(١) علم الطب ونسق العلوم
ما زال تاريخ العلم العربي الإسلامي في وجداننا المعاصر
موضوعًا خاصًّا في التراث الإسلامي خارج منظومة علومه التي
تغلب عليها العلوم النقلية الخالصة: القرآن، والحديث والتفسير،
والسيرة، والفقه بدرجة كبيرة خاصة في الثقافة الشعبية أو
العلوم العقلية النقلية: الكلام، والفلسفة، والتصوف، وأصول
الفقه في الثقافة العالمة عند الجامعيين في الدراسات
الإسلامية. والحقيقة أنها تكون المنظومة الثالثة من نسق العلوم
الإسلامية، العلوم العقلية الخالصة: الرياضية مثل: الحساب،
والهندسة، والموسيقى، والفلك، أو الطبيعية مثل الطبيعية،
والكيمياء، والطب، والصيدلة، والنبات والحيوان، والمعادن. هذا
بالإضافة إلى العلوم الإنسانية التي سماها القدماء علوم اللغة،
والأدب، والجغرافيا، والتاريخ.
كانت الفكرة الشائعة أن التراث العلمي العربي الإسلامي جزء
من تاريخ العلوم، ولا شأن له بباقي منظومة العلوم، يُدرس في
الجامعات تحت عنوان «تاريخ العلوم عند العرب» تقليدًا
للاستشراق وتسميته التقليدية «العلم العربي» أو تجاوزًا
للاستشراق وتسميته «العلوم الإسلامية» إما تحت تأثير المنظمات
الإسلامية المعاصرة أو بعد نشأة حركة «أسلمة» العلوم. والحقيقة
أنها جزء من العلوم النقلية العقلية خاصة علم الكلام في
الطبيعيات، مبحث الجوهر والأعراض، وفي علوم الحكمة، في الحكمة
الطبيعية كما هو الحال عند ابن سينا.
أما في الغرب، فإن العلم العربي يدخل كجزء من تاريخ العلم
العام بعد العلم اليوناني وقبله العلم الغربي الحديث في مرحلة
متوسطة هي العصور الوسطى إسلامية أو مسيحية أو يهودية، كما أن
العلم اليوناني والعربي معًا في مرحلة متوسطة أكبر بين علم
الشرق القديم والعلم الغربي الحديث. فقد بدأ العلم في الشرق
واكتمل في الغرب. بدأ في الشرق الأدنى واكتمل في شمال غرب
المتوسط. أما شمال شرق المتوسط وشرقه وجنوبه فهي مرحلة متوسطة
ناقلة للعلم من الشرق إلى الغرب. فكل ما قبل الغرب الحديث في
الزمان وخارجًا عن منطقته الجغرافية في المكان هو تاريخ للعلم
وليس العلم.
لذلك كان استئصال تاريخ العلوم عند العرب خارج المنظومة
العلمية الإسلامية العامة هو تقليد لنظرة الغرب للصلة بين
العلم وتاريخ العلم. فالعلم يجُب ما قبله. والجديد يلغي القديم
إما صمتًا عن المصادر، والترويج لأسطورة أن العلم ظاهرة غربية
أصيلة على غير منوال في حين أن الدين ظاهرة شرقية. مع العلم
يضاف التقدم والعقل والحرية والديموقراطية. ومع الدين يُقرن
التخلف والإيمان والجبر والنظم التسلطية، وإما بناءً على
النموذج الغربي، نموذج الانقطاع بين الماضي والحاضر، بين
القديم والجديد، وليس التواصل قراءة الحاضر في الماضي، وخروج
الجديد من القديم. بقدر ما يتم الانقطاع من القديم يتم اكتشاف
الجديد. وبقدر الفعل السلبي ينشأ رد الفعل الإيجابي. مما دعا
علوم الهرمنطيقا المعاصرة إلى العودة إلى منهج القراءة، قراءة
الجديد في القديم مؤثرة نموذج التواصل. نموذج الأنبياء، «خمر
جديد في أواني قديمة» لاكتشاف المعاني الثابتة والماهيات
المستقلة مثل الظاهريات، آخر محاولة للإبداع الفلسفي في الوعي
الأوروبي أو الوقوع في الاشتباه والنسبية والشك واللاأدرية ثم
الانتهاء إلى العدمية المطلقة منذ «موت الإله» عند نيتشه حتى
«موت المؤلف» عند بارت، منذ «تحطيم العقل» عند لوكاتش حتى
«التفكيكية» عند دريدا.
والحقيقة أن العلوم العقلية الخالصة، الرياضية أو الطبيعية
أو الإنسانية لا تنفصل عن المصدر الأول للعلم في الحضارة
الإسلامية، وهو الوحي. فالعقل أساس العلوم العقلية، والطبيعة
موضوع العلوم الطبيعية هما تأسيس للوحي في العقل والطبيعة
نظرًا لوحدة النسق بين الوحي والعقل والطبيعة كما هو الحال في
الدين الطبيعي في الغرب في القرن الثامن عشر.
فقد ساعد التوحيد على
تحرير العقل من القطعية والأحكام المسبقة أو تقليد القدماء،
فالتقليد ليس مصدرًا للعلم، أو التوقف كلية عن البحث العلمي
وإعمال العقل في الأشياء والنظر في الموجودات، فالنظر أول
الواجبات، وأول ما خلق الله خلق العقل. وقد تم تحرير العقل من
قيود الأهواء مصدر الأحكام المسبقة وتراث الآباء والأجداد، وهو
مصدر التقليد، ومن الكسل والترهل بالحث على النظر في الموجودات
والتأمل في الآيات عن طريق التعالي المستمر، والبحث عما هو
أعلى وأبعد وأكثر مفارقة، والتمييز الدائم بين صياغات العلم
وحقيقة العلم. فالصياغات متغيرة لأنها اجتهادات بشرية.
والحقيقة قصد عام تتجه نحوها كل الاجتهادات. وفي الوقت الذي
يتم فيه التوحيد بين الصياغة والحقيقة، بين الشكل والمضمون،
بين الظاهر والشيء في ذاته يتوقف العلم.
كما ساعد التوحيد على التوجه نحو الطبيعة باعتبارها كائنًا
حيًّا مستقلًّا، لها قوانينها الخاصة تعبيرًا عن الحكمة، وبها
قصد وغاية، مُسخرة للإنسان، وطيعة له، طوعًا وإرادة. الإنسان
والطبيعة صديقان وليسا عدوين كما هو الحال في بعض التصورات
الغربية. والطبيعة ليست خالية من القيمة، يلقي عليها الإنسان
بنفايات المصانع، بل هي مخلوق كالإنسان، وكلاهما متحد في القصد
والغاية، يشتركان في قيمة أعلى تجمع بينهما، قيمة التعالي أي
البحث المستمر عن الأكمل أو التوحيد أي تجاوز كل الثنائيات بما
في ذلك ثنائية الإنسان والطبيعة، العقل والمادة، النفس والبدن.
كلاهما من نظام واحد. تشمله العناية.
(٢) «القانون في الطب» بين النقل والإبداع
إذا كانت نشأة النص الفلسفي الإسلامي يمكن تحديده بالترجمة
بنوعيها الحرفية والمعنوية، المباشرة عن اليونانية أو بتوسط
السريانية ثم بالتعليق زيادة أو نقصًا ثم بالتلخيص أو الشرح من
أجل هضم النص المنقول وتمثله، ثم العرض والتوجه من مستوى اللفظ
والجملة إلى مستوى المعنى والقصد، ثم التأليف في المنقول
والانتقال من مستوى المعنى والقصد إلى مستوى الأشياء ذاتها فإن
كتاب «القانون في الطب» لابن سينا يمثل هذا النوع من النص
الفلسفي، التأليف في المنقول قبل التحول إلى النص الإبداعي
الخالص الذي لا يحيل فيه النص إلا إلى ذاته، عقلًا وطبيعة،
ذاتًا وموضوعًا.
والتأليف في المنقول، وهي في هذه الحالة الوافد، يجمع بين
المنقول من الخارج والمنقول من الداخل، بين الوافد والموروث.
فإذا غلب الوافد على الموروث يكون النوع تمثل الوافد وتنظير
الموروث، وإن غلب الموروث على الوافد يكون النوع تنظير الموروث
وتمثل الوافد. وإن تساوى الوافد والموروث، وهي حالة افتراضية،
فالغلبة لأحدهما على الآخر دائمًا، فإن ذلك يكون خطوة على طريق
الإبداع الخالص عندما يختفي كلاهما لإفساح المجال لتحليل العقل
الخالص.
وكتاب «القانون في الطب» لابن سينا من نوع تمثل الوافد
وتنظير الموروث حيث تكون الغلبة فيه للأول على الثاني. وقد كان
الشائع أنه إبداع ذاتي خالص لا يحيل إلا إلى ذاته إلا أن تحليل
المضمون يكشف غلبة الوافد على الموروث وذلك لكثرة الوافد الطبي
وقلة الموروث فيه. لذلك غلب عليه التجميع من أجل تمثل الوافد
مثل تجميع كتاب القياس في المنطق. فهو أقرب إلى النقل منه إلى
الإبداع.
والوافد الغالب هو الوافد الشرقي على الوافد الغربي في
المجلدات الثلاثة التي تضم الكتب الخمسة أي الهند والصين وفارس
على اليونان والرومان على عكس ما هو شائع من غلبة الوافد اليوناني.
٢ يشمل الوافد الهندي جوز الهند وماء الهند وتمر
الهند وبلاد الهند. فالهند حضارة مستقلة خاصة. بها أنواع خاصة
من البقول والحشائش والأعشاب. واشتهر دواء الدارصيني وراج،
وكذلك أدوية المصريين القدماء ومناطق فارس والشام.
وفي المجلد الأول يفوق الوافد الشرقي الوافد الغربي، وتتصدر
الهند ثم الصين ثم العرب ثم الشام ثم فارس ثم أرمينيا ثم النبط
ثم مصر ثم الخوزي واليمني والمكي. وتظهر صفة العرب في الصمغ
العربي وبلاد العرب وبلاد الشام
٣ وفي المجلد الثاني الذي يشمل أمراض الأعضاء، عضوًا
عضوًا، يتصدر الوافد الغربي على الشرقي، ويقل الموروث الشرقي.
وفيه تتصدر الهند على الصين ثم اليمني والعربي والأرمني
٤ وفي المجلد الثالث الذي يشمل الكتابين الرابع عن
الأمراض الجزئية التي لا تختص بعضو عضو والخامس عن الأدوية
المركبة يتصدر الوافد الشرقي من جديد على الوافد الغربي، الهند
ثم الصين ثم فارس والكندي، ثم اليهود ثم الكرماني، ثم العربي،
ثم أهل الإسكندرية والسوري وآسيا والأرمن.
٥
وبالنسبة للوافد اليوناني يتقدم جالينوس ثم ديسقوريدس ثم
بقراط ثم اليونان ثم الروم ثم أرسطو. فلا يأتي أرسطو إلا
مؤخرًا في المرتبة السادسة. ففي الكتاب الأول عن الأمور الكلية
يتقدم جالينوس. وفي الكتاب الثاني عن «الأدوية المفردة» يتقدم
ديسقوريدس. جالينوس هو الوافد الأول في الطب أي في التشخيص.
وديسقوريدس هو الوافد الأول في الأدوية أي في العلاج والصيدلة.
يقل جالينوس شيئًا فشيئًا مع التحول من النقل إلى الإبداع، ومن
التراث إلى التجديد. ويكثر ديسقوريدس في الأدوية لأن النقل فيه
أكثر من الإبداع. بل إن ظهور جالينوس يتفاوت أحيانًا بين
الكثرة والندرة، التواصل والانقطاع، في أول المجلد وفي آخره.
ثم يتلوهما بقراط وروفس ثم أرسطو من حيث أسماء الأعلام. ومن
حيث الثقافات يتقدم اليونان على الرومان.
٦
وفي المجلد الثاني الذي يضم أمراض الأعضاء عضوًا عضوًا يتصدر
جالينوس على بقراط. وتقل أسماء الأعلام نظرًا لغياب أسماء
الأدوية. ثم يذكر أركاغانيس وبولس وروفس. ولا يذكر أرسطو
وأفلاطون وديسقوريدس إلا مرة واحدة.
٧
وفي المجلد الثالث يتصدر أيضًا جالينوس وبقراط ثم صفة
اليوناني الرومي. ثم يظهر أرسطو والإسكندر وأرسطوماخوس وبولس،
ثم أرسطراطس وفيلاكسانس وقاطاجانس وفيلون الطرطوسي.
٨ كان الأطباء كثيرين، ولم يشتهر منهم إلا جالينوس
وبقراط لأنهما يجمعان بين الطب والحكمة، في حين أن الآخرين
مجرد أطباء ممارسين.
ويبدو الوافد اليوناني أحيانًا غالبًا في أسماء الأدوية وذلك
لترجمته مبكرًا عن طريق نصارى الشام ومعرفة مصطلحاته الطبية
قبل معرفة الوافد الشرقي الهندي أو الصيني أو الفارسي. كما أن
الجوار الجغرافي والثقافي مع الشام كان أكثر قربًا من الجوار
الجغرافي والثقافي مع الهند والصين وفارس. كانت اللغة العربية
لغة نصارى الشام. فقد كانوا عربًا لغة، ويونانًا ثقافة، ونصارى
دينًا، ومسلمين حضارة وموقفًا، في مقابل الاختلاف اللغوي
والثقافي بين العرب، يهودًا ونصارى ومسلمين من ناحية وبين أهل
الهند والصين وفارس. كان العرب أهل شعر وفصاحة بينما كان الهند
أهل دين ورياضة، والصين أهل علم وتجارة، والفرس أهل أخلاق
وسياسة.
وتدل الكثرة من الأسماء الطبية على قدرة فائقة على إيجاد
مرادفات عربية للألفاظ اليونانية والفارسية والهندية والصينية.
وهو عمل إبداعي لغوي. فليس النقل مجرد العثور على لفظ في مقابل
لفظ بل فهم معنى اللفظ المنقول منه وإيجاد ما يقابله في اللغة
المنقول إليها. فإن صعب النقل أخذ التعريب، مما يكشف عن
المصادر اليونانية والفارسية لأسماء الأدوية. وقد تشتق الأسماء
من أماكنها المحلية مثل السوسي والطرطوسي والنبطي والصيني
والهندي والقرشي والقلزمي واليمني والبحريني والبابلي والمكي
والعباداني. وقد تأخذ من المناطق والأقاليم مثل البحري والبري
أو من الطوائف مثل اليهودي.
٩ وقد تشتق من الوظائف مثل المسخن والمبرد والمرطب
والميبس. وقد تشتق من أسماء الأطباء مثل كحل أرسطراطس وحب
أفلاطون ودواء اندروماخوس ودواء لنياوس ودواء جالينوس ودواء
ديسقوريدس.
وابن سينا على وعي تام بالفرق بين الأسماء والمسميات، بين
الألفاظ والأشياء، بين الاصطلاح والموضوع. وقد تكون الإحالة
إلى الوافد من أجل بيان نشأة التسمية كما بيَّن الفارابي من
قبل اشتقاقات كلمة الفلسفة. فالأمراض تلحقها التسمية إما من
الأعضاء الحاملة لها مثل ذات الجنب وذات الرئة أو من أعراضها
كالصرع أو من أسبابها كالسوداوي أو من التشبيه مثل داء الأسد
والفيل أو إلى أول طبيب يذكره مثل قرحة طيلانة نسبة إلى طيلانس
أو منسوبة إلى بلدة يكثر وقوعها فيه مثل قروح بلخية نسبة إلى
بلخ أو إلى بلدة مشهورة بالنجاح في معالجتها مثل قرحة سيرونية
أو من جواهرها وذواتها كالحمى والورم. فالأسماء الوافدة لا تدل
على تبعية بل على كيفية اشتقاق الأسماء كما هو الحال في
المعاجم اللغوية للمصطلحات العلمية. وأحيانًا تترجم الأسماء
حرفيًّا مثل «سيقومورون» ومعناه التين الأحمق.
لذلك يشير لفظ «اليونانية» كصفة إلى الأسماء أي إلى البعد
اللغوي الصرف. وقد يذكر فعل «سمي» ومشتقاته قبل معظم الأسماء
وكأننا ما زلنا في عصر الترجمة الأول، مع التفرقة بين الاسم
والمسمى كما هو الحال في مبحث الألفاظ عند الأصوليين. وقد ينشأ
كثير من الخطأ بسبب الخلط في الأسماء.
١٠ تختلف الأسماء على نفس المسمى إما لاشتراك الاسم
أو لضعف التمييز كما هو الحال عند قدماء الأطباء. ويُستعمل
اللفظ بالضرورة في عدد من المؤلفات استعمالات مختلفة. كما
يستعمل ابن سينا بعض أشكال الحروف اليونانية لشرح الأمراض ووصف
الأجسام مثل حرف
C وحرف
A أو حرف
H كما هو الحال في استعمال
الأشكال الرياضية.
١١
وتظهر الخصوصية في اللغة في التقابل بين الأسماء الإفرنجية
والأسماء العربية، بين الأسماء الوافدة والأسماء التي توجد في
البلاد، في بلادنا، من أعشاب نيل مصر أو من بلاد السند.
١٢
ويظل السؤال قائمًا؟ هل اعتمد ابن سينا في الوافد عامة
واليوناني خاصة على مصادر مدونة أم على ذاكرة شفاهية؟ وهل يمكن
تجميع المادة من مجرد مصادر شفاهية تعيها الذاكرة وهي على هذا
القدر من الاتساع في أسماء الأمراض والأدوية؟ يحيل ابن سينا
أحيانًا إلى بعض المصادر الكتابية لأطباء اليونان خاصة.
١٣ فيشير إلى بقراط واسم كتابه «ابديميا» مؤيد الحياة
ومبينًا أنه الحق، وكتاب ديسقوريدس الموسوم بالحشائش، وكتاب
جالينوس «قاطاجانس» و«حيلة البرء». كما يحيل إلى بعض نصوص روفس
المترجمة دون معرفة هل هي نصوص مباشرة أصلية أم أنها مذكورة في
التراث الطبي القديم عند جالينوس وبقراط.
١٤
والحقيقة أن الإحالة إلى التراث الطبي السابق لا تعني المنهل
منه أو الاعتماد عليه أو تقليده بقدر ما يعني معرفة الحالة
الراهنة لعلم الطب والدراسات السابقة فيه بصرف النظر عن مصدره،
شرقي أو غربي، هذا الطبيب أو ذاك. فلا جديد بلا قديم، ولا
تجديد بلا تراث. وتقدم العلم مرهون بمعرفة آراء السابقين ثم
نقدها وتجاوزها ونقل العلم ذاته من مرحلة أولى إلى مرحلة
ثانية. فالعلم تراث متصل لا انقطاع فيه. وهو على النقيض من
الصلة بين تاريخ العلم والعلم في الغرب عندما يجُب الحاضر
الماضي، وينفصل العلم عن تاريخه فيتأزم العلم وتضرب مؤامرة
الصمت على مصادره بنزعة قومية شوفينية تقترب أحيانًا من
العنصرية كباعث وراء المركزية الأوروبية.
ولا يوجد تراث طبي عظَّم تراث السابقين عليه كما فعل التراث
الطبي الإسلامي. ويتضح ذلك من الألقاب التي أُعطيت لأطباء
اليونان. فجالينوس هو الفاضل فاضل الأطباء والحكيم الفاضل.
١٥ وديسقوريدس الحكيم، والحكيم الفاضل.
١٦ وأرسطاطاليس الفيلسوف الأكبر، الفيلسوف الأول،
الحكيم، الحكيم الفاضل.
١٧ وروفس الحكيم، وأركيفانس الحكيم، وبقراط مقدم الأطباء.
١٨ فليس لقب الحكيم وقفًا على أرسطو. ولقب الفاضل لقب
علمي يجمع بين العلم والأخلاق، النظر والصدق، الحكمة والأمانة
مثل الفاضل من المهندسين، وأحيانًا يذكر الأطباء بلا ألقاب
كأسماء فرضت نفسها على تاريخ العلم دون ما حاجة إلى تعظيم
وإجلال.
أما بالنسبة إلى الموروث فلا يذكر ابن سينا التراث الطبي
السابق عليه لأن ابن سينا كعادته في موسوعاته الفلسفية
الثلاثة، «الشفاء»، و«النجاة»، و«الإشارات والتنبيهات» صامت
على مصادره، محاولًا تجاوز التاريخ إلى البنية والتحول من
النقل إلى الإبداع. ويستثني ابن سينا من ذلك الصمت الكندي
والرازي. ويذكر الكندي باعتباره طبيبًا، ولكن في أغلب الأحوال
باعتباره حكيمًا طبيعيًّا مستمدًّا منه بعض المصطلحات العربية
الموروثة للعلل الأربعة، المادية والفاعلية والصورية والتمامية
وهي الغائية كما استقر الرأي عليها فيما بعد.
١٩ كما يحيل ابن سينا إلى حنين بن إسحاق الطبيب وليس
المترجم معتمدًا عليه في جمع مادته الطبية. ولا يشير إلى علوم
إسلامية نقلية أو عقلية نقلية أو عقلية خالصة عند متكلم أو
صوفي أو أصولي بالرغم من تعرضهم أيضًا لبعض الجوانب الطبية مثل
حديث المتكلمين عن الجسم، والصوفية عن الحواس، والأصوليين عن
المنافع والأضرار البدنية في الطهارة. ويشير إلى الرازي مرة
واحدة في الكتاب الثالث وهو صاحب «الحاوي» أكبر موسوعة طبية
قبل «القانون».
ويقل الموروث شيئًا فشيئًا بالتحول من التشخيص في الأمور
الكلية إلى الأمراض الجزئية للأعضاء أو لغير الأعضاء. ويكاد
يختفي في العلاج أي في الطب العملي في الأدوية المفردة
والمركبة. فتقل الإحالة إلى العناية الإلهية وإلى تجلي حكمة
الله في الكون تعبيرًا عن
فَتَبَارَكَ
اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ أو
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ.
وفي موضوع الراضعة وضرورة خلوها من الانفعالات الرديئة مثل
الغضب والضجر والجبن لأن ذلك يفسد المزاج فيفسد الرضاع. يحيل
ابن سينا إلى نهي الرسول عن استظئار المجنونة لأن سوء خلقها قد
يؤدي إلى سوء العناية بتعهد الصبي وإخلال مداراته.
٢٠ هذا بالإضافة إلى مفاهيم الخلق والعناية والتي
تتحول إلى مفاهيم طبية علمية في منافع الأعضاء والأدوية. وكل
ذلك بداية بالحمدلة والبسملة وختامًا بها مما يضفي على الكتاب
روح الموروث بعد تمثلها للوافد.
ومع ذلك فالدافع على تأليف كتاب «القانون في الطب» محلي صرف،
بناءً على سؤال من بعض الإخوان لتأليف كتاب في الطب يشمل
قوانينه الكلية والجزئية، بين الشرح والاختصار. وهو كتاب ضروري
لكل من يدعي صناعة الطب ويريد التكسب بها. ومن ثم لا بد من
علمه وحفظه. فإنه يضم أقل القليل للطبيب والزيادة عليه أمر غير مضبوط.
٢١ وكان ابن سينا ينوي إن أخر الله في الأجل ومساعدة
القدر أن يعيد تأليفه لأن الكتاب مجرد صياغة أولى.
٢٢
(٣) الأنا والآخر وحدة العمل العلمي
ويظهر التمايز بين الأنا والآخر في كتاب «القانون في الطب»
وفي نفس الوقت تظهر وحدة الكتاب كعمل علمي بالرغم من اختلاف
مصادره الشرقية والغربية خاصة اليونانية. ويظهر هذا التمايز في
استعمال الضمائر، ضمير المتكلم المفرد «أقول» أو الجمع «نقول»
أو «قلنا» أو «عندنا» في مقابل «يُقال» أو «قال قوم» أو «قال
بعضهم» أو «قالوا».
٢٣ ولم ترد «يقول» على الإطلاق مما يدل على أن الغاية
من ذكر القدماء ليس هو مجرد تكرار القول ونقله وتقليده
والتبعية له.
٢٤ واستعمال مبني للمجهول وكذلك استعمال الفاعل القوم
أو البعض يدل على أن المهم هو القول وليس الشخص أو الجماعة.
وكذلك استعمال لفظ «آخر» على العموم تدل على التمايز المبدئي
بين الأنا والآخر بصرف النظر عن هوية هذا الآخر. فالمهم أن
يكون له قول معروف وجزء من التراث الطبي. وقد يظهر التمايز بين
الأنا والآخر في عبارة واحدة مثل «فهذا قوله ونقول»، «قال …
ونحن نقول»، «كلامنا في الأذهان في هذه الجملة على شرطنا».
٢٥ وأحيانًا تُستعمل أفعال أخرى غير القول مثل أفعال
الظن أي الدخول إلى أفعال الشعور وأنماط الاعتقاد فيما وراء
القول وفيما تحت اللسان.
٢٦ كما يشير ابن سينا إلى تقابل آخر بين القدماء
والمحدثين دليلًا على التواصل الحضاري والاختلاف في الزمان
وعادة ما يكون القدماء أفضل من المحدثين تواضعًا وعلمًا، وأن
المتقدمين أفضل من المتأخرين حتى ولو كان القدماء هم الآخر
والمحدثون هم الأنا.
٢٧ وذلك كله في إطار من تواضع العلماء دون ادعاء أو غرور.
٢٨
وبتحليل مضمون الأفعال التي تذكر قبل أطباء الآخر خاصة
جالينوس وبقراط يتضح تنوعها بين أفعال الذكر والتسمية والنسبة
والحكاية والظن الرأي والشهادة والزعم، وأن أقلها ذكرًا هي
أفعال القول. فابن سينا يتعامل مع التراث الطبي السابق
ويراجعه، ويتحقق من صدقه، وليس مجرد راوٍ أو ناقل له.
فالبداية بجالينوس تعني البداية بالتراث الطبي الإنساني بعد
تعريب الطب اليوناني ونقله إلى اللسان العربي. فهو مصدر العلم
الطبي القديم فهو أول من عرف تشريح أصابع الرجل، ويشير إلى
جالينوس على أنه أول من دل على وجود العناية والحكمة في البدن
بالعقل الخالص والتجربة الطبيعية وإن لم يسندها إلى الوحي الذي
لم يبلغه. ويقارن ابن سينا بين رأي جالينوس ورأي الفيلسوف
الأول دون الإفاضة فيه لأن مكانه في علم آخر هو التراث
اليوناني ككل وحل التناقضات فيه كما فعل الفارابي في حل
التناقض الفلسفي بين أفلاطون وأرسطو في «الجمع بين رأيي
الحكيمين». فقد اختلف أرسطو وجالينوس في سبب الشيب. فهو عند
أرسطو الاستحالة إلى لون البلغم. وعند جالينوس النكرج الذي
يلزم الغذاء الصائر إلى الشعر. وتتم مقارنة جالينوس بديسقوريدس
في الأدوية المفردة دون تبعية.
٢٩
كما يتحقق ابن سينا من صدق الرواية التاريخية التي تنسب إلى
جالينوس أحد الأقوال كما هو الحال في علم الحديث. فقد يكون
الخطأ في السند أو في المتن. وأحيانًا يذكره لإثبات حكايات
طبية قديمة أقرب إلى الصدق منها إلى الكذب. كما يحكي التدبير
عن بقراط.
٣٠
ولا يحال إلى أطباء اليونان فقط فيما أوردوه بل أيضًا فيما
لم يثبتوه إحساسًا بالإضافة على ما قاله القدماء والزيادة عليه
بما لم يتركوه، جمعًا بين الإيجاب والسلب وإضافة الأنا إلى
تراث الآخر. فلا يشير ابن سينا فقط إلى ما يثبته جالينوس بل
إلى ما ينساه أيضًا، إلى ما قبله وإلى ما لم يقبله، إلى ما سلم
به وما رفضه.
٣١
ويميز ابن سينا بين القول الخاص والقول العام. فمع أن
جالينوس له رأي خاص في حالة خاصة إلا أنه يطلق الحكم، هو قول
غير سديد. فابن سينا هنا يراجع أحكام جالينوس، ويقارن بينها
وبين موضوعاتها حتى يخصص العموم أو يعمم الخصوص كما هو الحال
في علم أصول الفقه في مبحث العام والخاص. يمنع ابن سينا من
إطلاق القول، ويدرس كل حالة على حدة نظرًا لخطورة التعميم.
٣٢
ويشير ابن سينا إلى أرسطو وإلى أطباء اليونان لبيان الفرق
بين الأسماء والمسميات. فربما كان التمايز بين الأنا والآخر في
الأسماء لا في المسميات. فأرسطو أول من أطلق على الشريان
الأكبر اسم أورطى. وقروح العين سبعة أنواع، أربعة منها في سطح
القرنية يسميها جالينوس قروحًا. كما يسمي الدواء باسم الطبيب
مثل الصابون المنسوب إلى اسقليناوس والدواء المنسوب إلى
قسطيطيبوس. وكذلك كان لبقراط
تسمياته الخاصة.
٣٣
ولا يذكر ابن سينا «قال جالينوس» بل يدخل في أفعال الشعور
وأنماط الاعتقاد مثل الظن والتوهم والرأي والزعم أو من أجل
الحسم واستعمال أفعال الجزم والتيقن. يصف ابن سينا ما يسبق إلى
وهم جالينوس. وينقد زعمه وزعم ديسقوريدس.
٣٤
ويراجع ابن سينا بنفسه
التجارب كي يتحقق من صدق أقوال جالينوس أو بقراط ومن منافع
أدوية ديسقوريدس. ويذكر تجارب السابقين ويراجع عليها أقوالهم.
القول عبارة لها معنى وتحيل إلى شيء في العالم وليست مجرد
ألفاظ منقولة بلا فهم يتم نقلها من حضارة سابقة إلى حضارة
لاحقة لإثبات إبداع السابق وتبعية اللاحق كما هو الحال في
الاستشراق القديم. كما يصف ابن سينا يصفه جالينوس، ويشاهد ما
يشاهد حتى يمكن التحقق من صدق القول. ذكر السابقين ليس تبعية
لهم بل مراجعة لأحكامهم ونقدًا لتراثهم وبناء عليه وتطويرًا
له. و«يبين جالينوس» أي أن عين ابن سينا على الشيء المرئي ثم
نقل ابن سينا على العبارة المقروءة ثم الحكم على قصد جالينوس
وهو البيان. «يرى جالينوس» مع ابن سينا تعني أن جالينوس هو
الشاهد على رؤية ابن سينا وليس ابن سينا هو الشاهد على رؤية جالينوس.
٣٥ فالإشارة إلى جالينوس لا تعني تبعية ابن سينا له
بل شهادة جالينوس له كحجة من التاريخ، وتواتر الصدق بين
العلماء، جالينوس مجرد شاهد على شهادة ابن سينا. الإشارة إلى
أفعاله أيضًا وليس إلى أقواله فحسب كما هو الحال في تقسيم
السنة إلى قول وفعل وإقرار. فقد رخص جالينوس هذا الشراب أو ذاك
ولا يتردد ابن سينا لحظة في تخطئة جالينوس أو بيان تناقض
مذهبه. وقد يكون ابن سينا أعلم بمذهب جالينوس من جالينوس نفسه
حتى ينقده كما قال الغزالي عن علمه بمقاصد الفلاسفة أكثر من
الفلاسفة أنفسهم.
٣٦
وبالرغم من اعتماد كتاب «القانون في الطب» لابن سينا على
مصدرين رئيسيين الوافد والموروث بالرغم من غلبة الوافد على
الموروث إلا أن العمل يتسم بالوحدة والتناسق والبنية المحكمة
والاستدلال المنطقي في الانتقال من كتاب إلى آخر. فكل كتاب
لاحق قائم على الكتاب السابق، كما أن الجزء قائم على الكل في
التشخيص، والمركب قائم على المفرد في العلاج.
٣٧ لذلك يحيل ابن سينا إلى السابق ويبين اللاحق مما
يكشف عن وحدة العمل بالرغم من تقسيمه إلى كتب، وتقسيم الكتاب
إلى فنون، والفن إلى تعاليم، والتعليم إلى جمل، والجملة إلى
فصول (الكتاب الأول) أو تقسيم الكتاب إلى جمل والجملة إلى
مقالات، والمقال إلى ألواح وقواعد، والقاعدة إلى فصول (الكتاب
الثاني)، أو تقسيم الكتاب إلى فنون، والفن إلى مقال (الكتاب
الرابع)، أو تقسيم الكتاب إلى جمل، والجملة إلى مقالات (الكتاب
الخامس). ويذكر ابن سينا بالخطة في أول كل كتاب ما تم إنجازه
منها من قبل وما لم يتم منها بعد من أجل إبراز وحدة العمل
وبنائه المنطقي.
٣٨
ومما يدل على وحدة العمل ما يؤدي إليه تحليل مضمون الأفعال
وأزمنتها من حديث في الماضي عما تم إنجازه ثم الحديث في
المضارع عما يتم فعله الآن ثم الإعلان في المستقبل عما سيتم
تناوله فيما بعد. وتغلب أزمنة المضارع على الماضي، كما تغلب
أزمنة الماضي على المستقبل أي أن الأولوية للحديث الجاري على
ما تم الماضي وعلى ما سيتم في المستقبل. وتتكرر الأفعال،
وأكثرها فعل الذكر بمشتقاته المختلفة.
ففي أفعال الماضي تكون متصلة في غالبها بضمير المتكلم الجمع
مثل، تكلمنا، استوفينا، وفينا، فرغنا، ذكرنا، أوردنا، قلنا،
شرحنا، ختمنا، قدمنا، أوردنا، أشرنا، حققنا، أخَّرنا، بيَّنا.
والبعض الآخر وهو الأقل مجرد فعل ماضٍ متصل بضمير المخاطب مثل:
وقفتَ، علمتَ، عرفتَ. ومجموعة ثالثة من الأفعال مجرد فعل ماض
بلا ضمير مثل: مضى، بقي، تقدم، سلف. ومجموعة رابعة أفعال ماضية
مبنية للمجهول مثل: بُيِّن، عُلم، ذُكر. وقد يجمع بين فعلين في
جملة واحدة من زمن واحد أو من زمنين مختلفين. وقد يقرن بالفعل
المفعول به الضمير المذكر والمؤنث أو الشيء نفسه مفردًا أو
جمعًا. وأكثر الأفعال ذكرًا ذكرنا ثم تكلمنا وقلنا ثم بيَّنا.
٣٩
وفي أفعال المضارع سواء الصيغة الخبرية أو صيغة الأمر، أفعال
الإثبات أم النفي تذكر أفعال نذكر ثم يجب ثم لنتكلم ثم نبتدئ
ثم نؤخر ثم يكون، ثم نؤخر، فلنقل، يفعل، فاطلب، تستقصي،
فليتأمل، فيكفي، ارجع، يسهل، فلنبدأ، يستعمل، يشرح، أستعين،
يوافق، نريد، اقرأ. وأقلها المبني للمجهول مثل يؤخذ، والنفي
مثل لا تطول.
٤٠
وفي أفعال المستقبل يأتي سنذكر في المقدمة ثم سنعلم، سنبين،
سنوضح، سنتكلم.
٤١ وأحيانًا يرد اسم المفعول المفرد مثل: المذكور،
الكافي أو الجمع مثل متكلمون أو النفي مثل لا حاجة، في غير هذا الموضع.
٤٢ وقد يكون الإعلان عن نهاية جزء أو فقرة مثل
الإعلان عن آخر الكلام في كل حرف أبجدي لأسماء الأدوية.
٤٣
هذا التحليل المسهب من سمات منهج تحليل المضمون، ثقيل
الهوامش وربما قليل الدلالة. إنما الأهم هو إعطاء الشواهد على
وحدة العمل العلمي بالرغم من تنوع المصادر عن طريق الإحالات
المستمرة إلى السابق والتذكير به والاستدراك عليه والإعلان عن
اللاحق والتنويه به والانتظار له حتى تظل البنية قائمة وحاضرة
داخل هذا الكم الهائل من التجميع. ومع بعض المغالاة، تتحول
مادة تحليل المضمون إلى قصد وغاية.
(٤) علم الطب والحكمة الطبيعية
الطب جزء من العلم الطبيعي لدراسة البدن في سلم الطبيعة،
نزولًا من البدن إلى الحيوان إلى النبات إلى المعادن إلى
الجماد إلى العناصر الأربعة أو صعودًا من العناصر الأربعة إلى
الجماد إلى المعادن إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان من حيث
هو بدن. فعلم الطب القديم فلسفة طب أكثر منه علم طب. هو تحقق
عيني للحكمة الطبيعية، أقرب إلى فلسفة الطبيعية منه إلى تشريح
البدن ووظائف الأعضاء. يستمد الطب مبادئه الأولى من العلم
الطبيعي. فعلم الطب علم جزئي داخل علم الطبيعة باعتباره علمًا
كليًّا. يعتمد على مفاهيم طبيعية مثل العناصر والمزاج والأخلاط
والأرواح والأسباب. والصلة بين الطب والطبيعة مثل الصلة بين
الفقه والأحكام أي بين الفقه وأصول الفقه.
٤٤ وهنا تظهر وحدة العلوم وبنيتها الداخلية في الصلة
بين النظر والعمل، بين النظرية والتطبيق، بين الأصل والفرع كما
تجلى ذلك في الاجتهاد. الفلسفة الطبيعية أساس الطب. والفيلسوف
هو المختص بالمبادئ العامة التي يقوم عليها الطب. الطب مجرد
علم طبيعي وصفي يقوم بوصف أجزاء البدن دون البحث عن أصولها
النظرية الطبيعية؛ لذلك كان الكتاب الأول «في الأمور العامة»
أقرب إلى الفلسفة الطبيعية منه إلى
علم الطب. وجالينوس فيلسوف
وطبيب. يبرهن على أوائل العلم الطبيعي كفيلسوف وليس كطبيب.
ويتكلم في المزاج من حيث إنه فيلسوف وليس طبيبًا. والحديث عن
الخلق وتكوينه حديث فلسفي لا طبي. وأمور الأخلاط مباحث لا تليق
بالأطباء بل بالفلاسفة. والآراء وتعددها حول هذه المبادئ
العامة والأمور الكلية لا يتكلم فيها ولا يحسمها إلا الفيلسوف
لا الطبيب. والحديث عن وحدة القوى الطبيعية بالرغم من تعددها
سواء على مستوى البدن أو النفس للفيلسوف لا للطبيب. لا يحتاج
الطبيب إلى معرفة الأصول النظرية التي يقوم عليها علمه. إنما
يحتاج إلى أقل القليل منها. والفيلسوف هو وحده القادر على
تناولها والنظر فيها والتحقق من صدقها.
لذلك كان الطب جزءًا من الطبيعيات العملية أي الاستفادة
بالطبيعة في معرفة قوانين الجسد في حالتي الصحة والمرض. ينقسم
الطب إذن إلى نظري وعملي، وكلاهما علم نظري. النظري يفيد علم
الآراء فقط دون علم العمل مثل العلم بالأمزاج والأخلاط والقوى
وأصناف الأمراض والأعراض والأسباب. والعملي يختص بكيفية العمل
والتدبير مثل حفظ صحة البدن وعلاجه. ليس العمل هو الممارسة بل
هو علم العمل.
٤٥ والعملي جزءان: الأول تدبير الأبدان الصحيحة أي
علم حفظ الصحة. والثاني تدبير البدن المريض أي علم العلاج.
كتاب «القانون في الطب» هو إذن تطبيق عملي للحكمة الطبيعية في
أحد فروعها وهو البدن. الطب جزء من الحكمة العملية لما كانت
الطبيعة هي الحكمة النظرية.
ويرتبط الطب بالجغرافيا.
فالجغرافيا هي البيئة الطبيعية للطب الطبيعي وكلاهما جزء من
الحكمة الطبيعية في السماء والعالم وفي علم الأنواء. ولما كانت
الجغرافيا محلية بالضرورة فإن الطب يكون أيضًا محليًّا
بالضرورة. فلا توجد جغرافيا يونانية لطب عربي ولا جغرافية
عربية لطب يوناني.
وتتفاوت الأقاليم في الاعتدال طبقًا للهواء، كما تتفاوت
طبائع الشعوب وأمزجتهم. فالهندي غير الصقلبي، والصقلبي غير
الهندي في حين أن الهندي مثل الهندي، والصقلبي مثل الصقلبي.
٤٦ وأقرب الأنواع من الاعتدال هو الإنسان. وبالنسبة
للشعوب أقربها إلى وسط الأرض أقربها إلى الاعتدال، وأقربها إلى
طرفيها أقربها إلى التطرف. أهل الشمال أرطب وأبرد وأهل الجنوب
أيبس وأحر.
٤٧ وليس الخروج عن الاعتدال بسبب القرب من الشمس فهذا
اعتقاد فاسد. ويقوم ابن سينا بنقد الأفكار الشائعة ويكتب في
ذلك رسالة مستقلة نظرًا لأن وظيفة كتاب «القانون» هو العرض
أكثر من النقد، والتجميع والتركيب أكثر من التفتيت والتحليل.
ويعقد ابن سينا فصولًا مطولة للطب الجغرافي في تأثير الهواء
المحيط بالأبدان وطبائع الفصول وأحكامها، وموجبات الرياح
والمساكن البحرية والقبلية، وأيام البحران وأدواره، وأيام
الحميات قبل صياغتها عند ابن خلدون في نهاية المرحلة الأول
للحضارة الإسلامية وعند مونتسكيو في القرن الثامن عشر في
العصور الحديثة الغربية وعلوم البيئة الحالية.
٤٨ كما يرتبط الطب بعلوم النجوم نظرًا لأثر عالم
الأفلاك على العالم الأرضي وليس بعلم أحكام النجوم كما هو
الحال عند إخوان الصفا.
٤٩
والطبيعة تصحح نفسها بنفسها. فهي خير معالج ويفرض الطب
الطبيعي العلاج الطبيعي. ولا يتم علاج بالجراحة والاستئصال،
استئصال الطبيعة إلا عند الضرورة.
٥٠ وتقوم الطبيعة على مفهوم الاعتدال. والمرض هو
فقدان الاعتدال إلى التطرف، بغلبة عنصر من عناصر الطبيعة على
باقي العناصر في المزاج والأخلاط. وهو أقرب إلى فلسفة الطب منه
إلى علم الطب وإلى فلسفة الطبيعة منه إلى علم الطبيعة، وإلى
طبيعيات القدماء، عش وفقًا للعقل، منه إلى طبيعيات المحدثين في
الغرب، قهر الطبيعة.
٥١
ويكون العلاج الطبيعي عن طريق الرياضة البدنية وتدليك الجسم
والأعضاء. فالطب طبيعي، أسبابه طبيعية، وأمراضه طبيعية، وعلاجه
طبيعي، بتحويل اللاطبيعي إلى طبيعي، ومن الخروج على الطبيعة
إلى العود إلى الطبيعة. والحمام وطقوسه جزء من العلاج الطبيعي.
لذلك ازدهرت الحمامات في المدن العربية الإسلامية.
وما زالت حتى الآن في المغرب وتونس بعد أن فقدتها مصر. وهو
ما يسمى حاليًّا الحمام التركي قبل أن يتحول إلى تجارة في جنوب
شرق آسيا وإلى تراث وطني في شمال أوروبا خاصة فنلندا «الساونا»
ثم استيراده في الأندية الرياضية والفنادق الكبرى عندنا. وكذلك
الاغتسال بالماء البارد أحد وسائل العلاج. وقد تكون هذه هي
الحكمة من الوضوء والاغتسال المستمر. ويضم العلاج الطبيعي
العلاج بالنباتات. لذلك ارتبط علم النبات بعلم الطب من خلال
علم الصيدلة. وما زال العلاج بالأعشاب قائمًا بالممارسة من
خلال الطب النبوي الشعبي أو من خلال علم الصيدلة الذي يقوم أحد
مدارسه على العلاج الطبيعي، بعيدًا عن المواد الكيميائية التي
قد تكون لها آثار جانبية لأنها تدخل الكيمياء في الأنسجة
الطبيعية، وتزاحم الطبيعة بالصنعة. كما يرتبط العلاج الطبيعي
بعلم الأغذية، فالمعدة بيت الداء وأساس الدواء. الطبيعة إذن هي
التي تسيطر على المادة وتُطيعها.
٥٢
(٥) الطب الفلسفي أو فلسفة الطب
يتكون كتاب «القانون في الطب» لابن سينا من خمسة كتب. الأول
«في الأمور الكلية في علم الطب»، والثاني «في الأدوية
المفردة»، والثالث «في الأمراض الجزئية الواقعة بأعضاء الإنسان
عضوًا عضوًا من الفرق إلى القدم ظاهرها وباطنها»، الرابع «في
الأمراض الجزئية التي إذا وقعت لم تختص بعضو وفي الزينة»،
الخامس «في تركيب الأدوية وهي الأقراباذين». وتنتظم في ثلاثة
مجلدات. الأول ويضم الكتابين الأول والثاني، والثاني ويضم
الكتاب الثالث، والثالث ويضم الكتابين الرابع والخامس.
٥٣ وتتفاوت الكتب الخمسة فيما بينها من حيث الكم.
أكبرها الثالث ثم الرابع ثم الثاني ثم الأول وأصغرها الخامس.
٥٤
وإذا كان الكتاب الأول يشمل الطب الفلسفي أو فلسفة الطب
(١٤٪)، والكتابان الثالث والرابع يشملان الأمراض (٦١٪)،
والثاني والخامس الأدوية المفردة والمركبة (٢٥٪)، فإن الطب
يشمل ثلاثة أرباع العلم (٧٥٪)، والصيدلة الربع الأخير (٢٥٪).
كما تختلف الجمل والمقالات والفصول فيما بينها أيضًا من حيث
الكم نظرًا لخضوع الكم لبنية الموضوع. كما تختلف فيما بينها من
حيث القول الإجمالي والقول التفصيلي كما هو الحال في كثرة
التفصيل في الكتاب الأول.
وتكثر الدلالة في الكتاب الأول لأنه خاص بالطب النظري أو
فلسفة الطب أو الطب الفلسفي وهي الأمور العامة. وتقل تدريجيًّا
في الطب المهني أو في الأمراض الخاصة بكل عضو أو العامة للجسم
أو في الأدوية المفردة أو المركبة من حيث أسماء الأعلام وأسماء
الأدوية أو من حيث الأفكار عن الخلق والعناية الإلهية.
وأحيانًا يصبح الكتاب مهنيًّا حرفيًّا بلا دلالة فلسفية مثل
الكتاب الثاني، أسماء الأدوية مرتبة ترتيبًا أبجديًّا فهو ممل،
لا فكر ولا تحليل ولا توجه.
ولا ينفصل علم الطب عن علم الصيدلة. فالتشخيص مقدمة للعلاج
كما أن النظر شرط العمل. علاقة الطب بالصيدلة علاقة النظر
بالعمل، والمعرفة بالسلوك، والفهم بالتغيير. فالكتابان الأول
والثاني عن الأمور العامة والأدوية المفردة أقرب إلى الطب
النظري. والكتب الثالث والرابع والخامس عن الأمراض الخاصة بكل
عضو والأمراض العامة للجسم كله والأدوية المركبة أقرب إلى الطب
العملي الحافظ للصحة والمفيد للصحة أي الطب الوقائي والطب
العلاجي.
وتظهر فلسفة الطب في تقديم الأمور الكلية على الأمور
الجزئية، والمجملة على التفصيلية، والقوانين على الممارسة،
والأصول على الفروع، والعموم على الخصوص كما هو الحال في مباحث
علم أصول الفقه، في تصور عام شامل للكون. فالأجزاء لا تؤدي إلى
الكل، بل الكل هو الذي يؤدي إلى الأجزاء. فالكتاب الأول «في
الأمور الكلية»، والكتاب الثالث «الأمراض الجزئية للأعضاء»،
والكتاب الرابع «الأمراض الجزئية لغير الأعضاء». وفي نفس الوقت
الأجزاء نوعان، الأمراض الجزئية للأعضاء، فلكل عضو مرض،
والأمراض الجزئية لغير الأعضاء. فالمرض قد يكون عامًّا. وهنا
يتم الانتقال من الجزء إلى عدة أجزاء أو من الجزء إلى الكل.
وأسبقية الكل على الجزء تصور فلسفي. وأسماء كتب الطب المشهورة
في التراث الطبي الإسلامي تدل على هذا العموم والشمول مثل
«الحاوي» للرازي، و«القانون» لابن سينا، و«الكليات» لابن رشد.
٥٥
وابن سينا على وعي منهجي بأولوية الكل على الجزء في قسمي
الطب، النظري والعملي. فالنظري تشخيص ووصف. والعملي علاج
وشفاء. وفي الأدوية المفردة يتكلم في كلياتها قبل جزئياتها.
وفي الأمراض الواقعة عضوًا عضوًا يبدأ بتشريح العضو ومنفعته ثم
تشريح كل عضو على حدة أيضًا، منتقلًا من الكل إلى الجزء. وفي
الصحة يبدأ بالمبادئ العامة في المحافظة عليها، والقول المطلق
على كليات الأمراض وأسبابها وطرق الاستدلالات عليها وطرق
معالجتها بالقول الكلي. وفي الأمراض الجزئية يبدأ بالحكم الكلي
في حد مرض وأسبابه ودلائله قبل الأحكام الجزئية ثم يعطي الحكم
الكلي في المعالجة قبل المعالجات الجزئية. ويدرس أسباب الوجع
على الإطلاق قبل أسباب وجع وجع
٥٦ والكلام في العظام والمفاصل والعصب والمفصل والوتر
والرباط والأعراض والدلائل والنبض يبدأ بقول كلي. والكلام في
أجناس القوى والعلاج وتدبير المشايخ وتدبير المسافر بأقوال
كلية. وقد يبدأ القول الكلي الموضوع نفسه نظرًا لأهمية نوع
الخطاب على موضوع الخطاب. والقول والكلام الكلي نوع واحد.
والقول الكلي هو الذي يسمح بالاستدلال، والانتقال من المبادئ
العامة إلى الموضوعات الخاصة. فالاستدلال على أمراض الرأس من
الاستدلال الكلي من أفعال الدماغ.
٥٧ والكلام في الصداع والعلامات الدالة
على أصنافه وأقسامه وأحوال
العين والرمد ومعالجات الأورام العارضة للحلق والتنفس والأسنان
وأوجاع الصدر والجنب ومعالجتها وأورام الكبد والطحال كل ذلك
بقول كلي. والكلام في الحميات وأنواعها ومعالجاتها وفي
الجراحات والقروح والخلع والكسر والسموم كل ذلك بقول كلي
٥٨ الكلام المجمل في مقابل التفصيلي مثل الكلام الكلي
في مقابل الجزئي. فالكلام في الجراحات وفي معالجات تفرق
الاتصال وأصناف القروح والوقي والضربة والسقطة وفي منفعة الرجل
كلام مجمل قبل القول التفصيلي.
٥٩ والكلام في الأصول سابق على الكلام في الفروع خاصة
في طرق الاستدلال. والقوانين العامة للعلاج تسبق الممارسات
الخاصة، كما يتقدم العموم على الخصوص.
٦٠
وفي العلاج تأتي الأدوية المفردة قبل الأدوية المركبة. فإذا
كان التشخيص يبدأ من الكل إلى الجزء فإن العلاج بالأدوية يبدأ
بالمفرد قبل المركب أي بالجزء قبل الكل. لذلك يأتي الكتاب
الثاني «في الأدوية المفردة» قبل الكتاب الخامس «في الأدوية
المركبة». والمفرد سابق على المركب تصور فلسفي. ومع ذلك سرعان
ما يؤدي البحث في الأدوية المفردة والمركبة إلى البحث عن
قوانين الطبيعة التي تعرف من الأدوية المستعملة في الطب قبل
معرفة قوى الأدوية الجزئية. فالكل سابق على الجزء. فالأدوية
المفردة لها أصول كلية. وعلى طبيب أن يعرف القوانين الكلية لها.
٦١
وتقوم فلسفة الطب عند ابن سينا على مفاهيم أربعة متداخلة:
الأركان، والأخلاط، والأمزجة، والاعتدال، وهي مفاهيم مستمدة من
الحكمة الطبيعية. فالأركان الأربعة هي العناصر الأربعة. وهي
نفسها التي يتكون منها جسم الإنسان. وهي أجسام بسيطة أولية
للبدن لا تنقسم. ويحدث بامتزاجها الأنواع المختلفة من الصور.
يتسلمها الطبيب من الفيلسوف الطبيعي. وهي أربعة: الأرض والماء
وهما ثقيلان، والهواء والنار وهما خفيفان. ثم تتحول الأركان
إلى أمزجة أربعة: اليبوسة، والرطوبة، والبرودة والحرارة. الأرض
وسط الكل وعليها باقي العناصر والأمزجة على السطح المتحرك من
الفلك. وقد يكون المزاج مركبًا مزدوجًا مثل البارد اليابس،
والبارد الرطب، والحار الرطب، والحار اليابس، فاليابس والرطب
عنصران مشتركان دائمًا مع البارد والحار. البارد للاستمساك
والثبات والحار للتخلخل والتكاثف.
والمزاج كيفية حاصلة من تفاعل الكيفيات المضادة في حد ما.
يتسلمه الطبيب من الطبيعي على سبيل الوضع لأنه غير بيِّن
بنفسه. وهو على نوعين أول وثانٍ. الأول يحدث من العناصر.
والثاني يحدث عن أشياء لها مزاج إذا اختلفت كان لها مزاج ثانٍ
عن طبيعة أو عن صفة.
٦٢ تمتزج العناصر الأربعة التي منها تتكون جميع
المركبات المعدنية والنباتية والحيوانية فيفعل بعضها في بعض
حتى تستقر على تعادل أو تغالب فيما بينها. وإذا استقرت على شيء
فهو المزاج الحقيقي. وإذا حصل المزاج في المركب هيأه لقبول
القوى والكيفيات التي من شأنها أن تكون له بعد المزاج.
٦٣
والأخلاط كالمزاج
تتكون من العناصر الأربعة وتتولد فيها. وهي نوعان: محمود ويدخل
في التغذي وغير محمود يتحول إلى الإخراج. كما أن المزاج أيضًا
يكون فاضلًا وغير فاضل وهو تعبير إنساني أخلاقي عن وضع طبي طبيعي.
٦٤ وقد يكون المزاج في الأدوية المفردة. لذلك كان
المزاج قسمين، معتدل في الناس، ومعتدل في الأدوية. المزاج هو
دليل الحياة والمؤشر عليها. لذلك يتحدث ابن سينا نبض الأمزجة
بما في ذلك نبض الفصول والبلدان أي إيقاع الطبيعة وموسيقى الكون.
٦٥ وحياة الإنسان كلها إيقاع ونبض، في النوم واليقظة،
والرياضة، والاستحمام، والأوجاع، والأورام، والعوارض النفسانية
زيادة ونقصًا. والزمان في الطب مثل الزمان في الطبيعة مثل
تحديد وقت استعمال الحجامة ومدتها.
والمزاج الأمثل هو
المزاج المعتدل في النفس والبدن والبيئة والإقليم، وهناك
ثمانية أوجه للاعتدال بين النوع والشخص والعضو والإقليم.
٦٦ ومن ثم تكون مهمة العلاج الانتقال من التطرف إلى
الاعتدال، ومن المزاج غير الفاضل إلى المزاج الفاضل، ووصف
كيفية تدبير المزاج الفاضل واستصلاح المزاج الأزيد حرارة
والأزيد برودة، ومعالجة أمراض سوء المزاج، وإصلاح مزاج العصب،
والتعرف على دلائل الأمزجة وعلامات سوء المزاج الحار والبارد
والرطب واليابس، ودلائل آفات المعدة غير المزاجية وعلامات
أمزجة الطحال.
٦٧
والعلم بأسباب الصحة
والمرض يتطلب العلم بالعلل الأربعة، المادية والفاعلية
والصورية والتمامية أي الغائية، وهو تصور مستمد من الطبيعيات.
والرجل والمرأة مثل الصورة والمادة.
٦٨ وترتيب الأعضاء من أعلى إلى أسفل تصور فلسفي بناءً
على سلم القيمة كما وضح في نظرية الفيض.
٦٩ فالأهم هو الأعلى في مقابل الأدنى، والجوهر في
مقابل العَرض. فالأورام تصعد إلى أعلى، والثبور يهبط إلى أسفل،
وهما حركتان عكسيتان، واحدة إلى الخارج، والثانية إلى الداخل.
ويشرح ابن سينا الجسم من أعلى إلى أسفل من المفرق إلى القدم أو
من الداخل إلى الخارج، العظم والعضل والعصب والشرايين
والأوردة. ويتضح ذلك في الكتاب الثالث في ترتيب الأمراض من
أعلى إلى أسفل، من الرأس والدماغ حتى الخصيتين.
٧٠ كما يظهر تصور الخادم والمخدوم، المرءوس والرئيس
ليشير إلى التصور الرأسي للعالم في تحديد العلاقة بين طرفين
منذ أن وضع الكندي في ثنائية الخلق أن العالم عالمان، وضاعفها
الفارابي فأصبحت نظرية الفيض في التصور الهرمي للعالم.
٧١
(٦) الطب علم إنساني
ويتجاوز علم الطب العلم الطبيعي كي يصبح علمًا إنسانيًّا
مرتبطًا بالحياة وبمراحل العمر. الطب عامل مساعد للحياة ولكنه
لا يستطيع أن يوقف مسار الحياة والتطور أو إرجاع مراحل العمر
إلى الوراء مثل «رجوع الشيخ إلى صباه» في تراثنا القديم أو
عقاقير العجوز المتصابي وأدوية الشباب الدائم وإطالة العمر،
والقضاء على ضعف الشيخوخة وأسطورة إكسير الحياة.
لذلك أسس ابن سينا الطب الارتقائي الذي يتتبع مراحل العمر،
طب الأطفال، وطب المراهقة، وطب الشيخوخة. فظهور الأسنان مرتبط
بمراحل العمر الأربعة: الأولى سن النمو وهو سن الحداثة من
السنة الأولى حتى الثلاثين، والثانية سن الوقوف وهو سن الشباب
من الثلاثين حتى الأربعين، والثالثة سن الانحطاط مع بقاء القوة
وهو سن المكتهلين من الأربعين حتى الستين، والرابعة سن
الانحطاط مع ظهور الضعف في القوة، وهو سن الشيوخ. من الستين
إلى نهاية العمر. وينقسم سن الحداثة إلى أربعة مراحل: الأول سن
الطفولة حيث يكون المولود غير مستعد الأعضاء للنهوض، والثانية
سن الصبا بعد أن ينهض الطفل وقبل الشدة ونبات الأسنان قبل
المراهقة، والثالثة سن الغلامية والرهاق، والرابعة سن الفتوة.
وتظهر مراحل العمر في علامات مثل ألوان البول واختلافه بين بول
الصبيان وبول المشايخ.
٧٢ ويرتبط الطب الارتقائي بالتربية الرياضية للبالغين
بعد تدبير الأطفال إذا ما انتقلوا إلى سن الصبا. فيتحدث ابن
سينا عن الرياضة وأنواعها ووقتها والانقطاع عنها والتدليك
والاستحمام والاغتسال بالماء البارد. وللتغذية دور في تقوية
الأعضاء الضعيفة وتنمية الأعضاء الصغيرة، وللمشايخ تدبير خاص
في التغذية والشراب وتفتيح الشرايين والتدليك والرياضة.
٧٣
ولما كان علم الحيوان أحد أقسام العلم الطبيعي كان الطب
البيطري أحد فروع الطب الطبيعي مثل الطب البشري. فالطبيعة
الحية واحدة، والقوى الحياتية واحدة مع اختلاف نوعي مثل اختلاف
أبوال الحيوانات عن أبوال الناس.
٧٤
وهناك فرق في الدرجة بين طب الرجال وطب النساء نظرًا للفرق
بين الجسدين في بيئة ثقافية وشرعية تقوم على هذا التمايز. ولا
حياء في الدين. وليس عارًا على الطبيب معرفة ذلك وعلاجه.
فأبوال النساء مختلفة عن أبوال الرجال. وبول النساء أغلظ وأشد
بياضًا وأقل رونقًا من بول الرجال. وبول الرجال يكدره التحريك
على عكس بول النساء. ونبض الذكور غير نبض الإناث، ونبض غير
الحبالى غير نبض الحبالى. ويُعذر الطبيب فيما يعلم من التلذيذ
وتضييق القبل وتسخينه وتفصيل ملذذات الرجال والنساء، والبحث
فيما يعظم به الذكر وما يضيق به الفرج والمسخنات للقبل.
٧٥
ويشمل الطب الطبيعي النفسي، يرتبط طب الأبدان بطب النفوس كما
هو الحال عند الرازي في «الطب الروحاني» لطب النفوس بعد أن كتب
«الحاوي» لطب الأبدان. والبدن والنفس كلاهما من الحكمة
الطبيعية. بل لقد تأسس علم جديد يجمع بين طب النفوس وطب
الأبدان وهو «علم الفراسة» الذي ألف فيه الرازي وابن سينا،
معرفة أحوال النفس من خلال ظواهرها الجسمية على ما هو معروف في
«علم السيكوفيزيقا» في الغرب الحديث منذ القرن الماضي القائم
على التوازي بين الظاهرة النفسية والظاهرة الجسمية.
وكان أحد أسباب نشأة علم النفس الخالص القائم على الاستبطان.
٧٦ يجمع ابن سينا إذن بين الطب البدني والطب النفسي.
فالطب لديه علم كلي، نفسي بدني، عقلي جسمي، ديني بيئي، إلهي
جغرافي مما يحمي الطب من الوقوع في المنحى التجريبي الخالص ثم
تظهر أزمة العلوم التجريبية كما هو الحال في العالم الغربي
الحديث. هو العلم الشامل الذي من خلاله تصبح الحكمة الطبيعية
علمًا دقيقًا.
يدرس علم الطب الصلة
بين النفسي والجسمي. أما وحدة قوى النفس فمهمة الفيلسوف وليس
الطبيب. وقوى النفس نظرية وعملية مدركة ومحركة
٧٧ ففي الأمراض لعضو عضو يتحدث ابن سينا عن الأمراض
النفسية في أمراض الرأس والدماغ وأكثر مضرتها في أفعال الحس
والسياسة. فأحوال الدماغ هي من الأفعال الحسية والأفعال
السياسية أي التذكر والتفكر والتصور وقوة الوهم والحدس
والأفعال الحركية. يشمل علم الطب هنا الطب الذهني النفسي أو
علم النفس الإدراكي. وتعني السياسة هنا التدبير وهي وظيفة
الدماغ طبقًا لتصور المرءوس والرئيس. وقوة الوهم والحدس دالة
على قوة مزاج الدماغ. ويفسر ابن سينا النوم واليقظة تفسيرًا
فزيولوجيا. فاليقظة حال الحيوان عند انتصاب روحه النفساني إلى
آلات الحس والحركة.
٧٨ وفي الأمراض الدماغية وآفاتها في أفعال الحركة
الإرادية يتحدث عن الدواء واللوى والكابوس والصرع وأسبابه
وأدويته والسكتة القلبية. وفي أمراض العصب يتحدث عن إصلاح مزاج
العصب والفالج والاسترخاء والتشنج والكزاز والتمرد والحذر
والاختلاج. الأول هو الذهان والثاني هو العصاب. وعندما يعرض
لأحوال الفم واللسان يتعرض لاسترخاء اللسان وثقله والخلل
الداخل في الكلام وتشنج اللسان.
٧٩ وبعد الحديث عن السبات والنوم وعلاج السبات والنوم
الثقيل الكائن في الحيات وعن اليقظة والسهر يتعرض لآفات الذهن
واختلاط الذهن والهذيان، والرعونة والحمق، وفساد الذكر
والتخيل، والمانيا وداء الكلب، والمالنخوليا والقطرب والعشق.
والقطرب نوع من المالنخوليا يقع في شهر شباط يجعل الإنسان يفر
من الأحياء ويعيش في المقابر. ومرض العشق نوع من الوسواس شبيه
بالمالنخوليا يستحسن بعض الصور والشمائل وعلامته غور العين
ويبسها ثم الضحك. ومن أمراض العشق ما يصيب العجائز الذين
يجتهدون في العشق وشراء الجواري والإكثار من مجامعتهن
والاستجداء منهن والطرب معهن. فلم ينتهِ العصر الجميل.
٨٠
وهناك أيضًا طب الرحلات والأسفار، وما يطرأ على البدن من
ظواهر بناءً على تغيير البيئات. وهو ما يحدث حاليًّا من تغير
في وظائف الكبد بانتقال الأفارقة من البلاد الحارة إلى البلاد
الباردة مثل أوروبا. ويتضمن تحليل أمراض والحضر وأمراض الرحلات
ودوار البحر وضربة الشمس.
٨١
وأسلوب كتاب «القانون» أسلوب إنساني على عكس ما هو شائع من
طابع تجريدي في علوم الحكمة عامة والعلوم الرياضية والطبيعية
خاصة. كما يستعمل ابن سينا الأسلوب الشخصي بضمير المتكلم
المفرد أو الجمع مما يدل على أن العلم رؤية، والخطاب العلمي
خطاب إنساني شخصي بعيدًا عن الموضوعية الصارمة والتجريد
الرياضي والمعادلات الصورية. ويخاطب ابن سينا القارئ ويشركه
معه في التحليل والاستنتاج في التشخيص وفي العلاج، في الفهم
وفي الممارسة. لذلك تبدأ كثير من الفقرات أو تنتهي أو تتوسط
بفعل «أعلم» وصياغاته المتعددة مثل «أعلم جميع ذلك»، «أعلم هذه
الجملة»، «فاعلم جميع ما قلناه» أو في صياغات أخرى مثل «لتعلم
ذلك»، «كما تعلم»، «حسب أنت ما تعلم ذلك»، «وأنت تعلم جميع
ذلك». وأحيانًا يستبدل بفعل أعلم فعل أعرف وصياغاته المتعددة
مثل «وأنت تعرف ذلك».
٨٢ كما يستعمل ابن سينا عديدًا من التشبيهات الطبية
تجعل أسلوبه في التعبير أدبيًّا مفهومًا مقروءًا. فالطب علم
إنساني في أدوات التعبير وليس فقط علمًا طبيعيًّا مجردًا في
معادلات رياضية أو طبيعية أو تفاعلات كيميائية رمزية. يستعمل
أسلوب التشبيه للتقريب إلى الإفهام فالعين في الرأس مثل
الطليعة في العسكر. ويستعمل نفس الأسلوب لشرح البحران، فالمرض
للبدن كالعدو الخارجي للمدينة، والطبيعة كالسلطان الحافظ لها.
وقد تجري بينهما منجزات خفيفة لا يعتد بها. وقد يشتد القتال
فتعرض علامات وأحوال وأسباب، إما أن يغلب السلطان الحامي أو
العدو الخارجي حتى يقع القتال مرة أخرى. والسلطان إما أن يطرد
العدو كليًّا أو نسبيًّا فالطب سياسة. والبدن دولة.
٨٣
(٧) العقل والتجربة
ويعتمد ابن سينا في كتاب «القانون» بالإضافة إلى التراث
الطبي، الوافد والموروث على العقل والتجربة أي على المنطق
والطبيعة من أجل التصديق، والتحقق من صحة القوانين الطبية
بالتجربة والوصول إلى قوانين أخرى بعد التحقق من صدقها أيضًا
بالعقل والتجربة.
تتعدد الآراء الطبية في التراث الطبي الموروث. ويقارن ابن
سينا بينها، محللًا وناقدًا، قابلًا ورافضًا. فالطب باعتباره
علمًا إنسانيًّا لا يمنع من التعدد واختلاف الآراء لأنه في
النهاية فلسفة طبيعية وممارسة عملية للطب النظري. تتعدد الآراء
في التشخيص والفهم والتفسير، وتتوحد في العلاج أي التعدد في
الأطر النظرية وفي رؤى العالم وتتوحد في المنفعة العملية
وتحقيق المنفعة العامة كما هو الحال عند الأصوليين في تعدد
الاجتهادات النظرية وتوحد المصالح العامة.
وبالرغم من الطابع التجميعي المهني المجرد لمعظم مواد
«القانون» إلا أنه يكشف أحيانًا عن بعض الجدل والحوار بل
الاعتراض الداخلي من خلال الأسلوب مثل «وليس لقائل أن يقول».
٨٤ بصرف النظر عن القائل معروفًا كان أو مجهولًا،
فردًا أو جماعة. فلا يهم نسبة الأقوال إلى أصحابها. يكفي «قال بعضهم».
٨٥ إذ يعترض ابن سينا على القول بأن أحوال البدن
ثلاثة: الصحة والمرض وحالة ثالثة لا صحة ولا مرض. وقد ذكرت
الحالتين الأوليين لأن أحوال البدن ليست ثلاثة ولا اثنتين بل
حالة واحدة، حركة مستمرة من الصحة والمرض أو ملكة تصدر عنها
أفعال. وهذا خطأ في الحدود. ويستعمل ابن سينا أسلوب العالم
المفتوح، أسلوب الاحتمال والظن وليس أسلوب القطع والجزم. يضع
احتمالات متعددة ثم يختار الرأي الأصوب وينتقد بعض أقوال
المتخلفين من أن خير حمَّام ما قدم بناؤه واتسع هواؤه، وعذب
ماؤه. وزاد آخرون قدر الأتون توقد بقدر مزاج من أراد وروده.
٨٦ ولا يلتفت إلى القول بأن الماء لا يرطب الأعضاء
الأصلية. ويصحح ابن سينا أخطاء السابقين مستشهدًا بتراث طبي
آخر هو غالبًا تراث جالينوس تأييدًا لرأيه الصحيح من التاريخ
بالإضافة إلى حكم العقل السليم وتصديق التجربة. ينقد التراث
الطبي السابق الوافد أو الموروث، ولا ينقل دون تمحيص ومراجعة
بناءً على العقل والتجربة حتى يصدر القول الصحيح وهو القول الفصل.
٨٧ يجمع ابن سينا التراث الطبي القديم، الوافد
والموروث، ثم يحاول أن يفهم استدلاله كمنطق ثم التصديق على ذلك
بالتجربة كطبيعي. لذلك جمع طب ابن سينا بين الفهم والتفسير،
الفهم المنطقي والتفسير الطبيعي. لا يضحي بالفهم من أجل
التفسير وإلا وقع في الطب التجريبي، ولا يضحي بالتفسير من أجل
الفهم وإلا وقع في الطب العقلي الخالص، وربما وُجد هذان
التياران عند جالينوس وبقراط. فجالينوس أقرب إلى الطب العقلي،
وبقراط أقرب إلى الطب التجريبي. لذلك فضل المسلمون جالينوس على
بقراط لأن الطب العقلي أقرب إلى الحكمة الشاملة التي تضم النفس
والمنطق والأخلاق. وهو في نفس الوقت طب وصفي يقوم على وصف
البدن. ويعني الوصف إعطاء الأولوية المطلقة للموضوع على
التراث، والقدرة على التخلي عن الأحكام المسبقة والنظريات التي
لا تستقرى من الواقع.
هناك صلة إذن بين الطب باعتباره علمًا طبيعيًّا والمنطق
باعتباره استدلالًا عقليًّا. ومِن ثَم ارتبطت الحكمة المنطقية
بالحكمة الطبيعية وربما فيما بعد بالحكمة الإلهية. فالطب عند
ابن سينا طب عقلي منطقي، يعتمد على قواعد الاستدلال. إذ ترجع
بعض أخطاء الأطباء والممارسين إلى أخطاء في الاستدلال. فإذا
أراد الطبيب أن يحدد معنى الصحة فإنه يحتاج إلى المنطق لأن
الحدود لها شروطها وليس كما يشتهي الأطباء. بل إن علم الطب
نفسه في حاجة إلى حد. والصحة والمرض أيضًا يحتاجان إلى حدود.
والمنطق هو الذي يعطي شروط الحدود.
٨٨ كما يعتمد الطب على منهج القسمة. والقسمة تعتمد
على قدرة العقل على إيجاد بنية مشتركة بينه وبين الموضوع.
فالاعتدال مثلًا له ثمانية أوجه تقوم على القسمة بين الشخص
والنوع والإقليم. وتقسيم أجزاء البدن، وأجزاء كل جزء يقوم على
القسمة. ويبدو طريق القسمة في أول كل كتاب. ففي أول الكتاب
الثاني عن الأدوية المفردة يقسم إلى جملتين: الأولى في
القوانين الطبيعية التي تُعرف من الأدوية المستعملة في الطب،
والثانية الأدوية الجزئية. وتنقسم الأولى إلى ستة مقالات،
والثانية إلى عدة ألواح وقاعدة.
٨٩ كما يظهر القياس بالمعنى العام، قياس الشيء على
مثله وإن لم يفصل في ضروب وأشكال.
٩٠ فيضرب ابن سينا المثل بشيء ثم يقيس عليه لأن
الحالة الخاصة تخضع لقانون عام. وقياس النبض على نبض الفصول.
ويعني القياس هنا مجرد المقارنة أي قياس الشبه أو الدلالة وليس
قياس العلة لأن العلة موضوع التجريب وليس القياس. ربما القياس
هنا أقرب إلى قياس الأولى عند الأصوليين، الحكم على الأكبر
بنفس الحكم على الأصغر لأن الأكثر أولى بالحكم من الأقل. وهو
قياس على الجسم الإنساني وليس قياسًا صوريًّا. هو قياس حسي
مرئي وليس قياسًا صوريًّا مجردًا. قياس عملي وليس قياسًا نظريًّا.
٩١ لذلك يمكن التعرف على أمزجة الأدوية بالقياس.
٩٢
ويظهر لفظ الاستدلال والاستدلالات في الكتاب الثالث عن أمراض
عضو عضو. والاستدلال مع الدليل والأدلة. والدليل في الطب هي
العلامة قبل أن تتحول إلى منطق للاستدلال. والعلامة غير العرض.
العلامة ثابتة والعرض زائل. والاستدلال بالعلامات على الأمراض
من أجل المعالجات. والاستدلال بالعلامات استدلال تجريبي كما هو
الحال في علم الأصول بالاستدلال بالقرائن.
٩٣ ولا يمنع الاستدلال من الاشتباه، ومِن ثَم يحتاج
إلى تأويل مثل الاستدلال على أيام البحران من أجل إحكامها.
٩٤ وقد يجتمع القياس والتجربة، الاستدلال والمشاهدة
طالما أن الاستدلال عيني.
٩٥ وتبرز أحيانًا مفاهيم منطق الأصول مثل الموافقة
والمخالفة والإجماع.
٩٦
أما التجربة فهي الممارسة الطبية والتجارب العلمية التي قام
بها ابن سينا بالإضافة إلى التراث الطبي الوافد والموروث
والاستدلال المنطقي. ولا يذكر ابن سينا اسم دواء جديد إلا
ويضيف إليه أنه مجرب له وأثبت نفعه إما مباشرة أو عن طريق
استعماله عند المرضى. والتجارب إما موروثة من القدماء انتحلها
المحدثون وإما تجارب ابن سينا التي أقام بها إضافة إلى تجارب
القدماء. والتجربة هي الامتحان.
٩٧ ويعتمد ابن سينا في التشخيص على التجربة أيضًا
وليس فقط في العلاج، في تحليل الدم والبراز والبول ومعرفة سرعة
ترسيب الدم.
٩٨ وقد تحولت التجربة إلى مذهب له أنصار.
٩٩
وتجرى التجربة على الأدوية من أجل معرفة أمزجتها. وطرق
تحضيرها بالتجربة تسمى النسخة والجدول أي النسب
١٠٠ ففي الكتاب الثاني عن الأدوية المفردة، في الجملة
الأولى عن القوانين الطبيعية التي تعرف من الأدوية المستعملة
في الطب وهي على ست مقالات، الأولى في تعرف أمزجة الأدوية
المفردة، والثانية التعرف عنها بالتجربة. وإذا كانت الأدوية
تعرف بالقياس أي بالمثل فإنها أيضًا تُعرف بالتجربة ولكن طريق
التجربة مقدم على طريق القياس.
١٠١ والتجربة تهدي إلى معرفة قوة الدواء بالثقة بعد
مراعاة شرائط سبعة.
١٠٢ وهذه القوانين مأخوذة من سرعة استمالتها إلى النار
والتسخين ومن بطء استمالتها ومن سرعة جمودها وبطئه، ومن
الروائح، ومن الطعوم، ومن الألوان، ومن أفعال وقوًى معلومة
لاكتساب دلائل واضحة على قوًى مجهولة ومعرفة ذلك من الطبيعيات.
١٠٣ وقد تعرض للأدوية أحكام بسبب الأحوال بالصناعة مثل
الطبخ والسحق والإحراق بالنار والغسل والإجماد في البرد والوضع
بجوار أدوية أخرى. فللأدوية خصائص داخلية وأخرى خارجية.
١٠٤ ويتم التعامل مع الأدوية مع وضع ألواح مصبوغة
بأصباغها ووضع قانون ودستور لتسهيل الصناعة على طالبيها
لالتقاط منافعها لكل عضو ظاهرًا وباطنًا وهي ستة عشر لوحًا
تتلخص في التعرف على ماهياتها وأنواعها وآثارها ومنافعها دون أسمائها.
١٠٥ وأحيانًا تكون أسماء الأدوية إبداعية صرفة مشتقة
من وظائفها مثل الملطف والمحلل والجالي والمخشن … إلخ دون
الاعتماد على اليونانية أو الفارسية أو الهندية. ويذكر تاريخ
الدواء واستعماله كحجة عملية على منفعته وأثره.
١٠٦
والهدف من التجريب هو البحث عن العلل. إلا أن التعليل موضوع
في أصول الطبيعيات خارج عمل الطبيب. ومع ذلك يتحدث ابن سينا عن
الأسباب والمسببات وكأننا في علم أصول الفقه في مباحث العلة.
السبب هو العلة والمسبب هو الذي جعل السبب سببًا وهو خارج نطاق
في علم أصول الفقه وأدخل في علوم الحكمة. وهناك الأسباب
الخاصة، والأسباب العامة وهي المسببات أو العلل الأولى.
١٠٧ ويهدف العلاج إلى دفع الضرر عن البدن وجلب المنفعة
له حتى ولو كان للدواء آثار جانبية. فقد جبل البدن على ذلك.
١٠٨ وتقوم الطبيعة كلها على جلب المنفعة ودرء الضرر
كما هو الحال في الشرع.
١٠٩ فالشرع طبيعي، والطبيعة شرعية. فالجماع نافع. وكل
الحلال نافع، والحرام ضار. والطبيعة تتحرك تلقائيًّا نحو
النافع وتبعد عن الضار. وإتيان الغلمان ضار وقبيح في الشرع وفي الطبيعة.
١١٠
(٨) الوحي والطبيعة
وكما أن هناك صلة بين الطب والمنطق في القياس والتجربة هناك
صلة بين الطب والإلهيات بظهور مفاهيم الروح والمحرك الأول
والرؤيا الصادقة والخلق والعناية في كتاب «القانون في الطب»
لابن سينا. يستعمل ابن سينا بعض المفاهيم الميتافيزيقية
الدينية في الطب مثل «الروح» و«النفس» بالمعنى العلمي أكثر
منها بالمعنى الديني، بالمعنى الوظيفي وليس بالمعنى العقائدي.
ويعني بالروح أو النفس بالمعنى الطبيعي ما يسري في البدن كقوة مادية.
١١١ فالغضب ينشأ من إثارة القوة في الروح. كما يظهر
مفهوم «المحرك الأول» عند الحديث عن حركة الأعضاء بعنصر النار
واجتماع الحار واليابس والخفة والثقل. فالثقل أعون في كون
الأعضاء وسكونها، والخفة أعون في كون الأرواح وتحركها. والمحرك
الأول هو المحرك للنفس بإذن باريها.
١١٢ وهنا تبدو الأشعرية الكامنة في نسيج الفلسفة
الإشراقية. وبمناسبة ما قاله جالينوس في الرؤيا يضيف ابن سينا
أن الرؤيا الصادقة جزء من أجزاء النبوة مكملًا الوافد بالموروث
وقارئًا له من خلاله.
١١٣
والفكرتان الرئيسيتان
اللتان تتخللان كتاب «القانون في الطب» لابن سينا هما الخلق
والعناية. فالطبيعة مخلوقة، والعناية فيها من صنع الله. الله
هو الذي وضع المزاج المعتدل في الإنسان. وهو الذي وضع في كل
عضو مزاجه الأصلح لأفعاله وأحواله بحسب إمكانياته، وذلك من
اختصاص الفيلسوف لا الطبيب، وأعطي الإنسان أعدل مزاج في هذا
العالم مناسب لقواه. وتلك حكمة الخلق، وكان ابن سينا يشرح آية
فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ في الطبيعة وفي علم الطب. ويظهر
اللفظان، الخلق والعناية، على التبادل، الخلق أولًا والعناية ثانيًا.
١١٤ ويستعمل ابن سينا الآية على نحو حر، تعبيرًا عن
حكمة الخلق والتي صاح بها كاتب الوحي حتى قبل نزولها إحساسًا
منه بجمال الخلق وحكمته في تكوين الجنين في رحم الأم. والخَلق
والخِلقة من نفس المصدر. فالخلق طبيعة، والطبيعة خلق. لا فرق
في اللغة بين الطبيعة والخلق. فبعد أن يصف ابن سينا وظائف
الأعضاء وحركة الأخلاط فيها يتم مدح الخلق.
١١٥ يصف الأعضاء وخلقها والحكمة في أجزائها ووظائفها
طبقًا للمنافع، فالخلق يقوم على زيادة المنفعة، والإقلال من
الضرر. ويحلل ابن سينا حكمة الخلق في البدن، في العظام
والغضاريف والمفاصل وباقي أجزاء الهيكل العظمي لسهولة الحركة.
كما يصف الحكمة في خلق الكتفين، تعليق الصدر وحمايته، وخلق
الأنفين الدقيقين، والنخاع والعنق والقصبة الهوائية والرئتين
والعينين والأضلاع.
١١٦ ولا فرق في إدراك ذلك بين جالينوس وابن سينا بين
الحكمة اليونانية والعناية الإسلامية، قراءة تراث الآخر من
خلال تراث الأنا. ولا فرق في حكمة الخلق بين خلق الإنسان وخلق
الحيوان. ويتحدث ابن سينا عن الخلق لا الخالق أي عن الطبيعة
وليس عن تشخيصها في فاعل إجابة على سؤال كيف وليس سؤال من، وهو
أقرب إلى العلم منه إلى الدين. كما اقتضت العناية الإقلال من
الآلات لأن الإكثار منها ضرر وخلق الأمعاء الستة كآلات لدفع
الفضل اليابس. وجعلها كثيرة العدد والتلافيف والاستدارات حتى
لا ينفصل الغذاء سريعًا ولا يحتاج الإنسان إلى تناول الغذاء في
كل وقت والتبرز الدائم والمشابهة بالبهائم. هناك إذن حكمة في
الطبيعة تتجلى في المخلوقات.
١١٧ وتتجلى حكمة الخلق في تشريح المثانة، وهي وعاء
يستوعب الماء مدة قبل أن يخرج من الحالبين ومن قضيب يتحكم فيه.
وسبب ولادة الجنين احتياجه إلى هواء وغذاء أكثر مما في رحم الأم.
١١٨
وقد خلق الله الدواء للمنفعة كما خلق العضو للصحة والمرض.
١١٩ وهو دواء إلهي شافٍ بإذن الله. والأيارج اسم
للمسهل وتفسيره الدواء الإلهي لأن عمل المسهل أمر إلهي. وهنا
تبدو الأشعرية مرة ثانيًا في ثنايا علم الطب.
١٢٠
هنا يأخذ مفهوم العناية الإلهية معنًى علميًّا بمعنى نظام
الكون كما هو الحال في الدين الطبيعي في الغرب. فالعناية
الإلهية تتجلى في الطبيعة وفي الإنسان وكأن العناية حالة في
الطبيعة، وكأن الطبيعة عاقلة وقاصدة إلى غاية خيِّرة. ويستعمل
ابن سينا لفظ التسخير، اللفظ القرآني، لبيان هذه الوحدة بين
الخلق والعناية.
١٢١
ويعبر عن هذا الجو الديني داخل علم الطب البدايات والنهايات
الإيمانية، الحمدلات والبسملات في أوائل الكتب أو في أواخرها.
كما تتكرر لازمة «إن شاء الله تعالى» بعد الإعلان عن نية وقصد.
١٢٢ ويظهر لفظ «اللهم» كأسلوب في التعبير.
١٢٣ ونفس النهايات الإيمانية لصاحب المطبعة المتوسل
إلى الله بالجاه الطالب العون على أداء واجب الصناعة.
١٢٤ وقد أسقطت أمثال هذه العبارات من الترجمات
اللاتينية على أنها دينية محلية غير علمية فتأزم العلم الغربي
ووقع في التجريبية الخالصة بدعوى الفصل بين حكم الواقع وحكم
القيمة.
وفي الخاتمة، يتضح في كتاب «القانون في الطب» لابن سينا وحدة
نسق الوحي والعقل والطبيعة. وهي نفس الوحدة التي ظهرت في باقي
العلوم العقلية النقلية مثل علم أصول الفقه وأصحاب الطبائع عند
المعتزلة وطبيعيات الصوفية. ومِن ثَم كان السؤال: إذا كان الطب
القديم ما زال متصلًا حتى الآن على الأقل في الأسماء
والمصطلحات الطبية أليس من الحكمة إعادة النسق نفسه بين الوافد
الطبي الغربي الجديد والموروث الطبي القديم من أجل إبداع طبي
جديد بدل من قسمة الثقافة العلمية كما هو الحال في وجداننا
المعاصر بين أنصار الطب النبوي وأنصار الوافد الطبي
الجديد؟