الاشتباه في فكر باحثة البادية١
(١) معنى الاشتباه
الاشتباه هو التردد بين موقفين كلاهما صحيح، والتوتر بين قطبين كلاهما واقعي. ليس فقط في اللغة في صنوف المجاز المحكم والمتشابه بل أيضًا في الوجود الإنساني. فالإنسان وجود مشتبه، توتر بين النفس والبدن، العقل والحس، المنطق والوجدان، المثال والواقع، ما ينبغي أن يكون وما هو كائن. وهو ليس ظاهرة مرضية تدل على تشكك في الأخلاق المعيارية كما هو الحال عند سيمون دي بوفوار في «من أجل أخلاق للاشتباه» وإيثار الغموض على الوضوح، والتناقض على البداهة، واللامعقول على المعقول. إنما هو شرط الإبداع الإنساني وتأكيد مطلبين في نفس الوقت، وإثبات شرعيتين لنفس الموقف.
وهو اشتباه يعبر عن موقف حضاري بأكمله وفترة تاريخية، وليس مجرد ظاهرة فردية عند هذا المفكر أو ذاك. فمنذ فجر النهضة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي الرابع عشر الهجري، والاشتباه قائم بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر، بين القدماء والمحدثين، بين الإسلام والحداثة أو الإسلام والغرب، بين الأنا والآخر، بين الدين والدولة، بين السلفية والعلمانية، بين الإيمان والعلم … إلخ.
وانحاز فريق لطرف بينما انحاز فريق آخر للطرف الآخر، فحدث الصدام بين الأزهريين والجامعيين، بين المشايخ والأفندية. فبدأ فكريًّا وثقافيًّا وحضاريًّا طالما أن الدولة قوية تضم الجميع، وتسمح بالحوار الوطني، دون أن تنحاز لفريق دون آخر كما كان الحال في مصر والشام في العصر الليبرالي، وينتهي بصراع دموي بين الأخوة الأعداء في حالة ضعف الدولة ورغبة كل فريق في دراستها والاستئثار بالسلطة وحده كما هو الحال في الجزائر الآن.
والاشتباه خارج منطق الصواب والخطأ، والحق والباطل، والصحيح والمزيف، والصادق والكاذب، والخير والشر. فكلاهما صحيح كلاهما واقع ثقافي في مصدر المعرفة، ومصدر الأخلاق، في العلم والعمل. كلاهما رئتان لجسد واحد يتم التنفس من خلالهما. عينان لفرد واحد يتم النظر من خلالهما. كلاهما ساقان لرجل واحد يسير عليهما. كلاهما أذنان لإنسان واحد يسمع كل شيء بواسطتهما وإلا كان الإنسان أعور وأعرج.
لقد تميز فجر النهضة العربية منذ الطهطاوي وخير الدين التونسي بالجمع بين هذين المطلبين، ابن خلدون وروسو، العمران وعلم الاجتماع، المعتزلة والثورة الفرنسية، المصالح العامة والمنافع العمومية. فقامت نهضة في مصر والشام شكلت الوجدان العربي الحديث. ووصلت ذروتها في مصر في ثورة ١٩١٩م. ثم بدأت التجربة القومية العربية الاشتراكية في النصف الثاني من القرن تحمي هذا الجمع بين المطالبين في الاشتراكية العربية، وفي حركة العالم الثالث وعدم الانحياز، من باندونج حتى بلجراد. وبعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م بدأ التفكك بين الشرعيتين بدافع الانتقام ووراثة الدولة المهزومة من أجل النصر. ولم يشفع للدولة انتصار ١٩٧٣م بل استمرت القطيعة خاصة بعد انقلاب التجربة الاشتراكية على نفسها ومن داخلها، وبداية سلسلة التنازلات والتفريط في الثوابت القومية. وخرجت الشرعية الإسلامية من السجون بعد استبعادها من بداية الثورات العربية. تثبت جدارتها في فلسطين وجنوب لبنان. واعتمدت الدولة أمام هذا الخطر الجديد على الفريق الآخر في أجهزة الإعلام والثقافة في حرب ثقافية بين الأخوة الأعداء، وامتثال دائم في بلد المليون شهيد.
ليس الغرض من هذا البحث التقريظ والمدح وبيان أنه لم يكن بالإمكان أبدع مما كان بل النقد والتطوير ونقل الاشتباه من أوائل القرن الماضي إلى أوائل هذا القرن، بعد مائة عام. الهدف هو معالجة الاشتباه بمنطق جديد، وبنفس روح مسئولية نهضة الوطن وتقدم الأمة واستنارة الشعب. فقد تغيرت الظروف، وتراكمت الخبرات، وتعقدت الأمور، واحتدم الصراع بين الأخوة الأعداء، وغار جرح الهزائم، وما زال الانتصار حلمًا يراود الخيال.
ليس المقصود من هذا البحث التاريخ، فهو معروف عند المؤرخين وليس الغرض هو التكرار والعرض والبيان من أجل نقل المعلومات المتوافرة من ذهن إلى ذهن، وممن يعلم لمن لا يعلم، فهذا هو العلم المنقول المروي المحفوظ الذي حمله الرواة ونقله المحدثون.
ولا يهدف البحث إلى أخذ موقف طرف ضد آخر بدعوى المزايدة أو إظهار الموقف والإعلان عن الذات، تمسكًا بالشرعية الأولى أو دفاعًا عن الشرعية الثانية. بل وصف الأمور على ما هي عليه في سياقها الحضاري والتاريخي، مع تحليل التجارب المشتركة بين المبحوث والباحث، الموضوع والذات اللذين يشاركان في نفس الهم بعد قرن من الزمان وربما لقرن آخر قادم. فالاشتباه فردي حضاري تاريخي، يعبر عن مرحلة تاريخية بأكملها. التحول من الإصلاح إلى النهضة أو من النهضة الأولى إلى النهضة الثانية.
(٢) الأنا والآخر
وهو الاشتباه الطبيعي في اللحظة التاريخية بين مصر أو العرب أو المسلمين والغرب الحديث. لم يتوقف الاتصال بين الاثنين منذ اللحظة التاريخية الأولى اليونانية الرومانية، والثانية أثناء الحروب الصليبية، والثالثة في عصر الاستعمار الحديث. ومنذ «تلخيص الإبريز» وبدأ حول الأنا والآخر، المرآة المزدوجة، رؤية الأنا في مرآة الآخر، والآخر في مرآة الأنا.
ويبرز هذا الاشتباه في أدب الرحلات والأعمال الروائية والفكرية مثل «عيسى بن هشام» للمويلحي، «علم الدين» لعلي مبارك، «يوميات» محمد حسين هيكل.
ويبرز هذا التقابل عند باحثة البادية في «النسائيات» في استعمال ضمائر المتكلم الجمع «مدارسنا»، «فتياتنا»، «ذنبنا» في مقابل ضمير الغائب الجمع «هم» مما يكشف عن التمايز الحضاري والهوية والاختلاف.
وليس هناك أفضل من مدارسنا الحكومية التي تعلم القديم والجديد كما أن القول بأن الغربيات لا يصلحن لإدارة البيوت غير صحيح، فالجمع بين المطلبين لا يحدث فقط عند الأنا بل أيضًا عند الآخر طبقًا لفضيلة الاعتدال.
وتهدف المقارنة إلى رؤية الأنا في مرآة الآخر دون أن يكون الآخر مرآة للأنا. القصد منها تغيير الأنا دون الانبهار بالآخر. في دور المولودة تقدمت الثقافة الإسلامية برفض دفن البنت حية، وأد البنات، عادة الجاهلية. وفي دور الطفولة ما زالت الثقافة الإسلامية تفضل الذكر على الأنثى، والولد على البنت. وفي دور المراهقة يسبق الغربيون في تربية الفتاة خاصة الفنون والآداب. وفي الخطبة والزواج تنتظر الفتاة حتى يطلبها الرجل، ولا وسيلة إلا الخطبة. في حين أن الغرب تجاوزها إلى اللقاء الطبيعي والمشاهدة في الأماكن العامة. وفي الأمومة سبق المرأة الغربية في الجمع بين المنزل والعمل. واضح من المقارنة سبق المرأة الغربية المرأة المصرية. ومِن ثَم كان لزامًا على المرأة المصرية اللحاق بزميلتها الغربية. ففي جدل الأنا والآخر ما زال الآخر نمطًا للتحديث عن وعي أو عن لاوعي، علنًا أو سرًّا، منطوقًا به أو مسكوتًا عنه.
(٣) الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي
وهو اشتباه عصر، وتقابل يصل إلى حد التضاد نظرًا لفهم شائع في عصور التخلف الأخيرة ومزاحمتها بالغرب الحديث أن الشريعة إلهية، منزلة من السماء، وأن القانون المدني العصري قانون وضعي يعبر عن مصالح الناس بناءً على العقد الاجتماعي. وهو تقابل وهمي يكشف عن عدم وعي كافٍ بأصول الشريعة الإسلامية وبحدود القانون الوضعي ومدارسه المختلفة. مع أن الشريعة الإسلامية شريعة وضعية بالتعبير الشامل لأنها تقوم على الواقع وتتأسس في مصالح الناس. لها أسباب نزول، أي مشاكل في الواقع الاجتماعي، وتخضع للناسخ والمنسوخ، أي إنها تتطور بتطور الزمان. هناك أحكام «الوضع» التي تربط الحكم بميدان تحققه، السبب، والشرط، والمانع، والعزيمة، والرخصة، والصحة، والبطلان.
وعند باحثة البادية لا يتم فهم الأحكام النصية إلا في ضوء الواقع الحالي وللتنظير المباشر له. ولا يتم التعامل مع الفقه القديم إلا في ضوء الواقع الاجتماعي الحالي للمرأة. فلا ضرر ولا ضرار. والمصلحة أساس التشريع. وما ينبغي أن يكون تطويرًا لما هو كائن وليس بديلًا عنه أو نقيضًا منه. ولا فرق بين المعيار والوصف. المعيار هو الواقع في حالة اكتماله. والوصف هو الواقع وهو في طريقه إلى الاكتمال. لا يفهم النص إلا في ضوء المشاهدات والتجارب الحالية وهي الواقع الذي نشأ فيه النص.
ويتم عرض قانون الأحوال الشخصية القديم على الأوضاع الحالية فيما يتعلق بالزواج والمحارم وزواج الأختين، وتعدد الزوجات، وسن الزواج والحجاب والسفور، والزينة، والتراث والتعليم.
(٤) المحافظة والتقدم
(٥) المرأة والمجتمع
وبالرغم من أن باحثة البادية عاشت في أتون الحركة الوطنية، ونشاط الحزب الوطني، وخطب مصطفى كامل ومحمد فريد، وألحان سيد درويش، فإنها كانت أقرب إلى أحزاب الأقلية، التلميذة النجيبة لأحمد لطفي السيد وحزب الأحرار الدستوريين، لم تلتهب بمقدمات ثورة ١٩١٩م ولا بحادثة دنشواي.
وعيها السياسي محدود. قُبض على أخيها في حادثة سياسية. وماتت وهي في زيارته. تستشهد بسيدة إنجليزية من صاحبات لورد كرومر، بل تستشهد بكرومر نفسه. وتتأسف أن ليس لديها مستعمرات. لم تكتب في السياسة إلا قليلًا. منها قصيدة إثر إعلان قانون المطبوعات. وخطبت أثناء حرب طرابلس في نساء الفيوم. وفي الحرب الكبرى حاكت مائة قميص ورداء للهلال الأحمر.
(٦) الوطن والأمة
وأخيرًا يكشف هذا الاشتباه السادس عن هوية المرأة بين الوطن والأمة والجامعة الشرقية. فقد كانت باحثة البادية معاصرة للأفغاني ودوائره المتداخلة، مصر والعروبة والإسلام والشرق. وفي نفس الوقت هي تلميذة أحمد لطفي السيد مفكر الأمة المصرية.
تعني بالوطن الأمة المصرية. وتقدم «النسائيات» للأمة المصرية. وتصف أخلاق هذه الأمة. وتنادي: «نحن المصريين». وتحبذ الزواج من المصريات اللاتي بلغن مستوى عالٍ من التعليم يفوق الشركسية والراقصة الأوروبية.
وفي نفس الوقت تتحدث عن الآستانة، تركيا. فقد سافرت إلى هناك امتدادًا لربوع الوطن، وقد كانت المصاهرة بين المصريين والأتراك شيئًا شائعًا. وكتبت في جريدة «تركيا الشابة» (الجون ترك)، تنصح بارتداء الحجاب مثل نساء الآستانة أي اليشمك التركي.
وتتحدث عن اليابان والمرأة الشرقية. فالمرأة اليابانية تسجد لزوجها. كانت تدعو لرقي المرأة الشرقية. وتدعو إلى مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطبائع بلاده، ولا تعوق عن اجتناء ثمار التمدن الحديث. وليس وضع المرأة الشرقية أسعد حالًا من عندنا. فالمرأة تكاد تسجد لزوجها بالرغم من أخذها بوسائل التمدن الغربي الغربي. فهي تشارك زوجها مع الله.
النسائيات سيرة ذاتية تكشف عن أزمة وطن، وحياة خاصة تبين وضعًا اجتماعيًّا، وحياة إنسان تُظهر مرحلة تاريخية لالتقاء ثقافتين وعصرين وقوتين اجتماعيتين وموقفين، كلاهما صحيح، وهو معنى الاشتباه. إنما الخطورة الآن في تفكيك الأوطان باسم المرأة في مقابل الرجل، وحقوق الإنسان الفردية في مواجهة الجماعة وليس حقوق المواطن والوطن، باسم المجتمع المدني الأصلي في مواجهة الدولة الوطنية والقومية، والأقليات ضد وحدة الأوطان.
لا خلاص للمرأة إلا بخلاص المجتمع، ولا خلاص للمجتمع إلا بالانتماء للوطن، ولا حماية للوطن إلا بالنظام السياسي القادر على تجسيد لحظته التاريخية وحشد إمكانياته وتحديد رؤيته وتحقيق رسالته.