التيارات السلفية المعاصرة وعلاقتها بالتيار السلفي التاريخي١
كان من ضمن توجهات الحركة السلفية المعاصرة تجاوز الفرقة العقائدية والتي تسمي اصطلاحًا الطائفية، وقسمة الأمة إلى فرق ومذاهب ومدارس وتيارات حفاظًا على وحدة الأمة وتأكيدًا على الأخوة الدينية التي تربط بين شعوبها وأقوامها ولغاتها. فعند الأفغاني، المسلمون أمة واحدة، لا سنة ولا شيعة. بل إن «الإباضية» في عمان يغضبون من استعمال التسمية القديمة لهم في كتب أهل السنة «الخوارج». ونشأت محاولات جديدة للتقريب منذ الشيخ شلتوت من مصر والشيخ القمي من إيران للتقريب بين المذاهب. ولها مجلتها ونشراتها ومؤتمراتها ودعاتها. فالقضية قديمة. تجاوزها العصر. وكلنا الآن مسلمون بلا مذاهب وفرق وطوائف. وهذا هو حال جمهور الأمة. وإن بقيت المذهبية عند بعض العلماء حرصًا على التخصص، وربما أيضًا صراعًا على الجاه والسلطة في الداخل والقيادة والسيادة في الخارج. ارتبطت القضية بالتاريخ القديم عندما نشأ صراع على السلطة بين فرق الأمة القديمة، السنة والشيعة والخوارج، وحديثًا بين السلفيين والعلمانيين. وقد خسرت الأمة في كلتا الحالتين، خسرت دولة الخلافة قديمًا لضعفها وتشتتها وتخلفها. ثم خسرت الدولة الوطنية حديثًا لقهرها في الداخل وتبعيتها للخارج.
وقد زاد قسمة الأمة إلى مذاهب وأيديولوجيات حديثة وافدة من الغرب بين ليبراليين واشتراكيين في السياسة، وعقلانيين ووجوديين في الفلسفة، واجتماعيين وبنيويين وماركسيين وتحليليين في منهجية البحث. بل لقد انقسمت الأمة إلى سلفيين أوائل وعلمانيين أواخر، فريق يكفر فريقًا، وفريق يخون فريقًا لدرجة الحرب الأهلية في الجزائر. وحرم نشاط الإسلاميين في معظم الدول نظرًا لسيادة العلمانية فيها، واختيارها كنظام للحكم. كما حرم نشاط العلمانيين وأنصار حقوق الإنسان في دول أخرى. فغاب الحوار بين جناحي الأمة. وأصبحت تتنفس برئة واحدة حتى أجهدت القلب.
ويخطط للأمة الآن مزيدًا من التفتت والتشتت والتشرذم وتحويلها إلى دويلات طائفية وعرقية حتى تنتهي وحدة الأمة، عربية أو إسلامية. وتتحول إلى دويلات كردية وعربية وبربرية وسنية وشيعية في العراق والخليج، وزنجية وعربية في السودان، وإسلامية وقبطية في مصر، وسنية ومارونية في لبنان، وعلوية ونصيرية في سوريا، وبدوية وحضرية في الأردن حتى تصبح إسرائيل هي أكبر دولة عرقية طائفية في المنطقة. تستمد شرعية جديدة لها من طبيعة الجغرافيا السياسية للمنطقة بدلًا من الشرعية القديمة التي أعطاها لها هرتزل في «الدولة اليهودية» في أواخر القرن التاسع عشر، العهد الأبدي المادي آحادي الطرف بين الله وبني إسرائيل، شعب الله المختار، وأرض المعاد، والنصر على الأعداء.
ويصعب تحديد الفترة الزمنية التي تعنيها «المعاصرة». فقد تمتد بين ثلاثة قرون من الزمان من القرن الثامن عشر حتى الآن. وبالتالي يدخل محمد بن عبد الوهاب. وقد يكون أقصر من ذلك على مدى قرنين من الزمان فقط، التاسع عشر والعشرون. وبالتالي يشمل الأفغاني وتلاميذه، محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب والجماعات الإسلامية المعاصرة، المدرسة المصرية. كما يشمل المدرسة الشامية، الكواكبي والقاسمي، والمدرسة المغربية، عبد الحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي، والسنوسي، وعلال الفاسي، والمهدية في السودان. وقد تعني المعاصرة ما يحدث الآن في القرن العشرين فقط، منذ الحرب العالمية الأولى، وسقوط دولة الخلافة، وتمزيق الأمة إلى دول صغيرة احتلتها قوى الغرب، فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وهولندا والبرتغال وإسبانيا وبلجيكا وألمانيا. وقد تعني المعاصرة ما بعد الحرب العالمية الثاني فقط، وازدياد نشاط جماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في الثلاثينيات، ثم الجماعات الإسلامية المعاصرة التي خرجت من جبة الإخوان بعد اغتيال مرشدها حسن البنا في ١٢ فبراير ١٩٤٨م، وشنق مفكرها وشهيدها سيد قطب في أغسطس ١٩٦٥م، مثل جماعة الجهاد، والتكفير والهجرة، والقطبيين، وقف وتبين.
وقد يحدث تمييز بين الحديث والمعاصر. يضم الحديث كل ما يتلو ابن تيمية وكل الحركات الإصلاحية منذ القرن السابع عشر، الشوكاني في اليمن، والألوسيان في العراق، ثم الوهابية في السعودية، ومدرسة الأفغاني في مصر، ومدارس الشام والمغرب والسودان. ويشمل الأمر أيضًا إندونيسيا وماليزيا والهند وأواسط آسيا وإيران وتركيا وأوروبا الشرقية وجنوب أفريقيا. أما المعاصر فيشير فقط إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى الآن. وهو التمييز السائد في العلوم السياسية.
ويصعب حصر التيارات السلفية المعاصرة لكثرتها وتشعبها والاختلاف بينها. فمعظم التيارات الإسلامية المعاصرة سلفية. وتتراوح بين سلفية نصية محافظة، وسلفية جديدة إصلاحية، وسلفية جهادية. بل إن الأفغاني مؤسس الحركة الإصلاحية الحديثة سلفي مستنير، وتلميذه محمد عبده سلفي عقلاني. وتلميذه رشيد رضا سلفي وهابي. وتلميذه حسن البنا سلفي صوفي. وعلال الفاسي سلفي وطني. وعبد الحميد بن باديس سلفي عصري. بل إن كثيرًا من الحركات الإصلاحية الجديدة مثل الإسلام السياسي بكل أطيافه، والإسلام الليبرالي، والإسلام الاشتراكي أو اليسار الإسلامي، والإسلام المستنير، والإسلام العقلاني يطلق عليها كلها السلفية الجديدة، وأحيانًا الأصولية الجديدة. فالحركة الإصلاحية بنت السلفية نظرًا لأن السلفية أصبحت هي التيار السائد في التراث القديم منذ القرن الخامس الهجري بعد أن اختار الغزالي الأشعرية كفرقة واحدة ناجية في العقيدة، والشافعية كمذهب واحد صحيح في الفقه. وأقصى فرق المعارضة السرية في «فضائح الباطنية»، والعلنية مثل المعتزلة والحسن والقبح العقليين في «الاقتصاد في الاعتقاد». وأعطى السلطان أيديولوجية السلطة، موحدًا بين صفات الله وصفات السلطان، العلم والقدرة والحياة، والسمع والبصر والكلام والإرادة. وفي المقابل أعطى الناس أيديولوجية الطاعة في «إحياء علوم الدين»، الصبر، والتوكل، والورع، والتقوى، والزهد، والخوف، والخشية، والرضا إلى آخر ما هو معروف من مقامات الصوفية وأحوالهم. فالكل سلفي أي الحفاظ على الموروث القديم. وأصبحت أسماء الأئمة الأعلام حاضرة في الأذهان أكثر من غيرهم، مثل أحمد بن حنبل، وابن تيمية، وابن القيم، والعز بن عبد السلام.
وكلما زادت أزمة العصر ازداد التشبث بالسلفية كطوق نجاة من الانهيار والضياع. فقد مرت غارات على العالم الإسلامي، الصليبيون من الغرب والتتار والمغول من الشرق. وكانت السلفية أكبر عون للأمة من أجل إثبات الذات والصمود في مواجهة الآخر خاصةً إذا كان الغزو يتجه نحو الهوية والشخصية والذاتية والثقافة والحضارة بل والدين. وبعد أن نجحت الأمة في صد الغارتين عليها بدأت غارة جديدة من الغرب، الاستعمار الحديث، بل ومن الشرق تحت روسيا القيصرية ثم الثورة الاشتراكية في أواسط آسيا والقضاء على الممالك الإسلامية في بخارى وسمرقند وطشقند. ومرة أخرى عادت الأمة إلى روحها وتاريخها وثقافتها وتراثها لتجد في السلفية، الأنا في مواجهة الآخر، خير عون على مواجهة التهديد الجديد. فالسلفية ليست فقط بنت التاريخ بل هي أيضًا ابنة العصر. التاريخ قوة، والعصر ضعف، ووجدت الأمة في قوتها خير معين لها على ضعفها.
بدأت السلفية المعاصرة بالحركة الوهابية في نجد وسط الحجاز تحت تأثير الألوسي في العراق. كانت نصية مثل ابن تيمية وأحمد بن حنبل. النص في مواجهة الواقع. فالنص طاقة وحركة لا تنصرف في العقل والفكر والتنظير بل في مواجهة الواقع ومظاهر البدع فيه، وعلى رأسها التوسط بين الإنسان والله بعظام الحيوان والأشجار المقدسة والأولياء والقديسين بل وأيضًا بالرسول. كما ظهر في الأدعية النبوية «أغثنا يا رسول الله»، «أعنا يا رسول الله». فاتكل الناس على الدعاء وتركوا الفعل. وهو ما سماه إقبال «فلسفة السؤال». سلفية نصية في الفكر، وحركية اجتماعية في الواقع. إصلاح العقيدة مقدمة لإصلاح المجتمع، وتغيير الداخل قبل تغيير الخارج.
وفي نفس الوقت تنبثق من العقيدة شريعة، وتحتاج الشريعة إلى دولة، والإيمان إلى فارس، أسوة بالموحدين والمرابطين وكل الحركات الإسلامية السياسية في التاريخ. وتبنى عبد العزيز آل سعود الحركة. وقام بتوحيد قبائل شبه الجزيرة العربية. فالتوحيد كعقيدة ينعكس في التوحيد كنظام. التوحيد هو حق الله على العبيد كما عبر عن ذلك في كتابه الرئيسي «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد» بصرف النظر عن حق العبيد على الله، وواجب الله بالنسبة للعبد، وهو سماه المعتزلة «الواجبات العقلية»، واجب الخلق، وواجب التكليف، وواجب شكر المنعم، وواجب رعاية الأصلح، وواجب التعويض عن الآلام. وتحولت الوهابية إلى حركة سياسية، ما زالت حتى الآن منتشرة في كل العالم الإسلامي. يهرب إليها كلما اشتدت عليه المآسي، وأثقلت كاهله الأحزان.
وكانت هناك بداية أخرى مختلفة تمامًا عند أحمد خان في الهند باسم العلم والحضارة الغربية والمدنية الحديثة، تقليدًا بتقليد. تقلد الوهابية المعاصرة السلفية القديمة، وتقلد العلمانية الحديثة الحضارة الغربية، من نقيض إلى نقيض في الظاهر، والبنية واحدة، وهو النقل بصرف النظر عن مصدره، الأوائل أم الأواخر، القدماء أم المحدثون، العرب أم العجم. وانشقت الثقافة إلى تيارين متباعدين ومتخاصمين بل وعدوين لدودين. اختارت السعودية السلفية. واختارت تركيا العلمانية بعدها بقرن. وما زال الاستقطاب قائمًا حتى الآن. كلما زاد «التغريب» انطوى الناس على أنفسهم، وشدوا أزرهم بالسلفية، المعين الذي لا ينضب في الوعي التاريخ وثقافة الأمة.
وحاولت مدرسة الأفغاني التوسط بين الإخوة الأعداء، الخصمين اللدودين، والتي أصبحت نموذجًا للحركة الإصلاحية. ورفعت شعار «الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج، والقهر في الداخل». ويتحقق ذلك بالعلم والوحدة والعقل والمساواة والعدالة الاجتماعية. وهي قيم تنبع من الإسلام ورؤيته للتاريخ وحركته التي تقوم على الإخلاص والوفاء والأمانة وليس على المادية عند «النيتشريين» و«العدميين» و«السوسياليست» و«الكومنيست».
ومن تعاليم الأفغاني قامت الثورة العرابية في مصر تحويلًا للإصلاح إلى سياسة كما قال عرابي في قصر عابدين في وجه الخديوي توفيق: «إن الله خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا عقارًا. والله لن نورث بعد اليوم». وكان في تصوره للعلم يعتمد على إخوان الصفا وحي بن يقظان وابن بشرون. وبعد هزيمة العرابيين واحتلال مصر في ١٨٨٢م كبا الإصلاح إلى المنتصف عند تلميذه محمد عبده الذي خشي من السياسة والاصطدام بالسلطان. وآثر الإصلاح كتغير اجتماعي متدرج وليس ثورة عارمة، بداية بإصلاح التعليم، واللغة، والمحاكم الشرعية. إلا أن عبد الله النديم تلميذه الآخر آثر الاستمرار في المقاومة لطرد المحتل باسم الجهاد والوطن. وتخفَّى بين الناس. ونشر الصحف. فالدين والوطن شيء واحد. وكذلك فعل تلميذه الأثير أديب إسحاق إعجابًا بالثورة الفرنسية. فلا فرق بين مسلم ومسيحي في حرية الفرد واستقلال الأوطان.
ولما قامت الثورة الكمالية في تركيا في ١٩٢٣م، وألغت الخلافة في ١٩٢٥م، واختارت العلمانية طريقًا وأسلوب حياة حدث رد فعل عند رشيد رضا تلميذ محمد عبده. وخشي أن تتكرر التجربة في أنحاء العالم الإسلامي. فارتد سلفيًّا. وكتب «الخلافة أو الإمامة العظمى» في ١٩٢٥م. في حين كتب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» لتكرار التجربة التركية ضد رغبة الملك فاروق تنصيب نفسه خليفة للمسلمين بدلًا من السلطان عبد الحميد. وعاد رشيد رضا لينشر الأعمال الكاملة لمحمد بن عبد الوهاب الذي رده إلى ابن تيمية وابن القيم واللذين رداه إلى مؤسس السلفية الأول أحمد بن حنبل. ووجدت السلفية المعاصرة خير عون في السلفية القديمة. واستمع حسن البنا إلى دروس رشيد رضا في دار العلوم وأعاد نشر «المنار» بعد أن توقفت بعد موت رشيد رضا في ١٩٣٥م. ثم حوَّل السلفية النظرية إلى سلفية جهادية نظرًا لوجود قوات الاحتلال البريطاني في مصر على ضفاف قناة السويس وفي الشرقية، ولاحتلال فلسطين في ١٩٤٨م، ولاحتلال الهند نصف كشمير، ولبداية حركات التحرر الوطني في المغرب العربي من أجل الاستقلال. وأراد تحقيق حلم الأفغاني بإنشاء حزب إسلامي ثوري يقوم بتحقيق الأيديولوجية الإسلامية الثورية ولم يستطع لأنه كان طريد النظم السياسية في أفغانستان وإيران ومصر والسودان وتركيا. فأسس جماعة «الإخوان المسلمين» في ١٩٢٧م في الإسماعيلية. وبعد عشرين عامًا أصبحت أقوى تنظيم إسلامي سياسي في العالم الإسلامي يضاهي فدائيان إسلام في إيران والجماعة الإسلامية في باكستان.
وبعد اغتيال حسن البنا في فبراير ١٩٤٨م، فقدت الجماعة شخصيتها المركزية. وظلت تبحث عن بديل إلى أن وجدته في سيد قطب الشاعر، وكاتب قصص الأطفال، والناقد الأدبي، والمفكر الإسلامي. فقد بدأ سيد قطب شاعرًا وطنيًّا رومانسيًّا. ثم كتب قصصًا للأطفال. ثم انشغل بالنقد الأدبي ضمن مدرسة الفن للحياة. ونصر الجديد على القديم. ثم اكتشف الإسلام من جانبه الأدبي في «النقد الأدبي، أصوله ومناهجه» و«التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة في القرآن». ثم اكتشف الجانب الاجتماعي السياسي في الإسلام في «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«السلام العالمي والإسلام» و«المستقبل لهذا الدين». وحاول وضع أيديولوجية إسلامية في «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته». وفرحت به الثورة المصرية عند اندلاعها في ١٩٥٢م. وكان من بين دعاتها. ونشر مقالاته وأحاديثه الإذاعية في «دراسات إسلامية». ولما وقع الصدام بين الإخوان والثورة في ١٩٥٤م كان سيد قطب هو الضحية. سُجن وعُذِّب وأُهين، فكتب أسوأ ما كتب «معالم في الطريق». يعبر عن نفسية السجين. ويقسم العالم قسمين، الإسلام والجاهلية، الله والطاغوت، النور والظلمة، الإيمان والكفر، كما يفعل أسامة بن لادن في ظروف مشابهة، تقسيم العالم إلى فسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر. ولن يتغير العالم إلا إذا قضى أحد الطرفين على الآخر، قضاء الحق على الباطل. ولن يتحقق ذلك إلا بجيل قرآني فريد، تحت شعار «لا إله إلا الله». فاتُّهم بتأسيس تنظيم لقلب نظام الحكم. وأُعدم شنقًا في أغسطس ١٩٦٥م.
واشتدت الحركة السلفية بعد أن دخلت جماعة الإخوان السجون. وظهرت من داخلها جماعات التكفير والهجرة تمارس العنف مثل جماعة شكري مصطفى، واغتيال الشيخ الذهبي في ١٩٧٦م، وجماعة الجهاد الإسلامي للنبهاني والتي حاولت الاستيلاء على الفنية العسكرية في ١٩٧٤م. وكان أهم حدث لها اغتيال رئيس الجمهورية الثانية في أكتوبر ١٩٨١م لأنه «قرَّب الأشرار وأبعد الأخيار»، وعقد صلحًا مع بني إسرائيل، وارتمى في أحضان الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وتحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية باسم الانفتاح، وقسَّم الأمة فريقين.
بدأت الجماعات الإسلامية من حيث انتهى إليه سيد قطب وصاغت مفاهيم، ورفعت شعارات. كانت المفاهيم مثل «الحاكمية» و«الربوبية» و«الألوهية» و«العبودية». ومصدرها كتاب «المصطلحات الأربعة في القرآن» لأبي الأعلى المودودي الذي سُرِّب إلى سيد قطب في السجن، فتأثر به. وهي تعبر عن أحوال «المفاصلة» لدى المسلمين في الهند واستحالة تعايشهم مع الهندوس، مما أدى إلى تقسيم الهند إلى هندوستان للهنود، وباكستان للمسلمين. البداية بالألوهية. فالله هو البداية والنهاية. هو المبتغى والمصير. وهي نظرة إلهية خالصة تلغي كل شيء إلا الله كما هو الحال في نظريات وحدة الوجود. وتعني الربوبية أن الألوهية فاعلة في العالم، وأن الله ليس فقط إلهًا بل ربًّا. وتعني العبودية أن الإنسان عبد الله، لا كيان له في ذاته إلا العبودية. ونتيجة لذلك تنشأ «الحاكمية» كشاهد على الألوهية والربوبية والعبودية. فالحكم لله وليس للبشر وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
ورفعت شعارات أخرى تشرح «الحاكمية» مثل: «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «تطبيق الشريعة الإسلامية». وساعدت الظروف النفسية والاجتماعية على بلورة هذه الشعارات فخاطبت الماضي والحاضر، الوعي التاريخي والبنية النفسية. «الإسلام هو الحل» بعد أن جربت كل الحلول الممكنة الممثلة في أيديولوجيات التحديث مثل الليبرالية والاشتراكية والماركسية والقومية، فلم يحل شيء. بل ازدادت الأمور تعقيدًا. فأصبح «الإسلام هو البديل» بعد أن تفاقمت الأزمات، وجُرِّبت البدائل الوافدة إلا البديل الموروث. خاصة وإذا كان الإسلام نجح في الماضي في تأسيس حضارة وإقامة دول وإنشاء إمبراطوريات فلماذا لا ينجح في الحاضر؟ والإسلام قادر على تحريك الجماهير وتنوير الناس في الثورة الإسلامية في إيران، والحفاظ على الهوية في أوروبا الشرقية وفي أواسط آسيا، وفي مواجهة الموجة الاستعمارية الغربية الثانية الممثلة في العولمة والصهيونية ببروز حركات الجهاد وحماس والمقاومة الإسلامية في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وجنوب أفريقيا ضد النظام العنصري. لذلك لزم «تطبيق الشريعة الإسلامية» خير من القوانين الظالمة السائدة التي تزيد المواطنين قهرًا وفقرًا. فالقانون لا يعمل لصالح الناس بل نشأ لصالح طبقة أو فئة أو تعبيرًا عن إرادة حاكم. وكي تتحقق مصالح الناس لا بد من التحايل على القانون بالرشوة والعصيان. فأصبح الناس يرفعون شعارات الإسلام هربًا من مآسي الواقع وظلمه. فلعلهم في الإسلام يجدون الفرج. وهي شعارات أكثر فاعلية، ونابعة من ثقافات الناس ومن وعيهم التاريخي، وخير من شعارات وافدة مثل: حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الأقليات. المجتمع المدني، الديموقراطية، ديكتاتورية البروليتاريا، رأس المال، فائض القيمة، الملكية العامة لوسائل الإنتاج، العمل مصدر القيمة، الأمة مصدر السلطات، الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة.
ولمزيد من تأكيد الذات أمام عواصف العصر تم التمسك بالشعائر والطقوس والمظاهر الخارجية: الأداء العلني للصلوات، الجهرة في صلاة الجمعة والعيدين، والبراءة في الحج، والأذان المرتفع، وإطالة اللحى، ولبس الجلباب الأبيض، وعدم مصافحة النساء أو مجالستهن، والدعاء في كل الحركات والسكنات، وقراءة القرآن في المواصلات العامة، والتمتمة بالشفتين في الطرقات.
ويفسر القرآن تفسيرًا حرفيًّا دون تأويل أو تخريج. فالنص بيِّن واضح. الشريعة ليلها كنهارها، ناصعة بيضاء. ولو شاء الله التأويل لفعل. ولا خطر في التجسيم والتشبيه في أخذ الصفات على علاتها دون تمحك بالمجاز في اللغة. فالله يستوي على العرش لا بمعنى يستولى إلى القدرة والعظمة بل بمعنى الاستواء الحرفي. فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. والشريعة ثابتة، والحدود قائمة. ولا مجال لتأويلها إذا ما تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال كما فعل عمر في تأويل حد السارق في عام المجاعة، وتأويل المؤلفة قلوبهم بعد انتشار الإسلام.
والنص صريح في تحريم المولاة لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ. ومِن ثَم يستحيل الحوار مع المستعلي الجبار الذي يسير في الأرض مرحًا يظن أنه قد خرق الأرض وأنه بلغ الجبال طولًا. لا حوار مع الآخر المغتصب إلا الجهاد، ولا مواجهة معه إلا بالاستعلاء. والنص يغني عن العقل وهو الحاكم عليه. ولا حوار بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر. والآخر ليس من أهل الكتاب لأنه حرفه وبدله وغيَّره وخبأه وأخفاه.
والحقيقة مطلقة لا نسبية فيها ولا تعدد. والإنسان قادر على معرفتها. لا وجهات نظر في الحق. الحق هو الحق. ملزم للمعرفة الإنسانية المستقبلة له ودون اجتهاد فيه. والسلفية هي الأقدر على معرفته بما لها من إيمان وتسليم وطاعة وهو كل واحد لا يتجزأ. يعرف مرة واحدة ولا تدرج فيه. فيه خطأ وصواب وخارج قوانين الاحتمال.
والحقيقة إلهية وليست إنسانية، نازلة من السماء وليست صاعدة من الأرض. النقل أساس العقل، والوحي معرفة إنسانية مطلقة. والكل راد والكل مردود عليه إلا الرسول.
وفي التطبيق، الإسلام لا يتجزأ، إما أن يطبق كله أو يترك كله. والحدود والكفارات قبل الحقوق والواجبات ولا تدرج في التطبيق. فتطبيق الشريعة تسليم بالعقيدة، وليس فقط طبقًا لمصالح الناس.
والأولوية للسياسة، ولتغيير نظام الحكم، ولولاية الفقيه. «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». فطاعة أولي الأمر من طاعة الرسول، وطاعة الرسول من طاعة الله أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. لذلك لا ضير في الانقلاب. والانقلاب في الفارسية يعني التغيير كما بيَّن أبو الأعلى المودودي في «منهاج الانقلاب الإسلامي».
ولا ضير في البداية بالدعوة السرية، وتنظيم خلايا تحت الأرض استعدادًا للانقضاض على سدة الحكم. فقد بدأت الدعوة الإسلامية سرية قبل أن تتحول إلى علنية، في مكة قبل المدينة. ولا فرق في ذلك بين سنة وشيعة. إذ يخضع كلاهما لظروف قهر واحدة.
ولا حرج في ممارسة العنف. فالعنف في الله شهادة وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ، و«المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف». وقد كان الرسول يدعو دائمًا «اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين». والعنف في الحقيقة هو عنف مضاد. ولا يفل الحديد إلا الحديد، عنف الفرد في مواجهة عنف الدولة، وعنف الحق في مواجهة عنف الباطل. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ.
تحولت الحركة السلفية الآن وتحت ضغط الظروف إلى حركات جهادية مثل حماس والجهاد في فلسطين والعراق والشيشان وأفغانستان وكشمير على مختلف أسمائها. وليس في الوقت متسع لبيان نظري أو لصياغات عقلية أو لمداخل منهجية ما دامت الأوطان محتلة، والشعوب مقهورة، والكرامة مطعونة، والعرض مستباح. ولم يعد هناك فرق على مستوى العمل بين السلفية والوطنية، بين الحركات الإسلامية والحركات العلمانية المتألفين في الوطن ومقاومة الاستعمار أي بين الإخوان والشيوعيين في حوارهم الأخير.
وقد نشأت معظم الحركات السلفية في أتون معارك التحرر مثل حزب الاستقلال في المغرب العربي، وجمعية علماء المسلمين في الجزائر، والحزب الوطني ثم الإخوان المسلمين في مصر، والسنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان، ومجاهدي خلق وفدائيان إسلام في إيران، والجماعة الإسلامية في باكستان وإندونيسيا. فالعمل له الأولوية على النظر. والتحرر يتقدم التنظير. وهو رد فعل طبيعي على الدعوات الصوفية التي تكتفي بالعبادة أو المعارضة اليسارية التي تكتفي بالقول.
إن السلفية الجديدة الآن محاولة لاستئناف الإصلاح الديني، وإقالته من عثرته، وتجاوز كبوته. فقد تعددت الرؤى بحيث لم تعد هناك حركة سلفية واحدة. وتعددت المناهج بحيث لم يعد الجهاد هو المعبر الوحيد. هناك «اليسار الإسلامي» وهو تفسير اجتماعي سياسي للإسلام طبقًا للتحديات الرئيسية للعصر خاصةً الفقر والقهر، استئنافًا لتفسير «المنار» لمحمد عبده ورشيد رضا، وإبرازًا للقضية الاجتماعية. وقد جسَّده أخيرًا حزب العدالة والتنمية في تركيا والمغرب، وحزب العدالة والمساواة في السودان–دارفور، وحزب العمل الاشتراكي في مصر، وشركة إسلام في إندونيسيا. يتأسى بأبي ذر الغفاري، ويسير على نهجه، ويؤكد حق الفقراء في أموال الأغنياء، والملكية العامة لوسائل الإنتاج، والركاز، والإقطاع المشاع، وتداول رأس المال، والعمل مصدر القيمة.
وهناك الإسلام المستنير الذي ما زال ينتسب إلى محمد عبده في «رسالة التوحيد»، والتحول من الأشعرية إلى الاعتزال، والقول بالحسن والقبح العقليين، وبخلق الأفعال، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويقول بأصلَي التوحيد والعدل. فالتوحيد بلا عدل ظلم، والعدل بلا توحيد نسبية. ويسمى أيضًا «الرشدية الجديدة» أو الإسلام العقلاني الذي يجمع بين عقل المعتزلة وابن رشد والحنفية. ويلتقي مع دعاة العقلانية الغربية وإن اختلف المصدر.
وهناك الإسلام الليبرالي الذي يؤكد على قيمة الحرية تأسيًّا بقول عمر: «لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟» فالتوحيد إعلان عن الحرية. يبدأ بالشهادة، الشهادة على العصر بالوحدانية. ويبدأ بالنفي «لا إله» ثم بالإثبات «إلا الله». والساكت عن الحق شيطان أخرس. والجهر بالقول: حق الشهادة، وأعظم شهادة كلمة حق عند إمام جائر، والخشية من الله وليست من السلطان الذينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، والدين النصيحة لأولي الأمر ولعامة الناس.
وهناك الإسلام الإنساني الذي يركز على أهمية حقوق الإنسان حتى لا يستأثر الغرب وحده بالفضل كله. والإنسان أفضل ما في الكون. رمزه آدم، خليفة الله في الأرض. وهو الذي حمل الأمانة طوعًا واختيارًا. إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ. وقد روج الصوفية، ابن عربي، والجيلي إلى عقيدة «الإنسان الكامل» التي يمحى فيها الفرق بين الإنسان والله. ولا فرق بين حقوق الإنسان وحقوق الشعوب.
وهناك الإسلام الوطني الذي أصبح من سمات الحركة السلفية المعاصرة عند الأفغاني وعلال الفاسي وحسن البنا لا فرق بين الوطن والعروبة والإسلام. وقد كان الرسول يحن إلى مكة بعد الهجرة. وكان عمر يريد أن يجعل شبه جزيرة العرب دينًا واحدًا في وطن واحد. وكتب أبو حيان «الحنين إلى الأوطان» وروى الطهطاوي «حب الوطن من الإيمان».
وهناك الإسلام التعددي الذي يسمح بتعدد وجهات النظر. وهو درس من أصول الفقه القديم، أن الصواب متعدد. «للمخطئ أجر وللمصيب أجران». الحق النظري يتعدد وإن كان الحق العملي واحدًا، وهو تحقيق مصالح الناس. والحضارة الإسلامية حضارة تعددية، فرق كلامية، وطرق صوفية، ومذاهب فقهية. فليس الغرب وحده هو حضارة التعدد الذي يعني النسبية واللاأدرية والعدمية. وذلك ضد الموروث القديم، إن الصواب واحد، تمثله فرقة واحدة هي الفرقة الناجية.
لقد بدأت الحركة السلفية المعاصرة تميل نحو الاعتدال. تنبذ العنف، وتقبل بالتعددية السياسية، والحوار مع المخالفين، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، والنزول إلى معترك الحياة السياسية على أساس برامج اجتماعية وسياسية وليست دينية. وتمت مراجعة النفس، ورفض تكفير الخصوم. وكلما تحسنت الأوضاع في الداخل، واستقلت الأوطان، زال القهر والفقر والعجز والإحباط في الداخل وزالت التبعية للخارج، تصح الحركة السلفية وتصبح إضافة إلى وعي الأمة ومسارها في التاريخ وليس نقصًا منها أو انحرافًا عنه. وفي هذه الحالة قد يتغير الاسم نظرًا لما يوحيه من اتباع للسلف واتجاه نحو الماضي فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. وقد يصبح معنى السلفي التقدمي كالأسد الذي إذا قفز إلى الأمام خطوات يتأخر إلى الوراء خطوات وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ.
هذا بحث اجتهادي عقلي يحلل التجارب العامة للأمة، وهو جزء منها، بعيدًا عن الاستشراق التاريخي. وهو بحث حي يخرج من أتون المعركة، ويتعامل مع ظواهر حية، وليس بحثًا ميتًا يخرج من أقبية التاريخ.