الاشتباه في فكر ابن رشد١
(١) ماذا يعني الاشتباه؟
يعني الاشتباه توترًا بين قطبين، كلاهما صحيح، تناقضًا بين طرفين، كلاهما ضروري. ودون هذا التوتر في الوتر المشدود لا يصدر نغم ولا يسمع لحن. ارتخاء عن أحد الطرفين يقضي على الشد من أساسه. وهو توتر طبيعي نظرًا لوجود الفكر بين دوافع متباينة. تتجاذبه بواعث متعددة. وكلها تعبر عن الموقف الحضاري. وإن إبداع المفكر هو قدرته على العزف وإصدار ألحان متناغمة بدلًا من النشاز. وقد يختلف عازف عن آخر في الألحان، ولكن يتفق كلاهما في التناغم وجمال اللحن. فالمذاهب الفلسفية كالأعمال الفنية لها تناغمها الفني، ورنينها في آذان المستمعين وصداها في قلوب القراء.
والتوتر موقف انفعالي ووجودي مصاغ صياغة عقلية. فالتحليلات العقلية، والاختيارات المذهبية، والبدائل النظرية والجدل بين التيارات الفكرية كلها تحاول الإبقاء على أكبر قدر ممكن من التوتر بين القطبين. والخلاف فقط في درجة الشد من أجل إصدار أنغام غليظة أو متوسطة أو حادة. التوتر في الفكر يعبر عن التوتر في الحياة، والاشتباه في النسق الفلسفي يعبر عن الاشتباه في الوجود. والاشتباه واقع وليس استثناءً، ضروري وليس محتملًا. لذلك لا يوجد في الاشتباه صواب أو خطأ، حق أو باطل، صحيح أو فاسد. فكلا الطرفين صحيح، وكلا القطبين صواب. إنما يكون الميل لأحد القطبين أكثر من الآخر، والانحياز إلى أحد الطرفين طبقًا للتربية والمزاج وتقدير الموقف. لذلك اختلفت المذاهب الفقهية والفرق الكلامية، والطرق الصوفية والتيارات الفلسفية. وفي الوقت الذي تقضي الحضارة على مقوماتها بفعل السلطة الدينية أو السياسية يكون ذلك نذيرًا له ببداية النهاية.
ولا يدل الاشتباه على أي نقص في الوضوح الفكري أو أي تردد في الموقف العلمي، بل كلما كان الاشتباه قويًّا كان الفكر أخصب وأعمق، وكلما كان التوتر حادًّا كان الصوت أعلى. فالفكر صرخة. الفكر بوق في بداية سيمفونية لجذب الانتباه مثل ضربات القدر الأولى في السيمفونية الخامسة لبيتهوفن أو في نهايتها للإعلان عن فكر جديد. والحسم والقطع بدعوى الجذرية إنما هو موقف أيديولوجي صرف وليس موقفًا علميًّا، انحياز مسبق لأحد الطرفين وتضحية بالواقع نفسه كما يحدث الآن في الجزائر. يختصم الفريقان، العلماني والسلفي. ويقطعان ما بينهما من توتر خلَّاق، وشعب الجزائر هو الضحية. وهو ما يحدث في مصر وتونس في استقطاب حاد بين السلفيين والعلمانيين. الفريق الأول يكفِّر الثاني، والثاني يخوِّن الأول. وتبقى الدولة مانعًا من الالتحام بين الطرفين حتى لا تتولد الطاقة وتصبح الدولة هي الضحية.
لا يعني الاشتباه أي موقف توفيقي بين طرفين متناقضين بغية التوسُّط وعجزًا عن الحسم وإرضاء للجميع في نهاية سعيدة، لا غالب ولا مغلوب، لا منتصر ولا مهزوم، بل إقرار بواقع ثقافي وموقف حضاري وتعددية منهجية. وهي طبيعة الحضارة بعيدًا عن التضاد المفتعل في الحضارة الغربية في الثنائيات المتعارضة بين العقل والحس، الاستنباط والاستقراء، المثال والواقع، الفرد والجماعة. وأخذ أحد الطرفين ضد الآخر مرة، ثم أخذ الآخر ضد الأول مرة أخرى وكرد فعل حتى ينشأ التوازن المعرفي والعودة إلى المركب الجدلي بين الطرفين. الحسم في النية والقصد وليس في التطبيق والممارسة، الأقرب إلى التجميع لا التفريق، والمصالحة وليس الخصام.
ولا يعني هذا الاشتباه وضع ثنائيات متعارضة حيث لا تعارض أو إسقاط من ثنائيات العصر الماضي على القدماء مثل: التراث والتجديد، الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد، التراث والحداثة؛ لأنها ثنائيات موجودة في التراث القديم في كل العلوم في الكلام والفلسفة مثل: الصورة والمادة، العلة والمعلول، الزمان والمكان، الجوهر والعرض، الكل والجزء … إلخ. وموجودة في منطق اللغة عند الأصوليين مثل: الظاهر والمؤوَّل، الحقيقة والمجاز، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، المطلق والمقيد، العام والخاص، الأمر والنهي … إلخ، وموجودة عند أحوال الصوفية مثل الخوف والرجاء، الصحو والسكر، الغيبة والحضور، الهيبة والأنس، الفقد والوجد … إلخ، وتدل هذه الثنائية على عمق الواقع ومستوياته المختلفة وتداخلها ضد التسطيح والأحادية والحرفية. فالكلام له ظهر وبطن، والواقع له إدراك وتأويل. والفلاسفة العظام هم الذين أبقوا على هذا التوتر حيًّا في مذاهبهم، أرسطو وهيجل وهوسرل وبرجسون.
فأرسطو يبحث في نفس الوقت عن الصوري والمادي، العقلي والحسي، العام والخاص، الضروري والفردي، كما لاحظ مؤرخو المذاهب الفلسفية. لذلك كان صاحب المنطق وفيلسوف الطبيعة في آن واحد. وهذا هو السبب في إعجاب المسلمين به نظرًا لأن الإسلام أيضًا حاول الجمع بين الطرفين مثل أرسطو، العقيدة والشريعة، الله والعالم، ملكوت السماء وملكوت الأرض، القانون والمحبة، وباختصار اليهودية والمسيحية. وكما أن أرسطو آخر فلاسفة اليونان، يؤرخ للسابقين، فكذلك الإسلام آخر مراحل الوحي، الرسول خاتم الأنبياء، ويؤرخ للأنبياء السابقين. في أرسطو اكتملت المدرستان الرئيسيتان في الفلسفة اليونانية، الفيثاغورسية والطبيعية، وفي الإسلام اكتمل الوحي واختتمت النبوة.
هيجل هو أرسطو العصر الحديث الذي جمع بين الطرفين، المنطق والوجود، الروح والتاريخ، المثال والواقع، العقل والحس، الله والدولة، الدين والفلسفة عن طريق الصيرورة. فكلا الطرفين يمثلان مرحلتين لصيرورة واحدة ضد ثنائيات اليونان، بين شلنج وفشته في المثالية الألمانية، بين كانط وديكارت في الفلسفة الغربية، بين الشرق والغرب مثل جوته.
فإذا كان أرسطو هو المعلم الأول وابن رشد هو الشارح الأعظم، فإن هيجل هو المعلم الأول في الغرب الحديث وريث اليونان القديم وبالتالي فمن هو شارحه؟ ولو بعث ابن رشد الآن فمن يشرح؟ على عكس الذين فصلوا بين الاشتباه واختاروا أحد الطرفين دون الآخر مثل باركلي الذي اختار المثالية وضحى بالعالم، أو ماخ الذي اختار التجريبية وضحى بالتصور، أو ديكارت الذي اختار الذات دون الموضوع، وجعل العالم مفهومين رياضيين. الحركة والامتداد، أو فولف الذي قطع بالعقل دون النقد، وليبنتز الذي أحال العالم كله إلى عقل وذرات روحية، أو الوضعية المنطقية والاجتماعية التي اختارت اللغة والأشياء دون المعاني والتصورات.
فإن لم يكن الاشتباه واقعًا في الحياة وفي الوجود يعبر عنه في الفكر، فعلى الأقل يكون افتراضها علميًّا لفهم المذاهب الفلسفية إذا ما تعارضت نصوصها، وتناقضت مواقفها، واختلف المنطوق به عن المسكوت عنه، والافتراض العلمي الذي يتم تصديقه في الواقع أو الذي يكشف عن مكوناته يكون أقرب إلى الواقع منه إلى الافتراض. وهو ليس افتراضًا واحدًا من الغرب من النقد الأوروبي المعاصر أو من اللسانيات الحديثة أو من الفلسفة الوجودية كما كتبت سيمون دي بوافر «من أجل أخلاق للاشتباه»، بل هو مفهوم موروث ولفظ أصولي في «المحكم والمتشابه»، والانتقال به من منطق الألفاظ إلى منطق الفكر، ومن مباحث اللغة إلى الموقف الحضاري، ومن آليات التأويل إلى المسار التاريخي. وهناك اثنا عشر اشتباهًا في فكر ابن رشد وموقفه الفلسفي. تعبر عن وضعه الحضاري العام في المشرق أو المغرب، وليس في الأندلس وحده وفي عصر بعينه، عصر الموحدين. هذه الاشتباهات أقرب إلى المنهج منها إلى الموضوع، ومعظم موضوعات ابن رشد ترد إلى مناهجها وكما فعل ابن رشد نفسه في «مناهج الأدلة» عندما أنهاه بخاتمة عن «قانون التأويل». ويمكن صياغة هذه الاشتباهات في صيغة تساؤلات في ثنائيات متقابلة تبين التوتر بين القطبين دون أن تكون هناك بالضرورة إجابة عليها بالاختيار بينهما على التبادل. هي تساؤلات وليست أسئلة، إشكالات لا إجابة عليها بنعم أو لا. فالاشتباه نعم ولا في نفس الوقت. لا حل لها بالضرورة بل تظل قائمة وإلا مات الفكر، وانتهى الإبداع.
قد يميل أحيانًا ابن رشد إلى أحد الطرفين أكثر مما يميل إلى الآخر. فلا يوجد وسط حسابي بين الطرفين. وقد توجد هذه الثنائيات على مستويات مختلفة وتراتبية في الأعماق. فابن رشد تأويلي في السطح وظاهري في العمق، تقدمي في السطح وسلفي في العمق، عقلاني في الظاهر ونصي في الباطن، مالكي في النظر وحنبلي في العمل. وقد تتداخل هذه الأعماق واحدًا تلو الأخرى. فكل عمق ظاهر له عمق باطن، ليس بالضرورة على سبعة أحرف. فهو شارح في الظاهر مؤلف في الحقيقة، فيلسوف على ما يبدو، متكلم على ما هو عليه، معتزلي في النية المعلنة أشعري في التطبيق والممارسة، متكلم على العموم وقاضٍ على الخصوص، قاضٍ في التاريخ وعالم في البنية، ملحد في القول مؤمن في الرؤية، معارض في السلوك وسلطوي في التوجه، في نهاية عصر المغاربة وفي بداية ثانية لعصر المشارقة، في نهاية الغرب الحديث وربما في بداية الشرق الجديد.
هذا الاشتباه هو الذي يسمح بالقراءات المتعددة لابن رشد والتي تصل إلى حد التناقض. وكلها قراءات صحيحة بشرط ألا يُخطِّئ بعضها بعضًا. كل قراءة تأخذ طرفًا وتترك الطرف الآخر. إسقاطًا من الباحث عليه. لو كان عقلانيًّا خرج ابن رشد كذلك. ولو كان سلفيًّا خرج ابن رشد كذلك. والقراءة العلمية الموضوعية الحضارية هي التي تصف هذا الاشتباه الذي يعبر أيضًا عن الموقف الحضاري للباحث وطبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها.
(٢) تأويلي أم ظاهري؟
ولا يجوز إخراج التأويل الفلسفي أو الكلامي أو الصوفي لمن هو غير أهل له مثل العوام كما قال الغزالي في «إلجام العوام عن علم الكلام» وفي «المضنون به على غير أهله». لا ينبغي التصريح بالتأويلات للجمهور. ولا يعلم التأويل الحق إلا الله. لا الجمهور ولا العلماء، لا العامة ولا الخاصة، لا المتكلمون ولا الفلاسفة. ولا ينبغي للصفات الجسمية التصريح بها للجمهور. التأويل كالدواء في غير محله، يضر أكثر مما ينفع. وتتراكم التأويلات وتتضارب فيما بينها حتى يغيب النص الظاهر ولا يبقى إلا تأويلاته. يختفي الجوهر ولا تبقى إلا الأعراض، وهذا هو معنى حديث الفرقة الناجية وافتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة.
- (١)
أن يكون المعنى المصرح به في الشرع هو بعينه الموجود بنفسه أي الظاهر دون المؤوَّل، وهو ما لا تأويل فيه، وتأويله خطأ ولا شك.
- (٢) ألَّا يكون المعنى المصرح به في الشرع هو المعنى الموجود بنفسه إنما على بدله على جهة التمثيل وهو المجاز الذي يحتمل التأويل، وهو على أربعة أصناف:
- (أ)
ما لا يعلم الممثول إلا بمقاييس بعيدة مركبة تحتاج إلى زمن طويل وصناعة دقيقة ولا تستطيعها إلا الفطر الفائقة، فشتان ما بين المثل والممثول. وكلاهما بعيد عن الأفهام. وتأويل خاص للراسخين في العلم وحدهم.
- (ب)
أن يكون المثل والممثول قريبين للإفهام وهو المصرح فيه التأويل.
- (جـ)
أن يكون المثال بعيدًا والممثول قريبًا والغاية منه تحريك النفوس مثل «الحجر الأسود عين الله في الأرض»، ويجوز تأويله كما فعل الغزالي والمتكلمون، ولا يجوز.
- (د)
أن يكون المثال قريبًا والممثول بعيدًا مثل تأويل الصوفية، والأحفظ للشرع عدم التأويل، وإلا تولدت اعتقادات غريبة بعيدة عن ظاهرة الشريعة، ينكرها الجمهور. فمن خمسة أصناف واحد لا يجوز تأويله وواحد يجوز تأويله. والثلاثة الباقية يجوز ولا يجوز تأويله، وعدم الجواز أقرب. ومِن ثَم يكون ابن رشد في قانون التأويل أقرب إلى الظاهر منه إلى المؤوَّل.
- (أ)
وبالرغم من نقد ابن رشد للحشوية واعتبارها من الفرق الضالة إلا أنه في نفس الوقت يبدو ظاهري الاتجاه. يرفض تأويلات المتكلمين والفلاسفة والصوفية لأنها ضد ظاهر النصوص. ويرفض تأويلات شراح أرسطو، يونان ومسلمين، لأنها ضد ظاهر قول أرسطو. واللجوء إلى ظاهر القول يخلص القرآن من سوء تأويل المتكلمين، ويخلص أرسطو من سوء تأويل الشراح. العودة إلى قول أرسطو، وتفسير أرسطو بأرسطو، ونصه هو أحد وسائل إنقاذ أرسطو من بين أيدي الشرَّاح، تفسير الكتاب بالكتاب وليس بالعقل. وإذا اختلف الشرَّاح حول المعنى فإنه يؤخذ أقرب المعاني إلى اللفظ، وأكثرها تطابقًا مع النص.
وأول من سار في وادي التأويل الخوارج ثم المعتزلة ثم الأشعرية ثم الصوفية. ثم جاء أبو حامد، فطم الوادي على القرى، وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور. فالتأويل انحراف تاريخي عن السنة، وخروج على القاعدة. التأويل بدعة وليس سنة، ابتدعها المتكلمون الأشعرية والباطنية والمعتزلة باستثناء الحشوية. وكلها طرق لم يدعُ إليها الشرع. ولا كلف بها الناس. ولا جعلها مناطًا للثواب.
وفي «مناهج الأدلة» يرفض تأويلات الأشاعرة للإرادة، حادثة أم قديمة في أفعال الله لأنها أمور لم يأتِ بها ظاهر الشرع، ولا هي أمور شرعية يقينية حث عليها الشرع في الكتاب العزيز. كما أن صفات الله السبع عن الأشاعرة: العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة مستمدة من الكتاب العزيز وليست من طبيعة العقل، توقيفية وليست استنباطية.
(٣) تقدمي أم سلفي؟
لا يعني تقدمي هنا ما يعنيه المعاصرون في مقابل «رجعي» أو «محافظ» بل يعني فقط أن التاريخ يتقدم، وأن المتأخرين أفضل من الأولين، وأن هناك تراكمًا علميًّا من السابق إلى اللاحق. حدث ذلك في الفلسفة اليونانية منذ سقراط والمدارس الطبيعية الأولى حتى أرسطو والمدارس الأخلاقية التالية له. فقد بدأت الفلسفة اليونانية بتيارين كبيرين، التيار المثالي العقلي الرياضي الصوري الذي بدأه فيثاغورس وسار فيه سقراط وأفلاطون، والتيار الطبيعي المادي التجريبي الذي بدأه الطبيعيون الأوائل من الإيليين وسار فيه طاليس وديموقريطس حتى صب في أرسطو. فأرسطو بمذهبه المنطقي الطبيعي يمثل آخر ما وصلت إليه الفلسفة اليونانية من تقدم. لذلك شابه ابن رشد أرسطو. فابن رشد أيضًا يمثل تقدم الفلسفة الإسلامية من الكندي والرازي بالرغم من انحراف الفارابي وابن سينا وصولًا إلى ابن رشد الذي أكمل الفلسفة العقلية الطبيعية وبيَّن وحدة نظم الوحي والعقل والطبيعة. وهو مشابه لتطور الوحي في مراحله الثلاث، من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام. فأرسطو والإسلام وابن رشد يمثلون قمة التقدم في تاريخ البشر القديم.
ويجب الاستعانة بالقدماء وبمن سبقوا المسلمين في الملة فإن الآلة القديمة تنفع في دراسة الموضوع الحديث. النظر في كتب القدماء واجب بالشرع؛ إذ إن مغزاهم ومقصدهم ما حث عليه الشرع. وقد نظر القدماء قبل الإسلام فيما نظر الإسلام فيه، والاعتراف بحقهم ضروري. وهو نفس موقف الكندي في أخذ الحق من أي مكان حتى ولو كان من الأمم القاصية. ولقد نظر القدماء في المقاييس وفحصوها أتم فحص لذلك كان النظر في كتبهم سابقًا على النظر في كتب المحدثين، ويُشكَرون عليه. والقدماء نوعان، الأول بالنسبة إلى الحضارات مثل تقدم اليونان على المسلمين، تقدم الأوائل على الأواخر، والثاني بالنسبة لداخل كل حضارة، تقدم أفلاطون على أرسطو أو تقدم الكندي على ابن رشد. ومسار التقدم هو التراكم التاريخي وإضافة اللاحقين على تراث السابقين. والتقدم سنة الأنبياء ومسار الوحي مثل تقدم اليهودية على المسيحية، وتقدم المسيحية على الإسلام. قصص الأنبياء نوع من القص الشعبي لمفهوم التقدم، قيام الدول وسقوطها حتى يتحقق التراكم التاريخي الكافي لاستقلال الوعي الإنساني واكتماله.
وهناك تقدم داخل العلوم الإسلامية مثل تقدم المنطق على الطبيعيات، والطبيعيات على الإلهيات. وفي أصول الفقه القياس نفسه إلحاق المتقدم بالمتأخر، واللاحق بالسابق، والفرع الجديد بالأصل القديم. وهناك تقدم المنسوخ على الناسخ، وسبب النزول على الآية. وروح القرآن وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ وأحيانًا يكون التقدم إلى الخلف عن طريق التخلص من سوء تأويل الشرَّاح، يونان ومسلمين، والعودة إلى النص الأول، نص أرسطو. والتاريخ ينتقل من الصواب إلى الخطأ، ومن الحق إلى الباطل، ومن الصحيح إلى الفاسد. أرسطو على حق قبل شرَّاحه. ثم انهار الحق على أيدي الشرَّاح. والإسكندر على حق لأنه أقرب الشراح إلى أرسطو في الزمان. وثاوفرسطس أساء التأويل لأنه أبعد الشرَّاح عن أرسطو. وثامسطيوس بينهما. كلما ابتعد الشارح عن الأصل أساء، وكلما اقترب منه أخطأ. فالحقيقة عند السلف وليس عند الخلف فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، «خير القرون قرني»، «الخلافة ثلاثون سنة ستتحول بعدها إلى ملك عضوض». وهو التصور الأشعري القائم على أولوية المفضول على الأفضل وعلى انهيار التاريخ تدريجيًّا من الأكثر فضلًا إلى الأقل ومن الأكثر كمالًا إلى الأقل. وهو التصور وراء كتابة التاريخ على أنه طبقات، طبقات المفسرين، طبقات المعتزلة، طبقات الحنابلة، طبقات الشافعية، الطبقات الكبرى للصوفية كما كتب الشعراني. فابن رشد بهذا المعنى سلفي النزعة يرى أن الكمال في الماضي، وأن الزمان ناقص تدريجي من الأكثر كمالًا إلى الأقل كمالًا. فإذا ما نشأت حركة إصلاح فإنها تكون سلفية بالضرورة أي العودة إلى الأصول الأولى إلى البراءة الأصلية للنص الأول قبل أن ينال منها مبضع التأويل، إلى البكارة الأولى قبل أن يفقد الفكر عذريته. والكندي والرازي كانا أفضل من الفارابي وابن سينا، العقل والطبيعة بداية الطريق الصحيح. والإشراق والتصوف بداية الانحراف. ونبوة إبراهيم دين الحنفاء الدين الطبيعي. ثم انحرف في سوء تأويل اليهودية له بالإغراق في صور الشريعة الخارجية دون المضمون القلبي، وانحراف المسيحية عنه بالدخول في العقائد الكنسية حول طبيعة السيد المسيح. والإسلام عود إلى دين إبراهيم الأول، الحنيفية السمحة. الحق مع القدماء، يدور معهم حيث داروا. لذلك كان الله هو القديم، والعالم خروج عليه. وكانت الروح قديمة والبدن سجنًا لها وانحرافًا عن طريقها. مستقبل البشرية إذن في نهاية العالم والعودة إلى الله، وفي فناء الدين ومعاد الروح.
(٤) مالكي أم حنبلي؟
ومن الشائع أن ابن رشد مالكي المذهب في الفقه، حفيدًا عن جد، منذ انتشار المالكية على يد تلاميذ مالك في المغرب العربي عبورًا إلى الأندلس. والناظر في مجمل أعماله الفلسفية والطبية والفقهية يصعب التعرف على المالكية فيها فهو من أصحاب الرأي والقياس منذ «فصل المقال»، والقول بوجوب النظر شرعًا، ومِن ثَم يكون أقرب إلى الحنفية. يرجع الفروع إلى الأصول، والجزئيات إلى الكليات كما يفعل في الطب. يوازن بين الأدلة. ولما كانت الفروع تتشعب إلى ما لا نهاية اقتصر على أمهات الفروع. الحقيقة من جانب الأصل وليست من جانب الفرع، ومن جانب الوحدة وليست من جانب التعدد. يقل الاختلاف ويزيد الاتفاق للبحث عن الأصل المشترك. والبحث عن بنية للفقه ولمسائله تجعله أقرب إلى أهل الرأي والنظر.
وأحيانًا يبدو أنه ظاهري المذهب. فقد انتشر المذهب الظاهري في الأندلس بعد داود وابن حزم وكان أحد أسباب سيطرة الفقهاء وتحريم تأويل النصوص في دولة الموحدين. وصورة القياس في «بداية المجتهد» أقرب إلى صورته عند أهل الظاهر، مجرد آلة لغوية بلاغية، تلحق المسكوت عنه بالمنطوق به. هو قياس خاص يُراد به الخاص عكس الخاص الذي يراد به العام. وهو معنًى ضيق للقياس أقرب إلى الرفض منه إلى القبول لأنه لا يقوم على التعليل، تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة. وهو التعريف العام للقياس. والتعليل هو أحد أسباب الاختلاف بين المذاهب الفقهية. كما أدى التعليل إلى اعتبار كل مجتهد مصيب، وترك المسائل على التخيير، وهو ما يعارضه ابن رشد وأهل الظاهر. وهو ما يناقض روح الرشدية المعروفة في التاريخ، إعمال العقل والنظر. ومع ذلك يبحث ابن رشد عن التعليل الذي وراء الاختلاف الذي وراء اختلاف مذاهب الفقهاء.
(٥) عقلاني أم نصي؟
وهو في نفس الوقت نصي. صحيح أن الشرح تأليف غير مباشر، ولكن الشرح الكبير مثل «تفسير ما بعد الطبيعة». يبدأ بنص أرسطو نصًّا نصًّا يشرحه ابن رشد كما هو الحال في علم التفسير للقرآن الكريم فصلًا بين النص القرآني ونص المفسر. موضوع الشرح نص مستقل له قدسيته. يوضع بين معقوفتين. وتذكر له صيغ أخرى في نسخ أخرى. ويحل الاختلاف بين الشرَّاح، يونان ومسلمين، بالعودة إلى النص لمعرفة أي صيغة استعملها الشارح. فربما استعمل الشرَّاح صيغًا مختلفة وترجمات متعددة. قد يرجع اختلاف الشرَّاح إلى اختلاف المترجمين.
(٦) شارح أم مؤلف؟
والصورة الشائعة لابن رشد أنه شارح أرسطو، بل والشارح الأعظم. ولولاه ما عرف المسلمون أرسطو على ما هو عليه ولظلوا يخلطون بينه وبين أفلوطين كما هو الحال عند الفارابي وابن سينا، ينسبون إليه «أثولوجيا» أرسطاطاليس وهي أجزاء من التاسوعات لأفلوطين. لقد اكتشف ابن رشد استحالة نسبة هذا الكتاب لأرسطو نظرًا لتعارض المذهبين. كما أن معظم مؤلفات ابن رشد شروح وتلخيصات وجوامع، الأكبر والأوسط والأصغر. وهي تعادل عشرة أضعاف ما كتب. الشروح بالعشرات، والمؤلفات تتجاوز أصابع اليد الواحدة بقليل.
والحقيقة أنه مؤلف وأن الشرح مثل الترجمة تأليف غير مباشر. مهمة الشرح تقطيع الوافد جزءًا جزءًا وتمثله داخل الموروث للقضاء على ثنائية مصادر المعرفة، الوافد والموروث، وتحقيق وحدتها، العقل الخالص والتجربة الطبيعية. ويتم الشرح على مستوى الألفاظ فيكون التفسير مثل «تفسير ما بعد الطبيعة»، أو على مستوى المعاني فتكون التلاخيص مثل تلاخيص المنطق وبعض الطبيعيات مثل «السماء والعالم»، أو على مستوى الأشياء فتكون الجوامع مثل جوامع بعض أجزاء المنطق. ولا يكون الشرح صحيحًا ما لم يتم الانتقال من مستوى الألفاظ والعبارات والأقوال للنص المشروح إلى مستوى الأشياء التي يراها الشارح ويعبر عنها بألفاظه وعباراته وأقواله. فلو اتفقت الرؤيتان بين المؤلف الأول والشارح الثاني، بين أرسطو وابن رشد صح القولان. فصحة القول لا تأتي من اللغة أو حتى من المعنى بل من الشيء المطابق. وإذا اختلفت الرؤيتان لنفس الشيء، بين المؤلف والشارح، اختلف القولان، ويتم تصحيح قول المؤلف برؤية الشارح وليس بقوله. فالحقيقة أن ابن رشد هو المشروح وأرسطو هو الشارح، رؤية ابن رشد هي التي تجد تصديقًا لها في قول القدماء.
ويستعمل شرح الوافد أيضًا لنقد الموروث، سواء الشرَّاح المسلمون أو المتكلمون والفلاسفة. وقد اكتشف ابن رشد خطأ الشراح المسلمين في خلطهم بين أرسطو وأفلوطين ونسبة أثولوجيا أرسطاطاليس لأرسطو وهي أجزاء من «التاسوعات» لأفلوطين. الشرح إذن هو تطهير لأرسطو من الفلسفة الإشراقية لابن سينا خاصة. وشتان ما بين العقل والإشراق. كما يستعمل ابن رشد الشرح ستارًا يخفي وراءه نقد علم الأشعرية وهو الإشراق الكلامي الذي يستعمل الأقاويل الخطابية والجدلية وليس البرهانية، والذي ينكر طبائع الأشياء واستقراء قوانين الطبيعة باسم الإرادة الإلهية وكأن الله ليس حكيمًا يخلق عالمًا لا يحكمه قانون ولا يدركه عقل. الشرح إذن تأليف مزدوج يهدف إلى إعادة تركيب الموروث في الوافد، تحقيقًا لوحدة الثقافة، وتمهيدًا للتحول من النقل إلى الإبداع.
(٧) فيلسوف أم متكلم؟
الفيلسوف هو الذي يستعمل القول البرهاني وليس القول الجدلي أو الخطابي بتعبيرات ابن رشد. وهو الذي يعتمد على الحجج العقلية أكثر من اعتماده على الحجج النقلية. الفيلسوف لا يحاول إقناع الخصوم وإثبات خطأ آرائهم ولا يدافع عن آرائه لإثبات صحتها. الفيلسوف هو الذي يبني الفكر ويضع التصور بصرف النظر عن المحاجاة مع الآخرين. ونموذج ذلك «الشفاء» لابن سينا خاصة المنطق ثم الطبيعيات ثم الإلهيات. أما «المتكلم» فهو الذي يعرف الحق مسبقًا كاعتقاد خاص لا شك فيه ثم يحاول نقد الخصوم والتشكيك في اعتقاداتهم. لا يهدف المتكلم إلى معرفة الحق بل إلى الدفاع عن اعتقاده، وإثبات خطأ اعتقادات الخصوم. لا يبحث صدق المقدمات قبل تحليل النتائج بل يضع مقدماته الخاصة ويفترض صحتها. ويتشكك في مقدمات الخصوم ويثبت خطأها.
و«مناهج الأدلة» حجاج صريح ضد الأشاعرة والحشوية، ضد من يسيئون استخدام العقل ويجعلونه تابعًا للنقل. ويسيئون تأويل النقل حتى يجعلونه مطابقًا للعقل. هو حجاج ضد العقل النقلي الذي لا هو بالعقل الصريح ولا هو بالنقل الصحيح. ويبين تهافت أدلة الأشاعرة على وجود الله، دليل الممكن والواجب، ودليل الجوهر والأعراض، ودليل الجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ. ويعطي أدلة بديلة مثل «دليل العناية» و«دليل الاختراع». وهي أدلة كلامية لا تختلف في ضعفها عن أدلة الأشاعرة لأنها تقوم على نفس المنطق والمقدمات الخطبية والفكر الطولي المتسلسل حتى نصل إلى غاية قصوى في دليل العناية أو إلى إثبات العجز البشري في دليل الاختراع. يقوم دليل العناية على مقدمتين. الأولى أن جميع الوجودات موافقة لوجود الإنسان، والثانية أن هذه الموافقة ضرورية من قبل فاعل قاصد يدير وليس بالاتفاق. وهما مقدمتان خطابيتان يدغدغان انفعالات الإنسان بالتوافق مع الطبيعة. وماذا عن الحروب والقتل والاغتيال والفقر والمرض والجهل والظلم والعدوان والألم والحزن، هل كان ذلك موافقًا لوجود الإنسان؟ يمكن بطبيعة الحال الرد على ذلك جدلًا، جدل الخير والشر عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وهنا يتم الانتقال من قول خطابي إلى قول جدلي.
وإذا كانت هذه الموافقة ضرورة وليس اتفاقًا وكانت ضرورة قاصدة مريدة عاقلة فلماذا تشخيصها بالضرورة في كائن عاقل يريد خاصة ولا تظل في الضرورة غير الشخصية؟ وتشخيص ظواهر الطبيعة قول خطابي للتأثير في الناس وحسن الإقناع وجذب الانتباه والعجب المشخصة. ودليل الاختراع أيضًا قول خطابي مثل باقي أدلة المتكلمين يقوم أيضًا على مقدمتين: الأولى أن كل الموجودات مخترعة، والثانية أن لكل مخترَع مخترِعًا. الأولى إيمان مقنع، ولفظ مخترع يفيد معنًى مخلوق وهو دور منطقي بين العقل والنقل. والثانية أيضًا قول خطابي، تشخيص للطبيعة وعود إلى الفكر الطولي عند المتكلمين الذي يقوم على استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية وليس فكرًا علميًّا يقوم على الدور، تفسير العِلَّة بالمعلول، والمعلول بالعلة.
(٨) معتزلي أم أشعري؟
ومن الواضح أيضًا أن نقد ابن رشد الصريح للأشعرية مبطن داخل الشروح والملخصات والجوامع أو صريح داخل المؤلفات الثلاثة. وقد استعمل ابن رشد هذه الطريقة تجنبًا لسطوة الفقهاء، وتسترًا وراء أرسطو واحتماءً به، واستخدامًا للوافد من أجل نقد الموروث وتطوير الوافد كعلوم الوسائل، والموروث كعلوم الغايات.
وكثير من أقوال المعتزلة ما هي إلا رد فعل على الأشاعرة مثل قولهم بالعدم ذاتًا في مقابل نفي الأشاعرة له. ولا يشير إلى المعتزلة كثيرًا لأن كتبهم لم تصل إلى الأندلس، ولكن أغلب الظن أن طرقهم مثل الأشاعرة. والحقيقة أن أصحاب الطبائع، معمر، والنظَّام، والجاحظ وثمامة وهشام وغيرهم يقولون بالطفرة والكمون والتوليد مقرنين الطبيعة بذاتها وليس بإرادة خارجة عليها. فالحكمة تجب الإرادة.
والحقيقة أنه أيضًا أشعري لما كانت الأشعرية قابعة في لاوعي كل متكلم وفيلسوف، وكل أصولي ومتصوف مع اختلاف في الدرجة. فقد تحولت الأشعرية إلى ثقافة شعبية وأصبحت هي والدين شيئًا واحدًا. كل متدين هو بالطبيعة أشعري، وكل ناقد للأشعرية هو بالضرورة ناقد للدين. بل إن الأشعرية زحزحت الدين، وحلت محله، ووضعت نفسها مكانه. ولم ينجُ من ذلك حتى كبار المعتزلة والفلاسفة بمن فيهم ابن رشد وابن خلدون وتحليلاته التاريخية للمعجزات، نشأة وتطورًا، قيامًا وسقوطًا. ولم يفُتْ من ذلك ربما إلا أصحاب الطبائع من المعتزلة الذين قالوا بالطفرة والكمون والتوليد.
دليل الوحدانية عند ابن رشد مستمد من نفس الآية لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا التي استمد منها الأشعري دليل التمانع أو الممانعة. إنما لخلاف بينهما أنه عند الأشعري دليل أو برهان وعند ابن رشد مغروز في الطبع. عند الأشعري يقوم على افتراض الخلاف بين الإلهين والأليق عند ابن رشد أن يقوم على افتراض الاتفاق. الخلاف في وجه الدلالة وليس في بنية الدليل.
ولا فرق في صفات الله بين الأشاعرة وابن رشد. فالصفات قديمة عند كليهما، العلم والحياة. بل إنه يصوب الأشاعرة في اعتبار الحياة شرط القدرة. ويعتبر كلام الله قديمًا مثل الأشاعرة وليس حادثًا مثل المعتزلة. والقرآن هو المعنى كما هو الحال عند الأشاعرة وليس اللفظ كما هو الحال عند المعتزلة. ظن المعتزلة أن الكلام هو فعل المتكلم أي اللفظ فقالوا بخلق القرآن. وليس من شرط الفعل أن يقوم بفاعله وهو صحيح في رأي ابن رشد. لذلك فالقرآن قديم. أنكر المعتزلة المعنى القائم بالنفس، وأنكر الأشاعرة اللفظ القائم بالفعل.
وفي القضاء والقدر يرفض ابن رشد كالأشعري الموقفين النقيضين، الجبر كالجهمية وخلق الأفعال كالمعتزلة. ويأخذ موقف الشارع. «ليس هو تفريق هذين الاعتقادين وإنما قصده الجمع بينهما على التوسط الذي هو الحق في هذه المسألة». الله هو العلة في وجود الأسباب، هو سبب الأسباب. وهذا هو معنى القضاء والقدر، وما كتب في اللوح المحفوظ، ومعرفة الأسباب بمعنى المسببات هو جزء من العلم بالغيب. الله يفعل من خلال النفوس والطباع والقوانين وهو ما يراه جالينوس أيضًا. فالأسباب مؤثرة بإذن الله وإلا بطل العلم وانتفت الحكمة. العلم معرفة الأشياء بأسبابها المباشرة. والحكمة معرفة الأشياء بالأسباب الغائية أي بالعلل الأولى. وعلى هذا لا تعارض بين العلم والدين، بين البحث عن العلل المباشرة والعلة غير المباشرة، بين العلة الثانية والعلة الأولى. فالقول بالطباع وحدها إنكار للفعل الإلهي، والقول بالفعل الإلهي وحده إنكار للطباع. ومِن ثَم يخطئ المعتزلة والجبرية كطرفي نقيض، والحقيقة على التوسط.
وفي النبوة، يرفض ابن رشد إثباتها بالمعجزة بطريقة الأشاعرة أو عن طريق الجواز العقلي الذي يعني الجهل. ويثبتها بالإعجاز إعجاز القرآن أي تحدي القدرات البشرية على الإبداع. وهو معنى لا يفترق كثيرًا عن المعجزة إلا سلبًا. فالمعجزة تدل على قدرة الله والإعجاز يدل على عجز الإنسان. وهي مقدمة خطيبة مثل مقدمات الأشاعرة. وكل عمل إبداعي في النهاية هو عمل معجزة أي به جزء كبير من الخلق والإبداع كما هو الحال في معظم الأعمال الأدبية والفنية.
(٩) متكلم أم قاضٍ؟
يبدو أن هناك عدة أعماق عند ابن رشد. فهو في الظاهر فيلسوف وفي الباطن متكلم، وفي الظاهر متكلم وفي الباطن فقيه، وفي الظاهر فقيه وفي الباطن قاضٍ، وفي الظاهر قاضٍ وفي الباطن عالم، وفي الظاهر عالم وفي الباطن من كبار المؤمنين مثل فلاسفة الإسلام. هذه المستويات المتداخلة في العمق هي التي تسمح بقراءات متعددة له.
المتكلم هو الذي يدافع عن النفس ويهاجم الغير، يصوب الأنا ويخطئ الآخر. المتكلم هو المنحاز لأحد الخصمين ضد الخصم الآخر، هو صاحب الفرقة الناجية ضد الفرق الهالكة. المتكلم هو الخصيم صاحب الهوى. لذلك اعتبر الفقهاء علماء الكلام من أهل الأهواء لا تجوز شهادتهم.
إنما القاضي هو هذا الأصولي الحصيف الذي يفصل في المنازعات بين الخصوم دون أن ينحاز لطرف ودون أن يحكم الهوى أو المنفعة الشخصية لأحد الطرفين على حساب الآخر أو لحساب القاضي نفسه. هو الذي يقارن بين الدعويين وحيثيات كل منهما والقرائن حتى يصدر الحكم العدل وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. وقد يكون الحكم في صالح أحد الطرفين المتنازعين. وقد يكون لصالحهما عن طريق المصالحة. وقد يكون لرفضهما معًا بحل جديد من القاضي، يرفع دعوى الطرفين عن موضوع الدعوى.
ففي «فصل المقال» يرفض ابن رشد دعوى الخصمين، الذي يحرم النظر مثل الحشوية والذي يجعله واجبًا بالشرع دون تحديد النظر على أنه القياس الشرعي، وليس مجرد النظر في الموجودات بلا منطق أو منهج على طريقة الفلاسفة الإلهيين.
وفي «مناهج الأدلة» يفضل ابن رشد بين الخصمين، المعتزلة والأشاعرة والظاهرية والباطنية. ويبين خطأ دعاوى الأشاعرة في أدلتهم على وجود الله في إنكارهم السببية، وفي جواز الجور على الله، وفي سوء استعمال العقل. كما يرفض حشوية أهل الظاهر وتأويلات أهل الباطن التي لا دليل عليها من نقل أو عقل أو حس. فلم يبقَ إلا تأويل المعتزلة الأقرب إلى التأويل الشرعي، تبرئة المعتزلة واتهام الأشاعرة والصوفية والباطنية بمعارضة تأويلاتهم لظاهر الشرع وأدلة الكتاب العزيز والفطرة البشرية.
وفي «تهافت التهافت» يقف ابن رشد موقف القاضي بين الفلاسفة خاصة ابن سينا والغزالي الذي كفَّرهم في ثلاث مسائل كبار: القول بقدم العالم، وإنكار علم الله بالجزئيات، وإنكار حشر الأجساد. يوازن ابن رشد بين الموقفين ويكتشف سوء تأويل الغزالي لأقوال الفلاسفة، وخطأ الرواية عنهم، وسوء النية وراء ذلك، وإخراج القول من السياق، وعدم فهم المعارض العقلي الذي حاول الفلاسفة التعبير عنه.
(١٠) قاضٍ أم عالم؟
وربما يكمن في أعماق القاضي روح العالم الذي يريد رؤية الواقع كما هو عليه دون إسقاط إنساني أو انحياز شخصي أو هوًى يميل بالعالم نحو موقف مسبق أو أيديولوجية ضمنية. لذلك كان أصول الفقه هو أكبر معبر عن الروح العلمية عند المسلمين. غاية القاضي البحث عن الحق وهي غاية العلم أيضًا. مستنده الواقع والقرائن والحقائق. وهو أيضًا مستند العالم. القاضي نزيه لا يميل مع الحق، يوزن الموازين بالقسط. وكذلك مهمة العالم في اكتشاف القانون الطبيعي الذي يتحكم في حركة الظواهر. والقاضي يبحث عن القرائن الدالة. والعالم يبحث عن الوقائع التي تحقق الافتراض العلمي حتى يصبح قانونًا. وإذا كان القاضي يحيل الأفعال الجزئية إلى أحكامها الكلية فكذلك يفعل العالم بإحالة الظواهر الطبيعية إلى مبادئها الأولية. ويتضح ذلك في الصلة بين العلمين، الطبيعي والإلهي. فأصول الطبيعيات العامة في الإلهيات. ولا حل لمسائل الطبيعة إلا في ما بعد الطبيعة، ولا حل لمسائل لما بعد الطبيعة تخليصًا لها من الإشراقيات إلا في الطبيعة.
ويميز ابن رشد بين نوعين من الفكر، الفكر على الاستقامة، وهو الفكر الطولي مثل أن لكل معلول علة، وهذه العلة معلول لعلة ثانية، وهذه الثالثة حتى الوصول إلى علة أولى ليست معلولة لغيرها، ونظرًا لاستحالة التسلسل إلى ما نهاية وهو الفكر الديني. والفكر على الدور عندما يكون المعلول معلولًا لغيره وهذه العلة هي نفسها المعلولة الأولى. فالماء علته السحاب، والسحاب نفسه معلول للماء. فكل شيء معلول وعلة في نفس الوقت. وهو الفكر العلمي الذي يؤثره ابن رشد.
هذا العالم هو الذي يبدأ بالموقف العلمي الذي يقيم على رصد الكليات التي تندرج تحتها الجزئيات كما هو الحال في «الكليات»، كتابه الشهير في الطب، ووضع إطار العلوم الطبيعية. وهو الذي يبحث عن «الضروري» في أصول الفقه في شرحه على «المستصفى» أي ما يلزم وما لا غنى عنه. كما يبحث عن «الضروري» في السياسة في شرحه على «جمهورية» أفلاطون. كما يبحث عن «الضروري» في اللغة. يتوجه العالم إلى القلب مباشرة، إلى الأصل وليس إلى الفرع، إلى القصد وليس إلى الأفعال الجزئية. وقد حاول نفس الشيء في «بداية المجتهد» عندما أراد البحث عن القواعد العامة التي تبنى عليها أحكام الفقه الجزئية. رادًّا من الفروع إلى الأصول.
ويقوم الطب على الجمع بين القياس والتجريب كما يفعل القاضي، بين الاستدلال والقرائن. ويصف ابن رشد الأشياء ذاتها أي الحق في نفسه دون تأويلات وهو فهم القاضي أيضًا في البحث عن الحقائق وراء شهادة الشهود وأقوال المدافعين والمدعين.
ويضع ابن رشد الطب في بنيته الجغرافية كما يضع القاضي المتهم في سياقه الاجتماعي وظروفه الحياتية. فكل ظاهرة علمية لها سياقها. كلٌّ في سياقه. فالعلم له بنيته. لا ينطبق إلا على الظواهر على الكوكب الأرضي وليس خارجه. وكذلك تتغير مجموعات القوانين بتغير المجتمعات والنظم السياسية.
ولا يعتمد الخطاب العلمي على الأدلة النقلية. تغيب عنه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فالعلم يتعامل مع الموضوعات وليس مع الأقوال.
(١١) ملحد أم مؤمن؟
والحقيقة أن ابن رشد من كبار المؤمنين، سواء في شروحه أو في مؤلفاته. أعاد الاتزان لأرسطو وللفلسفة اليونانية ككل لإيجاد علاقة متوازنة صحيحة بين الطبيعيات والإلهيات، ضد الطبيعيات المغلقة على نفسها والتي لا تحيل إلى علم آخر وراءها أو تتأسس فيه، وضد الإلهيات الإشراقية الخيالية كما مثلتها نظرية الفيض. وربما أثار في الذهن احتمال أن يكون أرسطو من الأنبياء السابقين، فما من أمة إلا خلا فيها نذير، مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ.
وفي «فصل المقال» النظر واجب بالشرع، وهو النظر في الموجودات من حيث دلالتها على الصانع. والكتاب العزيز هو المصدر الأول للعقائد. والقياس الشرعي أصل من أصول الأحكام. وتقاس أقوال الأمم السابقة على أساس من الشرع. ما اتفق معه قَبِل وما اختلف معه رفض. ولا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له. والحكمة كما يقول ابن رشد الأخت الرضيعة، المتحابتان بالطبع، المتفقتان بالجوهر والغريزة.
وفي «مناهج الأدلة» يعطي ابن رشد براهينه البديلة على وجود الله وهي براهين شرعية نبه عليها الكتاب، دليل العناية ودليل الاختراع. ويستنبط من ثلاث آيات الأدلة على وحدانية الله وصفاته السبع القديمة وعلى التنزيه وإثبات خلق العالم وبعث الرسل، والقول بالقضاء والقدر والثواب والعقاب والمعاد كمتكلم يؤسس العقائد ويورد البراهين على صحتها.
وفي «الكليات» يرى أن الله هو مسبب الأسباب، وأنه وضع في الجسم قوانين الصحة والمرض. فالسببية متطلب من متطلبات الإيمان. أثبتها ابن رشد ضد نفي الغزالي لها باسم الإيمان أيضًا. والخلاف فقط في التصور للأولويات، الإرادة على الحكمة عند الغزالي أو الحكمة على الإرادة عند ابن رشد.
(١٢) معارض أم سلطاني؟
ونظرًا للمعارضة المكبوتة في روح العصر. واستنكاف الناس من السلطة، والطاعة للسلطان، شاعت فكرة أن ابن رشد من المعارضة بدليل نكبته. وحرق كتبه، ومعارضته للفقهاء، ومعارضته لميل الأمراء لهم والاستسلام لسلطانهم. وربما أيضًا سادت هذه الفكرة إسقاطًا من الحاضر على الماضي، وإيجاد شرعية للمعارضة لاستخدام العقل، ونقد ما هو سائد في الفكر والواقع الاجتماعي.
لم تكن المحنة بسبب وصف الخليفة بأنه ملك البربر أو بعدم مراعاته خدمة الملوك من قواعد وآداب، وندائه باسمع يا أخي أو بحديثه عن كوكب الزهرة باعتباره إلهًا. وأغلب الظن أنها كانت بسبب حقد الفقهاء عليه لعلمه. وربما كانت بسبب قربه من أبي يحيى أخي المنصور ووالي قرطبة، وشرح ابن رشد المعروف لجمهورية أفلاطون باسم «الضروري في السياسة». ونقده للطغيان السياسي وما سماه وحدانية التسلط. وكان الدين مجرد الذريعة والغطاء خاصة وابن رشد يشير إلى «في بلدنا وزماننا حق، بالحس والمشاهدة».
(١٣) نهاية أم بداية؟
وقد شاعت فكرة روَّج لها الإعلاميون والخطباء والمزايدون وأدعياء التنوير أن ابن رشد آخر الفلاسفة. ولم يظهر بعده فيلسوف واحد حتى العصر الحاضر الذي يخلو منهم. التاريخ له نهاية، القرن السادس الهجري، والإبداع له سقف، عقلانية ابن رشد، والحضارة خاوية، وهم جزء من الغرب والمشارقة وراءه منذ أن كانوا أعداءه. إذا تمثل ابن خلدون بعد ابن رشد بقرنين روح ابن رشد، فإنه مغربي أيضًا لم يعجبه المشرق والمشارقة. وحسده الأزهر والأزهريون مع أنه القائل بأن «مصر أم الدنيا».
وبينما غاب ابن رشد في العالم الإسلامي حضر في الغرب اللاتيني الوسيط والحديث، وبعث حركة المفكرين الأحرار، العقلانيين العلمانيين أنصار العقل والطبيعة وعلى رأسهم سيجر البرابنتي. فأصبحت الرشدية اللاتينية جوهرة العصر الوسيط المتأخر وأحد مصادر النهضة الأوروبية الحديثة. ابن رشد إذن نهاية الحضارة الإسلامية وبداية الحضارة الغربية وكان كل شيء قد توقف في الحضارة الإسلامية، وأن القرن السادس هو نهاية الزمان. وإذا كان ابن رشد ناقدًا لسابقيه فإنه يكون قمة التاريخ وذروة الحضارة، قبله انحراف من الأصول، وبعده موت للأصول.
والحقيقة أن التاريخ لا يتوقف لا قبل ابن رشد ولا بعد ابن رشد. وأن مسار الحضارة البشرية لا يتوقف لا قبل الحضارة الإسلامية ولا بعدها. ابن رشد أحد حكماء القرن السادس. قبله خمسة قرون وبعده تسعة قرون. مهَّد له السابقون وهو ممهد للاحقين. لا شيء خارج الزمان. وليس ابن رشد انبثاق خلود داخل الزمان، تجسد فريدًا واحدًا لا يتكرر. هناك رشديون قبله، ورشديون بعده. وابن رشد مجرد نموذج لتماثل الوحي والعقل والطبيعة والذي حاول تحقيقه كل الحكماء منذ الكندي والرازي حتى ابن رشد وابن خلدون.
وقد انقضى الآن ما يزيد على ثمانية قرون على وفاة ابن رشد (٥٩٥–١٤١٩ﻫ)، ستة قرون على الحضارة الغربية في عصورها الحديثة منذ عصر الإحياء في القرن الرابع عشر، والإصلاح الديني في الخامس عشر، والنهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والوضعية في التاسع عشر، حتى أزمة القرن العشرين وبداية التحول إلى القرن الحادي والعشرين. فهل ما زالت النهاية هي النهاية والبداية هي البداية أم أن هناك نهايات جديدة وبدايات جديدة؟
لم تتوقف الفلسفة في العالم الإسلامي بعد ابن رشد في القرن السادس. بل ازدهرت من جديد في المشرق الإسلامي كما بدأت منه خاصة عند نصير الدين الطوسي (٦٧٢ﻫ)، وابن البيطار (٦٤٦ﻫ)، والفارسي (٧١٨ﻫ)، وداود الأنطاكي (١٠٠٨ﻫ)، وصدر الدين الشيرازي (١٠٥٠ﻫ). وازدهرت العلوم الرياضية والطبيعية في هذه الفترة وتأسيس المراصد مثل مرصد سمرقند. بل بعث السجال من جديد بين ابن رشد والغزالي عند خوجة زادة (٨٩٣ﻫ) أوحد علماء الروم في عصره للتحكيم بين الإمامين بالإشارة من المقدس السلطان محمد الفاتح العثماني.
ومنذ فجر النهضة العربية الحديثة منذ القرن الماضي عادت الحياة الفكرية إلى العالم الإسلامي من جديد بفضل زعماء الإصلاح في مصر والشام والمغرب العربي. وقامت حركة التحرر الوطني العربي لتخليص الأمة من الاستعمار من الخارج والقهر من الداخل. وقامت الثورات العربية الأخيرة لتنشئ الدول المستقلة وتعيد توحيد الأمة العربية والإسلامية في آسيا وأفريقيا. وتلت الصحوة الإسلامية لإقالة حركات التحرر من عثرتها. والنظم السياسية من كبوتها بثورات إسلامية جديدة في إيران ونهضة عمرانية شاملة في الدول الإسلامية الآسيوية. وفي نفس الوقت تنتهي البداية الأوروبية الأولى في القرن الرابع عشر وتبدأ بداية النهاية في القرن العشرين. حربان أوروبيتان طاحنتان في النصف الأول منه وبدايات العدم والعبث واللامعقول والتناقض، وفقدان الحياة والإفلاس وأزمة العلوم الأوروبية، (هوسرل) وموت الإنسان والكتابة في نقطة الصفر (بارت)، بعد موت الإله (نيتشه)، وقلب القيم (شيلر). وأفول الغرب (اشبنجلر)، وأزمة الضمير الأوروبي (بول، آزار)، والآلات التي تصنع آلهة (برجسون) إلى آخر ما صب في ما بعد الحداثة والتفكيكية (دريدا).