند الأجيال القادمة، شرعية الدين وشرعية الثورة،
شرعية الإسلام، شرعية الناصرية.
١١