من الحكمة المتعالية إلى الحكمة المتدانية١
محاولة لتثوير صدر الدين الشيرازي بعد
أربعة قرون (١٠٥٠–١٤٢٠ﻫ)
قراءة أولية
إن أخطر ما يهدد أمة هو
التباعد الشديد بين ماضيها الثقافي وحاضرها السياسي. فالإشراق منذ
ابن سينا حتى صدر الدين الشيرازي مرورًا بداماد والسهروردي
والشهرزوري هي الثقافة الوطنية الشائعة في إيران، والسمة المميزة
للفلسفة الإمامية، اكتشاف العالم الباطن الحر بعد أن استولى
الطاغوت على عالم الظاهر القاهر، ونسج عالم من الخيال الخلاق
تعويضًا عن ضياع العالم الواقعي. ثم قامت الثورة الإسلامية في
إيران منذ عشرين عامًا بأيديولوجية إسلامية ثورية لصالح المستضعفين
ضد المستكبرين. وضع أسسها الإمام الخميني ورفاقه من الأئمة الثوار
مطهري ومنتظري وغيرهم من علماء الحوزة العلمية. والسؤال الآن: ما
الصلة بين الفلسفة الإشراقية القديمة والثورة الإسلامية المعاصرة؟
هل يمكن تحويل حكمة الإشراق القديمة إلى أيديولوجية إسلامية ثورية
معاصرة حتى يتحقق التواصل بين الماضي والحاضر؟ أم تظل الثقافة
الوطنية الإسلامية في إيران إشراقية في تنظيرها ثورية في ممارستها
دون تحقيق التواصل بين إشراق الماضي وثورة الحاضر؟ وهل يكفي
الإشراق القديم أن يكون ثورة معاصرة؟ هل ثورة الروح بالمعنى
الإشراقي يمكن أن تكون أساسًا لثورة سياسية بالمعنى المعاصر؟ أم
تظل الثقافة الوطنية في إيران مزدوجة الطابع، إشراق تقليدي من
ناحية وثورة معاصرة من ناحية أخرى؟ إن الحكمة المتعالية ليست للفرس
وحدهم بل لمجموع الأمة الإسلامية بتعدد ثقافاتها الوطنية، إشراقية
وعقلانية وطبيعية.
٢ ومِن ثَم فإن واجب الحكماء الإسلاميين الثوريين العرب
هو قيامهم بهذه المهمة توثيقًا للعلاقة بين الثورة الإسلامية في
أواخر السبعينيات والثورات العربية منذ أوائل الخمسينيات.
وليس المهم الإعجاب بصدر المتألهين واعتباره أول الرسل أو آخر
الأنبياء. وقد يصل حد الإعجاب به إلى درجة التقليد والتعظيم
والتبجيل والتقديس إلحاقًا له بالأئمة المعصومين. «هم رجال ونحن
رجال. نتعلم منهم ولا نقتدي بهم». كان حكيمًا في عصره بعد أن عزت
الفلسفة في المغرب بعد ابن رشد. وانتقلت إلى المشرق خاصة في العلوم
الرياضية والطبيعية والأخلاقية عند الشرَّاح والحكماء المتأخرين
مثل نصر الدين الطوسي وصدر الدين الشيرازي وغيرهم. ثم انقضت أربعة
قرون، وتغير الزمن. وجاء الاستعمار وانتهى بحركات التحرر وبناء
الدول الحديثة التي تعثر الكثير منها حتى فقدت استقلالها وأصبحت
دولًا تابعة لمراكز الاستعمار الأوروبي القديم أو الأمريكي الجديد.
واحتُلت فلسطين، وما زالت محتلة. والعالم الإسلامي مهدد بالحصار
والتفتيت في عالم ذي قطب واحد وفي عصر العولمة. ألا يحتم هذا كله
إعادة قراءة حكمة الإشراق بعد أربعة قرون لإعادة إنتاجها في ظل
الظروف الجديدة، وبعد الثورة الإسلامية في إيران واستقلال
الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا، والمقاومة الفلسطينية في جنوب
لبنان وفي فلسطين، والصحوة الإسلامية في كل مكان، ومحاولات استئصال
المسلمين من أوروبا الشرقية، من البوسنة والهرسك وكوسوفو حتى تصبح
الثقافة الموروثة أحد مقومات النضال الوطني؟ وأيهما أفضل الاتجاه
نحو الماضي أو التوجه نحو المستقبل؟ وأيهما أجدى الإعجاب بتراث
الآباء والأجداد أم المساهمة في إبداع تراث جديد من صنع الأبناء
والأحفاد؟ وإذا كان صدر الدين الشيرازي «مجدد الفلسفة الإسلامية»
فإن التجديد لا يتوقف عند شخص ولا ينتهي بعصر بل يستمر عند علماء
الأمة. عبر العصور «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».
٣
إن التقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم. وإيمان المقلد لا يجوز.
والاجتهاد مصدر من مصادر التشريع. ولا سيد ولا مولى ولا اعتماد لأحد.
٤ وإن من واجب علماء الأمة الاجتهاد، فالعلماء ورثة
الأنبياء. والتواصل بين العلماء سنة القدماء.
إن صدر المتألهين نفسه
يسمح بهذا النقد، وهذا التحول من «الحكمة المتعالية» إلى «الحكمة
المتدانية». فالحكمة المتعالية مملوءة بالنقد والاعتراضات والمحاجة
ضد المتكلمين، أشاعرة ومعتزلة، وضد الحكماء، حكماء اليونان بما
فيهم المعلم الأول وحكماء الإشراق وممثلهم عند أهل السنة، الغزالي.
ويصرح بهذا الموقف النقدي بألفاظ «النقد» و«التزييف» و«الهدم والترصيف».
٥ ويرى صدر المتألهين «خلو الديار عمن يعرف قدر الأسرار
وعلوم الأحرار». ومِن ثَم تكون مسئولية الحكماء والثوريين هو
التحول من علوم الأسرار التي عبرت عنها «الحكمة المتعالية» إلى
«علوم الأحرار» التي تؤصلها «الحكمة المتدانية».
٦
قد لا يوجد نقد للإشراق، فهو الاختيار المفضل، ولا للإمامية فهو
المذهب، ولا للإسماعيلية نظير الإشراق، ولا للصوفية بحر الإشراق
ومحيطه، قدر نقد المتكلمين والحكماء. ومع ذلك فالاجتهاد موجود،
ومحاولة تجاوز القدماء واضحة.
إن بنية «الحكمة المتعالية»
ذاتها في حاجة إلى إعادة بناء. فما زالت بنية مضطربة في أقسامها
سواء القسمة الرباعية للأسفار الأربعة أو للعلوم الأربعة. ويبدو
هذا التردد في القسمة إلى السفر، والمرحلة، والمنهج، والمطلب،
والفن، والطرف، والمسلك، والباب، والفصل. بالإضافة إلى الأقسام
الجزئية للفقرات بفواصل إشراقية بالمئات تتراوح بين الإشراق
والإلهام من ناحية والبحث والتحصيل من ناحية أخرى.
٧ قد يكون التعبير لفظًا واحدًا أو لفظين أو أربعة طبقًا
لإيقاع الكلمات وموسيقى العبارات.
٨
ولفظا «الحكمة المتعالية» قرآنيان. لفظ «الحكمة» قرآني.
٩ ارتبط بالكتاب وبالملك وبالموعظة الحسنة وبفصل الخطاب.
وأتى مستقلًّا أي إن الحكمة لها ماهية مستقلة بصرف النظر عن علاقاتها.
١٠ كما ورد لفظ «متعالي» كإحدى صيغ فعل «علا».
١١ وتعني كل الصيغ التجاوز والعلو والمفارقة اتجاهًا إلى
أعلى، تساميًا على الواقع، وتعويضًا عنه سموًّا ورفعة ولو أنها في
الفلسفة الغربية الحديثة ابتداءً من كانط تعني المعنى العكسي،
المحايث، المباطن، الجواني، الداخلي، ما في الذهن وليس ما في
العالم.
أما لفظ «المتدانية» فقد يفيد معنًى قدحيًّا يوحي به معنى
«التدني»، ولكنه في الحقيقة يؤيد المعنى العكسي المقابل للمتعالي
بصرف النظر عن اللفظ. وهو قرآني أيضًا في ليلة الإسراء والمعراج
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. وهي سمة للجنان
بلفظ
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا
مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ. ووصف
للنخيل في الجنة
وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ
طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ، ولقطوفها
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا
دَانِيَةٌ. بل إن الفعل «يدني» له معنًى إيجابي في دنو
الجلباب على نساء المسلمين
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ
جَلَابِيبِهِنَّ. ومما ساعد على المعنى السلبي للفظ صيغة
«أدنى» وبعض معانيها القرآنية.
١٢ مع أن اللفظ يعني أيضًا في باقي الاستعمالات القرآنية
القريب والأقرب. وقد تفيد معنى الأقل. ويظل المعنى الإيجابي الذي
يتبادر إلى الذهن هو القرب في مقابل التعالي الذي يفيد البعد. إن
لفظ «الدنيا» بالرغم من أنه مشتق من نفس الجذر إلا أن معانيه كلها
سلبية تفيد الهبوط.
١٣
وكان يمكن أن يقال «الحكمة الدانية» وهو أفضل لأن اللفظ «دانٍ»
له معنًى إيجابي ولكن ينقصه النغم المقابل والوزن الإيقاعي في
مقابل «متعالية». لذلك تم تفضيل «المتدانية» حرصًا على موسيقى
اللفظ حتى وإن لم يكن المعنى مألوفًا.
والممر من مرحلة إلى مرحلة كما يدل عليه العنوان «من الحكمة
المتعالية إلى الحكمة المتدانية» عنوان شائع في الدراسات الفلسفية
الشرقية والغربية. بل إنه أصبح العنوان المميز لمشروع «التراث والتجديد».
١٤ وهو يدل على الانتقال من مرحلة القدماء إلى مرحلة
المحدثين، وهو نفس العنوان الذي استعمله هوسرل في الفلسفة الغربية
المعاصرة في كتابه الشهير «من المنطق الصوري إلى المنطق
الترنسندنتا»، واصفًا هذا الممر من الفلسفة الصورية المجردة
والوضعية المادة إلى الفلسفة الشعورية الخالصة وهو
«الفينومينولوجيا».
هذا التحول من «الحكمة المتعالية» إلى «الحكمة المتدانية» ليس
غريبًا على صدر المتألهين في «الأسفار الأربعة»، فلا يعني السِّفر
الكتاب كما يوحي بذلك اللفظ لأول وهلة وعن حق. ولا يعني أيضًا
أقسام الحكمة أربعة: الأمور العامة (الوجود)، العلم الطبيعي، العلم
الإلهي، علم النفس. بل يعني أربعة أسفار هي أقرب إلى المسارات أو
الممرات:
- (١)
من الخلق إلى الحق، وهو الممر الصاعد، وأسماه الصوفية
التأويل، الصعود إلى أعلى، الارتقاء والعلو
والتعالي.
- (٢)
بالحق في الحق، وهو المكوث في الحق، والنعيم به والدوران
فيه، والأنس بقربه، والتجوال في رحابه، والعيش في ملكوته،
الاستقرار فوق السطح بعد الصعود إليه.
- (٣)
من الحق إلى الخلق بالحق، وهو النزول إلى العالم،
والعودة إليه بعد الصعود منه، وهو ما سماه الأصوليون
«التنزيل».
- (٤)
بالحق في الخلق أي النعيم بالحق في الخلق، ليس الحق
المعالي بل الحق الداني، الحق كما يتجلى في الخلق.
هذه الأسفار العقلية الأربعة هي في الحقيقة الانتقال من «الحكمة
المتعالية» في السفر الأول إلى «الحكمة المتدانية» في السفر
الرابع، من الصعود من الخلق إلى الحق والأنس به إلى النزول من الحق
إلى الخلق والكد فيه. وينسى الشرَّاح السفرين الثالث والرابع،
«التنزيل»، وهم في نشوة النعيم بالسِّفرين الأولين «التأويل».
١٥
إن «الأسفار الأربعة» ليست مسالك نظرية عرفانية بل هي «الأسفار
الأربعة السلوكية العملية». ولكن الشائع أن الإشراق معارف ربانية،
وعلوم لدنية وليست طرقًا سلوكية ومراحل طريق كما هو الحال عند
الصوفية. وبالتالي تكون مهمة العلماء التحول من الحكماء الإلهيين
إلى الحكماء الثوريين، والانتقال من النظر إلى العمل، ومن المعرفة
إلى السلوك، ومن الأخلاق الفردية إلى القيم الاجتماعية.
إن السفر الرابع هو شرط التحرر، تحرير الأرض، والتنمية، تنمية
الموارد، والعمل والكد والكدح في الدنيا.
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ،
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا
فَمُلَاقِيهِ. ومشاكل المسلمين اليوم ليست في السفر الأول
في الصعود من الخلق إلى الحق في أسهل ذلك تعويضًا عن هزائم الدنيا
أمام الاحتلال والتخلف، في عالم كله نصر ورضا. إنما مشاكلهم في
السفر الرابع، في النزول من الحق إلى الخلق، في الحرية والعدل، في
رفع القهر والظلم.
١٦
ليس من المعقول أن تكون موضوعات «الحكمة المتعالية» ما زالت
القلم والعرش، واللوح، والكرسي، والصور، وشجرة الزقوم، وشجرة طوبى،
والزبانية والملائكة، والجنة والنار، والأعراف، والحوض. فهل هذا هو
معنى «التعالي»؟ وليس من المعقول أن تكون خاتمة «الحكمة المتعالية»
الموت والقبر وكأن المسلمين في حاجة إلى التذكير بالموت وبعذاب
القبر وهم يموتون كل يوم جوعًا وقحطًا في السودان ومالي وتشاد
وبنجلادش والهند أو طردًا وتعذيبًا وتقتيلًا وتذبيحًا واغتصابًا في
البوسنة والهرسك وكوسوفو والبلقان.
١٧
ولماذا يكون لابن سينا كل هذا الصدور، وتكون له كل هذه الريادة؟
هل لأنه إشراقي؟ هل لأنه من أهل فارس؟ هل لأنه من الإمامية الاثني
عشرية كما يثبت صاحب «توفيق التطبيق»؟
١٨ ابن سينا هو أكثر الأعلام ذكرًا وترددًا في «الأسفار
الأربعة» وكأنه لا يوجد فيلسوف غيره. وهل الفلسفة الإسلامية كلها
على مذهب ابن سينا الإشراقي؟ وماذا عن الكندي وابن رشد، وهما أصحاب
فلسفة إسلامية تقوم على العقل والطبيعة؟ بل إن ابن سينا يتحول إلى
نموذج. هو «الشيخ» الذي لا شيخ غيره، هو آدم أول الأنبياء ومحمد
خاتم الأنبياء.
١٩ إن تعظيم ابن سينا النموذج إلى هذا الحد ناتج عن موقف
الإمامية من القدماء، الإعجاب، والتعظيم إلى حد التقليد. «كلكم راد
وكلكم مردود عليه». وفي نفس الوقت الذي كان فيه الشيخ، وجد أيضًا
البيروني وابن الهيثم، ووجد قبلهما الرازي والخوارزمي. فلماذا
إيثار الإشراق على العلم، والقلب على العقل، وعلم النفس على العلوم
الرياضية والطبيعية، وعلم الرؤية على علم المناظر، و«منطق
المشرقيين» على «الرد على المنطقيين»؟
لماذا تكون الفلسفة الإشراقية إذن هي النموذج الأوحد والوحيد
للفلسفة الإسلامية وطريق تجديدها؟ إنما هي نوع واحد نشأ في ظروف
الاضطهاد والعجز عن مقاومة الطغيان بعد استشهاد الأئمة من آل
البيت، ومحاولة إنقاذ النفس بعد أن استعصى إنقاذ العالم وهو نفس
الدافع الذي نشأ بسببه التصوف وظهور أيديولوجية للمقاومة السلبية:
الصبر، التوكل، الورع، الخشية، الخوف، الرضا، الفناء. ويكون الهدف
هو الخروج من العالم وليس الدخول فيه، من الخلق إلى الحق وليس من
الحق إلى الخلق، محورًا رأسيًّا وليس محورًا أفقيًّا. والسؤال
الآن: وهل المقاومة أمر ميئوس منه؟ وماذا بعد نجاحها أثناء حركة
التحرر الوطني من الاستعمار الغربي ونجاحاتها في جنوب لبنان وفي
فلسطين. ألا يمكن أن تنشأ أيديولوجية إسلامية جديدة تقوم على أحوال
ومقامات جديدة مثل المقاومة والثورة، والتحرر، والنضال، والغضب،
والرفض؟ حينئذٍ يكون الهدف هو الدخول في العالم وليس الخروج منه،
من الحق إلى الخلق وليس من الخلق إلى الحق، محورًا أفقيًّا وليس
محورًا رأسيًّا. وعلى هذا النحو يعود المسلمون إلى التاريخ كما
كانوا في عصر الفتوحات بعد أن خرجوا منه في عصر التخلف والاستعمار.
ويصبحون المركز وغيرهم الأطراف بدلًا من بقائهم أطرافًا للمركز
الأوروبي في عصوره الحديثة.
٢٠
كان هناك اختيار أرسطي مع الاختيار الأفلاطوني الذي سارت فيه
الفلسفة الإشراقية وراء أفلاطون «صاحب الأيد والنور» كما يقول صاحب
«حكمة الإشراق». وقد أدى الاختيار الأرسطي عند المتكلمين والفلاسفة
إلى نشأة الفلسفة العقلية الطبيعية عند أصحاب الطبائع من المعتزلة،
معمر وثمامة والجاحظ والنظَّام وغيرهم من الحكماء. فلماذا يكون
أفلاطون أفضل من أرسطو وأرسطو هو المعلم الأول؟ بل إن الاختيار
الأرسطي كان هو أرسطو المنحول، أرسطو «أثولوجيا» وكتاب التفاحة
وفيثاغورس المنحول، فيثاغورس الوصية الذهبية.
أليس الأجدى والأفضل والأنفع للأمة الإسلامية الآن التحول من
العرفان إلى العلم، ومن الإشراق إلى النظر، ومن العلم اللدني إلى
العلم الإنساني، ومن الإلهام إلى الاكتساب ومن «شواهد الربوبية»
إلى «شواهد الإنسانية»؟ أليس من الأفضل الانتقال من العرش الإلهي
إلى العرش الملكي ومأساة الأمة في ملوكها وأمرائها، ومن القلم
الإلهي واللوح المحفوظ إلى قلم الكاتب والكتاب المصادر؟ أليس من
الأفيد إعادة توظيف حكمة الإشراق داخل الثورة الإسلامية؟
إن المرحلة التاريخية كلها قد تغيرت الآن، من اليونان القديم إلى
الغرب الحديث. تغيرت الحكمة لغة ومضمونًا وهدفًا. فلماذا تظل
«الحكمة المتعالية» أسيرة الثقافة اليونانية القديمة دون أن تتطور
وتتغير في اللغة والمضمون والمقصد إلى الثقافة الغربية الحديثة دون
الوقوع في «التغريب» بل لإكمالها وإعادة عرضها من منظور الثقافة
الإسلامية كما فعل حكماء الإشراق مع حكماء اليونان؟ ولماذا
الاستمرار في التعامل مع منظومات أرسطو، وأفلاطون، وفيثاغورس،
وأبرخس، وأغاثاذيموس، وأنباذقليس، وديمقراطيس، وفرفوريوس،
وثاسطيوس، والإسكندر، وإنكساجوراس، وبقراط، وجالينوس، وثاليس،
وروفس، وسقراط وغيرهم؟ لقد تغيرت المذاهب الفلسفية الآن وأصبحت
أيضًا غازية منذ أكثر من قرنين من الزمان. وتواترت أسماء ديكارت،
واسبينوزا، وليبنتز، ومالبرانش، وكانط، وفشته، وشلنج، وهيجل،
وماركس، وباور، وفيورباخ، وشترنر، وهوسرل، وهيدجر، وياسيرز،
ونيتشه. وهنا تبرز أهمية المحاولات التجديدية لمحمد باقر الصدر في
«فلسفتنا» و«اقتصادنا» و«الأسس المنطقية للاستقراء» وغيرها من أجل
إعادة بناء الفكر الإسلامي بناءً على ثقافة العصر.
ما زالت العلوم الإسلامية القديمة بألفاظها وموضوعاتها ومناهجها
هي السائدة في «الحكمة المتعالية» في الكلام والفلسفة والتصوف وكان
أصول الفقه لا وجود له وهو الذي كان يمكن من خلاله تجديد الفلسفة
الإسلامية كما فعل الإمام محمد باقر الصدر.
٢١ وما زالت الفرق الكلامية في الفرق القديمة من معتزلة
وأشاعرة وكان الخوارج لا وجود لهم بالرغم من أهمية الخروج على
الحاكم الظالم. ما زالت الموضوعات هي الموضوعات الكلامية القديمة،
الذات والصفات والأفعال، والقضاء والقدر، والمعاد، وغابت موضوعات
العقل والنقل، والإيمان والعمل، والإمامة وهي الموضوعات السياسية
التي يمكن أن يعاد قراءتها طبقًا لظروف العصر وتلبية لاحتياجاته.
ما زالت قسمة الحكمة القديمة إلى طبيعيات وإلهيات ونفسانيات هي
السائدة دون إعادة قراءتها إلى بنية أخرى تقوم على وجود الإنسان في
العالم. فالوجود العام هي الأمور النظرية العامة والطبيعة هي
العالم، والإلهيات هي عالم القيم، والنفسانيات هي العلوم الإنسانية
والاجتماعية.
وإذا كانت العلوم تنقسم إلى أربعة: الوجود (الأمور العامة)
والطبيعيات، والإلهيات، والنفسانيات، وهي القسمة رباعية عند إخوان
الصفا، المنطق، والطبيعيات والإلهيات والإنسانيات، فصدر الدين
الشيرازي أقرب إلى إخوان الصفا منه إلى ابن سينا الذي يقسم الحكمة
ثلاثيًّا، المنطق، والطبيعيات، والإلهيات. فأين المنطق عند صدر
المتألهين؟ وهل الأمور العامة مباحث الوجود تغني عن المنطق وهي
أقرب إلى نظرية الوجود عند المتكلمين إجابة على سؤال «ماذا أعلم؟»
بعد الإجابة على سؤال «كيف أعلم؟» في نظرية العلم؟ ولا يعني
بالضرورة المنطق المنطق الصوري القديم كما هو الحال في منطق
«الشفاء» بل قد يعني المنطق الشعوري، منطق النفس وتحليل التجارب
الذاتية والخبرات الجماعية وتراكم خبرات الشعوب. قد يعني المنطق
الاجتماعي، والمنطق التاريخي الأقرب إلى فهم حركات الشعوب وتغير
المجتمعات. قد يعني منطق القوة والحركة، منطق التقدم والصراع.
٢٢
والقسم الأول «الأمور العامة» نوع من العلم الإلهي بالمعنى الأعم
أي العلم الإلهي العقلي العام المجرد الأقرب إلى الميتافيزيقا منه
إلى الإلهيات، وإلى علوم الحكمة منه إلى علم الكلام.
٢٣ يبدأ من الخلق إلى الحق، وبالنظر في طبيعة الوجود
وعوارضه الذاتية كما هو الحال عند المتكلمين في أسبقية الطبيعيات
على الإلهيات.
ويمكن إعادة قراءة هذه الأمور العامة من منظور عصري وحال الأمة
الآن في نضالها ضد الاستعمار والصهيونية في عصر الهزائم والانكسار.
نشأت هذه الأمور العامة، الوجود والماهية، الواجب والممكن والممتنع
في عصر الفتوحات الأول. فجاءت مستقرة، مجردة، ثابتة. والآن في هذا
العصر يمكن إعادة توظيف هذه الأمور، بحيث يتحول الإمكان إلى نشاط
تتحقق لما ينبغي أن يكون وهو الواجب، وإزاحة الممتنع أو المستحيل
درءًا لروح الإحباط والهزيمة، اعتزازًا بالثقة بالنفس، وثقة بالنصر
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والمرجح هو
الرسالة والأمانة والبقاء.
٢٤
ويمكن أن يتحول الوجود إلى إيجاد أي إلى صيرورة أي إلى فعل
الإيجاد كما هو الحال في «التوحيد» اسم فعل من «وحَّد»، وهو شعار
الأمة وعقيدتها الأولى. ولا يقابل الوجود العدم، فالعدم لا وجود
له، العدم نقص في الإرادة، وعجز عن التحقيق، مجرد حالة نفسية، حالة
ضعف وإحباط وإرهاق. فالوجود ملاء وليس خلاءً. العدم معرفة وليس
وجودًا، رؤية وليس واقعًا، وهْم وليس حقيقة. الشرور ليست في الكون
بقضاء الله وقدره بل هي من صنع إرادة الإنسان واختياره
الحر.
والماهية ليست معطاة سلفًا، تصورًا مسبقًا أو قدرًا محتمًا بل هي
تحقق الوجود بالفعل. فالماهية لا تسبق الوجود بل الوجود يحقق
الماهية. الماهية مجرد إمكان ومشروع تحقق وليست وجودًا مسبقًا على
الوجود الفعلي. الماهية طموح وغاية، هدف أقصى يسعى الوجود إليه. هي
أقرب إلى العلة الغائية منها إلى العلة الفاعلة أو الصورية.
٢٥ ليست الماهية مجرد مادة في الأسماء الخمسة «الجنس
والنوع والفصل والخاصة والعرض العام»، بل هي مثل أعلى في حالة
الكمون قبل أن يتحقق بالفعل الإنساني. ويمكن للوجود الذهني أن يكون
الوجود بالقوة، في حالة كمون، مشروع الأمة، المثال مثل أن يتحقق بالفعل.
٢٦ كما أن الشدة والضعف يمكن أن يتحولا من صفات الوجود
العام إلى صفات الفعل الإنساني.
٢٧ وليست الوحدة والكثرة مسألة ميتافيزيقية صورية بل هي
جوهر العلاقات بين الثقافات والشعوب، الوحدة والتنوع
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا،
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً.
٢٨
وليست مباحث العلة والمعلول مباحث ميتافيزيقية مجردة أو علمية
طبيعية بل هي مباحث إنسانية في الفعل الإنساني وأثره في العالم.
٢٩ وليست القضية إثبات إبطال التسلسل إلى ما لا نهاية
لإثبات العلة الأولى كما هو الحال في الفكر الطولي الخطي المتراجع
القديم، بل إثبات الفكر الدائري العلمي، أن يكون الشيء علة
ومعلولًا في آن واحد دون ما حاجة إلى علة أولى ليست معلولة بغيرها.
وقد تبدو العلة الغائية هي العلة الفاعلة بالأصالة. فالإنسان يتحرك
نحو غاية وهي القوة الدافعة والباعث على حركته. وهي غايات اختيارية
وطبيعية في آن واحد.
٣٠
وليس الحديث عن القوة والفعل حديثًا علميًّا طبيعيًّا بل هو
تحليل فعلي لأسباب القوة والضعف، والفعل والعجز عند المسلمين.
٣١ فالمفاهيم الميتافيزيقية الخالصة تجريد وعجز عن
الممارسة الفعلية. وكذلك الحديث عن الحركة والسكون ليس حديثًا
طبيعيًّا بل حديثًا اجتماعيًّا، حركة المجتمعات وسكونها في
التاريخ، خاصة وأنها مرحلة، وأن الحكمة المتعالية على مراحل، وهي
خطوات تحقق فعلي وليست مجرد مراحل تصورية.
٣٢ بل إن تحليل الحادث والقديم لا يكون من أجل استعمال
الحارث أي استبعاده لإثبات القديم بل من أجل الإبقاء على الحدوث
بما يرمز إليه من جدة وابتكار واستبعاد القديم الأقرب إلى التقليد والسلف.
٣٣ وأنواع التقدم ليست مجرد تصنيفات بل هي وصف لمراحل
تقدم المجتمعات في التاريخ ولا يكون تحليل الزمان فقط بالقياس إلى
الحركة ولكن لمعرفة في أي مرحلة من التاريخ.
٣٤ تعيش الأمة. فهو زمان التاريخ بقدر ما هو زمان الأفراد.
٣٥ وتحليل العقل والمعقول لا يكون فقط بتحليل جواهر ثابتة
بل لدرجة عقلانية الأمة ومحو أميتها وقدرتها على تجاوز كل صنوف
اللامعقول من خرافة وسحر.
٣٦
ولا يعني العلم الطبيعي بالضرورة هذا العلم القديم الموروث عن
القدماء في تمثلهم لثقافات اليونان، علم الجواهر والأعراض. علم
المقولات العشر. فهي طبيعيات ثنائية عقلية صورية تعبر عن نوع من
التنزيه العقلي الطبيعي، يسمح بوجود الإلهيات. فهي إلهيات مقلوبة
إلى أسفل، إيمانيات عقلية طبيعية، أقرب إلى دين الطبيعة.
٣٧ يتركز العلم الطبيعي كله على مبحث الجوهر والأعراض وهو
قسمة عقلية مثالية دينية إيمانية لا تختلف عن القسمة في الإلهيات
إلى ذات وصفات، وفي التشريع إلى أصل وفرع.
٣٨ وتحليلات الكم والكيف لا تكون صورية بل اجتماعية في
حساب الإمكانيات ولا تكون الكيفيات فقط المدركات الحسية بل القدرات
الانفعالية وإمكانيات الطاقة البشرية. ويتجاوز المضاف البحث في
العلاقات المنطقية إلى العلاقات الاجتماعية والدولية.
٣٩ أما الجوهر فهو ليس بالضرورة الجسم المادي الذي تدور
حوله الأعراض بل هو حقيقة الشيء وأصله.
٤٠ وقد يؤدي إثبات الطبائع إلى التعرف على جدل الطبيعة
وقوانين التاريخ بعيدًا عن الثنائيات العقلية والدينية.
٤١ وإذا كانت الأجسام توجد على سبيل التجدد، فالأولى وجود
المجتمعات وحياة البشر.
٤٢
ولا يعني العلم الإلهي بالضرورة علم الواحد، والعلة الأولى،
والمحرك الأول، والصورة المحضة، والعقل الأول، والوجود المطلق،
والماهية الخالصة، وواجب الوجود. فهذه أيضًا إيمانيات عقلية، الوجه
الآخر عن طريق الطبيعيات العقلية. الإلهيات أيضًا طبيعيات مقلوبة
إلى أعلى. هي نفس العلم، مرة مقلوبة إلى أسفل فهي الطبيعيات بلغة
النسبي المحدود، ومرة مقلوبة إلى أعلى فهي الإلهيات بلغة المطلق
اللانهائي. ولكنها نفس المقولات، واللغة الثنائية المتضادة، العلة
والمعلول، الصورة والمادة، الثابت والمتحرك، الجوهر والعرض، الكيف
والكم، الزمان والمكان، اللانهائي والنهائي، الخالد والفاني. هي
نفس اللغة مرة عن طريق الإيمان، إعطاء «الله» ما يجب أن يكون وصفات
الكمال وسلبه عن «العالم»، ومرة عن طريق السلب، سلب «الله» ما لا
ينبغي أن يكون من مظاهر النقص وإعطائه للعالم.
٤٣
إن واجب الوجود ليس تصورًا عقليًّا ولا واقعًا خارجيًّا بل هو
اقتضاء المثال وواقعيته. هو حالة نعل في مرحلة الكمون قبل أن يتحقق
المثال إلى واقع.
٤٤ وصفاته ليست مثلًا تعلق عليه، أشبه بالصنم العقلي
لعبادته بل هي أهداف إنسانية عليا تتحقق في الواقع الاجتماعي مثل
العلم والقدرة والحياة ضد الجهل العجز والموت، والسمع والبصر
والكلام والإرادة ضد أحوال الأمة، فهي لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم
ولا تريد.
٤٥ الكلام قراءة، والقراءة إعلان، وليس صفة خارجية في ذات
أو وجود.
٤٦
كما أن العناية الإلهية لا تتم بتدخل إرادة خارجية بل هي نمائية
الطبيعة وقدرة الإنسان على الاتحاد معها وإكمالها.
٤٧ والعالم موجود، يفيض على نفسه وعلى الإنسان بالخير
والكرم. الطبيعة فياضة على الإنسان كما أن الإنسان فياض على غيره.
٤٨
إن الإلهيات في «الحكمة المتعالية» محاولة للخروج من إلهيات
الكلام، نظرية الذات الصفات والأفعال إلى إلهيات الحكمة، واجب
الوجود. ولكنها تظل إلهيات مشخصة بالرغم من التنزيه، تقوم على تصور
الجوهر والأعراض في الطبيعيات، المركز والأطراف. فالذات جوهر،
والصفات أعراض.
أما علم النفس فليس بالضرورة هو علم النفس السينوي القديم الذي
يقوم على ثنائية النفس والبدن، وانفصال الأولى عن الثاني، وخلود
الأولى وفناء الثاني ثم المعاد المكاني للأول منتظرة الجزاء. لا
يعني بالضرورة وجود النفس قبل البدن وحلولها فيه ثم مغادرتها له
كما يقول أهل التناسخ وكما هو الحال في «القصيدة العينية»
الشهيرة.
ليس المهم تعريف جوهر
النفس، فالنفس ليست ظاهرة بمفردها. ولا تبدو إلا من خلال قواها
ونشاطها وحركاتها من خلال البدن. الكيف المحض لا يُعرف ولا يُعرَّف.
٤٩ وقواها الربانية والديوانية والإنسانية قسمة تقليدية،
فالحياة لها مظاهر واحدة بما في ذلك النطق.
٥٠ النفس إحساس داخلي باطني بوجود الإنسان ووعيه بذاته.
٥١ وليس المهم إثبات تجرد النفوس الناطقة وتميزها عن
البدن وانفصالها عنه ومغادرتها إياه. فلا خلاص للنفس بمفردها بل
بالبدن معها. وإلا فلماذا يبعث البدن من جديد إلا تكريمًا له في
البداية والنهاية.
٥٢ وإذا كانت النفس حادثة فإنها مثل البدن. وإذا كانت
تعود فإن البدن يعود بحشر الأجساد. فلا يكفي المعاد الروحاني دون
المعاد الجسماني.
٥٣
إن القول بالتناسخ نتيجة طبيعية للتصور الثنائي لعلاقة النفس
بالبدن. فإذا كانت النفس موجودة قبل البدن ثم تحل فيه، ثم تغادره.
فلماذا لا تعود إليه؟
٥٤ وملكات النفس ليست مستقلة عن إمكانيات البدن وأفعال
الإنسان. فهي ليست ملكات معرفية خالصة تنتهي بالمعاد الروحاني.
٥٥ والمعاد الجسماني لا يعني بالضرورة المعاد المكاني، بل
يشير إلى بقاء المادة وأن للإنسان خلودين، الأول عقلي عن طريق
الآثار الفكرية في روح الحضارة، والثاني مادي عن طريق بقاء المادة
التي لا تفنى ولا تتبدد.
٥٦
إن قضية المسلمين اليوم ليست في النفس بل في البدن، ليست في صفاء
النفس وتميزها عن البدن وإشراقياتها واتصالها بالعقل الفعال
وخلودها ومعادها وحسن ثوابها. فنفوس المسلمين بخير. ولكن القضية هي
البدن وفناؤه، جوعه وعطشه وفقره وعريه ومرضه وقذارته. وبالتالي
يكون السؤال بالنسبة للعصر: كيف يبقى البدن؟ إن وضع كل الإيجاب في
النفس وكل السلب في البدن كما هو الحال في علم النفس القديم قد
يكون هو السبب في حسن الأخلاق الفردية عند المسلمين وسوء الأخلاق
الاجتماعية. الأولى أخلاق التطهر، والثانية أخلاق الضرورة.
و«الضرورات تبيح المحظورات».
وأين الاجتماع والسياسة والتاريخ؟ وهل النفس منعزلة عن النفوس
الأخرى؟ ربما كان الفارابي هنا أفضل من ابن سينا في حديثه عن
«المدينة الفاضلة» وأنواع المجتمعات. وربما مثل ابن خلدون إضافة
حقيقية للفكر الإسلامي بتوجيهه نحو دراسة تطور المجتمعات، نهضة
وانهيارًا.
إن أهمية الفكر الشيعي في القرن الرابع الهجري عند أبي يعقوب
السجستاني وحاتم الرازي وغيرهم من الحكماء الأوائل الذين نظروا
للثورة الإسلامية الأولى ضد طغيان الدولة وفقهاء السلطان وتحويل
قصص الأنبياء في «الينابيع» إلى فلسفة في التاريخ، وجعل الإمامة
أصلًا وليست فرعًا في علم أصول الدين، والأمل في النصر القادم عن
طريق المهدية. كل هذه عناصر يمكن من خلالها تحويل حكمة الإشراق من
تأمل نظري إلى ممارسة عملية، ومن عرفان باطني إلى ثورة سياسية، من
صدر المتألهين إلى روح الله، من ملا صدرا إلى الإمام
الخميني.
لقد ظهر صدر المتألهين في القرن الحادي عشر الهجري، في عصر
متأخر، ووراءه إرث إسلامي طويل قادر على أن يتحول إلى فلسفة في
التاريخ عقب الوعي التاريخي الإسلامي من العصر الذهبي الأول الذي
بلغ الذروة في القرن الرابع الهجري، عصر ابن سينا والبيروني
والمتنبي وابن الهيثم والذي أرَّخ له ابن خلدون مبينًا أسباب قيامه
وسقوطه، ثم عصر الشروح والملخصات عند أهل السنة والإبداع العلمي
والرياضي والفلسفي عند الشيعة، والذي بلغ الذروة ربما عند صدر
المتألهين. وكادت أن تنتهي هذه المرحلة الثانية وتبدأ مرحلة ثالثة،
عصر الإصلاح الديني عند الأفغاني والكواكبي وعلال الفاسي والمهدي
والسنوسي ومحمد إقبال والذي بلغ الذروة في الثورة الإسلامية في
إيران والصحوة الإسلامية في أرجاء العالم الإسلامي. وبالتالي يكون
التحدي هو كيفية التحول من صدر المتألهين إلى إمام
الثوريين.
يغرق صدر المتألهين نفسه في شرح القدماء والاعتماد عليهم كأطراف
في الحوار حتى ولتبدو «الحكمة المتعالية» وكأنها شروح على متون،
وحواشٍ على شروح، وتخريجات على حواشٍ. ويدل على ذلك العدد الكبير
من فلاسفة المسلمين القدماء المذكورين في الأسفار الأربعة.
٥٧ ويذكر القدماء في مقابل المحدثين مما يعطي إحساسًا
بالمرحلة التاريخية بين ما انقضى وما هو آتٍ، بين الماضي والمستقبل.
٥٨ كما يتحدث عن المتأخرين إحساسًا بتقدم الزمن
والتاريخ.
إنها مسئولية الحكماء الثوريين الآن بعد مضي ما يقرب من أربعة
قرون، إعادة قراءة «الحكمة المتعالية» و«شواهد الربوبية» و«الأصول
المشرقية» و«الكافي» و«التوحيد» و«العيون» و«المبدأ والمعاد» وباقي
أعمال صدر المتألهين بحيث يمكن توظيفها بأيديولوجية إسلامية ثورية
للثورة الإسلامية والصحوة الإسلامية والنهضة الإسلامية. إن الإشراق
«نعمة الروح والثورة هناء البدن. وبكليهما تتحقق سعادة
البشر».