توظيف ابن رشد بين الثقافتين العربية والغربية١
أولًا: صور ابن رشد
تعددت صور ابن رشد بل وتناقضت في الثقافتين العربية والغربية. وربما يرجع ذلك إلى ابن رشد نفسه، الشارح والمتكلم والفيلسوف والأصولي والفقيه واللغوي. تم توظيفه بطرق مختلفة ولأهداف متضاربة حتى ضاع ابن رشد على ما هو عليه. وتجاذبته التيارات والمواقف والغايات من الخارج وليست القراءات من الداخل. فهي جذب لابن رشد خارجًا عنه وليس الدخول إلى ابن رشد لاستنطاقه. الطريقة الأولى جذب الموضوع إلى الذات، والثانية إدخال الذات في الموضوع لإنارته ومعرفة مستوياته ومراتبه. الأولى إسقاط، والثانية كشف.
-
(١)
هناك ابن رشد العقلاني الملحد الذي يروج له الرشديون اللاتين مثل سيجر البرابنتي والذي عرضه رينان في كتابه الشهير «ابن رشد والرشدية». وأعاد عرضه فرح أنطون في كتابه «ابن رشد وفلسفته».٥ وهي قراءة لاتينية غربية في العصر الوسيط المتأخر ضد اللاهوت العقائدي الكنسي والسلطة الدينية البابوية. وهي الصورة التي ما زالت شائعة عند بعض المستشرقين المعاصرين والتي روَّج لها جارودي في مرحلته الماركسية. يجعلون ابن رشد يقول بقدم العالم وخلود النفس الكلية مع أن ابن رشد كان يعرض بقول جدلي ضعف أدلة المتكلمين على خلق العالم، دليل الجوهر والأعراض، ودليل الجزء الذي لا يتجزأ، ودليل القدم والحدوث، ودليل الممكن والواجب، ويبين أن افتراض قدم العالم له ما يبرره في الشواهد النقلية والحجج العقلية. فهو قول جدلي وليس قولًا برهانيًّا. وهي نفس حجة الفارابي دفاعًا عن أرسطو ضد تهمة تقويله بقدم العالم بأنها كانت قضية جدلية منطقية وليست قضية طبيعية ميتافيزيقية.٦ كما أن خلود العقل الكلي هو خلود الحضارة والفكر الجمعي، خلود الإنسانية في الأرض والسماء من خلال العمل الصالح الذي يبقي أثره في الأرض وله الجزاء الأخروي في السماء طبقًا لقانون الاستحقاق. وهو ابن رشد الذي يدافع عن قانون السببية ضد إنكار الغزالي للعلية.وقامت عدة دراسات في هذا الاتجاه، أثر ابن خلدون في العالم اللاتيني أسوة برينان دون تأويل أو قراءة أو شد لابن رشد نحو المادية والإلحاد أي نحو الطبيعة والعقل. مثال ذلك «نظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها عند توما الإكويني». يبدأ بعرض نظرية الكون والمعرفة ونظرية الاتصال عند توما الإكويني وتحريف مذهب ابن رشد وضرورة تصحيح صورته. ثم تبين الدراسة كيف عرف توما الإكويني فلسفة ابن رشد وكيف حرفت عند مونك ورينان بالرغم من رفض ابن رشد لها. ثم تقارن بين العلم الإلهي عند كل من الفيلسوفين دفاعًا عن ابن رشد المفترى عليه.٧وتواصلت الدراسات العربية في هذا الاتجاه مثل «أثر ابن رشد في فلسفة العصور الوسطى» خاصة على البير الكبير وتوما الإكويني وسيجر البرابنتي من المسيحيين، وموسى بن ميمون وإسحاق البلاغ من اليهود. وبعد استعراض حياتهم وأعمالهم ومراكز الترجمة في إسبانيا تم عرض ثلاث مشاكل رئيسية، الصلة بين الفلسفة والدين، وقدم العالم، وخلود النفس. وهي دراسة موضوعية تاريخية شاملة تتجنب القراءات والتأويلات التي قام بها رينان.٨وقد أثارت هذه الصورة الدوائر المحافظة لسببين. الأول دفاعًا عن الإسلام، والفقيه أبي الوليد، وإدخاله زمرة المفكرين الإسلاميين، وأنه أشعري كالأشاعرة، سلفي كالسلفيين، مؤمن في زمرة المؤمنين. لم يقل بقدم العالم ولا بخلود النفس الكلية، ولم ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة. فهو مادي مؤمن في «المادية والمثالية في فلسفة ابن رشد».٩ والثاني هو السبب النقيض إخراجه من زمرة المؤمنين لو ثبتت التهمة عليه وكان الفيلسوف موضع اتهام وتكفير. فالإسلام بريء منه. والفيلسوف تابع لليونان، غواه أرسطو، ورجح منطق اليونان على أساليب القرآن.
-
(٢)
وهناك ابن رشد الأشعري بالرغم من نقده للأشعرية في «تهافت التهافت» وفي «مناهج الأدلة» بل وفي شروحه على أرسطو. فقد تسربت الأشعرية إليه خاصةً في علم الكلام البديل الذي يقترحه سواء فيما يتعلق بالذات والصفات والأفعال أو في الأدلة على وجود الله أو في السمعيات. وقد ضخَّم بعض السلفيين المعاصرين هذه الصورة فجعل ابن رشد أصوليًّا كرد فعل على التنوير الحكومي، لا فرق بينه وبين ابن تيمية، يعطي أدلة بديلة على وجود الله، دليل العناية ودليل الاختراع، لا يفترقان عن أدلة الأشاعرة، دليل الجوهر والأعراض، ودليل الجزء الذي لا يتجزأ، ودليل القدم والحدوث، ودليل الممكن والواجب من حيث البنية والمسار الطولي التراجعي من أجل الوصول إلى معتنٍ، ومخترع، وقديم وواجب. وبها نفس القفز المنطقي الذي يحتاج إلى خطوة استدلالية جديدة لإثبات أن المعتني بالعالم ومخترعه هو الله، وأن له وجودًا خارج الذهن، في عالم الأعيان وليس في عالم الأذهان وحده. وهو أيضًا يقيم نسق عقائده طبقًا لنسق الأشاعرة في العقليات والسمعيات، في نظرية الذات والصفات، والأسماء والأفعال، وفي النبوة والمعاد، والإيمان والعمل، والإمامة.١٠وهناك ابن رشد المتشابه الذي يمكن قراءته قراءتين مختلفتين بين الأشعرية والظاهرية. فمن الشائع أن ابن رشد يقول بالتأويل ويضع قانونًا له، وينكر على الأشاعرة تأويلاتهم الفاسدة. ويؤوِّل بعض الآيات القرآنية التي تثبت احتمال قدم العالم الذي نسبه البعض إلى الحكماء. يبدو أيضًا أنه يلجأ في نفس الوقت إلى ظاهر النص ضد تأويلات الأشاعرة وإلى ظاهر نص أرسطو ضد تأويلات الشراح اليونان والمسلمين. فالتأويل انحراف عن ظاهر النص. وفي قانون التأويل الذي وضعه في آخر «مناهج الأدلة» يجعل المعاني في قسمين: الأول في ظاهر النص كالظاهرية، والثاني ليس مصرحًا به في النص وهو الخاضع للتأويل. وهو على أربعة أصناف: الأول ما يحتاج إلى فطرة فائقة ولا يدركه إلا الراسخون في العلم. والثاني ما يكون فيه المثل والممثول قريبًا للأفهام وهو الظاهر الذي لا يحتاج إلى تأويل. والثالث ما يكون فيه المثال بعيدًا والممثول قريبًا لتحريك النفوس، ويجوز تأويله ولا يجوز. والرابع ما يكون فيه المثال قريبًا والممثول بعيدًا ولا يجوز تأويله كما تفعل الصوفية. فمن خمسة أصناف واحد يجوز تأويله، وثلاثة يجوز ولا يجوز وإلى عدم الجواز أقرب، وواحد فقط يجوز تأويله من الراسخين في العلم. وهو أيضًا أشعري. فدليل الوحدانية المستمد من آية لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا هو ما فعله الأشعري من قبل. ولا يختلف دليلا العناية والاختراع عن بنية أدلة الأشاعرة على إثبات وجود الله. ولا تختلف صفات الله عند ابن رشد والأشاعرة. وفي العلية الله هو سبب الأسباب وابن رشد على التوسط في الجور والعدل كالأشاعرة، ويثبت النبوة بالإعجاز. وفي المعاد على التوسط بين المعاد الجسماني والمعاد الروماني.١١ابن رشد فيلسوف متشابه، توتر بين قطبين كلاهما صحيح، وبين طرفين كلاهما ضروري. يجمع بين مطلبين كلاهما أصل، أفلاطون وأرسطو، ديكارت وبيكون، هيجل وماركس. يضم معًا المثالية والواقعية، الصورة والمادة، النفس والبدن، العقل والحس. هذا الاشتباه هو الذي يسمح بقراءات متعددة لابن رشد. فهو في نفس الوقت تأويلي ظاهري يؤوَّل طبقًا لظاهر النص. وهو تقدمي سلفي، يريد التقدم إلى الأمام عن طريق العود إلى الأصل. وهو مالكي حنبلي، يقول المصالح المرسلة طبقًا للنص. وهو عقلاني نصي، يعتمد على العقل ويحتكم إلى النص في آن واحد. وهو شارح ومؤلف، يعلق على نص ويبدع نصًّا. وهو فيلسوف ومتكلم يدافع عن الفلسفة في «تهافت التهافت»، ويؤسس علم كلام جديد أقرب إلى العقل الصريح في «مناهج الأدلة». وهو معتزلي أشعري، العقل أساس النقل والنقل أساس العقل في آنٍ واحد. وهو متكلم وقاضٍ، يحكم بين المعتزلة والأشاعرة كما يحكم بين الغزالي والفلاسفة. وهو قاضٍ وعالم، يكتب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» وفي نفس الوقت «الكليات» في الطب. وهو مؤمن وملحد، يعتبره البعض نموذج الإيمان الصحيح، ويعتبره آخرون نموذج الكفر الصحيح. وهو سلطاني ومعارض، يعمل تحت أمر السلطان عبد المؤمن، وفي نفس الوقت صاحب نكبة من السلاطين، سلطان الدين وسلطان السياسة، نهاية وبداية، نهاية الفلسفة القديمة في العالم الإسلامي عند البعض، وبداية الفلسفة الحديثة في الغرب عند البعض الآخر.١٢
-
(٣)
وهناك ابن رشد صاحب «المتن الرشدي» و«الخطاب الرشدي» المغلق على ذاته الذي لا شأن له بالناس وبالواقع، وهو الفقيه المالكي. خطابه له بنيته الداخلية، وتركيبه الذاتي، ويقوم على منطق في الاستدلال. هو ابن رشد الذي صنعه أساتذة الجامعات الشبان في المغرب العربي تحت أثر البنيوية أو المغالاة في النزعة العقلية. فابن رشد مغربي، تراث وطني، أقرب إلى المغرب منه إلى المشرق، وإلى العقلانية منه إلى الإشراقية. فهو وحده الذي استطاع أن يقوم بقطيعة معرفية بين العقل والإشراق، بين البرهان من ناحية والخطابة والجدل من ناحية أخرى بالرغم من تراجع أصحابها أحيانًا ولوعًا أيضًا بالصياغات اللغوية «لقد تمشرق المغرب، وتمغرب المشرق».١٣
ومع ذلك يمتاز التركيز على «المتن الرشدي» بالتعرف على أنواعه الأدبية بعد إيراد ثبت بأسماء كتبه المذكورة في كتب التاريخ، ثم محاولة تصنيفها زمانيًّا في أصولها العربية ومحاولة قراءتها قراءة جديدة ثم وصف مسار المشروع الرشدي. وهي دراسة علمية دقيقة فاحصة تركز على النص، من حيث الشكل والموضوع دون تحديث أو قراءة أو تأويل أو حتى وضع النص في سياقه التاريخي الأول الذي نشأ فيه. ولا تتعدى القراءة الجديدة وصف المتن الرشدي كأنواع أدبية بين المؤلفات والمقالات والتفاسير والتلاخيص والجوامع والمختصرات.
وقد يتحول المتن الرشدي من نوع أدبي إلى موضوع داخلي مغلق، إلى جزء فيه دون الكل مثل «إشكالية العقل عند ابن رشد» مع مصطلحات مستحدثة من الفلسفة الغربية مثل «أنطولوجيا العقل» و«تاريخية العقل» إذا كان الآخرون قد استنفذوا «ابستمولوجيا العقل». وتدرس «أنطولوجيا طبيعة العقل الهيولاني (المادي) وهو جزء من جزء من كل. فالعقل الهيولاني له علاقة مع العقل بالقوة قبل أن يتحول إلى الفعل، وله علاقة بالنفس»، وهو عقل واحد. وتبين «تاريخية العقل» دور الحس والعقل والخيال. وتقارن بين العقل الهيولاني والعقل النظري والعقل الفعَّال. وأخيرًا تعرض نظرية الانعكاس أيضًا بألفاظ مستحدثة «من البيولوجيا إلى الميتافيزيقا».١٤ -
(٤)
وعلى النقيض من هذا الخطاب المنغلق على ذاته الذي يعتني بالبنية الداخلية هناك الخطاب الشارع الذي يكرر المعنى الظاهري للنص، يعرض أكثر مما يحلل، ويردد أكثر مما يجدد. وهو ما يعيبه المغاربة على المشارقة من أنهم لا يقولون شيئًا، يجترون ابن رشد ويعيدون نصوصه كالفقهاء دون تأويل أو قراءة أو تجاوز، وإن عاب المشارقة على المغاربة الإغراق في التنظير بحيث يتبخر الواقع، ويغيب القصد. وتضيع الطاقة. ويتم اختيار موضوعات لرسائل علمية بلا قصد ولا هدف بناءً على قسمة مدرسية لموضوعات الفلسفة، الله، والطبيعة، والإنسان.
ولما كان القول الشارح لا يهدف إلى شيء، يسير في مكانه وليس له هدف، لا يثبت قضية ولا ينفي حكمًا كان من الضروري تغطية ذلك بالعبارات الإنشائية والمواقف الخطابية والمقالات الصحفية بأن ابن رشد أعظم الفلاسفة إن انتهت الفلسفة بعده. وغاب الفلاسفة على مدى ثمانمائة عام. وأن ورثته فقط هم وعاظه، وحملة قميصه، والمتاجرون باسمه، والمتكسبون من ورائه. فهم العقلانيون النقديون التنويريون.
ويرجع السبب في ذلك إلى غياب المنهج والموقف، والأداة والرؤية، الآلة والقصد. وذلك ناتج عن أن الباحث ذو ثقافة واحدة، هو الموروث القديم، دون معرفة غيرها من الثقافات مثل الوافد الغربي، لعدم المعرفة باللغات الأجنبية. فأصبحت الدراسات الرشدية عوراء تقرأ النصوص بعين واحدة أو عرجاء يقوم فيها ابن رشد على ساق واحدة.
وغاية هذا التأليف الكتب الجامعية التي أصبحت أشبه بالكتب المدرسية المقررة الهدف منها جمع المعلومات، مجرد المعلومات عن ابن رشد وفلسفته عرضًا «موضوعيًّا» إخباريًّا صرفًا. ينقل بعضها من بعض، ويكرر بعضها بعضًا، أشبه بمقالات دوائر المعارف والموسوعات. تقدم ابن رشد الميت وليس ابن رشد الحي. المؤلفات خارج السياق، السياق القديم دون نقلها إلى السياق الجديد. وهو ليس ابن رشد التاريخي لأن التاريخ حركة وحياة وجدل وتفاعل بين الوعي الفردي والوعي الاجتماعي.
ثانيًا: ابن رشد على ما هو عليه
فمن هو ابن رشد؟ هل يمكن معرفته على ما هو عليه في دوره الحضاري؟ هل يمكن أن يتحدث ابن رشد عن نفسه ويحدد مقاصده وأساليبه وأنواع أقواله؟ كيف يصنع ابن رشد نفسه في إطار عصره ويحدد رسالته، فالفلسفة رسالة قبل أن تكون مهنة؟ وكيف يمكن استئنافه في هذا العصر إذا أرادت الرشدية أن تعيش بدلًا من توظيفه في غايات سياسية وقتية تبريرًا لنظم سياسية ونقدًا لخصومها؟ كيف يمكن رد الاعتبار لابن رشد، وإنقاذه من أيدي المتكسبين به المدعين عليه، الطالبين الشهرة والمنصب، الصدارة والوجاهة، والمتاجرين به في الأسواق؟
ابن رشد صاحب موقف حضاري مثل كل فيلسوف. إنه ابن عصره يدرك أزمته، ويحاول إيجاد حل لها، يقبل تحدياته، ويحاول الاستجابة لها. كل فيلسوف «ملتزم» بالضرورة وإن اختلفت أشكال الالتزام حتى ولو كان أكثر الفلاسفة تجريدًا. وهو موقف ثلاثي بناءً على الموقف الحضاري الذي يجد كل فيلسوف فيه نفسه. الموقف ثابت والفلاسفة متغيرون والاختيارات محددة. ويمكن معرفته قبليًّا بناءً على بنية العقل الخالص قبل معرفته بعديًّا من تحليل أعمال الفلاسفة.
ثم يدافع ابن رشد عن الفلسفة في «تهافت التهافت» ضد هجوم الغزالي عليها وتكفيره الفلاسفة في «تهافت الفلاسفة»، مبينًا أن افتراضات الفلاسفة في قدم العالم، وعلم الله بالكليات، وخلود النفس الكلية لها ما يؤيدها في العقل والنقل. فقد نقد الغزالي الفلسفة باعتباره متكلمًا لا فيلسوفًا. والكلام له حدوده في موضوعه المتعالي ومنهجه الجدلي، ونتائجه المحتملة.
ثم يثبت ابن رشد اتفاق الحكمة والشريعة، الفلسفة والدين في «فصل المقال»، وأن النظر واجب بالشرع ردًّا على سؤال: هل النظر واجب أم مندوب أم مكروه أو محرم أو مباح طبقًا لأحكام التكليف الخمسة. وليست الفلسفة إلا النظر. وهي القول البرهاني وليس الجدلي أو الخطابي من أقوال المتكلمين.
لم يشأ نقله والترويج له وطلب الشهرة منه حتى ولو سماه اللاتين «الشارح الأعظم» بل تمثل ثقافة العصر، واحتوى الوافد داخل الموروث. فالوافد علوم وسائل، والموروث علوم غايات.
وأعاد عرض الوافد طبقًا لجدل اللفظ والمعنى والشيء في تحليل الخطاب، «التفسير» الكبير من اللفظ، و«التلخيص» من المعنى، و«الجوامع» من الشيء. شرح ابن رشد البرهان. من الوافد يتقدم أرسطو ولكن من الموروث يتقدم الفارابي ثم ابن سينا ثم ابن ماجه ثم متى بن يونس والمتكلمون من أهل ملتنا. يبدأ بالمعنى اليوناني ثم يخلصه من حضارته ومن أجل تعميمه ثم يركبه على الحضارة العربية الإسلامية كما هو الحال في القياس، الأصل والفرع والعلة والحكم. يثني على الفارابي وينقد ابن سينا. وفسر ما بعد الطبيعة معتمدًا على أرسطو ثم الإسكندر وثامسطيوس ونيقولاوش وثافرسطس، ثم بطليموس وأبرخس وانكساجوراس وانكسمندريس، ثم سقراط والسفسطائيين. ومن الموروث يتقدم ابن سينا لخلطه بين العلمين الطبيعي والإلهي. وشرح النفس والأرجوزة في الطب لابن سينا. فالشرح للموروث كما للوافد.
والسؤال هو: هل يغني التأويل عن التنظير المباشر للواقع؟ هل يغني تلخيص جمهورية أفلاطون لنقد وحدانية التسلط عن التنظير المباشر للتسلط كواقع وليس كنص، وصف مظاهره، وتحليل أسبابه، واقتراح طرق لمواجهته؟ هل من الضروري وضع نظارة النص القديم أو النص الجديد لرؤية الواقع؟ هل تقتصر مهمة الفيلسوف على التأويل دون التنظير؟
إن التحدي أمام الفلاسفة الآن ليس فقط لإعادة النظر في نصوص القدماء عرضًا وتحليلًا وشرحًا وتلخيصًا بل قراءة وتجاوزًا أو عرض نصوص المحدثين ترجمة وتعليقًا وشرحًا وتأليفًا. ففي كلتا الحالتين الفلسفة ما زالت نصًّا يرى الواقع من خلاله. وتعرض الحضارة العربية الإسلامية نفسها إلى الاتهام بأنها حضارة نص. إنما التحدي هو أن يتحول الفيلسوف العربي الإسلامي إلى تحويل الواقع إلى نص إضافة إلى نصوص القدماء والمحدثين حتى يمارس عملية التفلسف. ويتعامل مع الواقع العربي الإسلامي مباشرة دون الاستناد إلى العكازين، الموروث القديم والوافد الجديد. ومِن ثَم يمكن نقل المرحلة التاريخية كلها من تقريظ لابن رشد الموروث من القدماء أو لابن رشد الوافد من المحدثين إلى ابن رشد عصري جديد يتخفف من علم الكلام، ويرد الاعتبار إلى الفلسفة، ويحمي الفكر من الانجذاب نحو الوافد الغربي الجديد بشرح أرسطو العصر، هيجل. فابن رشد هي الرشدية. والرشديون ليسوا هم الذين يتكسبون بابن رشد بل الذين يستأنفون الرشدية كحركة في التاريخ.