نظرية الثورة العربية١
إعادة قراءة (عصمت سيف الدولة)
أولًا: تكامل الأجيال
لقد جرت عادة المفكرين العرب المعاصرين أن يستأصل كل منهم
الآخر، إما استبعادًا وإقصاءً أو تنكرًا وصمتًا وقتلًا بالسلب
من جهة أولى، وإما تجريحًا وهدمًا من جهة ثانية، وكأن الفكر
العربي لا يتسع لمائة زهرة تتفتح.
٢ وقد ينشأ حوار بين مفكرين للنظر لموضوع واحد من
منظورين مختلفين.
٣ ونادرًا ما يقرأ مفكر لمفكر آخر من السابقين أو من
المعاصرين لأن نموذج التكامل بين الأجيال ما زال غير مألوف في
حوار الأجيال بدلًا من الاستبعاد والإقصاء المتبادل. إنه نموذج
حوار الأجيال والتكامل من أجل إحكام مشروع واحد متعدد المداخل
ويحمل الهموم نفسها، ويهدف إلى تحقيق الغايات نفسها، وإن تعددت
الوسائل والمنطلقات.
٤
نظرية الثورة العربية استئناف لهذا النموذج، حوار الأجيال
وتكاملها من أجل الإثراء المتبادل وتعدد الرؤى من دون أن
يستبعد أحدها الآخر. تحية من جيل لاحق إلى جيل سابق من أجل
تراكم تاريخي وتواصل حضاري يكون شرط الإبداع والاستقلال
الفكري، أو من مفكر لمفكر ينتسبان إلى الجيل نفسه، فالحياة
تقرب بين البشر وليس فقط الممات.
٥
وإعادة القراءة لا تعني الخطأ والصواب. ففي الأيديولوجيات
السياسية لا يوجد خطأ أو صواب، بل توجد أبنية ذهنية اجتماعية
ومواقف إنسانية وربما فردية للمفكرين وأصحاب النظريات
السياسية. الأيديولوجيات جزء من العلوم السياسية وهي علوم
إنسانية خارج منطق الصواب والخطأ الذي قد يصح في منطق العلوم
الطبيعية والرياضية، العلوم التطبيقية والعلوم
المضبوطة.
إعادة القراءة هو مزيد من الإحكام النظري والصياغة المنطقية
وتدقيق العبارة وتفادي التكرار، والتحول من القول الخطابي
والقول الجدلي إلى المنطق البرهاني، وإعادة صياغة الهموم، هموم
الفكر والوطن في قضايا أدق، وترابط منطقي أكثر، وتركيز على
الفكر، وتحويل جمهوره من العامة إلى الخاصة، ومن الحشد السياسي
إلى الفلسفة السياسية. وربما تستطيع قراءة أخرى تحويل الفلسفة
السياسية إلى علم سياسي.
وتهدف إعادة القراءة أيضًا إلى حدود الأيديولوجيا السياسية
حتى يمكن أن تدخل في حوار مع الأيديولوجيات السياسية المعاصرة
معها خارج منطق السجال والرفض والإبعاد كما تفعل نظرية الثورة
العربية مع الماركسية باسم القومية. كان ذلك روح الستينيات.
وبعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م بدأت سلسلة من الحوارات
النظرية (الحوار القومي–الماركسي، والقومي–الإسلامي …) من أجل
تحديد الأطر النظرية وصياغة عمل وطني موحد. وما زال الحوار
القومي–الليبرالي لم ينشأ بعد. والمبادرة من الفكر القومي لأنه
هو الذي انتكس بعد النكسة. وما زالت المبادرة غائبة من الفكر
الإسلامي في حوار إسلامي-ماركسي، وإسلامي-ليبرالي.
ومن المعروف أن الفكر القومي نشأ في الشام المتاخم لدولة
الخلافة وكرد فعل عليها من أهالي الشام الذين لم يجدوا في هوية
الدولة العثمانية هويتهم ولا في اضطهادها للحركات (الانفصالية)
المدعمة من القوى الاستعمارية الغربية مثل حركات الأرمن
والبلقان وحركة القوميين العرب.
والغريب أن مفكرًا مصريًّا ينتسب إلى الفكر القومي بينما أن
مصر تنتسب تقليديًّا مع السودان والمغرب العربي إلى الحركة
الإصلاحية التي أسسها الأفغاني ومحمد عبده. فالحرية الوطنية
الاستقلالية خرجت من عباءة الإصلاح الديني. الأفغاني واضع شعار
«مصر للمصريين»، ومحمد عبده هو الذي كتب برنامج الحزب الوطني،
وسعد زغلول مفجر ثورة ١٩١٩م يُعتبر من تلاميذ محمد عبده. كما
أن عبد الناصر في الميثاق في فصل «جذور النضال الوطني» يشيد
بزعماء الإصلاح رواد الحركة الوطنية. وقد كان أحمد عرابي
تلميذًا للأفغاني ومنفذًا لتعاليمه حول «الإسلام في مواجهة
الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل». وعبد الله النديم تمتد
جذور وطنيته في تعاليم الأفغاني. كذلك الحال في الثورة المهدية
في السودان، وفي الحركات الوطنية الاستقلالية في المغرب
العربي: علال الفاسي، وعبد الحميد بن باديس، والبشير
الإبراهيمي، وعمر المختار وغيرهم من الإصلاحيين
الوطنيين.
لذلك قد يشعر البعض أن نظرية الثورة العربية لم تخرج من
القلب، بل تعبر عما طرأ على مصر في الستينيات من انتساب
القومية العربية بفضل زعامة عبد الناصر. كانت مصر عبر التاريخ
مترامية الأطراف مفتوحة الحدود جنوبًا نحو السودان، وغربًا نحو
الصحراء الغربية، وشمالًا نحو الشام وتركيا واليونان، وشرقًا
نحو شبه الجزيرة العربية. كان دورها منذ أحمس حتى محمد علي هو
الإحساس بمركزيتها في محيطها دون أن يسمى ذلك القومية العربية.
فلما ظهرت القومية العربية في الشام أصبح عبد الناصر بطلًا
للتحرر القومي بعد تأميم القناة في ١٩٥٦م، والوحدة
المصرية–السورية في ١٩٥٨–١٩٦١م، وانتشار حركات الضباط الأحرار،
واندلاع الثورات العربية باسمه في العراق واليمن وليبيا. تجاوب
بعض المفكرين الماركسيين أو الإسلاميين أو الوطنيين التلقائيين
مع الحركة القومية العربية من دون أن يكون لها جذورها النظرية
في الوجدان المصري كما هو الحال في الشام. لذلك ظهر منظرو
القومية مثل ساطع الحصري، وميشيل عفلق، وصلاح البيطار، وأكرم
الحوراني، وسامي الدروبي وغيرهم في الشام. وانتشرت الحركة إلى
أرجاء الوطن العربي من الشام كما انتشرت حركة الإخوان في الوطن
العربي من مصر.
لذلك تدافع نظرية الثورة العربية عن عبد الناصر باعتباره
زعيمًا قوميًّا عربيًّا ضد التهمة الشائعة لديه عند بعض
المصريين داخل مصر (وليس عند العرب خارج مصر) بالدكتاتورية
٦ وهي التهمة التي روجت لها الجمهوريتان الثانية
والثالثة. وكانت أحد أسباب بقائهما وشرعية وجودهما بعد
الانقلاب على الجمهورية الأولى.
ثانيًا: قلق النسق المنطقي
تتكون نظرية الثورة العربية من سبعة كتب، فالعدد سبعة من
الأعداد الأثيرة في الشرق القديم ثقافة وديانات وأمثالًا عربية.
٧ يتكرر الكتابان الأولان في العنوان الأسس بالرغم
من أن الأول جدل الإنسان، الحرية أولًا. وأخيرًا، والثاني
البعد الرابع، الطليعة العربية، ويتكرر الكتابان السادس
والسابع في العنوان الطريق بالرغم من أن السادس إلى الوحدة …
إلى الاشتراكية، والسابع إلى الديموقراطية … إلى وحدة القوى
التقدمية. فإذا تم استبعاد تكرار الأجزاء يكون النسق خماسيًّا،
وهو أيضًا عدد رمزي في الفكر الديني القديم مثل كتب موسى
الخمسة: الأسس، والمنطلقات، والغايات، والأسلوب،
والطريق.
كذلك يقع التكرار في العناوين الفرعية: الوحدة، والاشتراكية،
والديموقراطية، كل منها مرتين: في الكتاب الرابع دولة الوحدة
الاشتراكية الديموقراطية، والكتاب السادس إلى الوحدة … إلى
الاشتراكية، والكتاب السابع إلى الديموقراطية … إلى وحدة القوى
التقدمية.
وبالإضافة إلى التكرار اللفظي هناك التكرار المعنوي. فإذا
كانت الأسس (الكتابان الأول والثاني) هي الدعائم النظرية
الأولى، الأسس الميتافيزيقية، التصورات الفلسفية، فإن نظرية
الثورة العربية تكون ثلاثية الحركة: المنطلقات والغاية
والطريق، المقدمات والنتائج والوسائل، البدايات والنهايات
والوسط. وهي قسمة منطقية عليها الأيديولوجيات والحركات
السياسية. ثم تزدوج الحركة الوسطى في مفهومين: الأسلوب
والطريق. الأسلوب هو الثورة … وأداة الثورة «بقيادة الطليعة
العربية»، مع أن الطليعة العربية في الأسس (الكتاب الثاني)
مجرد حركة إلى الغايات: الوحدة والاشتراكية والديموقراطية. أما
«وحدة القوى التقدمية» فهي أيضًا حركة إلى الغايات مع أنها
أقرب إلى الوسط مثل الأسلوب. فوحدة القوى التقدمية أداة وليست
غاية، وسيلة وليست هدفًا. فإذا كانت الغايات واضحة: دولة
الوحدة والاشتراكية والديموقراطية، وكان الأسلوب واضحًا:
الثورة وأداة الثورة، والمنطلقات أقل وضوحًا «ما هو مجتمعنا …
من نحن؟» فإن الطريق غامض: إلى الديموقراطية … إلى وحدة القوى
التقدمية، إذ تبدو عند المؤلف أقرب إلى الغايات منها إلى
الوسائل والأدوات.
٨
وفي الكتاب الثاني الأسس في تحليل «البعد الرابع» لا تظهر
ماهيته لأن الأبعاد الثلاثة الأولى غير واضحة. هل هي: الفرد
والأسرة والمجتمع أم القومية والأمة والدولة؟ ويتضمن اثني عشر
موضوعًا أيضًا على نحو متفرق، بالرغم من وجود عناصر الربط
بينها مثل: الأمة، والاستعمار والتجزئة، والظروف العالمية وما
يقدمه العالم من إمكانيات، والاشتراكية والوحدة، والتقدميون
والتقدميون العرب.
٩
ولا يظهر بناء منطقي في من الطليعة العربية …؟ إذ يضم خمسة
عشر موضوعًا على نحو متناثر بالرغم من إمكانية الضم بينها
نظرًا لتشابهها مثل صفاتها: الضرورة والتنظيم والعقائدية،
والوعي والمدرسة ونقطة الانطلاق، وشعاراتها: الحرية
والاشتراكية والوحدة وهي شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي
والناصرية، وأخلاقها وأدواتها أو آلياتها أو طرقها مثل القومية
والديموقراطية والثورة.
١٠ والطليعة العربية ليست من الأسس، بل من الأدوات
والآليات أو بتعبير نظرية الثورة العربية الأسلوب
والطريق.
والكتاب الخامس (الأسلوب، الثورة وأداة الثورة) لا يتعرض
للثورة إلا أقل القليل، فقرة.
١١ واحدة من خمس عشرة فقرة. ست فقرات منها في الحزب،
مشكلة الأحزاب، الحزب القومي، لماذا الحزب القومي، الجبهة أم
الحزب؟ الحزب أم الدولة؟ حزب واحد أم أحزاب متعددة؟
١٢ ثم تتداخل فقرات أخرى مثل: ولكن ما هي التقدمية؟
وحدة القوى العربية التقدمية.
وفي الكتاب السابع (الطريق إلى الديموقراطية … إلى وحدة
القوى التقدمية) يبدو القلق بين الغاية والوسيلة.
فالديموقراطية غاية، التحول من الحرية الفردية إلى
الديموقراطية في الحكم. أما وحدة القوى التقدمية فهي طريق
وليست غاية، طريق لتحقيق الوحدة.
١٣
وتتفاوت الكتب السبعة من حيث الكم. أكبرها الأول عن أسس جدل
الإنسان، الحرية أولًا … وأخيرًا. وأصغرها الخامس الأسلوب،
والثورة وأداة الثورة. ومن الطبيعي أن يكون الأول الأسس أكبر،
ولكن من الغريب أن يكون الخامس (الأسلوب، الثورة وأداة الثورة) أصغرها.
١٤
ثالثًا: الاضطراب المنهجي
ويبدو الاضطراب المنهجي في الكتاب الثالث (المنطلقات، ما هو
مجتمعنا … من نحن؟) فالعنوان الفرعي يعرض لقضية الهوية في حين
أن الموضوع الذي تتضمنه المنطلقات هو المسألة المنهجية
والنظرية. يضم جزأين: المنهج والنظرية. ويعرض ثلاثة مناهج:
المنهج الليبرالي بالمفرد، ومناهج التطور بالجمع، الإسلامي
بالمفرد من جديد، ثم جدل الإنسان ولا يسمى منهجًا. ومع ذلك
يعرف الجدل بأنه منهج. والليبرالية ليست منهجًا، بل نظرية
سياسية واقتصادية واجتماعية تقوم على العقلانية والحرية وترشيد
المجتمع وتنظير الطبيعة.
والعرض النظري لمشكلة المنهج غير مستقر باستثناء التفرقة بين
النظرية والمنهج، وتعدد المناهج. أما مشكلة الإنسان فهي مقحمة
على مشكلة المنهج، فالإنسان ليس منهجًا بل هو الذات العارضة أو
موضوع المعرفة. وكل المناهج إنسانية بما في ذلك مناهج العلوم
الرياضية والطبيعية.
١٥
أما النظرية وهي القسم الثاني من المنطلقات فإنها «القومية»
وعلى هذا النحو تغيب العلاقة بين القسمين: النهج والنظرية.
فالقومية أقرب إلى الموضوع منها إلى النظرية، أقرب إلى مجالات
التطبيق. تتضمن أربع عشرة فقرة كلها عن القومية كوجود ووحدة
ومصير ودولة وإنسانية وإسلام وأممية وطبقة وإقليمية وفردية.
١٦
وتحت مناهج التطور توضع مناهج التطور مرة ثانية، والنهج
التاريخي، وتطور المنهج الجدلي، والجدلية وفشل الميتافيزيقا،
وهو خليط من المناهج والنظريات. فالمنهج التطوري أقرب إلى
التطور منه إلى المنهج. والمنهج التاريخي يقوم بالضرورة على
التطور إذا ما قام على النزعة التاريخية. وتطور المنهج الجدلي
يضع التطور مع الجدل. وقد يوضع التاريخ أيضًا كما هو الحال في
المنهج الجدلي التاريخي. وفشل الميتافيزيقا عادة ما يكون نتيجة
للمنهج الوضعي أو المادي الجدلي أو التاريخي أو التطوري. فما
قيل عن المناهج ليس ما يعرفه أهل الاختصاص من مناهج استنباطية
استقرائية ولغوية، تحليلية، وضعية، وصفية، ونفسية واجتماعية
وبنيوية … إلخ.
١٧
ولا يتعرض المنهج الإسلامي لقضية الألوهية أو التوحيد وهي
أساس المنهج في تيار أسلمة المعرفة، ولكن يعرض قضية الحتمية
والحرية، القضية المستنبطة من الهيجلية والماركسية. ويدخل في
نقاش معروف عند أهل الاختصاص بين الجبرية والحرية اعتمادًا على
منهج النص؛ إذ تتوالى عشرات الآيات القرآنية في الموضوع على
عادة الفقهاء بعامة والحنابلة بخاصة. ويتعرض للدين والعلم كما
يتعرض له الدعاة المعاصرون حلًّا لعقدة النقص بين المسلمين
والعرب في موضوع العلم.
والنتيجة أن المنهج الإسلامي يقوم على ثلاث قواعد: الأولى
حتمية قوانين الطبيعة وسنن الكون. والثانية حرية الإنسان في
تغيير الواقع. والثالثة مسئولية الإنسان عن هذا التغيير.
والقاعدتان الأوليان، حتمية الطبيعة وحرية الإنسان، أهم ما
ينتج من الفكر الغربي عند ديكارت واسبينوزا وهيجل. ومِن ثَم
يقترب المنهج الإسلامي من المنهج الليبرالي ويتجاوزه.
ولا يوجد شيء من المنهج الإسلامي إلا عند أصحاب أسلمة
المعرفة. هناك مناهج إسلامية متعددة في كل علم. في علم أصول
الدين، المنهج العقلي والمنهج النقلي، وفي علوم التفسير
بالمعقول والتفسير بالمنقول، وفي الفقه منهج النظر ومنهج
الأثر، بين النص والمصلحة، بين الحنبلية والمالكية. وقد ينشأ
صراع بين منهجين في علمين مختلفين مثل الصراع بين التنزيل
والتأويل، بين الفقهاء والصوفية، بين النظر والذوق، بين
الحكماء والصوفية.
١٨
ويتم تحميل المنهج الإسلامي كل نقائص المسلمين وانهيارهم في
التاريخ. والنتيجة العملية لهذا المنهج فشل المسلمين، والحديث
عنهم بضمير الغائب الجمع وفي صيغة تساؤلية «لماذا فشلوا؟»
واستبعد صيغة «لماذا فشلنا؟» وهو حكم مطلق يتجاوز البحث العلمي
الدقيق. ولا يستطيع أحد أن يعي تاريخ المسلمين على مدى أربعة
عشر قرنًا وأن يكون عالمًا بكل إنتاجهم الفكري حتى يطلق مثل
هذا الحكم الذي يناقض حكمًا آخر وهو نجاح المسلمين بتأسيس
حضارة إسلامية مترامية الأطراف ومتعددة الجوانب وبكل لغات
الشعوب والأقوام التي دخلت الإسلام. والحروب الصليبية دليل على
نجاح المسلمين في التاريخ. وقبله عصر الفتوحات التي امتدت من
الأندلس غربًا إلى الصين شرقًا، ومن تركيا شمالًا إلى أفريقيا
جنوبًا. كما نجح المسلمون في حركات التحرر من الاستعمار وبناء
الدول الحديثة وتنمية مواردهم الطبيعية واستثمار ثرواتهم. مثل
هذه الأحكام لا يطلقها عالم في أتون الحركات الإسلامية
المعاصرة التي تريد استئناف حركة التحرر الوطني التي قادها
الضباط الأحرار.
ويبدو أن «جدل الإنسان» يعني المنهج الإنساني في الفكر
القومي وهو ليس منهجًا، بل نزعة إنسانية. فهو المنهج القادر
على حل أزمة الفكر القومي.
١٩ ويقوم كالمنهج الإسلامي على ثلاث قواعد: الأصل،
والإضافة، والقانون. وهي أشبه بأركان القياس الشرعي: الأصل
والفرع والعلة التي تربط بين الأصل والفرع حتى يصدر الحكم.
وصيغته تعني قوانينه التفصيلية العشرة التي تجعله أقرب إلى
النظرية أو التصور العام للكون مثل: الكل الشامل لطبيعة
الإنسان، والأثر والمتأثر، والحركة الدائمة، والتغير الدائم،
والقانون النوعي، وقانون تطور الإنسان، وتناقض الماضي
والمستقبل في الإنسان، وحل التناقض بالعمل، وضم الماضي إلى
المستقبل، وإضافة الجديد.
٢٠
رابعًا: تأرجح المصطلحات والأسلوب
على الرغم من أن لفظ «الثورة» يقع في عنوان المشروع النظري
«نظرية الثورة العربية»، وعلى الرغم من استمراره في الكتاب
الخامس (الأسلوب، الثورة وأدوات الثورة) إلا أنه يختفي أحيانًا
لصالح مفهوم أخف هو التقدم مثل «وحدة القوى التقدمية» في
الكتاب السابع الطريق أو لصالح مفهوم العربية مثل «الطليعة
العربية» (وليس الطليعة الثورية). في الكتاب الثاني الأسس.
فلفظ الثورة أقل الألفاظ ترددًا. ذكرت في صفات الطليعة
العربية. ويحدث الشيء نفسه في الكتاب الخامس الأسلوب. وموضوعه
الثورة وأداة الثورة. بل إن لفظ «الثورة» نادرًا ما يظهر في
نظرية الثورة العربية. وفي الكتاب الخامس الأسلوب الذي موضوعه
الثورة وأداة الثورة كعنوان فرعي لا يظهر لفظ ثورة وموضوعها
إلا في واحدة من خمس عشرة فقرة. ويظهر موضوع الثورة أكثر في
الكتاب السادس الطريق إلى الوحدة، إلى الاشتراكية. التقدم يجب
الثورة، والصراع بين التقدميين والرجعيين هو محرك التاريخ أكثر
من الثورة والثورة المضادة؛
٢١ إذ يظهر موضوع التقدم، ووحدة القوى العربية
التقدمية أكثر مما يظهر موضوع الثورة. وفي الكتاب السابع
الطريق إلى الديموقراطية … إلى وحدة القوى التقدمية تظهر هذه
الوحدة وكأنها غاية وليست وسيلة من أجل النصر وباتباع الأسلوب
العلمي ودرس الهزيمة. والطريق إليها وحدة القوى العربية
التقدمية وكأن الغاية والوسيلة شيء واحد.
٢٢
وإذا كانت ثمة صياغة لمفاهيم وتصورات أحادية مفردة مثل:
الأسلوب، الطريق، الحرية، الاشتراكية، الديموقراطية، الثورة،
أو بصيغة الجمع: الأسس، المنطلقات، الغايات، فإن بعض المفاهيم
الأخرى ثنائية الطابع بالإضافة مثل «جدل الإنسان» أو بالوصف
«الطليعة العربية». والبعض منها بالإضافة والوصف مثل «وحدة
القوى التقدمية». وكلها في صيغ إخبارية. ثم يظهر عنوان فرعي
واحد للكتاب الثالث «المنطلقات» في صيغة استفهام: ما هو
مجتمعنا … من نحن؟ ما يجعل نظرية الثورة العربية أقرب إلى
التساؤل حول الهوية في هم مشترك وخطابة سياسية موجهة إلى
الجماهير.
ويغلب على الصياغة والأسلوب طابع التقطع وربط الألفاظ
المفردة أو المزدوجة بنقطتين، وعلى القارئ استنباط عناصر الربط
وكأن الفنان يضرب بريشته اللوحة ويسقط نقاط ألوان ولا يعنى
بربطها بالخطوط، وهو أسلوب الفنان التشكيلي. ولا يخلو كتاب من
هذا الأسلوب المتقطع عشرات المرات، ما يدل على نقص في
الاستدلال المنطقي والربط بين التصورات والمفاهيم.
٢٣ ويبدو الأسلوب المتقطع في كثير من الصياغات، منها
وجود حرف عطف ومعطوف من دون معطوف عليه مثل «والوحدة»،
«وتنظيم»، «والحرية»، «ومدرسة»، «والاشتراكية»، وقد تتعدد حروف
العطف بين «الواو» و«ثم»، مثل «ومنها»، «ثم الثورة»، ومنها
وجود حرف جر ومجرور في عبارة غير متكاملة مثل «في البعد الرابع».
٢٤ وتظهر بعض المصطلحات المعربة مثل الاستاتيكية،
وكأن الأيديولوجيا لا تكون كذلك إلا إذا امتلأت بالمصطلحات
الغربية المعربة.
٢٥
ويغلب على «نظرية الثورة العربية» أسلوب التساؤل في كثير من
أجزائها وهو أسلوب يدعو الناس إلى التفكير في وسائل العمل
انطلاقًا من كتاب لينين الشهير «ما العمل؟» فمنذ الكتاب الأول
الأسس ومنذ الفقرة الأولى يبرز السؤال «لماذا؟ … وكيف …؟» بل
إن العنوان الفردي في الكتاب الثالث المنطلقات في صيغة تساؤلية
ما هو مجتمعنا … من نحن؟ وكلها أسئلة مهمة ودقيقة ورئيسية
وأساسية مع أنها تساؤلات عامة يطرحها كل المفكرين العرب مثل من
نحن؟ ما مصيرنا؟ ما ماضينا؟
٢٦
وتبدو أحيانًا بعض القفزات الفكرية، أي ظهور النتائج بلا
مقدمات كافية، إعلان النتيجة من دون المقدمة. ففي الكتاب
الثاني الأسس البعد الرابع … الطليعة العربية يتم الحديث فجأة
عن البعد الرابع من دون أن تتضح بما فيه الكفاية الأبعاد
الثلاثة الأولى. فهل البعد الرابع هو الطليعة العربية أم أنه
شيء آخر؟ ثم تأتي الطليعة العربية متجاورة أو مضافة إليها؟
ويضم الكتاب ثلاثة موضوعات شعارية غير مرقمة وغير مبنية
منطقيًّا في تسلسل وتوالد ذاتي: والوحدة، في البعد الرابع من
الطليعة العربية …؟ والتساؤل عن الطليعة لا يكون بأداة
الاستفهام «من» بل «ما» لأنها اسم مجرد. والوحدة ليست في
العنوان الفرعي مثل البعد الرابع والطليعة العربية.
وواو العطف في «والوحدة» لا يوجد معطوف عليه. ويتضمن أحد عشر
موضوعًا على نحو متفرق لا ربط بينها بالرغم من وجود عناصر
الربط بين موضوعين متتاليين أو أكثر مثل المجتمع والأمة
والقومية والدولة.
٢٧ ويظهر مفهوم القومية كصفة للمجتمع والأمة والدولة،
صفة «القومي» في المجتمع القومي، والانتماء القومي، وكمصدر
مستقل عند الحديث عن ساطع الحصري. وعن الدولة القومية، ووعي
القومية مميز وليس امتيازًا بل إن عنوان المشروع النظري «نظرية
الثورة العربية» يخلو من مفهوم القومية مع أنه مشروع قومي. وقد
يدل ذلك على أن نظرية الثورة العربية هي العنوان الأعم. تتضمن
القومية (باعتبارها نظرية) الثورة العربية، ولا تستبعد غيرها
من الأيديولوجيات الثورية مثل الإسلامية والماركسية
والليبرالية. ولا تعتمد «نظرية الثورة العربية» على مصادر أو
مراجع يتم تحليلها والإحالة عليها وعرض مضمونها والارتباط
بالأدبيات السابقة في الموضوع بالتحليل والنقد من أجل تجاوزها،
بل هي تعبير تلقائي عن تجارب المثقف والمناضل العربي، يلخص
فيها تجربة جيل بأكمله، ناضل في الأربعينيات، وتفاعل مع الثورة
المصرية في الخمسينيات والستينيات ثم انكسر مع هزيمة
يونيو (حزيران) ١٩٦٧م. يحاول مشروع «نظرية الثورة العربية»
تضميد الجراح وتجاوز الهزيمة وبيان مقومات النصر. تمتد الكتب
السبعة عبر السنوات من ١٩٦٥ إلى ١٩٧١م، أي على مدى ست سنوات،
الهزيمة في وسطها، وكأن المشروع ينبئ بها قبلها بسنتين ويحاول
تجاوزها بعدها بأربع سنوات أثناء حرب الاستنزاف وقبل نصر
أكتوبر (تشرين الأول) عام ١٩٧٣م.
وأحيانًا تقتبس نصوص من مراجع من دون ذكرها وذكر مؤلفيها.
ويكتفي مثلًا بأن قومًا قالوا كذا في تعريف الأمة، ويضعها في
صلب الصفحة وليس في الهوامش. إن «نظرية الثورة العربية» إذن
فيض الخاطر وانفعالات جيل النصر والهزيمة قبل الستينيات وبعدها.
٢٨
خامسًا: الليبرالية المقنعة
الكتاب الأول الأسس، جدل الإنسان، الحرية أولًا … وأخيرًا،
نقد للماركسية طبقًا للصراع المعروف بين القومية والماركسية
وكما وضح في التراشق الشهير بين خروتشوف وعبد الناصر من شرفة
دمشق في عام ١٩٥٩م. عبد الناصر يدافع عن القومية باعتبارها
حركة تقدمية وخروتشوف يتهمها بالرجعية. وقد كان خلافًا
سياسيًّا بعد الوحدة المصرية–السورية. القومية محلية، تحافظ
على الهويات الوطنية للشعوب في حين أن الماركسية أممية لا
تعترف بحدود القوميات، في القومية المجتمع له الأولوية على
الطبقة، وفى الماركسية الطبقة لها الأولوية على المجتمع.
القومية العربية حركة توحيد للعرب، والماركسية حركة توحيد لكل
المضطهدين «يا عمال العالم اتحدوا» عبر المجتمعات والقوميات
والدول الوطنية. ماركس والماركسية هما اللفظان الأكثر شيوعًا
في الكتاب ثم إنجلز على نحو أقل. ومن ثم يصعب الحكم على نشأة
«نظرية الثورة العربية»، هل من مراجعة الأدبيات الماركسية بعد
نقد الماركسية الغربية وتحويلها إلى ماركسية وطنية ثم اكتشاف
القومية كبديل من الماركسية أم أنها تنظير مباشر للواقع في حال
الأمة العربية زمن انكسار الحلم؟ بل إن تفسير جدل التاريخ ممكن
في جدل الإنسان. فالإنسان ثورة التاريخ.
٢٩
والنقد الموجه إلى الماركسية هو النقد الشائع والنقد الشائع
الذي تروجه الدولة الرأسمالية الغربية مثل أن القومية أساس
الاشتراكية مع أن الاشتراكية أساسها العلم، والدين والأخلاق
والإنسانية ركائز القومية وكأن الماركسية بلا دين أو أخلاق أو
إنسانية. مع أن الدين يقوم بوظيفتين طبقًا لعبارة ماركس
الشهيرة «الدين أفيون الشعوب وزفرة المضطهدين». فالماركسية
ليست ضد الدين في حد ذاته، بل ضد توظيف الدين كأداة للاستغلال
والاحتكار والقهر والاغتراب. وقد كتب كاوتسكي عن «المسيحية»
ليبين كيف أن الدين كان دافعًا ثوريًّا اشتراكيًّا في بداية
المسيحية. وقد استمر ماركس وإنجلز في هذا التيار في كتابيهما
«توماس منزر وثورة الفلاحين في ألمانيا في القرن السادس عشر».
ومع الدين تأتي الأخلاق. ويمتد الموقف السلبي من الدين إلى
الأخلاق. فكلاهما مرحلة من تطور المجتمع. كما يروج للفكرة
الشائعة بتراجع ماركس ولينين عن أفكارهما الأولى واعترافهما
بما كانا ينفيانه سلفًا وكأنهما قد تابا عن الغي، وتوصلا إلى
الهدى بعد الضلال.
٣٠ ويبين تخبط الماركسيين واللينينيين في موضوع
القومية اعتمادًا على الأدبيات الثانوية مثل الفلسفة الماركسية
لأفانا سييف، بالقول إن القومية ضمن الأفكار البرجوازية في
مرحلة التحول من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الرأسمالي،
وبالقول إن ماركس رفضها رفضًا مبدئيًّا منذ البداية
استراتيجيًّا، وقبلها لينين مؤقتًا تكتيكيًّا من أجل القضاء
عليها.
والفكر القومي كما هو معروف في الأيديولوجيات السياسية في
أسسه النظرية الأولى يبدأ بالقوم على عكس الفكر الليبرالي الذي
يبدأ بالإنسان وليس بالقوم، بالفرد وليس بالجماعة. ولكن يبدو
أن «نظرية الثورة العربية» في همها الأول بعد هزيمة ١٩٦٧م وفي
غمرة شعور العرب بأنهم خسروا معركة القومية والاشتراكية بسبب
أزمة الحريات العامة وغياب النظم الديموقراطية، وربما حتى الآن
لصالح قريش والجيش، أعاد الفكر القومي بناء ذاته واضعًا
«الحرية أولًا … وأخيرًا» ضمن الأسس، ومؤسسًا «جدل الإنسان»
وليس «الشعب»، ملتحقًا بالفكر الليبرالي الذي أصبح العرب يحنون
إليه، والذي كان سائدًا قبل الثورات العربية الأخيرة بقيادة
الضباط الأحرار. وربما كان حكم الملوك والإقطاعيين من حيث
الحريات الفردية والديموقراطية السياسية أفضل بكثير من حكم
العسكر حتى ولو كانوا من الثوار.
٣١
لذلك يهدي الكتاب «إلى كل المناضلين في سبيل حرية الإنسان»،
ذلك الكائن العظيم الذي أحبه.
٣٢ وآخر عبارة في الكتاب الخامس الأسلوب، الثورة
وأداة الثورة «حتم على الإنسان أن يستهدف دائمًا حريته». وكما
أن القومية على علاقة بالأقلية والإقليمية والطبقة والدولة
والأمة والإنسانية فإنها على علاقة بالفرد. فالمجتمع ليس
كائنًا مستقلًّا عن الأفراد. ويظل الفرد ركيزته الأولى. ومع
ذلك فالفردية المطلقة تمثل انحرافًا عن القومية، وذاتية خالصة
تنكر الوجود الموضوعي، حالة مرضية في مقابل حالة طبيعية. وإذا
ما تحولت الفردية إلى طائفيات ومذاهب وقبلية وعشائرية فإنها
تنذر بفناء القومية.
وعلى الرغم من أن الكتاب الأول الأسس، جدل الإنسان، الحرية
أولًا … وأخيرًا موجه ضد الماركسية بعامة والماركسية اللينينية
بخاصة، إلا أن لفظ «الجدل» أصبح مشهورًا في الأدبيات الماركسية
الصادرة عن الهيجلية التي كان الجدل فيها منهجًا وموضوعًا.
تستعير «نظرية الثورة العربية» مفهوم الجدل من الماركسية موضع
النقد. وهو «جدل الإنسان» وليس «جدل الإنسان والطبيعة» كما هو
الحال عند إنجلز أو «جدل الإنسان والمجتمع» كما هو الحال في
ماركسيات القرن العشرين. يدل «جدل الإنسان» مرة أخرى (بالرغم
من استعمال لفظ «جدل») على الأساس الليبرالي لنظرية الثورة
العربية. فالإنسان أساس، والجدل فيه وليس في المجتمع أو
التاريخ.
وبالرغم من نقد الماركسية إلا أن فلسفتها في التاريخ تنتمي
إلى ماركس الشاب، ومِن ثَم إلى الأيديولوجيا أكثر مما تنتمي
إلى العلم وما زالت علاماتها باقية في تطور المجتمع البدائي من
المشاع الأول إلى الزراعة إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى
الاشتراكية.
سادسًا: القومية وشعاراتها
يسمى المشروع كله «نظرية الثورة العربية»، وليس «نظرية
القومية العربية». المشروع تأصيل للثورة العربية، والقومية
إحدى النظريات الثورية، ومع ذلك فموضوعه القومية
العربية.
وتنشأ القومية في المجتمع، وهي نزعة خاصة ضد الأممية. ومن
هنا جاء تناقضها مع الماركسية. والانتماء القومي حتمي. تقوم
القومية على الدين والأخلاق. وهي نزعة إنسانية وليست عرقية
شوفينية. فالقومية مميز وليست امتيازًا. والقومية أساس
الاشتراكية وليس العلم. فالقوم جماعة تتطلب حياة مشتركة لما
بينهم من تعاطف وترابط وأخوة أو عصبية بمعنى ابن خلدون.
٣٣
ويظهر أول عرض نظري كتكامل للقومية في الكتاب الثالث
المنطلقات: ما هو مجتمعنا ومن نحن؟ في النظرية – بعد المنهج –
في أربع عشرة فقرة تتحدث عن الوجود القومي الذي يشكل جوهر
المجتمع، وحدته ومصيره ووحدة الدولة القومية. وهذه القومية
تتضمن الأقليات التي تنفي القومية هويتها الثقافية كما تتمايز
فيها التجمعات الإقليمية مثل المغرب العربي والشام والخليج
العربي واليمن وشبه الجزيرة العربية. ولكل مجتمع إقليمي
مؤسساته. وتمثل القومية أمة واحدة تتمايز الطبقات داخلها من
دون أن تكون الطبقة أساس الأمة.
ولا تتجاوز الأممية القومية، فالقومية أساس الأممية
والإنسانية. لا فرق في ذلك بين الأممية والماركسية في عصر
الحرب الباردة أو الرأسمالية في عصر العولمة أو الإسلامية،
التي تتجاوز حدود الأوطان والقوميات. قد تنهار الدول والأمم
كما هو الحال في التصور الليبرالي للتاريخ ولكن تبقى القوميات.
٣٤
والدولة تختلف عن القومية، فالدولة تمثل الربط القانوني
للأفراد هي بمثابة الشكل التنظيمي للقومية. تتجاوز القومية
حدود الدول المصطنعة الموروثة من الاستعمار والتي تجزئ القومية
الواحدة. والمنطلق القومي يتجاوز المنطلق الإقليمي. الأول
تاريخ وثقافة، والثاني جغرافيا ومصالح. الأول تقدمي، والثاني رجعي.
٣٥
وتتكرر شعارات حزب البعث والناصرية (الحرية والاشتراكية
والوحدة – بصرف النظر عن ترتيبها في الكتب السبعة) وكأنها
مفاتيح سحرية، تظهر وتختفي كي تظهر من جديد، وتتداخل هذه
المفاهيم الثلاثة فيما بينه، لا فرق بين العلة والمعلول، السبب
والنتيجة، الأصل والفرع، تتداخل فيما بينها لدرجة التماهي أو
التبادل. وتتضح الشعارات الثلاثة في الكتابين الأخيرين، السادس
(الطريق إلى الوحدة … إلى الاشتراكية)، والسابع (الطريق إلى
الديموقراطية وإلى وحدة القومي التقدمية)، فأزمة الحرية في
الاشتراكية. والحرية والاشتراكية نظام ديموقراطي. ودولة الوحدة
دولة ديموقراطية اشتراكية. فهناك علاقة وثيقة بين الاشتراكية
والوحدة. ولا وحدة إلا من خلال النظام الاشتراكي.
٣٦ وأول عرض نسقي لشعارات القومية الثلاث في الكتاب
الرابع (الغايات، دولة الوحدة الاشتراكية
الديموقراطية).
أما (الحرية أولًا … وأخيرًا) فإن الحرية وصف نظري خالص، من
حيث علاقتها بالضرورة وبالقدرية والأديان. الضرورة كشرط للحرية
مقولة هيجلية. والحرية في علاقتها مع القوانين الكلية للفكر
والمادة والإنسان. تبزغ الحرية من الإكراه وتجذبها المثل
العليا، وفي كتاب (الغايات، دولة الوحدة الاشتراكية
الديموقراطية) تبرز الحرية باعتبارها تحررًا من الاستعمار
والصهيونية داخل إطار حركات التحرر العربي والحل القومي لقضية
فلسطين، وفي أجواء المعركة ودور القائد عبد الناصر. فالقومية
في الصياغة المصرية هي الناصرية.
٣٧
والحرية في الفرد تتطلب الديموقراطية في الحكم. فكما يتردد
لفظ الحرية يتردد لفظ الديموقراطية بالقدر نفسه. ولها معانٍ
عادة سالبة عن طريق حضورها أو غيابها في الأنظمة السياسية
الرأسمالية والماركسية. وهي ضرورة مغروزة في جدل الإنسان، في
نظام الحياة وفي التاريخ. وهي أساس التنظيم الطليعي (على الرغم
مما يتطلبه من تنظيم وسرية وطاعة ورأي واحد) ويتم تفصيل
«الطريق إلى الديموقراطية» في الكتاب السابع (الطريق إلى
الديموقراطية … إلى وحدة القوى التقدمية). وتُقدَّم حلول
ثلاثة: الحل المثالي الليبرالي: حكم الأغلبية، والحل المادي
الماركسي: حكم الطبقة العاملة، ثم الحل الإنساني القومي: حكم
الحزب القومي. وهذا الحل في الحقيقة لا يختلف في بنية الحكم عن
الحلين الآخرين. وهو أقرب إلى البعثية منه إلى الناصرية وتحالف
قوى الشعب العامل.
٣٨
والقومية أساس الاشتراكية وليست الاشتراكية العلمية.
الاشتراكية هي إحدى «الغايات» الثلاث في «نظرية الثورة
العربية». الاشتراكية هي اختيار الأمة ومن متطلبات القومية.
وتعني الاشتراكية سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج والملكية
القومية للأرض، والملكية الاشتراكية هي الملكية الاجتماعية مع
الاعتراف بالملكية الفردية غير المستغلة. فالاستغلال كما تمثله
الرأسمالية عدو الاشتراكية الأول. كما تعني الاشتراكية أيضًا
التخطيط الاقتصادي تعبيرًا عن دور الدولة في التنمية. والطريق
إلى الاشتراكية العربية هو الطريق العربي للاشتراكية وليس
التطبيق العربي للاشتراكية العلمية. ونستعيد هنا الجدل الذي
ساد في الستينيات أثناء كتابة الميثاق للإجابة عن سؤال: هل
الاشتراكية واحدة هي الاشتراكية العلمية وتتعدد تطبيقاتها أم
أن الاشتراكية متعددة، اشتراكية عربية واشتراكية أفريقية
واشتراكية آسيوية واشتراكية أمريكية لاتينية، كل منها تعبر عن
خصوصيات شعوبها وقومياتها؟ الاشتراكية العربية علمية قومية
إنسانية تعترف بالقيم العربية والديموقراطية.
٣٩
وللاشتراكية علاقة بالوحدة. فهي النظام الاجتماعي السياسي
المستنبط من القومية العربية، والطريق إلى الوحدة يتجاوز
المنطلق الإقليمي إلى المنطلق القومي. فالإقليمية طريق رجعي
للوحدة وأساسها جغرافي ضيق يغفل الشعوب والأبنية الاجتماعية
الموحدة. الطريق إلى الوحدة هو الثورة العربية من خلال وحدة
القوى التقدمية.
سابعًا: الغرب كإطار مرجعي
ما زال الغرب في: نظرية الثورة العربية نموذج التحديث كما هو
الحال في تيارات الفكر العربي المعاصر الثلاثة، والإطار
المرجعي لكل تاريخ الشعوب بما في ذلك الواقع الأوروبي في القرن
العشرين والدعوات الاشتراكية الأوروبية، وتجربة الاشتراكية في
الاتحاد السوفيتي والصين وأوروبا الشرقية، مع إغفال تام لنشأة
الماركسية في الفكر العربي المعاصر وخصوصيتها ومدى استقلالها
عن الفكر الماركسي الغربي.
٤٠ ويحضر الفكر الغربي حضورًا طاغيًّا على الفكر
العربي والأولوية لماركس وإنجلز ولينين وبرجسون وسارتر.
ولا يذكر إلا ساطع الحصري (في الكتاب الثاني الأسس) بمناسبة
كتابه محاضرات في نشوء الفكرة القومية، وجورج حنا في كتابه
معنى القومية العربية، وإسماعيل القباني في محاضراته في المعهد
العالي للدراسات العربية. ولم يتطرق إلى كبار المفكرين
القوميين من الأجيال المتلاحقة منذ ساطع الحصري حتى ميشيل عفلق
٤١
ولا يظهر تاريخ العرب كثيرًا، ولا تحليل الواقع العربي. وإن
ظهر فاعتمادًا على مجموعة من تسعة وثلاثين مفكرًا وعالمًا
وفيلسوفًا سوفيتيًّا اشتركوا في تأليف كتاب أسس الماركسية
اللينينية ردوا فيه على ظاهرة القومية كأساس لحركة تحرر وطني
إبان المد التحرري في الستينيات في العالم الثالث كله.
٤٢
وإذا كانت الحرية تعاني الأزمة في الاشتراكية فإنها مسئولية
الاشتراكيين العرب. فهم مطالبون بتحقيق الاشتراكية وبحل أزمة
الحرية في آنٍ. ولذلك اقترح عبد الله العروي الاشتراكية
الليبرالية كجوهر للماركسية العربية، الاشتراكية هدفًا
والليبرالية وسيلة.
٤٣ ويكتفي بأسئلة عن إمكانية قيام اشتراكية عربية
متميزة من اشتراكيات العالم الثالث. فالواقع العربي واقع
أيديولوجي، طموحات وأمنيات، رغبات وأشواق، أحلام ورؤى، وليس
واقعًا تاريخيًّا واجتماعيًّا يدرك من خلال التحليلات
الإحصائية الكمية.
٤٤
وترتبط القومية بالإسلام. فهي قومية أساسها الدين والأخلاق
وليست قومية علمانية. وفي الوقت نفسه لا يتجاوز الإسلام
القومية إلى أممية عبر القوميات. في الإسلام تراث العرب
وثقافاتهم وإحدى مراحل تاريخهم كما هو الحال عند ميشيل عفلق
وليست العروبة هي إحدى مراحل الإسلام. العروبة هي الأصل،
والإسلام هو الفرع. وليس الإسلام هو الأصل والعروبة الفرع. مع
أن الإسلام هو الذي وحَّد القوميات الماليزية والإندونيسية
والأزبكية والأفغانية والتركية والفارسية ومعظم القوميات في
آسيا وأفريقيا
٤٥
ومع ذلك يغيب التراث الإسلامي إلى حد كبير مقارنة بالتراث
الغربي، ويصدر الكتاب الثالث (المنطلقات) بفقرة من ابن الهيثم
عن الاختلاف والاتفاق بين المذاهب في احتمالات ثلاثة، صدق
أحدهما وكذب الآخر، وكذبهما معًا، وصدقهما معًا، من دون تحديد
لمؤلَّف ابن الهيثم الذي اقتبست منه هذه الفترة. وهو الشعار في
الكتاب الخامس (الأسلوب، الثورة وأداة الثورة)
٤٦
والخلاصة أن نظرية الثورة العربية اجتهاد قدر الإمكان لتجاوز
هزيمة ١٩٦٧م، عن طريق بناء مشروع فكري يضمد جراح الهزيمة ويجمع
العرب على مشروع نظري واحد لاستكمال حركة التحرر العربي. ويظل
استثناءً في تاريخ مصر، نافذة لها على الوطن العربي ضد من يرفع
شعار «مصر أولًا» أو «فرعونية مصر» أو «قبطية مصر» أو «إسلامية
مصر». فهل عروبة مصر هي البديل — من دون تحليل — لخصوصية مصر
وشخصية مصر وعبقرية المكان؟
٤٧