هل الفقر قيمة؟١
تحليل مفهوم الفقر في التراث القديم
دراسة القيم الموروثة إما جزء من علم اجتماع القيم أو علم اجتماع
الثقافة. وهي دراسة أيضًا في التراث القديم باعتباره تجربة معيشة،
ومخزونًا نسبيًّا ما زال حيًّا في قلوب الناس يعطيهم تصوراتهم
للعالم، ويمدهم بمعايير السلوك. وهو ما تستطيع الاستبيانات عن طريق
السؤال والجواب الوصول إليه باعتباره ثقافة شعبية، لا فرق في ذلك
بين الموروث الديني أو الموروث الشعبي.
والمنهج المتبع هو منهج مزدوج يجمع بين تحليل المضمون ووصف
التجارب الحية كما هو الحال في المنهج الظاهرياتي
(الفينومينولوجي).
تحليل المضمون للنص الأولي، القرآن والحديث والعقيدة والتصوف
والفقه نماذج من الموروث التراثي القديم الذي تحول إلى موروث ثقافي
في الثقافة الشعبية. ووصف التجارب الشعورية للباحث والمواطن بين
التجربة الحية التي تؤثر فيها هذه القيم الموروثة وتجعلها تعبر عن
أوضاعها، تطابقًا بين الموروث الثقافي والواقع الاجتماعي.
وأول مصدر للفقر باعتباره قيمة هو القرآن الكريم. فقد ورد اللفظ
ومشتقاته بصيغة اسم الفاعل الجمع «الفقراء» ثم المفرد «الفقير» ثم
اسم الفاعل «الفقر».
٢ فمن حيث الشكل اللغوي يشير الفقر إلى مجموعة من الناس،
طبقة اجتماعية هم الفقراء، وليس جوهرًا ثابتًا. والطبقات
الاجتماعية متغيرة متحركة لا تبقى على حال ثابت. وهم معرَّفون بألف
ولام التعريف وليسوا مجهولين، جمعًا وليس مفردًا، فاعل ومفعول
ومجرور أي إنهم فاعلون ومفعولون ومستقبلون لأفعال أخرى.
ووردت الاستعمالات كلها في أربعة معانٍ. الأول: أن الفقر من
الشيطان أي إنه شيء سلبي يحارب كما يحارب الشيطان.
٣ والفقر يعادل الفحشاء. هو وضع لا يمكن قبوله، وضع غير
طبقي، أقرب إلى الكفر ما دام الشيطان قد كفر. وهو ليس صفة لله.
٤ فالله الغني والناس فقراء إليه. وإذا كان التصوف هو
التشبه بأوصاف الله، إسقاط الأوصاف الدينية والتحلي بالصفات العلية
فإن صفة الفقر للبشر صفة سلبية بالله الغني.
٥
والمعنى الثاني: أن فقر البشر يتحول إلى غنًى من الله الغني إلى
الناس الفقراء، ومن الأعلى إلى الأدنى، من الطبقة العليا إلى
الطبقة الدنيا، والله يتولى الغني والفقير على السواء، نظرًا لأن
الغنى والفقر أوضاع اجتماعية متغيرة خارج جوهر الإنسان
الثابت.
والمعنى الثالث: العفة في الولاية، عندما يكون وليًّا على قاصر
فعليه تحديد أجر متواضع لنفسه، فالفقر ليس دافعًا على الكسب السريع
والإثراء الفاحش، انتقالًا من الفعل إلى رد الفعل.
٦
والمعنى الرابع: وهو الأكثر شيوعًا هو استحقاق الصدقة للفقراء مع
المساكين والعاملين عليها دون إعلان أو جرح لمشاعر الفقراء أو طلب
الشكر من الناس.
٧ فالفقر إذن علة لسيولة الأموال ممن يملكون إلى الذين
لا يملكون، من الأغنياء إلى الفقراء، أكثر من الهبة والعطاء من
أعلى السيولة الأفقية، أكثر تركيزًا في القرآن من السيولة الرأسية.
وقد وضحت السنة هذه المعاني وركزت على المعنيين الرئيسيين فقد ذكر
اللفظ في السنة أكثر مما ذكر في القرآن عشرة أضعاف.
المعنى الأول: هو التعوذ من الفقر. وهو معادل للكفر، يضع الإنسان
في قلة وذلة. ويجعله يشعر بالظلم. وهو المعنى الذي قصده عمر بقوله
الشهير «والله لو كان الفقر رجلًا لقتلته».
٨
والمعنى الثاني تجاوز الفقر بالصدفة. فالفقر وضع مؤقت، والمساواة
بين الناس وضع دائم. وهي مسئولية الحاكم قبل أن تكون مسئولية
المحكومين. يعطي الأنبياء الفقراء كما يعطي الأغنياء، الفقر في حد
ذاته ليس عيبًا، إنما العيب الفقر مع التكاثر أي النزول تحت خط
الفقر.
وهناك معنًى ثالث وهو أن عامة أهل الجنة من الفقراء، يدخلون
الجنة قبل الأنبياء والفقر صفة للأنبياء.
٩ وهو المعنى السلبي الذي استمر في الثقافة الشعبية
وتواتر عند الصوفية وعلماء العقيدة.
١٠
فعند الصوفية، الفقر من المقامات، يناله الإنسان بمجهوده، غاية
يتم الوصول إليها بالرياضيات والمجاهدات. وتكثر الأحاديث الموضوعية
لتشريع الفقر كسلوك للناس.
١١ فقد ارتبط الفقر بمقامات الرضا والصبر، الرضا بالفقر،
والصبر عليه، وهو سر من أسرار الله يضعه في خلقه الأبرار. وهو
الطريق إلى معرفة الله، والفقير يحترز من الغني ولا يجالسه
وبالتالي يظل الفقراء فقراء والأغنياء أغنياء. فكيف تمتزج فضيلة
الفقر برذيلة الغنى؟
والفقر خير شفاعة للإنسان يوم القيامة. يغفر الذنوب، ويدخل
الجنان، وعلامة سخط الله على الإنسان خوفه من الفقر واعتراضه عليه.
الفقراء دواء لكل الأمراض، وشفاء كل العلل. وأحسن فضيلة للإنسان
دوام الفقر واستمراره.
الفقير في نعيم الله لأنه لا يحتاج إلى شيء، ولا يعترض على شيء.
حقيقة الفقر الاستغناء به عن الأسباب، لماذا وكيف. هي قيمة يحققها
الرب في العبد. اشترى بها المؤمن الآخرة بالدنيا، والخوف منه
رذيلة، والإيمان به والاستمرار معه فضيلة، والله يغني الفقير من
لدنه. ومن كان فقيرًا من الناس فإنه غني مع الله. وأفضل المقامات
عند بشر بن الحارث «اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر». وهذا هو
المعنى الشعبي الذي استقر في كثير من الأمثال العامية. فالفقر
وقاية من السوء «الفقر حشمة والعز بهدلة».
١٢
ومع ذلك هناك أمثال عامية أخرى تنقد الفقر وأوضاع الفقراء
وتدعوهم إلى الثورة والغضب والمطالبة بالتغيير الاجتماعي.
«الفقير ريحته وحشة». وهو منبوذ مكروه من الناس.
«الفقير لا يتهادى ويدَّادى، ولا تقوم له في الشرع
شهادة».
«الفقير خزام العتريس» والخزام ما يوضع في أنف البعير ليذلل به.
وتعطي بعض الأمثال الأمل في التحول من الفقر إلى الغنى مثل «الفقير
صيغة الغنى». وتدعو إلى الصدقة على الفقراء الأقربين «فقير في
الساحة أفضل من فقير السواحة»، وترفض الافتخار بالفقر «فقرا ويحشوا
زي الأمرا»، والاكتفاء بالحد الأدنى، وهو عدم الاستدانة «فقر بلا
دين هو الغنى الكامل».
١٣
وقد تساءل علماء أصول الدين في مباحث العدل: أيهما أفضل الفقر أم
الغنى؟ وكانت إجابة البعض أن السؤال لا يتعلق بالأوضاع الاجتماعية
أو بالسؤال النظري في حد ذاته بل في الفقير والغني، أي في البشر.
وجعلوا الغني أفضل من الفقير إذا كان عمله أفضل. وجعل البعض الفقير
أفضل من الغني فالفقير الصابر خير من الغني الشاكر وهم أسبقهم إلى
الجنة، وأن الأنبياء وهم القدوة، كانوا فقراء.
والسؤال الآن: كيف يمكن إقامة مشاريع للفقراء لرفع مستوى الدخل
القومي، وصياغة سياسة للأجور، ولإعادة توزيع الدخل القومي، وتجاوز
خط الفقر في المجتمعات النامية، والفقر ما زال قيمة في ثقافتها
الموروثة، ونظم قيمها؟
ألا يحتاج ذلك إلى مشاريع موازية لإعادة بناء الثقافة الشعبية
بحيث يمكن تحويل الفقر من قيمة إيجابية إلى قيمة سلبية، ومن الرضا
به إلى الثورية عليه؟ هل يمكن إقامة مشروع من أجل إعادة بناء
الثقافة الشعبية بحيث تكون سندًا لمشاريع التنمية في المجتمعات
التراثية التي ما زال تراثها حيًّا في قلوب الناس؟
فإذا ما أمكن ذلك، حينئذٍ تعظم المشاركة الشعبية في كل مشاريع
إعادة توزيع الدخل القومي دون الاكتفاء بسياسات الدولة وقوانينها
الاشتراكية التي سرعان ما تنهار إذا ما تحولت النخبة الثورية إلى
نخبة أخرى مضادة، والشعب قابل لكلا النخبتين لأن ثقافته الشعبية هي
الدائمة.