أولًا: نقد الحديث
ينتسب علم الحديث إلى مجموعة العلوم النقلية الخالصة التي
تركها القدماء مع علوم القرآن والتفسير والسيرة والفقه دون
إعمال للعقل نظرًا لاعتمادها على الرواية، في حين استطاعوا
صياغة مجموعة أخرى من العلوم العقلية النقلية يزاوجون فيها بين
النقل والعقل، مثل: علم أصول الدين، علم أصول الفقه، علوم
الحكمة، علوم التصوف. كما صاغوا مجموعة ثالثة من العلوم
العقلية الخالصة مثل العلوم الرياضية: الحساب والهندسة
والموسيقى والفلك، والعلوم الطبيعية مثل: الطبيعة والكيمياء
والنبات والحيوان والمعادن وعلوم البحار، والعلوم الإنسانية
مثل: علوم اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ. فهل يستطيع
المحدثون تحويل العلوم النقلية الخالصة إلى علوم عقلية نقلية،
وإعمال العقل فيها حتى يستطيع جيل آخر في فترة تاريخية لاحقة
تحويلها إلى علوم عقلية خالصة بعد أن حاولوا، ولو على استحياء،
تحويل العلوم العقلية النقلية القديمة إلى علوم عقلية خالصة.
٢
وستتم المحاولة فقط على «صحيح البخاري» كنموذج، وكان يمكن
أخذ صحيح آخر من الإصحاحات الخمسة أو على «صحيح مسلم» وبالتالي
تقوم الدراسة على صحيحين، ونظرًا لتكرار نفس الإشكال يكفي
إصحاح واحد نموذجًا للباقي.
٣
وما ينطبق على «صحيح البخاري» ينطبق على باقي الإصحاحات
الخمسة وهو أصح الإصحاحات كلها حتى إنه ليضرب به المثل بالصحيح
في الثقافة الشعبية وفي الأمثال العامية مثل «غلطنا في
البخاري» لدرجة التقديس والتبرك به وقراءاته في الأزمات في
المساجد كما حدث أثناء غزوة نابليون لمصر كما يقص
الجبرتي.
والتحول من نقد السند إلى نقد المتن مساهمة في تحويل علم
الحديث من علم نقلي إلى علم عقلي نقلي اعتمادًا على العلوم
الإنسانية والاجتماعية الحديثة مثل علوم اللغة والأدب،
والفلسفة والجمال، والنفس والأخلاق، والاجتماع والقانون،
والسياسة والاقتصاد، والجغرافيا والتاريخ.
وقد ازدهر تطبيق هذه العلوم في دراسة النص في الغرب وفي
مقدمتها علم النقد الأدبي ودراسة الأشكال الأدبية، وقد نشأت
مدرسة أكملها في ألمانيا في عشرينيات هذا القرن، مدرسة الأشكال
الأدبية لهذا الغرض، وتم تطبيقها على الأناجيل عامة، والأناجيل
المتقابلة (الثلاثة الأولى، مرقص، ولوقا، ويوحنا) خاصة.
٤ كما ازدهر علم الاجتماع الأدبي لمعرفة كيفية صياغة
علم الحديث القديم وارتباطه بالرواية عند المسلمين من حيث
السند، وبأمثال العرب من حيث المتن، وبقوانين النقل الشفاهي.
بل لقد أصبح علم الرواية علمًا مستقلًّا في الدراسات الأدبية المعاصرة.
٥
وبالرغم من ازدهار هذه العلوم الإنسانية والاجتماعية في
الغرب، إلا أنها قد شاعت خارجه، وأصبحت من المكتسبات الإنسانية
العامة كما حدث في الثقافات القديمة وتمثل الثقافة الإسلامية
لها، مثل علوم الحكمة، حتى أصبحت جزءًا منها ورافدًا لها لا
فرق بين وافد وموروث، ومِن ثَم يتم استعمال هذه العلوم على نحو
اجتهادي خالص دون تطبيق مباشر لبعض نظريات العلوم الإنسانية
والاجتماعية الغربية أو بعض نتائجها، خشية التحرر من علوم
القدماء إلى الوقوع في تقليد المحدثين، وحتى يظل الاجتهاد
مستقلًّا، اجتهادًا ذاتيًّا خالصًا، ودون قراءة العلوم القديمة
من منظور العلوم الحديثة، ولا يعتمد هذا التحول من نقد السند
إلى نقد المتن على أي مذهب وضعي ينتمي إلى الحضارة الغربية بل
هو تحكيم لشروط التواتر مباشرة، التطابق مع شهادة الحس والعقل
والوجدان ومجرى العادات. هي دراسة وصفية محضة لا تصدر أحكامًا
بالصحة أو الخطأ على هذا الموقف أو ذاك أو بالصحيح والموضوع
على هذا الحديث أو ذاك. مهتمًّا فقط بالفهم والتعليل، الفهم
العقلي والتعليل العلمي كنموذج للدراسات الحديثة في علم الحديث
التي بدأت منذ عدة عقود من الزمان في الداخل والخارج على حد
سواء.
كانت الرواية علم القدماء؛ لذلك أنشئوا علوم الراوية في
مقابل علوم الدراية. كما أنشئوا علم الجرح والتعديل لمعرفة
تاريخ الرواة وأشخاصهم، خاصة لو كان الخبر خبر آحاد ولا يمكن
ضبطه إلا عن طريق تحليل شعور الراوي ومدى ضبطه، وتطابق السمع
والحفظ والأداء، ومدى عدالة الراوي، وخلوه من الأهواء.
٦ كما وضع
القدماء علمًا بأكمله للسند هو «علم مصطلح الحديث» لتصنيف
أنواع السند، متواتر وآحاد، مرسل ومقطوع ومشهور. كما فصل إلى
حد أقل أنواع المتن، باللفظ والمعنى، أنواع المتن، بالمعنى دون
اللفظ، الزيادة والنقصان، التقديم والتأخير، الوضع بالمعنى،
فما رآه المسلمون حسنًا فهو من عند الله حسن، وكما هو الحال
عند مالك. كما تناول الأصوليون القدماء المتن قدر تناولهم
للسند، الحديث اليقيني بلفظه ومعناه، والحديث الظني بمعناه دون
لفظه. الأول النقل باللفظ، والثاني النقل بالمعنى. كما تحدث
بعض المالكية عن الوضع بالمعنى، فالمعنى يخلق لفظه، وهي
الأحاديث الصحيحة من حيث السند. كما فصلوا ألفاظ الراوية
وصنفوها إلى درجات خمس من اليقين ابتداءً من «سمعت» حتى «كانوا
يفعلون»، من اليقين المطلق إلى الظن المطلق. كما فصلوا أنواع
السنة إلى قول وفعل وإقرار، وقد غالى الصوفية عندما رفضوا
تناول الحديث من حيث السند، واقتصروا على نقد المتن، والكشف عن
التجربة المعيشة وراءه؛ إذ يقول ابن عربي محدثًا «عن قلبي عن
ربي أنه قال»، ويعيب عليهم قائلًا: «تأخذون علومكم من ميت عن
ميت، ونأخذ علومنا من الحي الذي لا يموت.» وكان الغزالي من قبل
قد فضل المتن الصوفي حتى ولو كان السند ضعيفًا وكما هو الحال
في «إحياء علوم الدين». واعتمد علماء أصول الفقه في نظرية
العلم في حديثهم عن التواتر كمصدر للعلم على الحجة النقلية،
وهي وحدها ظنية نظرًا لاعتمادها على أسباب النزول والناسخ
والمنسوخ واللغة العربية والتقديم والتأخير، ولا تتحول إلى
يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة كما يقول الإيجي في «المواقف».
أما الفلاسفة فإنهم قد استغنوا عن الحجة النقلية نظرًا
لاعتمادهم على العقل الصريح.
٧
والرواة بشر يجوز عليهم الخطأ والنسيان، ويتأثرون بثقافاتهم
وظروف عصرهم وأهوائهم البشرية من غيرة وتنافس، بل وصراع سياسي،
وبمدى القرب أو البعد عن الرسول. فقد أكثرت عائشة الرواية
لكونها زوجة الرسول مما أتاح معرفة دقائق حياته الخاصة. كما أن
القرب بينهما يؤثر في حيوية الذاكرة سلبًا أم إيجابًا. كما
أكثر أبو هريرة من الحديث عن الرسول لملازمته له،
٨ الحديث إذن نص رواه بشر، ودوَّنه بشر، وصاغه بشر،
وانتقاه بشر. لم يكن مدونًا إلا القرآن منذ ساعة الإعلان عنه
دون أن يمر بفترة شفهية، ويخضع لقوانين النقل الكتابي مثل
المناولة والإجازة؛ إذ نُقلت الصحف من الرسول إلى أبي بكر إلى
عمر إلى عثمان، وقد رفض عمر أن يكتب الرسول كتابًا آخر في وجعه
الأخير حتى لا يضل الناس بعده. أما الحديث فقد مر بفترة شفهية
تتجاوز قرنين من الزمان. فقد توفي البخاري عام ٢٥٦ﻫ، أي في
منتصف القرن الثالث، ومِن ثَم فإنه يخضع لقوانين الرواية
الشفهية من زيادة كمية وتغير كيفي وإبداع تاريخي. رفض الخلفاء
الأربعة تدوينه حتى لا يختلط بالقرآن، وكل خليفة لاحق اتبع سنة
الخليفة السابق. ثم تكاثرت الأحاديث، واختلط الصحيح منها
بالموضوع في الأقاصي البعيدة مثل أواسط آسيا، وانبرى علماء
الحديث، ومنهم الخمسة، لجمع الحديث والتحقق من صحته، وقد
استشهد بينهم من أوائل الصحابة مثل قثيم عباس، وقد ارتبط منطق
التدوين بالبيئة الثقافية والسياسية والفرق الكلامية التي كانت
منتشرة في أواسط آسيا في ذلك الوقت، خراسان وسجستان، وهي بيئة
غير عربية مما يجعل صياغات الحديث قلقة التراكيب صعبة الألفاظ،
وهي بيئة متمسكة بحرفية السنة وليس بجوهرها نظرًا لبعدها عن
مركز الثقافة العربية وبؤرة الإسلام الأول في الحجاز. كما
ارتبط التدوين بثقافة البخاري وأثرها على تصوره لعلم الحديث في
تبويبه وموضوعاته. كما ارتبط بمستوى العلم في عصره وطريقة
التعامل مع النصوص. فقد اجتهد في الجمع والتدوين، وكل اجتهاد
يصيب ويخطئ، والسؤال الآن: هل كان البخاري يعرف الكتابة أم أنه
جمع كله شفاها ثم أملاه للتدوين؟
٩
ويتكون «صحيح البخاري» من ثلاثة وأربعين كتابًا في تسعة
أجزاء في ثلاثة مجلدات،
١٠ ولكنها غير متساوية في الحجم؛ إذ قد يستغرق كتاب
واحد أكثر من جزء مثل كتاب بدء الخلق في حين يقع أصغر كتاب في
صفحتين، وهو كتاب العقيقة.
١١ ويلاحظ أنه بالرغم من أن الكتاب له موضوع محدد إلا
أن الموضوعات تتداخل عبر الكتب وتتكرر مما يدل على أن حدود
الكتب مفتوحة تنقل فيها الموضوعات وتمزج كما تشاء، ومما يدل
على أن أسماء الكتب على وجه التقريب جامعة لمعظم الأحاديث
الداخلة فيها ولكنها ليست جامعة مانعة كما هو الحال في التبويب
الحديث. والأمثلة على ذلك كثيرة.
١٢ لذلك يكون من الواجب جعل التبويب أكثر إحكامًا،
ورفع التداخل بين الكتب، وإعادة تصنيف الموضوعات الداخلة تحت
كلٍّ منها، وأحيانًا تبدو موضوعات الكتاب خارجة عن موضوعه مثل
موضوعات كتاب الأدب، ومسائل الصلاة والزكاة في كتاب الجمعة.
فهناك عدم التزام بموضوع الكتاب والذي قد يظهر في كتاب آخر،
والربط بين موضوعين مختلفين والفصل بين موضوعين متشابهين.
تتداخل الكتب والأبواب، وتظهر نفس الأحاديث بالرغم من اختلاف
الموضوعات، وتظهر الموضوعات متفرقة لا رابط بينها ولا صلة لها
بعنوان الباب، وهو إلى الكتاب أقرب، وهناك أبواب هي في الحقيقة
كتب لا تدخل في الكتب السابقة مثل باب فضل الجهاد والسير الذي
يأتي بعد كتاب الشهادات، ويوجد كتابان في الطب،
١٣ وينقسم كل كتاب إلى عدة أبواب بعناوين إما من
القرآن أو الحديث أو صياغة موضوعهما دون نصيبهما، من الواضح
إذن نقص الإحصاء المحكم للموضوعات وهو ما حاول الحكماء تلافيه
في إحصاء العلوم، ويتكرر كثير من الأحاديث عدة مرات في أكثر من
باب وكتاب وربما بنفس الصياغات السابقة دون تجميعها في مكان
واحد أو موضوع واحد أو مقارنة صياغاتها واختيار أصحها، وتفسير
زيادتها أو نقصانها، ويدل التكرار مرة أخرى على أن قسمة الكتاب
إلى كتب وأبواب ليست جامعة مانعة، ويدل على نقص في التصور
النظري للموضوعات وعلى غياب بنية متسقة محكمة لها.
١٤ تبدأ البسملة في وسط الباب أو الكتاب وليس في
أوله، ويتكرر نفس الموضوع في كتابين مستقلين متباعدين.
١٥ كما تتكرر نفس الحادثة ونفس الحديث في كتب متفرقة.
١٦ وقد يتوالى التكرار إلى حد الملل، وقد يكون الباعث
عليه النقل الحرفي، وعدم التحقق من صحة إحدى الروايات وقوانين
الزيادة والنقصان مع الروايات الأخرى، ويفيد التكرار الباحث
المعاصر في معرفة منطق الزيادة والنقصان وعلاقة المعنى باللفظ،
وقوانين القياس الإبداعي، وقوانين التذكر والنسيان، والعجيب
أنه في نفس الوقت الذي يصل فيه التكرار إلى أقصى حد يتم
استبعاد أحاديث أخرى. فقد جمع البخاري حوالي ٦٠٠٠٠٠ حديث ذكر
منها ٧٢٧٥ حديثًا أي بنسبة ١٫٢ ٪. فإذا تم استبعاد المكرر منها
يبقي ٤٠٠٠ حديث أي بنسبة ٥٥٪. فما مقياس الاستبعاد والانتقاء؟
تحليل صحيح البخاري إذن هو قمة ما وصل إليه علم الحديث من يقين
من حيث السند، وبقي معرفة اليقين من حيث المتن.
وتتداخل الكتب مع العلوم النقلية الأربعة الأخرى: القرآن،
والتفسير، والسيرة والفقه دون ترتيب أو نسق. فالأجزاء من الأول
حتى الرابع في الفقه، والخامس في التوحيد، والسادس في التفسير
والسيرة، والأجزاء من السابع حتى التاسع في الفقه من جديد،
وينتهي التاسع بكتاب التوحيد. فتدخل من المسائل النظرية
العقائدية مثل التوحيد مع المسائل الفقهية، والمسائل الغيبية
مع الموضوعات العملية، وعلم التفسير في علم الحديث، وعلم
السيرة، مغازي الرسول، داخل بدء الخلق، والبداية بالإيمان
والعلم والنهاية بالتوحيد.
١٧ فهل لو اختلفت التصورات النظرية تختلف الكتب
والأبواب كمًّا بتغير عمل الذاكرة فتتذكر أحاديث طبقًا
للموضوعات الجديدة؟ إن الغالب على التبويب في النهاية هو قسمة
الفقه إلى عبادات ومعاملات، علاقة الإنسان بالله وعلاقته
بالآخر. فهل يمكن تصور آخر لتبويب علم الحديث يقوم على تحديد
هذه العلاقة بين الإنسان وغيره في دوائر متداخلة، مركزها
الإنسان ومحيطاه الآخر والله؟ ففي الإنسان توضع أبواب الإيمان
والعلم، وفي علاقته بالآخر توضع المعاملات، وفي علاقته بالله
توضع العبادات، وفي الفرد يتجلى علم النفس والأخلاق، وفي الآخر
يظهر علم الاجتماع والسياسة، وفي العالم كمحيط حول الجماعة
تتجلى علوم الحياة. فالإنسان مجموعة من العلاقات مع نفسه ومع
الآخرين. المرأة زوجة، والأقرباء أسرته، ومع العبادة في
المسجد، ومع المال في الزكاة والصدقات، ومع السلطان في الطاعة
أو العصيان، ومع الله في الأمر أو النهي.
١٨
قد يساعد هذا التبويب الجديد على تفادي التكرار، وبناء على
البنية الحديثة التي تساعد على تلبية احتياجات العصر وضرورات
العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكان يمكن ترتيب الأحاديث
زمانيًّا لمعرفة تطورها وأحكام الناسخ والمنسوخ فيها أسوة
بترتيب القرآن الزمني. كما يمكن ترتيب الأحاديث موضوعيًّا
بناءً على معطيات الفقه الجديد، الإنسان في علاقاته الاجتماعية
وكموجود في العالم. لم يستطع البخاري قديمًا أن يقوم بما
يتطلبه المحدثون نظرًا للخلاف في الزمان وتبدل العصور حوالي
اثني عشر قرنًا، ولم يشفع محاولات الاختصار المتأخرة للحديث،
مثل «الأربعون النووية» في إبراز الموضوعات دون تكرار. إنما
يتطلب ذلك تصورًا جديدًا يقوم على بنية عصرية بناءً على نقد
المتن بعد تجاوز نقد السند. فنقد السند هو في النهاية نقد
خارجي، يعتمد فيه يقين المتن على يقين السند. في حين أن نقد
المتن نقد داخلي مستقل بذاته بصرف النظر عن نقد السند، وكما
برع القدماء في نقد السند، كانوا قريبي عهد بالرجال، قد يبرع
المحدثون في نقد المتن لأنهم قريبو عهد بالعلوم الإنسانية
والاجتماعية.
وهذه الدراسة ليست دراسة كاملة حتى عن صحيح البخاري بل مجرد
نماذج واقتراحات ونتائج أولية، ولا تقدم إحصاء شاملًا للأمثلة
والشواهد، بل عينة منها حتى لا يطغى الكم على الكيف، والفروع
على الأصول، وقد تحتاج إلى مزيد من التفصيل لدراسة كتاب في
العمق بمزيد من الدقة والتحليل ووصف الخطاب. يكفي أنها تقدم
نموذجًا لتطوير علم الحديث وإعادة بنائه من حيث الأشكال
الأدبية والمضمون التاريخي والخيال الإبداعي. هي مجرد نموذج
دراسة وليست الدراسة ذاتها، مجرد وضع لتساؤلات واقتراحات
وإثارة الأذهان على إمكانية البحوث الجديدة. تجمع بين الشواهد
والتنظير، بين التجريب والتصور حتى يكون لكل وصف قرائنه، ولكل
تحليل شواهده. تتوجه إلى العلماء والمتخصصين في علم الحديث
وليس إلى العامة والجمهور. فقد استقر في أذهان العامة أن
العلوم النقلية علوم مقدسة وهي من صنع البشر وإفراز التاريخ.
مع إنه يمكن نقدها وإعادة بنائها طبقًا لظروف كل عصر.
ثانيًا: القرآن والحديث
يكشف علم الحديث في «صحيح البخاري» وفي غيره من الإصحاحات عن
العلاقة بين القرآن والحديث. فكلاهما وحي من عند الله على
درجتين مختلفتين: القرآن وحي مباشر بواسطة جبريل، والحديث وحي
غير مباشر عن طريق توسط الرسول نفسه وقدرته على تحويل الوحي من
مبادئ عامة على تطبيقات عملية في سلوك الأفراد والجماعات.
فالقرآن حاضر في الحديث حضورًا مباشر مما يدل على ارتباط
العلمين معًا. فإذا كان القرآن هو الوحي الأول فإن الحديث هو
الوحي الثاني. القرآن تحقق أول للوحي من العلم الإلهي إلى
اللوح المحفوظ إلى ذهن جبريل إلى اللغة العربية إلى أذن الرسول
ووعيه مبلغًا إياه للناس، والحديث تحقق ثانٍ لهذا الوحي الأول
في وقائع متعددة ومع تفصيلات عديدة في الزمان والمكان ورعاية
الفروق الفردية بين الأفراد والجماعات.
ويبدأ صحيح البخاري برواية نزول القرآن الشهيرة، «سورة
اقرأ»، وهي نفس بداية علوم القرآن. فالقرآن يثبت بالقرآن كما
يثبت الحديث، وقد يبدأ المحدثون على نحو آخر، بعلوم النص.
فالحديث نص، وعلوم الرواية والتدوين، النقل الشفاهي لمعظم
الحديث قبل مرحلة الجمع والتدوين والنقل الكتابي له، الرسائل
المكتوبة إلى هرقل عظيم الروم أو إلى كسرى فارس،
١٩ وأحيانًا يكون الحديث مجرد راوية وآيات قرآنية دون
أقوال الرسول كما هو الحال في أسباب النزول في علوم القرآن
بالحديث من الراوي نفسه للتأكيد على صحة الحديث، وربط الفرع
بالأصل، وأحيانًا أخرى، وهو الأقل، يكون من الرسول نفسه، وقد
يذكر القرآن في البداية كأصل قبل أن يستند عليه الحديث كفرع،
وقد يأتي في النهاية كتصديق للحديث وبرهان عليه. فقد يكون
الأصل سندًا من أعلى كالسقف، وقد يكون سندًا من أسفل كالأساس،
وقد يكون القرآن في منتصف الحديث، بين السقف والأساس كرابط بين
قسمي الحديث ودعامة له من الوسط حتى لا تهتز كنوع من التقوية
للبنيان، وقد تقتصر الآية وقد تطول، وفي الغالب القصر.
٢٠ وأحيانًا يصبح ذكر الآية داخل الحديث بلا دلالة،
مجرد قرن وعدم ترك الفرع بلا أصل.
٢١
إذا ذكر القرآن في أول الحديث فإنه يكون الأصل الذي يقوم
عليه، والأساس الذي يستند إليه. فالآية القرآنية هي المبدأ
العام الذي يندرج تحته الحديث استنباطًا للفرع من الأصل، وذلك
مثل حديث «آية المنافق خيانة الأمانة»، وهو أصل قرآني برد
الأمانات إلى أهلها. فالحديث ما هو إلا تفصيل وشرح للقرآن على
المستويين النظري والعملي.
٢٢ وإذا ذكر القرآن بعد الحديث فإنه يكون تصديقًا له
وتأكيدًا على صحته ومعناه.
٢٣ وقد حدد الأصوليون القدماء صلة النص القرآني
بالحديث. فالحديث بيان المجمل، وتفصيل لأوجه العمل وطرق
التطبيق في الزمان والمكان، في العادات والأعراف. فلا يوجد حكم
في الحديث إلا وله أصل في الكتاب. الكتاب وحي بمعناه ولفظه،
والحديث بمعناه دون لفظه مما يفسر وحدة الخطاب القرآني وتعدد
صيغ الخطاب النبوي.
٢٤
وبالإضافة إلى علاقة القرآن بالحديث، علاقة الأصل بالفرع،
هناك أيضًا علاقة السبب والعلة. فالحديث يذكر أسباب نزول بعض
آيات القرآن. الحديث هنا مصدر أخبار لعلوم القرآن في باب
«أسباب النزول» بل وجزء منه، وهي إحدى بدايات صحيح البخاري في
بيان سبب نزول الوحي وكيفيته وأسباب نزول المدثر والمزمل
واقرأ، والتنبيه على عدم استعجال اللسان بنطق القرآن، وحديث
الإفك حتى بعد تأخر نزول الوحي في تبرئة عائشة، وينزل الوحي
إذا استعصت الإجابة على الرسول كما هو الحال في آية الملاعنة
أو في آية تحريم السؤال من الأساس في موضوعات لا ينتج عنها أثر
عملي. هنا يكون القرآن بديلًا عن الحديث ثم يصبح الحديث شارحًا
له، وأحيانًا يتوسط القرآن الحديث إذا ما سأل أحد الصحابة
الرسول شيئًا صعبت الإجابة عليه. فيأتي القرآن رفعًا للحرج في
جدل متبادل بين القرآن والحديث، الحديث ثم القرآن مكملًا له ثم
الحديث شارحًا للقرآن.
٢٥ وقد يكون الحديث مناسبة لنزول آية ثم استدراك
المسلمين بالسؤال ثم نزول آية أخرى توضيحية. فالحديث هنا بين
المسلمين والقرآن عبر الرسول كوسيط، وإن ربط الآية أو الحديث
بسبب نزولها هو ما عناه الأصوليون بخصوص السبب وعموم الحكم.
فالأحكام في بدايتها وقائع حدثت تستدعي أحكامًا مثل الحجاب
وتصديق القرآن للحديث في حكم الشرك وقتل الولد والزنا بخليلة الجار.
٢٦
وإذا كان القرآن بعد الحديث فإن الحديث يكون سببًا لنزوله،
وإذا كان قبل الحديث فإن الحديث يكون تفسيرًا وشرحًا له، وهو
الغالب على علاقة القرآن بالحديث، ومما يدل على ذلك وضع كتاب
بأكمله، هو ثاني الكتب طولًا على الإطلاق بعد كتاب «بدء الخلق»
ويشمل جزأً بأكمله بعنوان «كتاب التفسير».
٢٧ وهنا يبدو علم الحديث وعلم التفسير علمًا واحدًا،
يبدأ صحيح البخاري بكيفية نزول الوحي والاعتماد على القرآن
لإثبات الوحي، وهنا تدخل أسباب النزول أيضًا سورة سورة حسب
ترتبيها في القرآن، ويذكر أمر الرسول بالتبليغ. فإن لم يفعل
فما بلغ الرسالة، وهي حجة غالبية الشيعة في أن الرسول قد كتم
نبوة علي. مما يدل على أن اختيار الأحاديث والآيات كان موجهًا
بالخلافات العقائدية بين الفرق.
٢٨
وقد أُنزل القرآن على سبعة أحرف بمعنى الأصوات أو اللهجات
والقراءات وليس بأعماق المعاني كما يقول الصوفية في الصراع مع
الباطنية أنصار التأويل الباطني. قرأها جبريل على محمد على حرف
واحد، وظل يستزيد حتى سبعة أحرف.
٢٩ وعندما ينزل الوحي على الرسول ورأسه على فخذ عائشة
كانت تشعر بثقلها، وقد يكون تشبيهًا وتصويرًا لعظم الحدث وجلاله.
٣٠ وقد سمي القرآن قرآنًا لجماعه السور وقرن بعضه عن بعض.
٣١ وتتغير أسماء السور في أحاديث البخاري عما استقر
الأمر عليه مما يدل على عدم استقرارها حتى منتصف القرن الثالث،
٣٢ وأحيانًا تكون السورة بمفردها دون اسم السورة وكأن
الآية الأولى منها في الغالب هو اسم السورة،
٣٣ وتذكر بعض الآيات المشكوك فيها مثل
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وقد سمعها بعض القراء من
الرسول على هذا النحو، وكانت بعض الآيات من سورة التوبة ضائعة
لم توجد إلا عند خزيمة الأنصاري. بل إن الرسول نفسه نسيها
وذكَّره بها صحابي.
٣٤
والحديث عن جمع القرآن وكيفيته ليس نيلًا من الوحي، فالجمع
عمل بشري خالص، وقد طُلب من زيد جمع القرآن، ثم ناوله إلى أبي
بكر الذي ناوله بدوره إلى عمر، ومِن ثَم تُؤَّول آية
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ في
هذا السياق التاريخي.
٣٥
ويذكر البخاري نماذج من القرآن الذي نسخت تلاوته وحكمه أو
الآيات التي نسخت تلاوتها فقط.
٣٦ ويعرض لمشكلة النسخ في القرآن وفي الحديث، وعن
النسخ للقرآن بالقرآن، والحديث بالحديث، والقرآن بالحديث، أما
نسخ القرآن بالحديث فكما يقول الأصوليون هو تخصيص وليس نسخًا،
ويدل النسخ على وجود النص في الزمان، نص القرآن أو نص الحديث
وعلى تغير الأحكام فيه بتغير الزمان.
كما يدل أسباب النزول
على ارتباطه بالمكان. فالزمان والمكان حاضران في النص، وتتغير
الأحكام بتغيرهما،
٣٧ والسؤال في التشريع هو: هل يجوز الرجوع إلى النص
المنسوخ وحكمه إذا ما تغيرت الظروف وعادت إلى ما كانت عليه في
وقت صدوره ولم تعد قابلة لحكم النسخ؟ كما تذكر فضائل القرآن،
وهي السبب في عمل الأحجية في السلوك الشعبي والتعويذات
والحماية من العين والحسد واتقاء الشر،
٣٨ ويكثر الحديث شرحًا للقرآن، مجرد شرح على مستوى
القصص، خاصة الظاهر والباطن، لإفساح المجال للإبداع الخيالي،
وإطلاق العِنان للغوص في الباطن مثل الشجرة الملعونة في القرآن
وهي شجرة الزقوم،
٣٩ ويغلب الشرح اللغوي،
٤٠ وهو شرح لفظ بلفظ اعتمادًا على قواميس اللغة، شرح
لفظ مجهول بلفظ معلوم عن طريق الترادف كما هو الحال في العصور
المتأخرة في عصر الشروح والملخصات. فالحسيب الكافي، ويقال
للمرأة نعجة طبقًا لاستعمال القدماء، وقد يكون في البداية أو
في الوسط والسياق، ويبدأ الشرح بالبسملة لفظ بلفظ، وكذلك في
عديد من السور.
٤١ يوضح كتاب التفسير هذه الصلة بين القرآن والحديث،
وعلوم القرآن بعلوم الحديث. كما يبين كتاب المغازي (النصف
الثاني من كتاب «بدء الخلق») الصلة بين علم الحديث وعلم السيرة
وكما تبين باقي كتب الحديث الصلة بين علم الحديث وعلم الفقه،
وكما يبين كتاب «بدء الخلق» وكتاب «التوحيد» الصلة بين علم
الحديث وعلم أصول الدين، وأهم المفسرين الذي يعتمد عليهم
البخاري هو مجاهد أولًا ثم ابن عباس ثانيًا سواء راويًا أو
مرويًّا عنه،
٤٢ ويتدخل الراوي في الآية القرآنية يشرحها بعباراته
حتى تتفق مع الحديث مما قد ينتج عنه خطورة مزج كلام الراوي
بآيات القرآن، ويتم خلط القرآن بشرحه في الخيال الإبداعي حيث
لا فرق بين المثل والممثول، بين الأصل والفرع، بين النموذج
والتقليد. بل إنه يتم الاختفاء وراء القرآن وشرحه من أجل إبداع
الحديث، خاصة فيما يتعلق بتفصيل القصص القرآني والنسج على
منواله مما يجعل علم الحديث بداية علم التفسير. يساهم الخيال
الإبداعي في الحديث على التنويع على القصص القرآني خاصة تلك
التي لها ظهر وبطن كما هو الحال عند الصوفية.
٤٣
ويصحح القرآن الحديث أحيانًا على نحو أشد، وأحيانًا على نحو
أخف. فعندما لعن الرسول فلانًا وفلانًا نزلت آية
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. كما
يصحح القرآن السلوك البشري بعد ما قرر أبو بكر عدم الإنفاق على
مسطح الذي شارك في حديث الإفك، ورد القرآن بضرورة الإنفاق على
الفقراء. كما يصحح القرآن أخطاء النسبة ويطالب نسبة الأشخاص
إلى آبائهم مثل زيد بن محمد، والمثال الشهير على ذلك رفض
القرآن الاستغفار للمنافقين بعد حرص الرسول على ذلك ولو بأكثر
من سبعين مرة، وتأييد القرآن عمرَ. القرآن معياري، والحديث
تاريخي. فالقرآن يصحح الحديث ويأخذ في الاعتبار الاعتراض على
صلح الحديبية من عمر بعدما رد الكفار النساء المؤمنات بعد رد
الرجال في آية
إِذَا جَاءَكُمُ
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، ويرفع
القرآن الحرج عن الحديث في إقراره السعي بين الصفا والمروة
وتقنين القرآن له.
٤٤ وقد يستدعي الراوي آية قرآنية إذا ما شعر بتعارض
حديث معها مثل حديث تعذيب المؤمن ببكاء أهله عليه بما يتعارض
مع آية
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى.
٤٥
وقد يقع خلط بين القرآن والحديث إما من استعمال الرسول،
فالرسول هو مبلغ القرآن وقائل الحديث أو من الراوي في إخراجه
لحديث كقول في رواية.
٤٦ كما يعقد حوار بين القرآن والحديث مثل
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ قال:
أعوذ بوجهك،
أَوْ
مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال:
أعوذ بوجهك،
٤٧ وقد وصف الرسول الله بأنه السلام المؤمن وهي نفسها آية،
٤٨ ويدخل القرآن كجزء من الحديث. فعندما سال جبريل
متى الساعة؟ تلا:
إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ، وقد أرسل النبي إلى هرقل عظيم
الروم
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ هي نفسها آية. كما استعمل
الرسول القرآن مثل آية
وَكَانَ
الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا لتقوية موقفه ضد
رفض علي وفاطمة الاستيقاظ للصلاة في منتصف الليل بدعوى أن الله
لو شاء لفعل. لقد استعمل الرسول نفسه القرآن كحديث مثل
«تبايعونني أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقون ولا تزنون ولا
تقتلون أولادكم» بصرف النظر عن أولوية الاستعمال للقرآن أم للحديث.
٤٩ وقد يكون ذلك من فعل الراوي تأكيدًا على روايته
وإيجاد أصل لها في الكتاب، وقد تستعمل الرواية ما كان يقرؤه
الرسول من القرآن في الصلوات مثل صلاة الجمعة والسجدة مثل
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا،
٥٠ وقد يظهر القرآن في الرواية والسياق على لسان
الصحابة مثل بلال ربما لتذكير الرسول وإعطائه المناسبة
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ
الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ،
٥١ وقد يستعمل القرآن على لسان المعارضين، سلاحًا
بسلاح، وآية بآية، وحجة بحجة.
٥٢ لذلك يصعب الفصل بين الآية والحديث لاستعمال
الرسول والراوي والمحاور القرآن كجزء من الحديث.
٥٣ المسافة إذن ليست كبيرة بين القرآن والحديث.
فالقرآن حديث نازل، والحديث قرآن صاعد. القرآن له أسباب نزول
يشرحها الحديث بالمعنى العام، والحديث جزء من القرآن بالمعنى
الخاص، ويتحد القرآن والحديث عندما يقرأ الرسول القرآن،
فالقرآن حديث بهذا المعنى العام بلغ الرسول من الوحي، والحديث
حديث الرسول بالمعنى الخاص دون نزول وحي مباشرة.
٥٤
لذلك يصبح السؤال مشروعًا: هل الحديث وحي من عند الله مثل
القرآن أم هو وحي في بعض الحالات التي لا يستطيع الرسول
الإجابة عنها خارج أسباب النزول لأنها تتعلق بالقرآن مثل تدخل
جبريل؟ وربما هو وحي بمعنى فهم الرسول واستنباطه أحكام وقائع
جديدة بناءً على أصل من أصول الشعر. فالحديث هنا اجتهاد
الرسول، وميزته أنه معصوم من الخطأ لإمكانية تصحيحه من القرآن،
وربما هو ذوق رفيع طبيعي، عقلي إسلامي تربى عند الرسول يحكم به
وهو أساس الوحي، نظرًا لوحدة العقل والوحي والطبيعة، وربما
أعراف قبلية وعادات اجتماعية خضع لها الرسول باعتباره عربيًّا
وغيَّر بعضها باعتباره مصلحًا، وقد يخطئ الرسول أحكامه بناء
على إقرار الرسول نفسه وأصحابه، وقد يغير أحكامه طبقًا لتغير
الزمان أو على الأقل إعلان النية عن ذلك ولو استقبل من أمره ما
استدبر وكما فعل عمر بن الخطاب،
٥٥ ويمكن تأويل آيات القرآن التي تشير إلى الوحي بهذا
المعنى مثل
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى
* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى هو
القرآن،
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا الأوامر
مباشرة. الألفاظ من الرسول والحكم من الله. الاعتراض من
المسلمين ونزول الرسول على رغبتهم في صلح الحديبية، وقد لاحظت
عائشة نزول الوحي على هوى الرسول.
٥٦
وهناك علاقة نصية بين القرآن والحديث وهو الحديث القدسي، وسط
بين القرآن والحديث، أقل من القرآن وأعلى من الحديث، وهو وحي
لفظًا ومعنى مثل القرآن ولكن به الكثير من الإبداع الخيالي
كالحديث. المحاور والسائل فيه جبريل ليعلم الرسول بمنهج
سقراطي، يولد الإجابة من المسئول كما هو الحال في الحديث
القدسي المشهور عن الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان مع بعض
الإخراج المسرحي لأن الرسول لم يعرفه وطلب رجوعه بعد اختفائه
وتمثل جبريل في شخص دحية الكلبي ثم إعلان الرسول عن شخصية
المحاور والكشف عنها للصحابة. ربما القصد منه إحداث مزيد من
التأثير على السامعين مثل اللجوء إلى سلطة الكبار، الآباء أو
المعلمين أو القادة والزعماء، وكما هو الحال في العادات
الشعبية بالدعوة للتأييد بعون الله. كما دعا الرسول لحسان بن
ثابت بالرد على المعارضين شعرًا بتأييد الروح القدس «اهجهم (أو
هاجم) وجبريل معك».
٥٧ فالحديث القدسي هو جزء من الحديث وليس من القرآن
مثل الأمر بالاعتكاف في العشر الأواسط من رمضان. فأتي جبريل
مرة ثانية فأصبح الاعتكاف في العشر الأواخر.
٥٨
وهناك درجة أقل من الحديث القدسي عندما يستعمل عبارة «قال
الله تعالي» أو «قال ربكم» للدلالة على مدى القرب بين الله
والمتكلم والسامع، ويتخيل حوارًا بين الله وبينه أو بين الله
وأهل الجنة وأهل النار في الآخرة من أجل التأكيد أيضًا على
أهمية الحديث وزيادة تأثيره على السامعين، وذلك مثل «قال الله:
يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار»، ولا تعني
«قال الله» قولًا حرفيًّا لله، فذاك القرآن أو الحديث القدسي،
بل تعني زيادة في التأكيد خاصة ولو كان مضمون القول خلافًا
عقائديًّا بين الفرق، ومِن ثَم يصبح القول من المصدر الأول
للسلطة وهو الله، وذلك مثل الأقوال التي تجعل الحكم النهائي
على البشر صادرًا عن الرحمة وليس عن الاستحقاق، وقد يصف الحديث
أفعال الله مثل «ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما». صحيح أن
الأشعرية لم تكن قد ظهرت بعد ولكن الاعتزال كان منتشرًا فيما
وراء النهر بفضل المذهب الحنفي. يروي الرسول عن الله ما يبشر
به الناس من أجل فعل الخير. الهم بالحسنة بمثلها وإذا تمت
بعشرة أضعافها حتى سبعمائة ضعف، والهم بالسيئة بمثلها وإذا تمت
بعشرة أضعافها حتى سبعمائة ضعف، والهم بالسيئة دون عملها حسنة
وإن تمت فواحدة، ومثل هذا العرض السخي لا يكون إلا من أكرم
الكرماء وهو الله، والحوار بين الإنسان والله يوم القيامة
تصوير فني من الرسول وليس واقعة مستقبلية، والعرب أهل بلاغة
وفصاحة وأدب، ويتم الحوار مباشرة دون ترجمان وفي السماء لتأييد
معاني الأرض عن كبر الأمة وكثرتها، وكذلك الحوار الخيالي بين
الله وأهل الجنة عن رضاه عنهم ومع أهل النار وغضبه عليهم تصوير
فني من أجل تأكيد معاني الاستحقاق.
٥٩
وأحيانًا يقول الرسول «قال جبريل» دون أو يكون حديثًا
قدسيًّا، وهو قول إبداعي من أجل مزيد من التأثير والإقناع،
خاصة وأنه قد يعارض أحاديث صحيحة مثل دخول الأمة الجنة ما دامت
لا تشرك بالله حتى وإن زنت وسرقت.
٦٠ ويبدو جبريل قاسيًا عندما طلب من الرسول أن يطبق
على الكفار الأخشبين فيرفض الرسول راجيًا أن يُخرِج من أصلابهم
موحدين بالله. فالرسول مع الصبر والانتظار وليس مع العقاب كما
يريد جبريل وكما فعل نوح، وقد منع الرسول الصور على لسان جبريل
زيادة في التأكيد، وبعد أن أشاع عند اليهود والنصارى العرب.
٦١ وقد يصف الرسول فعل جبريل دون ذكر قوله. فقد نزل
وغسل صدر الرسول بماء زمزم، وجاء بطست مملوء حكمة فأفرغها فيه،
وعرج إلى السماء، وطلب للخازن أن يفتح كما فعل ذلك بالمسيح
وبكل نبي، ويصلي مع الرسول خمس مرات ويعدها على إصبعه كالطفل
حتى لا ينسى، ويخبر النبي أن بعض المقاتلين لقوا ربهم ينسخ
قوله، والخبر لا نسخ في الأحكام.
٦٢
وأتى النبي بعد الخندق وأشار إليه بالخروج إلى بني قريظة دون
وضع السلاح وكأن غزوات النبي وحروبه ضد اليهود ليست بناء على
قرار سياسي عسكري للنبي بل من وحي إلهي بقيادة جبريل. بل ويدخل
في المناقشات الكلامية ويأخذ صف المرجئة ضد الخوارج في موضوع
الإيمان والعمل. فقد سمعه النبي يقول إن عدم الشرك بالله وحده
يدخل الجنة وإن زنى وإن سرق، ويتحول الأمر من إبداع خيالي سمعي
إلى إبداع خيالي بصري، من القول إلى الشخص، ويراه الرسول
جالسًا على كرسي بين السماء والأرض سامعًا صوتًا كما هو الحال
عند الفرق الباطنية.
٦٣
بل إن القرآن نفسه يعيد بناء أقوال البشر ويعيد صياغتها في
الآيات. فالقرآن حوار بين كلام الله وكلام البشر خاصة
المعارضين الذين في حاجة إلى رد وحوار مثل أبي جهل وأبي لهب
وعبد الله بن أُبي. فمثلًا آية
فَأَمْطِرْ
عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ عبارة لأبي جهل تمت إعادة صياغتها في القرآن
للرد عليها، وسورة المسد
تَبَّتْ يَدَا
أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ رد على أبي لهب عندما سب رسول
الله «تبًا لك يا محمد»، ويتكرر ذكر أبي لهب في القرآن كما
يتكرر اسم محمد وكما يشار إلى أبي بكر وعمر وغيرهما من
الصحابة، وآية
لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ عبارة عبد الله بن أُبي، وقد لا
يشار إلى أشخاص بأعينها بل إلى أقوالها مثل
أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ
لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا قول بشرى، وتشير آية
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ إلى غير
القادرين على الجهاد، وتشير آية
ضَاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ إلى عبارة أحد
المتخلفين عن القتال، «وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت». كما
يستعمل القرآن عبارات عبد الله بن سلام وكان من اليهود
الصادقين مثل
قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
وهي عبارته التي خاطب بها قومه عندما أخفوا آية الرجم، والأولى
استعمال القرآن عبارات الصحابة مثل عبارة أبي بكر «أتقتلون
رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم» دفاعًا عن
الرسول ضد أذى قومه وهو يصلي بالكعبة. بل يؤخذ أيضًا كلام الجن
إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا
عَجَبًا.
٦٤ بل إن القصص القرآني نفسه إعادة بناء اللحظة
الماضية بناءً على متطلبات اللحظة الحاضرة. فالحوار القرآني في
قصص الأنبياء ليس حوارًا تاريخيًّا حرفيًّا بل إعادة صياغة
الحوار التاريخي بلغة عربية طبقًا للمنظور الإسلامي مثل دعاء
إبراهيم في مكة، وحوار إبراهيم لأبيه، ووصايا لقمان لابنه،
وحوار موسى وفرعون، ونوح وابنه، فالأنبياء لم يتكلموا اللغة
العربية. ليس من الغريب إذن أن يتداخل كلام الله وكلام البشر
في الرواية؛ إذ إن القرآن أحد مصادرها عن طريق استعماله الحر
مثل قول رجل من الأنصار «سبحانك، ما يكون لنا أن نتكلم بهذا
سبحانك، هذا إفك عظيم» وقد يصعب التمييز بين كلام الله وكلام
البشر في «ولا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» أو
«فدية من طعام أو صدقة أو نسك» هل هو قرآن أم حديث.
٦٥
وتلك عظمة الإسلام في واقع الوحي ووحي الواقع. جمع محمد
النبوة عن ربه والرسالة إلى الناس، وفي صحيح البخاري يذكر محمد
النبي الرسول على التبادل. أحيانًا يقر الرسول بأن وحيًا أتاه
ومن عند الله «الليلة أتاني آتٍ من ربي وهو بالعقيق أن صلِّ في
هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة»، وأحيانًا يكون القول منه
مثل التشهد الذي يحتوي على جزأين، جزء من الرسول وجزء حر من
دعاء المصلي نفسه. فالمسار واحد، من الله إلى الرسول إلى
المصلي، من النقل إلى الإبداع، ومن اللفظ إلى المعنى، ومن
الضرورة إلى الحرية، ومِن ثَم يظهر سؤال: هل أدعية الرسول وحي
أم بلاغة، من الله أم من جوامع الكلم، نبوة أم رسالة، اتصال أم
تعبير؟ هل صلاة السهو من الصلوات المفروضة أم أنها من فعل
الرسول بعد أن سها وهو أولى بالاتباع؟ لقد كان الرسول يحب سماع
القرآن كصوت من غيره وأن يكون هو أيضًا متلقيًا سامعًا وليس
فقط ملقيًا متكلمًا، يأخذ ويعطي، منفعلًا وفاعلًا. كان الرسول
يبحث عن قِبلة فتنزل
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ
وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً
تَرْضَاهَا للدلالة على أنه لا فرق بين الصاعد
والنازل، بين الواقع والوحي، وهنا يُمحى الفرق بين الوحي
والواقع في الطبيعة أو العادة عندما يتحول الوحي إلى طبيعة
وإلى ذوق إنساني عام، ولا يكون نازلًا أو صاعدًا أفقيًّا بل
متقدمًا رأسيًّا منيرًا لسلوك كما هو الحال في الاجتهاد. قد
يكون الحديث في بعض جوانبه اجتهادًا من النبي الذي لا يخطئ
نظرًا لإمكانية تصحيح الوحي له، وهو الذي يشعر بروح الإسلام.
الحديث ذوق طبيعي مثل طلبه عدم نداء أحد بكنيته أبا القاسم حتى
لا يُشتَّت الانتباه بين شخصين، وعدم بيع حاضر بعادي حتى يحدث
التكافؤ في المعرفة بالسوق بين المقيم والمسافر أو الأخ على
أخيه حتى لا يقع تضارب بين عاطفتي الأخوة والربح أو الخطبة على
أخيه حتى لا يحدث صراع بين عاطفتي الحب والأخوة، كما لا تسأل
المرأة طلاق أختها من زوجها كي تتزوجه. هو نوع من الآداب
العامة مثل السير يمينًا توحيدًا للاتجاه وإيجاد نمط للسلوك،
وخفض الصوت، واحترام الصغير للكبير.
٦٦
كانت عند عمر بن الخطاب هذه الملكة الطبيعية التي يلتقي فيها
الوحي النازل مع الواقع الصاعد. فعادة ما يطابق الوحي رأي عمر،
وقد لاحظ النبي هذا التطابق في حديثه «لقد كان فيما قبلكم من
الأمم محدثون فإن كان في أمتي أحد فإنه عمر» وفي صياغات أخرى
عديدة لنفس المعنى. فقد تطابق الوحي مع رأي عمر في قتل مرتد
شهد بدرًا
يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا
لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ بعد أن عفا عنه الرسول،
وتطابق معه في القِبلة والحجاب وطلاق نساء الرسول، وأيده في
عدم الاستغفار للمنافقين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق،
وعدم الصلاة على المنافقين
وَلَا تُصَلِّ
عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا، ومِن ثَم يغيب
الفرق بين الوحي والعقل والطبيعة سواء في القرآن أو الحديث أو
إحساس عمر كنموذج للعقل البسيط وللذوق الطبيعي.
٦٧
ثالثًا: السؤال والجواب، القول المباشر والرواية
السؤال والجواب يكونان معًا أحد الأشكال الأدبية للحديث وهو
الحوار، وتتعدد الأشكال الأدبية للنصوص الدينية باعتبارها
جزءًا من تاريخ آداب الشعوب، وليس المقصود تحليل هذه الأشكال
الأدبية في حد ذاتها بل دلالتها على المضمون سواء فيما يتعلق
بالصحة التاريخية للحديث أو فيما يتعلق بالموضوع ذاته، وهو
إصدار الأحكام والتأثير على الناس من أجل توجيه السلوك أي
دلالتها فيما يتعلق بالإبداع في الرواية.
وتتعدد أشكال الحوار ووضع السؤال والجواب. فأولها الرسول
يسأل والرسول يجيب مثل سؤاله ما الإيمان؟ وإجابته عليه بعد أن
يجيب الصحابة «الله والرسول أعلم» … ومثل سؤال «أي يوم هذا،
أليس يوم النحر؟ … أي شهر هذا؟ أليس بذي الحجة … فإن دماءكم …»
والناس تجيب بعد كل سؤال بحرف بلى، وقد لا تتكلم الناس على
الإطلاق حياء من الرسول. فليس من المعقول أن يكونوا أعلم منه،
وقد يكون الغرض بيان أهمية السؤال وأهمية الجواب بدلًا من
التقرير المباشر في الجواب العرضة للنسيان.
٦٨
وقد يكون السؤال من سائل يحيط بالرسول لصحبته وقادمًا إليه
خصوصًا للسؤال، والرسول يجيب مثل «أي الإسلام خير؟ أن تطعم
الطعام …» وهو الحوار المباشر، وقد يكون السائل معلومًا باسمه،
وقد يكون معلومًا بوصفه مثل «سأل أعرابي» أو «سأل رجل»؟ وقد
يكون مجهولًا لا يعرف من السائل في صيغة المبنى للمجهول مثل
«سئل الرسول أي العمل أفضل؟» ويختلف الإجابة طولًا وقصرًا بين
القصة الطويلة صفحات وصفحات وبين مجرد النفي أو حرف الإثبات.
٦٩
وقد يزدوج السؤال كما تزدوج الإجابة أكثر من مرة فيصبح
السؤال مركبًا من إجابات متعددة وكان كل سؤال يكشف عن أحد
جوانب الموضوع حتى يتم كشفه كله في مراحل. هنا يبدو السؤال
الكلي المحمل متقطعًا متجزئًا. مثال ذلك السؤال الرسول عن
الإسلام وإجابته بالصلاة ثم إعادة سؤاله عن غيرها وإجابة
الرسول عن الزكاة، وفي كل إجابة الضروري والاختياري، الحد
الأدنى والحد الأعلى، والسائل هو الذي يطلب المزيد.
٧٠ ينقطع السؤال الكلي إلى عدة أسئلة جزئية في
الإخراج الأدبي زيادة في التأكيد والبلاغة من أجل الإقناع
شيئًا فشيئًا فلعل السائل إن أفلح صدق. فالحوار أكثر تصويرًا
من القضية أو الحكم، وقد يسأل الرسول فيجاب. فالمبادرة من
الرسول وهو السائل حتى ينكشف الموضوع له تدريجيًّا، وفي كل مرة
يجيب فيها الرسول يوجه أو ينتقد بعد الاستفهام. هذا التدرج في
السؤال والجواب من أجل الاستيضاح عن طريق الاستدراك وإعادة
الاستفهام إما عن لفظ أو حكم أو خبر.
٧١
وقد يكون الهدف من السؤال من الرسول ليس المعرفة بل لتوليد
المعرفة من المسئول على طريقة الحوار السقراطي، واستنباط
الحقيقة من الآخر. فالإجابة عند الآخر كما هي عند الرسول، ولكن
الآخر لا يدري، ومهمة الرسول استخراجها منه. مثال ذلك سؤال رجل
الرسول أنه رسول الله وأن الله أمره أن يأمر الناس بالصلوات
الخمسة وبالصوم وبالصدقة، والرسول يصدق ما يقول. فيعلن الرجل
إيمانه وكأنه بحاجة إلى تصديق ما يشعر به من نفسه من الرسول
زيادة في التأكيد وتطابق المعرفة الطبيعية بالمعرفة عن طريق
الوحي، ومثل سؤال الرسول عن شجرة مثل السلم تؤتي أكلها بإذن
ربها والإجابة النخلة، وأحيانًا يستعمل الحوار طريق «التعليق»
Suspense من أجل استرعاء
الانتباه وجذب المستمعين مثل قول الرسول «والله لا يؤمن» ثلاث
مرات فسئل من؟ قال «من لا يأمن جاره بوائقه»، ومثل قوله «كل
أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي! … من أطاعني فقد دخل ومن عصاني
فقد أبي».
ويأخذ الرسول اعتراض الصحابة والناس حوله بعين الاعتبار،
ويعيد صياغة الحديث بناءً على هذه الاعتراضات. فالواقع مكمل
للمثال، والطبيعة سند الوحي ومحل صدقه، وقد حدث ذلك في صلح
الحديبية عندما أتت النساء المسلمات إلى الرسول يردهن إلى
الكفار بناءً على أمر القرآن
إِذَا
جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَّ. كما اعترضت النساء في الاعتمار في
الحج وترتيب النحر والحلق. فالحديث في تفاعل مستمر مع الواقع،
ومع القرآن، يتغير بتغير الواقع، ويصدق الوحي هذا التغيير
باعتباره تفاعل الواقع والمثال.
٧٢
وتنطبق على القول المباشر كل صيغ الكلام مثل: الخبر أو
التقرير. هنا يتكلم الرسول دون سؤال من أحد مثل «بُني الإسلام
على خمس»، «الإيمان بضع وسبعون شعبة»، «المسلم من سلم المسلمون
من لسانه ويده»، «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»
أو «آية المنافق … من كن فيه كان منافقًا» وتتمثل قوة الخبر في
نفسه، في تركيزه وقدرته على قرع السمع، وقد يبدأ التقرير
بالعد، عد الأشخاص، اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو سبعة مثل «سبعة
يظلهم الله»، وقد يكون الكلام في صيغة الأمر والنهي وهو
المقصود من الحديث، بيان أوجه التطبيقات العملية مثل «بايعوني،
يسروا … إلخ»، وقد يتكرر الأمر زيادة في التأكيد بالرغم مما
قرره الأصوليون أن الأمر على التكرار في التنفيذ حتى ولو لم
يتكرر في الصياغة، وقد يشرح الأمر زيادة في الاحتياط، وقد يكون
في صيغة فعلية، وقد لا ينفي الأمر من أول مرة لعدم الفهم مثل
أمر الرسول الأعرابي بركوب الراحلة واعتراضه بأنها بدينة
فيتكرر الأمر حتى يتم الامتثال كما قال الشاطبي فيما بعد في
«الموافقات» في مقاصد الشارع. منها وضع التشريع للامتثال، وقد
يكون الحديث مثلًا. فالله يضرب الأمثال في القرآن وكذلك
الرسول، وعادةً ما تكون الأمثلة مستمدة من البيئة الصحراوية
والمجتمع التجاري، وقد يبدأ الأمر بالحوار تمهيدًا له وإعدادًا
للنفس المقبولة مثل قول الرسول «يا كعب»، فيقول: «لبيك يا رسول
الله». فيقول الرسول «ضع من دينك هنا» فيرد «فعلت يا رسول
الله» ثم يستمر الأمر «قم فاقضه». وقد يقرن الأمر بالشرط أيضًا
من أجل الاستعداد وتحقيق الشرط قبل المشروط، وقد يكون الحديث
من جوامع الكلم التي أوتيها الرسول. فقد كان من أفصح العرب
وأوسعهم معرفة بجمهرة أمثالها، وذلك مثل «مثل ما بعثني الله»،
وقد يغلب عليه السجع مثل «أول طعام يأكله أهل الجنوب زبادة كبد
حوت، عدن خلد أعدنت بأرض أقمت، ومنه المعدن في معدن، صدق منبت
صدق» وكأنه سجع الكهان أو أدعية الصوفية وشطاحاتها كما هو
الحال في «الطواسين» للحلاج، وقد يأخذ الحديث شكل القصص أسوة
بالقصص القرآني وعلى منواله مع مزيد من التفصيلات المستقاة من
التراث اليهودي المعروف في الجزيرة العربية من الأحبار العرب
الذين قاموا بترجمة هذا التراث إلى العربية، ويكثر القصص حول
آدم وموسى وإبراهيم، وقد يكون الحديث نبوءة في المستقبل كما هو
الحال في كتاب الفتن وأحاديث نهاية الزمان وأشراط الساعة
وانهيار التاريخ وضياع الأمة بضياع النبوة وتحولها إلى ملك
عضوض، وضياع الإيمان والجهاد إلى الثروة والبطنة والرفاهية مثل
«ويح عمار تقتله الفئة الباغية»، وقد يكون الكلام استفهامًا في
صيغة سؤال من أجل الاستفسار عن فعل مثل «أو مخرجيهم؟» أو معرفة
الدوافع مثل دافع أبي بكر في عدم الاستمرار في إمامة الصلاة
بعد ظهور الرسول، وقد تكون الصيغة شرطية مثل «إذا التقى
المسلمان بسيفهما …» «من قام رمضان …» أو توكيدية مثل «إنما
الأعمال بالنيات» أو نافية مثل «ما أنا بقارئ» أو «لا حسد في
اثنين» أو نفي واستثناء مثل «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما
يحب لنفسه» أو قسم مثل «والذي نفسي بيده» أو نداء مثل «يا سعد،
اللهم علمه الكتاب»، «يا معاذ» أو استنكار واستفهام استنكاري
مثل «ما عليكم»، «أفلا كنتم أذيتموني به»، «ما بال أقوام
يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله»، «أفلا أكون عبدًا شكورًا»،
وقد تكون الصياغة تهديدًا مثل «ويل للأعقاب من النار» أو
استئذانًا مثل «طلب الإذن بالصلاة على الميت» أو تذكيرًا من
أحد الصحابة للرسول في صيغة استفهامية دون أداة استفهام، وقد
تكون شكوى من موضوع مثل «أن يخيل إلى أحد في الصلاة شيء» أي
مشكلة عملية ثم إجابة الرسول، أو تمني مثل «لعلنا أعجلناك» أو
دعاء مثل «اللهم فقه في الدين» أو «اللهم ارحم المحلقين» أو
استغفارًا … إلخ، والمطلوب إعادة تصنيف الأشكال الأدبية للحديث
بطريقة أدق في صيغ الكلام المعروفة في اللغة العربية وفي علوم البلاغة.
٧٣
والسؤال والجواب كلاهما يكونان القول المباشر للسائل
والمسئول. ثم يوضع هذا القول المباشر في إطار أو سياق أو إخراج
روائي هو الرواية. لذلك انقسم الحديث ثلاثة أقسام كما حدد
الأصوليون. الأول ألفاظ الرواية التي تشمل «سمعت»، «سمعنا»،
«حدثنا» … إلخ، وهي خمس درجات، أعلاها يقينًا الأولى لأنها
سماع مباشر دون توسط، وأضعفها يقينا الخامسة «كانوا يفعلون»
نظرًا لوجود متوسطات كثيرة من أجيال عديدة من الرواة. شاهدوا
فعلًا ولم يسمعوا قولًا، والثاني السند الذي هو جزء من الرواية
تشمل السند والوصف والإطار والإخراج الروائي، والثالث القول
المباشر نفسه للرسول وليس لمحاوره، وهو المتن، والحديث جزء من
السنة وهو السنة القولية؛ إذ تشمل السنة القول والفعل
والإقرار، وتصف الرواية الفعل والإقرار، وتضع إطار القول، وتصف
منظر الحدث. القول هو الحكم والفعل هو التأسي والإقرار. هو
الموافقة على فعل تم خارج النص والتأثر، فعل الطبيعة ذاتها،
وكان الرسول يفعل مثل أصحابه كما كان يفعل أصحابه مثله بالرغم
من تفرقة الأصوليين بين السنة الخاصة والسنة العامة. الأولى
عادة الرسول كشخص يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، والثانية
للتأسي كنموذج للسلوك.
٧٤
وبالرغم من أن الرواية بشقيها الوصف والقول إلا أن هناك بعض
الأدلة تثبت وجود تدوين سابق على السنة المدونة مثل كتاب
الرسول إلى هرقل عظيم الروم. هناك عدة شواهد تبين أن الرسول
كان يكتب بنفسه. فعندما رفض علي أن يمحو رسول الله في صلح
الحديبية أخذ الرسول الكتاب وكتب بنفسه الشرط بينهم، وأحيانًا
يأخذ الكتاب وهو لا يحسن الكتابة ويكتب، وأحيانًا يأمر
بالكتابة كما أمر بالكتابة إلى أبي شاه وكتابة خطبة سمعها بعض
الصحابة، وكان يقول: اكتبوا لي: «من تلفظ بالإسلام من الناس …»
كما كتب له أبو بكر هذا الكتاب إلا القرآن وما في أحد الصحف،
وكان الرسول يملي أحيانًا على بعض الصحابة، وكان يدعو
كُتَّابًا ليكتبوا له. كما دعا زيد فجاء بكتف وكتب عليها. كما
دعا الكاتب في صلح الحديبية، وكانت تأتيه رسائل من القبائل
والملوك ويرد عليها. أتاه كتاب عبد الله بن أُبي، وكانت تأتيه
رسائل مختومة طبقًا لعادة العصر، وصنع خاتمًا من فضة نقش عليه
«محمد رسول الله» كعادة الملوك في ذلك العصر،
٧٥ وكان علي يكتب للرسول، وربما كتب «نهج البلاغة»
بيده دون أن يمليه، ووصل الرسول كتاب من ملك غسان، وكانت
الأخبار تنقل كتابة. فقد كتب نافع أن النبي أغار على بني
المصطلق. فربما كان بعض الحديث مدونًا باعتراف أبي عبد الله أن
حديثنا لم يكن بخراسان في كتاب ابن المبارك الذي أملاه عليهم
بالبصرة، ولم يكن التدوين مقصورًا على المسلمين بل كان شائعًا
عند اليهود والنصارى، أهل الكتاب.
٧٦
وتتحدث الرواية عن حياة الرسول وأفعاله كما تتضمن أقواله.
فهناك صورة ترسمها الرواية للرسول من إجابة أبي سفيان على سؤال
هرقل عظيم الروم عن إيمان قومه به وزيادة أتباعه وصدقهم دون
ردتهم، وهي رواية قول مباشر، وصف دون قول. مثال آخر وصف
المغيرة بن شعبة ورواية ما قال الرسول ومبايعته له على الإسلام
وتنفيذ شرط الرسول له بالنصح لكل مسلم، وتدور كثير من الروايات
في وصف الرسول خاصة كيفية الوضوء والصلاة، ومناقب الرسول،
وتكثر الروايات في وصف الأفعال كبديل عن الأقوال مثل كتاب
الأطعمة لأنها عادات شخصية وكتاب الصيد.
٧٧ ويجلس الرسول في رواية في المكان الأعلى رمزًا
للسمو. فالرواية إخراج مسرحي وإطار فني، ويكون السؤال: هل يجوز
استنباط حكم شرعي من الرواية أي من الوصف وليس القول؟ فتحريم
البول رواية، وتطبيق حد السارق في أغلب الأحيان رواية، وفي
الأشربة أمر الرسول بأربع ونهاهم عن أربع، وقد تناقض الرواية
القول، وفي هذه الحالة تكون الأولوية للقول على الوصف.
٧٨
وقد تكون الرواية هي الأساس والقول هو الفرع. الأولى طويلة
للغاية والثاني قصير، وقد يكون القول هو الأساس والوصف هو
الفرع عندما يستخدم الوصف للربط بين الأقوال ربطًا سريعًا دون
تدخل في الأقوال إلا لإعلان عن هوية قائلها،
٧٩ وقد يتدخل الوصف وسط القول كما يتدخل القول وسط
الوصف كما هو الحال في حديث حداد المرأة وكحلها، ويتجلى هذا
التداخل في الحوار مثل الحديث عن رؤية الرسول أكثر أهل النساء
في النار لكفرهن بالعشير وبالإحسان حتى لو أن أحدًا أحسن إليهن
الدهر كله ثم رأت منه شيئًا لأنكرت كل خير منه، وكذلك مثل
الحديث الذي تسأل المرأة فيه النبي عن غسلها من المحيض وأمر
النبي لها أن تغتسل وشرح النبي لها بأن تتطهر والمرأة لا تفهم
حتى أخذتها عائشة وشرحت لها بوضوح أكثر نظرًا وعملًا. وقد
تتضمن الرواية سؤالًا غير مباشر كبداية لابتلاع الوصف القول.
كما تستعمل الرواية في الحجاج في الاختلاف في الرأي كخلفية للقول
٨٠ وقد يظهر التفاوت في مستوى الرواية والقول من حيث
البلاغة، وقد تكون الرواية ركيكة مستهجنة في بعض ألفاظها مثل
«عثرت الناقة فصرع النبي المرأة»، وقد تكون شرحًا لفظيًّا
للحديث. فالعاني يعني الأسير، والزرابي الطنافس، وأمثلة أخرى
كثيرة يتجاوز فيها الشرح اللفظي إلى التعليق
٨١ ويبدو أن الوظيفة الرئيسية للرواية هي أن تكون
الإطار الخارجي للقول والمنظر الخارجي للحوار. فالحديث له سياق
تصفه الرواية مثل سب أبي ذر رجلًا وتعييره بأمه كمناسبة لحديث
النبي أنه ما زال به جاهلية وأن العروبة هي اللسان. فإذا ما
أراد صحابي نصرة صحابي آخر كان ذلك مناسبة تقدمه الرواية لقول
الرسول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما …» وسؤال أبي وائل عن
المرجئة كان هو الإطار الخارجي لحديث «سب المسلم فسوق وقتاله
كفر»، وقد يكون السياق فعلًا كتبول العربي في المسجد وترك
الرسول له ثم صب الماء على بوله. فإذا ما خرج الرسول ليخبر
بليلة القدر فإن ذلك يكون هو المنظر الخارجي لحديث. فالرواية
أشبه بأسباب النزول في القرآن مثل سياق آية الحجاب. فإذا كان
المسلمون مرهقين من الصلاة وهم يتوضئون مسحًا على الأرجل نادى
الرسول بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار»، وقد يشرح الرسول
الرواية بالقول كما يشرح الراوي القول بالرواية مثل الثلاثة
نفر الذي أولهم فرجة مجلس فقد أوى إلى الله فأواه الله،
والثاني الذي جلس في الآخرة فإنه استحيا فاستحيا الله منه،
والثالث الذي خرج فإنه قد أعرض فأعرض الله عنه. بل تصف الرواية
سياق الحديث القدسي عن جبريل الذي أتى إلى الرسول ليعلمه
الإسلام أو الأحاديث التي بها قدر كبير من الخيال الإبداعي مثل
سماع الرسول صوت رجلين يعذبان في القبر
٨٢ وأحيانًا يكون الخلط كاملًا بين الرواية والقول
المباشر على التبادل. الرواية تتحول إلى قول مباشر والقول
المباشر يصبح رواية مما يدل على وجود نص واحد ينقسم إلى قسمين
على التبادل مثل لعن الله الواحلة والمستوحلة، وسلام الصغير
على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير، والنهي عن
أربعة: الدباء والنقير والظروف المزفتة والحنتمة، والوليمة
بشاة، وحديث سليمان الذي طاف على مائة امرأة لإخراج مائة فارس
للجهاد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله، فلم تلد إلا امرأة
واحدة نصف إنسان، ورمي الفأرة وما حولها من سمن وأكل الباقي،
وسعة الحوض جغرافيًّا بين حائلة وصنعاء.
٨٣
وبالإضافة إلى قسمة القدماء السنة إلى قول وفعل وإقرار فإن
المحدثين يضيفون إليها لغة
الجسم
Body Language، وهي لغة الإشارة بالأصابع أو اليدين أو
الرأس أو الجسد للتعبير عن المعاني وشرح الأقوال كنوع من
التوضيح العملي والإخراج المسرحي، وفن التمثيل الصامت الذي
يعتمد على حركات الإيماء هذه، يستغني عن القول كلية ويكتفي
بالإشارة وحركات الجسد، ويستعمل ذلك الرسول والصحابة بل
والعامة وأهل الكتاب، ويبدو أنها كانت عادة عربية أو إنسانية
عامة نظرًا لوجودها عند كل الشعوب مع اختلاف دلالتها مثل هز
الرأس يمينًا ويسارًا الذي يعني النفي في مصر وأعلى وأدني الذي
يعني النفي في لبنان، وتوجد لغة الإشارة في الرواية خاصة والتي
تصف القول وليس القول المباشر الذي يعتمد على الكلام. فالرواية
ليست فقط سماعًا بل إنها أيضًا مشاهدة، بالأذن وبالعين. بل إن
البخاري يعقد لذلك بابًا خاصًّا يسمى «الإشارة في الطلاق
والأمور»، وهي لغة يستعملها القرآن والرسول والصحابي على حد
سواء. فقد أشارت مريم إلى طفلها للرد على اتهام أمه وتبرئتها،
ولم تكلم الناس إلا رمزًا أي بلغة الإشارة، وطاف الرسول على
البعير وكلما أتى على الركن أشار إليه وكبر، وقال الرسول:
«الفتنة من هنا» وأشار إلى المشرق، ويستعمل الصحابي أيضًا لغة
الإشارة؛ إذ يبدو أنها حركة طبيعية للجسد خاصة اليدين لمساعدة
اللسان على القول. فقد أظهر يزيد يديه ثم مد إحداهما من الأخرى
ليشرح حديث الرسول عن أذان بلال لقيام الفجر دون أن يمنعه ذلك
عن السحور، واستعملت عائشة نفس اللغة عندما أومأت برأسها إلى
الشمس لتشير إلى الآية، وقد شبك أحد الصحابة بين أصابعه لبيان
العلاقة بين الإيمان والعمل، قبل الفعل وبعد التوبة، والمرأة
اليهودية التي رضخت رأسها أجابت بإشارة من رأسها بالنفي إلى من
لم يقتلها، وقد عرض الفقهاء للقضية في جوازهم لغة الأخرس
وقبولها لعجزه عن الكلام. فقد أجاز الرسول الإشارة في الفرائض
ولكن لا يجوز الطلاق بإشارة أو إيماء. لا بد من الكلام والكلام
الصريح لأن الإشارة هنا عامل مساعد على القول وليست قوة، ولا
تُستقى الأحكام إلا من الأقوال، وكذلك لا يثبت القذف بالإشارة.
٨٤
والعضو الغالب في الإشارة هو اليد واليدان بمجموعهما أو
بالتخصيص بالأنامل والأصابع والسبابة والوسطى والخنصر والكف.
فقد أومأ النبي إلى أبي بكر بيده أن يتقدم للصلاة بالناس وهو
مريض، ويعني بذلك أنه لا حرج، وأومأ إلى المشرق بيده وقال:
«إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم» مع أن
الليل يأتي من المغرب، وأشار بيده نحو اليمين وقال: «الإيمان
ها هنا» أي في القلب، والقلب في اليسار، لأن الرسول يحب
التيامن، وقد أرى بيده قضاء الدين على الآخرين هكذا وهكذا
وهكذا، وأخذ الرسول يده اليمنى وقال: «هذه يد عثمان» وضربها
على يده، وقد يستعمل الرسول اليد مع الأصابع كلها أو بعضها.
فقد قبض أصابعه ثم بسطهن كالرامي بيده وقال «وفي كل دور
الأنصار خير» بعد أن عدد خير بعضها دارًا دارًا، وقد تتحرك
اليد إلى باقي أعضاء الجسد مثل العين والأنف، فقد أشار الرسول
بيده إلى عينيه للدلالة على أن المسيح الدجال أعور، ووضع يده
فوق أنفه وقال «الفاجر يرى ذنوبه كذباب على أنفه»
٨٥ وقد تستعمل لغة الأصابع كجزء من اليد، فقد شبك
الرسول بين أصابعه قائلًا «المؤمن للمؤمنين كالبنيان يشد بعضه
بعضًا»، وأشار بأصبعه إلى جيبه للدلالة على تضييق جيب البخيل،
وقد تتخصص الأصابع في الوسطى والسبابة والخنصر، خاصة السبابة
والوسطى، فقد فرج بين أصبعيه السبابة والوسطى وقال: «أنا وكافل
اليتيم في الجنة وهكذا»، وفرق بين السبابة والوسطى وقال: «بعثت
أنا والساعة كهذه من هذه أو كهاتين». كما فرق بينهما في
الملاعنة، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر بعد أن قال: «إن
في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي وسأل الله خيرًا إلا
أعطاه»، وفسر ذلك الصحابة بأنه يزهدها مما يدل على احتمال تعدد
تفسيرات لغة الإشارة، وقد يستعمل الرسول الكف أو الكفين معًا
مبسوطي الأصابع لعد أيام الشهر الثلاثين، ويقول «الشَّهْر هكذا
وهكذا وهكذا» أو أيام الشهر التسعة وعشرون هكذا وهكذا وهكذا،
وفي الثالث يطوي إصبعًا كالأطفال في العد الحسي، وتحويل المجرد
إلى محسوس، وعندما أمر ألا يمنع أحدًا أذان بلال من سحوره لأنه
يؤذن ليرجع القائم وينبه النائم وليس لأن الفجر قد حان مد كفيه
حتى يقول هكذا ومد إصبعيه السبابتين
٨٦ وقد تستعمل اليد والأصابع مع أعضاء أخرى مثل العين
واللسان والحلق والأنف. فعندما قال: «لا يعذب الله بدمع العين
ولكن يعذب بهذا» وأشار إلى لسانه، وأشار بإصبعه إلى حلقة لوصف
البخيل الذي يريد توسيع حلقة في حلقة فلا تتسع، وقد تكبر
الحركة باليد كي تعقد عقدة، فعندما قال: «فتح من ردم يأجوج
ومأجوج مثل هذه» عقد تسعين عقدة
٨٧ وقد يستعمل الجسم كله عندما تصف الرواية الرسول
متكئًا في المسجد طلبًا للراحة ومضطجعًا رافعًا إحدى رجليه على
الأخرى وهي عادة غير متبعة في عصرنا الحاضر، وقد يستعمل الرسول
الرمل للخط عليه. فقد خط مربعًا وقسمه ووضع خطوطًا صاعدة
وهابطة ليرسم الأجل المحيط والأعراض في الأفعال. فالتعبير
بالرسم أحد وسائل إيضاح الأفكار كما هو الحال عند
ديكارت.
وتصف الرواية جسد الرسول. فقد كان ضخم اليدين وشعره لا جعد
ولا سبط، وكان يضفر شعره، وإذا نام النبي أخذت أم سليم من عرقه
وشعره فجمعته في قارورة ثم في سُك وضعه أنس بن مالك في حنوطه،
وهنا يبدأ التحول من الكلام إلى الشخص، ومن الشخص إلى الجسد،
وهو ما زال سائدًا حتى الآن في العقائد الشعبية وشعرة الرسول
في قنينة في جامع دلهي حيث المسلمون أقلية وسط الأغلبية
الهندوس، ويتجلى هذا التحول من الكلام إلى الشخص في كتاب «بدء
الخلق» كما حدث في حياة المسيح والتحول من كلامه إلى شخصه خاصة
في الإنجيل الرابع. وتذكر الروايات أسماءه وآثاره وألقابه في
قول مباشر مثل: «إن لي أسماء أنا محمد وأحمد، وأنا الماحي الذي
يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي،
وأنا العاقب»، وأصبح شخصه نموذجًا حتى في طول العمر «أعذر الله
كل من أُخِّر أجله إلى الستين». بل بدأ الدعوات إلى شخصه دون
رسالته «أنت مع من أحببت»، وتغيب بشرية الرسول، ويتوارى الرسول
الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق والذي يتوعك ويمرض وابن
امرأة كانت تأكل القديد.
٨٨
إن نقد الحديث هو نقد للنصوص وليس نقدًا لشخص الرسول أو
الشرع أو الوحي بالرغم من ارتباط علم الحديث بعلوم القرآن وعلم
السيرة وعلم التفسير وعلم الفقه. إن الحاجة ما زالت قائمة
الإحصائيات دقيقة على متن الحديث من حيث الشكل ومن حيث المضمون
لمعرفة صياغته المختلفة وتداخل الرواية مع القول المباشر
ولمعرفة الموضوعات التي يتطرق إليها، العبادات والمعاملات
والتاريخ والأسرار الغيبية. يكفي النموذج والقصد والمنهج وفتح
الباب لتطوير الدراسات في الحديث النبوي.
رابعًا: تاريخية الشك والمضمون
الحديث نص تاريخي من حيث الشكل أي الصياغة والخطاب، ومن حيث
المضمون أي الموضوع والحدث. لا تعني التاريخية الأخطاء
التاريخية في أسماء الأعلام والتواريخ ومدى تصوير النص لوقوع
الحوادث في الزمان والمكان. فهذه هي الوضعية التاريخية أو
نظرية الصدق والكذب في الأخبار عند القدماء
٨٩ بل تعني التاريخية في الخطاب خضوع الصياغة إلى
قوانين النقل الشفاهي وما يعتريها من زيادة أو نقصان. كما تعني
التاريخية في المضمون ارتباط موضوع الحديث بعصره وعادات العرب
القديمة بالرغم من تغيير العصور والعادات.
وقد ذكر الرواة الأحاديث في عبارات توحي بالشك والظن
والاحتمال للخطأ والنسيان وتعبيرهم عن عدم معرفتهم بالحديث
الصحيح على وجه اليقين. فمثلًا يقول أحد الرواة: «وأكثر الظن
أنه قال شهادة الزور»، وقال آخر: «أشك فيها» ويعترف ثالث
بالنسيان: «وأما إن قالها فنسيتها» أو «حفظ ذلك من حفظ ونسيه
من نسيه». هناك أحاديث يصعب حفظها كلها أو بعضها كما يعترف
بذلك محمد بن عبيد وحذيفة، ويعترف آخر بأنه لا يحفظ من الزهري
الأشعار والتقليد، ويقوم الخيال الإبداعي بتغطية هذا النقص
البشري وضعف الذاكرة الطبيعي بأن الرسول بسط رداءه وطلب من أحد
الرواة الغرف منه، ومِن ثَم يتوقف كثير من الرواة عن الحكم على
صحة الحديث ويقول: «لا أدرى». فلا يدري أبو حازم أيها قال،
ويقول معظم الرواة والفقهاء والمحدثون حتى الآن «أو كما قال»
احترازًا من الكذب على الرسول. فالنقل معنوي وليس لفظيًّا، «خذ
الإسلام أفضل أو قال خير». تدل كثرة تردد «أو كما قال» على
الشك في الصياغة، وإذا كان أحد جماع القرآن قد نسي آخر سورة
التوبة ووجدها مع أنصاري، فالأولى أن يحدث ذلك في الحديث.
٩٠
لذلك أصر بعض الرواة على ذكر الشهادة والسماع وربما التدوين
السابق الذي اعتمدوا عليه زيادة في التأكيد على صدق الحديث.
فيقول أحدهم: «واشهد أني كنت مع علي»، ويتساءل آخر: «أمنكم أحد
سمعه من النبي؟» ويتهم ثالث: «لا أراك تحدثه»، وكان يمكن توثيق
بعض الأحاديث بالرجوع إلى المدون منها. فقد كتب الرسول إلى
هرقل، وكانت للنبي صحف، وكتب صلح الحديبية، وكتب أبو بكر
كتابًا إلى البحرين، وكتب علي.
٩١ ولم يغفل القدماء نقد المتن على الأقل من حيث شكل
الصياغة عندما كانوا يروون الحديث بكل صياغاته دون اختيار
أحدهما حتى تكررت الأحاديث بنفس المعنى وصياغات متعددة لدرجة
الملل وعدم رؤية الدلالة الكافية لتعدد الصياغات، وكثيرًا ما
اختلف الرواة فيما بينهم واحتكموا لثالث أو للقرآن. فإذا
استعصى عليهم الأمر قاموا بشرح ألفاظ الحديث من أجل التقريب
بين هذه الاختلافات، ويسأل أحدهم: «هل هذا من رسول الله؟»
فيجيب الآخر: «لا هذا من كيس أبي هريرة»، فكان الرواة يشعرون
بالزيادة في الحديث قبل أن يشعر المحدثون بالوضع. لذلك وضع
القدماء علم مصطلح الحديث ومعه علم الجرح والتعديل لضبط صحة
الحديث. كما استأنف الأصوليون الأمر في حديثهم عن الدليل
الثاني وهو السنة اعتمادًا على علم مصطلح الحديث.
ويمكن للمحدثين استئناف ما بدأه القدماء من أجل وضع قوانين
لاختلاف الصياغات في الروايات الشفاهية خاصة الزيادة والنقصان.
فالرواية بطبيعتها قابلة للتمدد نظرًا لتدخل الرواة في نقلها.
فالذاكرة ليست مجرد آلة تسجيل، سمع وحفظ وأداء، بل هي ذاكرة
مُؤَوِّلة مبدعة تضع من خبرتها وبواعثها في النقل. فكل حديث له
نواة أولى، وتتكرر في كل الصياغات، وهو الحد الأدنى في الحديث،
الأقرب إلى اليقين، ثم تتكاثر الزيارات جيلًا وراء جيل شرحًا
أو إضافة طبقًا للبواعث المتجددة والصراعات الناشئة، ومِن ثَم
لزمت طبعة نقدية جديدة لكتب الحديث من أجل مقابلة الصياغات
المختلفة لكل حديث في عواميد متقابلة ومتوازية، وكتابة النواة
المتكررة في كل الصياغات، وترك فراغات الزيادة والنقصان لمعرفة
بنية الحديث في نظرة كلية شاملة واحدة على كل الصياغات ومن أجل
تفادي تكرار الأحاديث في نفس الكتاب أو في كتب أخرى من كتب
الإصحاحات الخمسة، وقد يسمح ذلك بإيجاد نسق جديد للموضوعات بلا
تكرار وبنية محكمة، وقد تختلط عبارات الراوي وألفاظه، وهي مصدر
الزيادة والنقصان بنواة الحديث، ويعترف بعضهم «غير أنه زاد
فيه»، ويتدخل الراوي وسط القول المباشر بقوله «لا أدرى» ويعطى
حقيقة ثابتة، ويقول آخر: «لا أدري أشيء قال نافع أو في الحديث»
إحساسًا بالزيادة والفرق بين النواة والإضافات التالية، وعادة
ما تكون الزيادات للتأكيد والمبالغة والزيادة في التأثير والإقناع
٩٢ يكفي إعطاء مثل واحد لاختلاف صياغتين لحديث واحد
لبيان التحول عن طريق القلب من الإثبات إلى النفي.
-
الصياغة الأولى: من مات وهو يدعو من دون الله ندًّا
دخل النار.
-
الصياغة الثانية: من مات وهو لا يدعو لله ندًّا دخل
الجنة.
-
الصياغة الأولى: من مات يشرك بالله شيئًا دخل
النار.
-
الصياغة الثانية: من مات لا يشرك بالله ندًّا دخل الجنة.
٩٣
وقد تتحول النواة إلى بنية، وهو المعنى الرئيسي للحديث،
وتختلف الصياغات بل وأيضًا الأشخاص ولكن تظل البنية واحدة وتظل
الدلالة واحدة. فحديث «وجبت مرتان» لجنازتين خير وشرير مرة من
الرسول ومرة من عمر، وقصة إنقاذ كلب من العطش مرة قام بها رجل
ومرة بطلها امرأة، وقصة من وقع على أهله في رمضان ولا يجد رقبة
ليحررها لا يستطيع صيام شهرين متتابعين ولا إطعام ستين مسكينًا
ثم إعطاء رجل من الأنصار صدقة فتصدق بها على نفسه هي نفس
البنية لقصة من أراد الزواج وليس لديه شيئًا فأعطاه الرسول
تمرًا فتصدق به على نفسه، وحديث فحج آدم وموسى عن القضاء
والقدر له صياغات عدة ونفس البنية.
٩٤
وقد اختلف الصحابة حول عديد من هذه الصياغات. فقد زاد عمر
على حديث «وهم من آبائهم»، وفى خلاف آخر يقصر البعض الإيمان
على «المعروف»، ويضيف البعض الآخر «الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر»، وللصيغة الأولى دلالة أخلاقية بينما للثانية دلالة
سياسية، ويحذف ابن عيينة ومحمد بن مسلم من حديث «بارك الله
عليك»، والخلافات كثيرة بين كثير أو كبير، ويلك أو ويحك، رابح
أو رايح، غدوة أو روحة، لم تبكي أو لا تبكي، وكل راوٍ حسب أن
الرسول قال كما يروي كلمة أو نحوها بينما يشك آخر «أو قال».
٩٥
وبالإضافة إلى اختلاف الصياغات هناك أيضًا الاختلافات في
التأويل. فقد كان الرسول نفسه من المتأولين المتحدثين مجازًا
المستعملين أحيانًا لغة عربية عتيقة. لذلك أصبحت لغة الحديث
الصيغية أكثر تاريخية وأقرب إلى الشعر العربي القديم من
القرآن. كان الرسول يتأول العفو عن المنافقين على غير رأي عمر،
وكان يصحح تأويل الصحابة عندما يصيبون البعض ويخطئون البعض
الآخر، ويظل التأويل بعيدًا عن الحروف السبعة التي نزل بها
القرآن، وهي أقرب إلى اللهجات منها إلى أعماق النص الباطنية.
كما تتغير دلالات الألفاظ في كل عصر. فإذا قال الرسول: «في دبر
كل صلاة» بمعنى في خلف كل صلاة فإن معنى الدبر الآن يعني خلف
الجسد. فقد تغيرت دلالات الألفاظ من عصر الرسول إلى عصر تدوين
الحديث، ومن عصر تدوين الحديث إلى هذا العصر،
٩٦ وأقرب شيء إلى ذلك الحقيقة والمجاز وإلا فهم
الحديث على نحو حرفي فألحق الضرر أو تشبيهي فنال من التوحيد.
فقد فهم أعرابي قول الرسول له: «لو قد جاء مال البحرين
لأعطيتك» وطالب الرجل بحقه بعد وفاة الرسول. فهم البعض ما قاله
الرسول من أن الجنازة المسرعة صاحبها خير والجنازة البطيئة
صاحبها شرير حرفيًّا، وأنه يسمع صوت من الميت حرفيًّا. كما فهم
آخرون أن من شهد الجنازة له قيراط. من صَاحَبها إلى الدفن له
قيراطان، جبلان عظيمان! وفهمت بعض النساء قول الرسول «أطول
نساء الرسول يدًا أسرع لحوقًا» حرفيًّا لا مجازيًّا على الكرم
فأطلن الأكمام! ولا يعني حديث الرسول «أعلم أنك تنظر لطعنت
عينك» الطعن جسديًّا بل مجازيًّا مثل زنا العين النظر، وزنا
اللسان المنطق والفرج يصدق،
٩٧ كما ينشأ الخلاف في تأويل الأحكام تخصيص العموم أو
تعميم الخصوص من الراوي، وإذا قال الرسول: «لا يصلين أحد العصر
إلا في بني قريظة» فهم البعض ذلك حرفيًّا حتى لو صلوها قضاء.
أول البعض الآخر ذلك بمعنى الهمة والاستعجال وصلاة العصر حاضرًا
٩٨ ويصبح التأويل أكثره ضرورة حفاظًا على التنزيه في
القرآن أو الحديث مثل حديث تبريد الحر بالصلاة لأن الحر من فيح
جهنم، وشكوى النار إلى ربها بأنها تأكل بعضها فأذن الله لها
بنفسين في الشتاء ونفس في الصيف، واهتزاز عرش الرحمن لموت سعد
بن معاذ، والنور بين أيدي الصحابة في ليلة مظلمة، والسوران من
ذهب وتأويلهما كذابين في حروب الردة، وقد تعجز امرأة عن فهم
الطهارة عندما قال لها الرسول «توضئي» بقطعة قماش مبللة بالمسك
حتى أفهمتها عائشة الشرح على نحو عملي.
٩٩
ويدل على تاريخية الحديث من حيث المضمون تبدل مواقف الرسول
نحو الأفضل سواء بالفعل أو بالنية التي يعبر عنها بعبارة «لو
استقبلت من أمري ما استدبرت». فقد غيَّر الرسول مواقفه من وقت
لي آخر، ومن مرحلة من العمر إلى مرحلة أخرى. كان يرد السلام
أثناء الصلاة وبعد النجاشي لم يرد وقال «إن في الصلاة شغلًا».
بل لقد تغيرت بعض مناسك الحج في حياة الخلفاء لقول الرسول: «لو
استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي
لأحللت». فمناسك الحج ما زالت في حركة تغير وجدل مع مناسك
إبراهيم، كثيرة منه في أول الدعوة وأقل في آخرها كنوع من جدل
التواصل والانقطاع مع دين إبراهيم ومناسك الجاهلية، وقد أثار
بعض المحدثين جاهلية القرن العشرين ومتطلباتها وما عرضه على
رؤية الشرع من جديد وكأن الإسلام ما زال حديث عهد بالجاهلية
الأولى. كما رخص الرسول في بيع الحرية بالرطب أو بالتمر، ورخص
لأعرابي الحلق قبل الهدي لأن هوامه كانت تؤذيه دفعًا لضرر،
ولبس الرسول خاتمًا من فضة عليه نقشه ثم خلعه بعد ذلك تحريمًا
للبس الذهب والفضة، ولا يعتبر هذا التغير بالضرورة نسخًا بل
تأقلمًا مع الظروف. ففي البداية كان لا يبقى من الضحية في الحج
بعد ثلاثة أيام شيء، وبعد عام رخص الأذخر نظرًا لحاجة الناس،
وهي نفس مشكلة الأضاحي في الحج وتجفيف اللحوم في هذا العصر،
وكان قد أمر بقتل الحيات ثم تركه بعد ذلك لأنها من ذوات البيوت.
١٠٠
وهناك نسخ في السنة مما يدل أيضًا على أنها كانت موضع
التغيير والتبديل. ففي الميراث كان المال للولد والوصية
للوالدين ثم نسخ بعد ذلك وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، ولكل من
الأبوين السدس، وللمرأة الثمن والربع، وللزوج النصف والربع،
وجاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد المرأة حيث شاءت ولا سكنى لها،
وكان الرسول قد رخص بنكاح المتعة ثم نهى عنه سواء في رواية أو
في قول مباشر «أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث
ليال فإن أحبا أن يتزايدا أو يتتاركا تتاركا». عند علي أنه
منسوخ، وآخر لا يدري هل هو حكم خاص أم حكم عام
١٠١ ومِن ثَم وجب ترتيب الأحاديث ترتيبًا زمانيًّا
لمعرفة تطورها وعلاقاتها بالآيات القرآنية وموازاتها وتفاعلهما
في أسباب النزول أو في الناسخ والمنسوخ، ويكون السؤال حينئذٍ
هل يمكن العودة إلى المنسوخ إذا ما تشابهت الظروف مع ظروف
المنسوخ الأولى؟
ومما يثبت تاريخية الحديث من حيث الأحكام تعارضه مع السنة
نفسها أو القرآن، فهل يمكن أن يكون «أحسن الجهاد الحج المبرور»
والجهاد هو أحد أصول الدين، ومن أهم معارك المهاجرين ضد
الأحاديث التي تجعل الجهاد الأكبر جهاد النفس وجهاد الاستعمار
الجهاد الأصغر؟ وقد رفض الرسول زواج علي زوج ابنته فاطمة من
بنت أبي جهل لأنه لا يقبل أن تكون لابنته ضَرة أو لأنها بنت
أبي جهل لذاتها وهو رأس الكفر في مكة. فالتشريع للآخرين، وقد
يكون ثقيلًا على النفس. كما أيد الوحي عمر بن الخطاب في عدم
الصلاة على المنافقين أو الاستغفار لهم على عكس ما أراد الرسول
بتأويل للقرآن.
وكان الرسول يكفن الرجلين في ثوب واحد دون غسل ودفنهما
بدمائهما ودون صلاة في قتلى أحد على عكس السنة، ربما حزنًا
ولحالة نفسية سيئة، حالة المهزوم، وقد رفض الرسول أكل بلحة
مخافة أن تكون من الصدقة والرسول نفسه يعتبر الشيء للناس صدقة
وله هدية، وعند عمر مزايدة وورع كاذب، وقد برأ الرسول الكاهن
الإسرائيلي من تهمة الزنا بحديث الولد واعترف أن أباه راعي
الغنم بالرغم من إدانة القرآن للرهبانية.
١٠٢
وتبدو تاريخية الحديث في أشكال العبارات التي استقرت والتي
ما زالت قديمًا في مرحلة التقنين حتى في أشد الصغائر: حجم
الضوء في اليد والساعد والكعبين وطريقة من اليدين والركوع
والسجود. تطيل كتب الحديث في موضوعات معروفة للعصر مثل الصلاة
الصيام والزكاة والحج. انتهت التفصيلات حول أنواع الزكاة
القديمة على الفرس والإبل والغنم، وفرض القياس نفسه على العصر.
فإذا كانت لا زكاة على السلاح والفرس فهل العربة الآن هو الفرس
القديم؟ وماذا عن السلاح؟ وهل الحرب الآن صفوف، صف يحارب وصف
يحرس في نظام قديم للوردية؟ وماذا عن أحاديث الغنائم والعبيد
وأشكال البيوع والصيد؟
١٠٣
وتبدو التاريخية أكثر وأكثر في موضوع النساء أو على الأقل في
بعض جوانبه البيئية وإن كانت المرأة أيضًا كمثال. إذ يجيز
الحديث النظر إلى الجواري في السوق للبيع والشراء وفي نفس
الوقت غض الطرف عن الأحرار وتحريم النظر وإلا خزقت العين. فقد
انتهى العصر القديم، وفي أحاديث أخرى خارج صحيح البخاري يفضل
قضاء الحوائج عند حسان الوجوه. فالله جميل يحب الجمال، وتأتي
المرأة وتعرض نفسها للرسول وتسير أمامه فيتمانع فيطلبها آخر
حوله ويعطيها له ولو بمهر من قراءة بعض سور القرآن دون أخذ
رأيها أولًا. وقد أقسم الأنصار على المهاجرين دورهم وأموالهم
ونساءهم فمن كانت لديه اثنتان تنازل لأخيه المهاجر عن واحدة
دون أخذ رأيها ورأيه، وكانت عادة العرب التصفيح تعبيرًا عن
الفرح. فتغيرت إلى التسبيح للرجال وبقي التصفيح للنساء،
والنساء ضعاف البنية يوصي الرسول بالتعامل معهن برفق «يا أنشجة
لا تكسر القوارير»، والمرأة كالضلع الأعوج إن حاول أحد إقامته
كسره، ويجوز الاستمتاع بها وفيها عوج، وهل الاعوجاج حرفي أم
معنوي فالحرفي خلقه، والمعنوي هل ينصح بالكسر بالضرورة؟ في حين
أن تحريم لبس الذهب والحرير والفضة والديباج والاستبرق على
الرجال والنساء على حد سواء، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم
مما يجعل المرأة حتى الآن تحت وصية الرجل يسيء استخدام هذا
الوضع القديم للانتقام منها ساعة الشقاق. كما أن السفر الآن لم
يعد بذي مشقة تستلزم الحماية، ولم تعد مدة السفر تستلزم صحبة.
المرأة كما كان الأمر في الماضي في رحلتي الشتاء والصيف على
الإبل بين اليمن والشام ذهابًا وإيابًا، والاقتراع بين النساء
في الخروج إلى الجهاد مرتبط بتعدد الزوجات، وبطول المدة
والتعامل مع المرأة بالصدفة والقرعة دون أخذ رأي من يصاحب ومن
يبقى، وهل لا بد من أخذ النساء في الحروب والاقتراع بينها
والحروب الآن قصيرة المدى، صواريخ موجهة وكأنه لا بد من
الترفيه عن الجنود كما هو الحال في الجيوش الغربية الحديثة؟
ولا يجوز للمرأة أن تكون رئيسة للدولة «لن يفلح قوم ولَّوا
أمرهم امرأة»، وبالرغم ومن أن هذا الحديث قد قيل في سياق فارس
وليس على الإطلاق إلا أنه أصبح مصدرًا للتشريع بالنسبة لحق
المرأة السياسي نظرًا لخصوص السبب وعموم الحكم عليها الطاعة
وعدم العصيان في المعروف، وتظل صورة المرأة الغالبة هي المرأة
ككيان عضوي فيما يتعلق بالحيض والنفاس والعدة والطهر والطمث
والرفث والعسيلة والطهارة والحيض، وقد يصعب في ظروف هذا العصر
الزواج المبكر نظرًا للتعليم والمهنة والاختيار والنضج اللازم
للطرفين لتأسيس حياة زوجية جديدة، وقد مكثت عائشة في منزل
الرسول وهي بنت ست سنوات، ودخل عليها بنت تسع، وبقيت معه تسع
سنوات، وكان أبو بكر قد اعترض على خطبة النبي لابنته لأنه
أخوه، ورد الرسول بأنه أخوه في الدين وأن عائشة له حلال،
وبالرغم من أن تعدد الزوجات أتى في سياق اليتامى، فالرعاية
أفضل من المتعة، إلا أنه أصبح تشريعًا عامًّا باسم عموم السبب
وخصوص الحكم، ويظل الطلاق حق الرجل دون استئذان المرأة بالرغم
من أنه لا يجوز الطلاق من المجنون والسكران والمستكره.
١٠٤ وقد لا يقبل العصر الآن جعلها نصف شاهدة نظرًا
لنقصان عقلها، وقد كان ذاك تقدمًا كبيرًا في وضع المرأة
بالنسبة للعصر القديم. قد يطلب العصر الحاضر دفعة جديدة نحو
التقدم باعتباره روح الإسلام، وقد حاول بعض المحدثين تأويل نصف
الشهادة بحيث تبدو معقولة. فالشهادة لرجلين وليس لرجل واحد،
وشهادة المرأة الاستثناء وليس القاعدة. كما ارتبط نصف الميراث
بوضع المرأة قديمًا، وقد يتطلب وضع المرأة الجديد حاليًّا غير
ذلك طبقًا لتغير نظام القرابة، وبعد هذا كله النساء أكثر أهل
النار: الإكثار من اللعن والكفر بالعشير وبالإحسان، ولو أحسن
أحد لإحداهن الدهر كله ورأت منه شيئًا لأنكرت، ويُؤوِّل بعض
المحدثين ذلك بسبب الغواية وكأن المرأة وحدها هي الغاوية دون
الرجل، ناقصة العقل والدين وأذهب للب الرجل الحازم، وقد حاول
بعض المهاجرين تنقية هذه الأحاديث ووضعها في سياقها التاريخي.
١٠٥
وقد تبدو بعض مظاهر القسوة في البيئة التشريعية القديمة،
بيئة القتل والصلب والرجم والجلد وقطع أعضاء البدن والسبي كما
تعودت عليه القبائل، وكان عمر يسرع في المطالبة بالقتل، وهي
عادات شرقية وغربية قديمة في الحضارات القديمة الرومانية
والمصرية واليهودية. كانت العادة في الحروب قتل الرجال وسبي
النساء كما حدث يوم خيبر، وقتل رجل متعلق بأستار الكعبة يوم
الفتح بلا دفاع عن النفس قولًا كما هو الحال في المحاكمة أو
عملًا كما هو الحال في الحرب، وقد طلب الرسول الحرق بالنار
لنفر من قريش ثم غير ذلك إلى القتل لأن النار من اختصاص يوم
القيامة، وقتل ذي الخلصة، ومعروف أن حُكم لرسول بأن يُقتل
المقاتلون وسبي الذراري هو حكم الملوك، وقد يصبح القتل صلبًا
أو تقتيلًا، وتقطيع اليدين والرجلين والتمثيل بالجسد. فقد أعطى
الرسول ضيوفًا اللبن والطعام لهم ولإبلهم حتى صحوا وشبعوا
فقتلوا الراعي فأمر بمسامير فأحميت وكحلهم بها، وقطع أيديهم
وأرجلهم وما حسمهم ثم ألقوا في الحرة يستسقون فما سقوا حتى
ماتوا، وهناك فرق بين القصاص والتمثيل والتعذيب حتى أصبح هذا
الخلط أحد الاتهامات الرئيسية الموجهة لثقافتنا ولحياتنا
المعاصرة، وما أسهل من الاتهام بالكفر والردة والخروج كما يحدث الآن
١٠٦ وعقاب ذلك القتل عند القدماء، والأحاديث كثيرة عن
سهولة الأمر بالقتل وطلب القتل بسبب الإيمان
١٠٧ بل لقد تحول قتل الناس إلى عناوين أبواب بل وقتل
الآباء وسط الأبناء، ويضع البخاري عنوانًا لباب «قتل الخوارج
والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم»، ويروى حديث «من بدل دينه
فاقتلوه»، وفي نفس الوقت لا يحل دم المسلم إلا قتل النفس
بالنفس، الثيب الزاني، والمارق من الدين، والتارك للجماعة، وقد
يكون الأول في مجتمع حر جنسيًّا، والثاني في أول نشأة الدين
قبل استقراره، والثالث معارض سياسي ثائر على الحاكم الظالم
بالرغم من وجود أحد الملحدين في الحرم، ورجل أسلم ثم تهود قتل،
وإن مر أحد بين يدي مصلٍّ وأصر على ذلك فإنه يقتل، والحاكم
يحكم بالقتل على من وجب عليه دون الإمام الذي فوقه أي دون
مراجعة من السلطة الدينية على السلطة السياسية، ويجوز قتل
المشرك وهو نائم، وقد يتعدى الأمر إلى التخريب الشامل وسياسة
الأرض المحروقة، الأرض الخراب. فقد سوَّى الرسول أرض بني
النجار وبها قبور المشركين، وقطع النخيل لبناء المسجد، والآن
للموتى حرمات بصرف النظر عن الدين، ولا يجوز نبش قبور المشركين
أو غيرهم، وقد تبدو عقوبة الرجم للمعاصرين أشد قسوة عما كانت
عند القدماء خاصة أنها للمرأة الزانية والجلد والتغريب للرجل
والقتل إن كان ثيبًا، وقد قبل الأب فدية ابنه عندما زنى بامرأة
قوم وقضوا عليه بمائة شاة وخادم ظانين أن هذا هو الحكم، ولكن
الرسول رد الغنم والجارية وجلد ابنه مائة وغرَّبه عامًا ورجم
المرأة بعد اعترافها بالرغم من عاطفة الأبوة واعتراف المرأة
الذي قد يتطلب تخفيف الحكم، وقد كان الرجم عند اليهود واستأنفه
الإسلام بعد أن أخفاه اليهود، ولما طبقه الرسول عليهم ظل الرجل
يحمي الرماة وهو يقيها الحجارة. فربما كانت حبيبته يفدي نفسه
بها، وقد اعترف رجل بأنه زنى فأعرض الرسول عنه فلما شهد على
نفسه ظن الرسول أن به جنونًا. فلما نفى وأصر رجَمه. فالرجم طلب
العقوبة وليس توقيعها، والشهادة من أربعة رأوا رأي العين
المورد في المكحلة تعني أن مناط العقوبة هو الفعل الفاضح أو
الاعتراف وطلب توقيع العقوبة إحساسًا بالذنب، واعترف أحد
المسلمين وطالب بالرجم وهو محصن، ومن حب الحياة هرب وهو يرجم
وقتلوه. أما قطع اليد فكان أيضًا عادة في الثقافات القديمة
المحيطة بشبه الجزيرة العربية، وهناك أيضًا في السنة ما يمكن
بواسطته إيقاف الحد نظرًا لتغير الظروف كما فعل عمر في عام
المجاعة، وكما هو الآن في جوع ملايين المسلمين في بنجلادش
والهند وتشاد ومالي وجنوب السودان
١٠٨ كما أن هناك ظاهرًا وباطنًا في فهم الحكم مثل الحد
على سارق وزانٍ وغني حتى يكف كل منهم عما فيه، وقد سرقت امرأة
وقطعت يدها وتزوجت وحسنت توبتها ذلك عاشت بعاهة مستديمة. كما
استهجن الرسول قطع يد سارق بيضة حبل وسارق جعل مما جعل الفقهاء
يضعون حدًّا أدنى للسرقة، ومع ارتفاع مستوى المعيشة اليوم
يرتفع هذا الحد إلى مستوى إشباع الحاجات الأساسية، وقد طالب
أحد المسلمين إقامة الحد عليه بعد أن صلى، فأخبره الرسول بأن
الله قد غفر له بعد صلاته، والبدن الآن له حرمته. لا يجوز قطع
أطرافه عقابًا بل علاجًا حفاظًا على الحياة، وكان علي يجلد
ثمانين جلدة، وقد أعطى الرسول إمكانية التخفيف بأنه لا يجلد
أحدًا فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله، وقد منع الرسول
ضرب شارب الخمر قائلًا: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم»،
ولا يوجد في صحيح البخاري تحديد كمي للخمر كسبب للتحريم إلا
علة السكر، وكيف يحكم على المنافق إما بالتطليق أو الاعتزال
والله وحده هو الذي يطلع على ما في الصدور؟ هل تاريخية الحديث
تثبت صحة القول «وأمرنا أمر العرب الأول في البرية»؟
١٠٩
وكثير من موضوعات الحديث أصبحت قديمة مثل الجزية والغنائم
والصيد والذبح وعادات الطعام وتعدد الزوجات والعبيد والإماء
والجواري. فموضوع الصيد وما أخذ الكلب موضوع قديم، والطعام ممن
سال منه الدم والتسمية عليه كل ذلك عادات قديمة عند باقي
الشعوب السامية، وموضوعات الجزية والموادعة انتهت. فلم نعد في
عصر الفتوح بل في عصر الاستعمار، ولم نعد في عصر الهوية
الدينية بل الهوية الوطنية، ولا في عصر الغنائم والسبايا
والعبيد بل في عصر الدول والعلاقات الدولية والحرية كحق طبيعي
للإنسان، وإذا كانت الهدايا قد قبلت في الماضي فإنها قد أصبحت
الآن رشوة مقنعة كما لاحظ عمر بن عبد العزيز. لقد انتهت بعض
الموضوعات بفعل الزمن مثل البيوع واللقطة والعقيقة والذبائح
وطريقة وضع القدم على بطن الذبيحة وطريقة اللباس والطب النبوي
واستتابة المرتدين والمعاندين. بل إن الموضوعات قد انقضت
بانقضاء لغتها مثل النهي عن المزفت والدباء والنقر والختم وبعض
ممارسات البيوع مثل المزاينة والمنابذة والنجش والمحالقة
والملامة والنسيئة والغرر والعرية والمخاضرة والجمار بالرغم من
بقاء البعض الآخر مثل المؤاجرة والمزارعة والسمسرة وضرورة
البيع العلني أمام الناس، وكلها أعراف عربية قديمة في الأسواق
غير ما جد في الحياة المعاصرة من بورصة وبنوك وتحويلات وادخار
وأوراق مالية … إلخ
١١٠ ولم تعد كل الأحاديث عن الفرس والخيل والرمح بذي
دلالة لأنها لم تعد وسائل للاستعمال لا في السلم ولا في الحرب.
بل إن البعض يتخذ من سنة الرسول حجة ضد الحداثة عندما منع
استعمال آلة زرع مجاوزة للحد الذي أمر به وهو يشبه المحراث،
ولماذا تحريم السفر والخروج إلى الحرب يوم الخميس إلا أن ذلك
كان من عادة القدماء، ليلة الجمعة، تطويرًا لسبت اليهود؟ وقد
تغير الموقف الآن فالسفر لا يكون إلا في نهاية الأسبوع طبقًا
لإيقاع العمل، وتوقيت المعركة سر غير معلن، ولماذا النهي عن
السفر بالقرآن إلى أرض العدو؟ هل خشية التحريف والمطابع الآن
عامرة بالمصاحف أم خشية سوء المعاملة نظرًا لندرة النسخ والآن
المتحف والمكتبات عامرة بأصول المخطوطات؟ ربما رد فعل على حمل
اليهود التوراة في تابوت العهد في الحروب تشجيعًا للجند، وربما
احترامًا للقرآن مع أن القرآن كلام الله في العلم الإلهي
ومحفوظ في الصدور وليس حروفًا على أوراق من حبر، وكل ما قيل عن
عذاب السفر وندرة الطعام والشراب والجماع مرتبط بطريقة سفر
القدماء وليس السفر المريح في العصر الحديث الذي يتوافر فيه كل
شيء، وما العمل في العادات الشعبية الآن والتي تمتد جذورها إلى
الحديث مثل وضع الخضرة على المقابر لتخفيف عذاب ميتَين كانا
يمشيان بالنميمة ويعذبان؟
وهناك بعض أحكام خاصة بالرسول وليست عامة لكل الناس جعلها
البعض عامة لهم أو على الأقل لفريق منهم، وذلك مثل مد صومه
ووصاله «لست مثلكم، إن الله يطعمني ويسقيني». فالرسول يناجيه
من لا يناجيه أحد، وربه يطعمه ويسقيه إذا واصل، ومثال ذلك بعض
الأحكام القاسية بالنسبة للقرابة للأنبياء والرسل مثل وضع آزر
أبي إبراهيم وأبي طالب عم الرسول في النار، ويرى إبراهيم جثة
أبيه وهو يحترق تحت أقدامه مع التضحية بكل عواطف الأبوة
والقرابة، وربما كان ذلك يهدف لإعطاء الأولوية للقضية على
الرحم، ومع ذلك فقد صمد أبو طالب على دين الآباء والأجداد،
تقليديًّا وإن لم يكن مجددًا، وقد تتجاوز الأحكام الخاصة
بالرسول وأزواجه إلى باقي الصحابة. فبالرغم من خصوص السبب
وعموم الحكم عند الأصوليين إلا أن الرسول سمح بذبح ماعز لبعض
الصحابة دون غيره يوم النحر رغبة في التوسيع عليه وعدم التضييق
وهو في هذا اليوم الأجل.
١١١
خامسًا: البيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية
والدينية
بالرغم من إشارة القرآن إلى البيئة الاجتماعية والثقافية
والسياسية والدينية إلا أن الحديث هو الذي كشف عن حضور هذه
البيئة في الرواية. فالحديث أكثر تاريخية من القرآن، والتفسير
أكثر تاريخية من القرآن والحديث، والسيرة أكثر تاريخية من
القرآن والحديث والتفسير. أما الفقه فهو أكثر العلوم النقلية
تاريخية. فهناك تحول تدريجي من النص إلى التاريخ عبر العلوم
النقلية الخالصة على التوالي، من القرآن إلى الحديث إلى
التفسير إلى السيرة إلى الفقه.
وتتجلى البيئة التي يكشف عنها الحديث في البيئة الجغرافية
أولًا، وهي البيئة الصحراوية بما فيها من زرع ونبات وكلأ
وزراعة أو ماء وغيث أو حيوان أو مدن. إن تكثر التشبيهات في
الحديث بالنخل والزرع والكلأ والأفضل اجتماع الماء والكلأ وليس
الماء دون الكلأ أو الكلأ دون الماء، وهي صورة قرآنية عن نزول
الماء في الأرض فتنبت وتهتز وتربو وتنتج من كل زوج بهيج، ويضرب
المثل في قراءة القرآن وفهمه كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب،
وعدم قراءة القرآن أو فهمه كالثمرة طعمها طيب ولا ريح لها،
وقراءة الفاجر ريحانة ريحها طيب وطعمها مر، وعدم قراءة الفاجر
حنظلة طعمها مر ولا ريح لها. فهناك احتمالات أربعة لكل منها
تشبيه زراعي، والمسلم كشجرة أو نخلة، والمؤمن كخامة من الزرع
أمام الريح مرة يمينًا ومرة يسارًا، والمنافق كالأرزة تنجعف
مرة، وتأتي تشبيهات الغيث والماء بعد النبات مثل صلاة
الاستسقاء، ويشبه الرسول الصحابي الذي يغرف الماء من البئر،
وسعة الحوض يوم القيامة ما بين جرباء وأدرح قياسًا للغائب على
الشاهد أو ما بين أيلة صنعاء في اليمن، والأباريق كعدد نجوم
السماء، وهناك إشارات إلى البحر والتشبيه به، وقد حرم عمر
ركوبه خوفًا على العرب منه وعدم تعودهم عليه، وتكثر التشبيهات
بالحيوان، بالكلب والخيل والإبل والذنب والبقر والثور، وتكشف
بعض الأحاديث عن ثقافة ضد الكلب وتحريم لمسه أو استعماله في
الزرع بعكس الصيد لأنه من الجوارح الذي يتعامل مع الصيد
بدمائه. في حين رفع الأدب العربي قدر الكلب وخصاله عند الجاحظ
والدميري، وتبرز أيضًا أهمية الخيل في حياة العربي، ومناجاة
الإبل، وتتناول بعض الأحاديث خصال ألبان الإبل. فالفأر إذا وضع
له ألبان الإبل لم يشرب، وألبان الشاة شرب
١١٢ ويعقد حوار بين الحيوان مع الذنب الذي أخذ شاة من
الراعي. فلا داعي للغنم إلا الذئب، وتتكلم بقرة أنها لم تخلق
إلا للحرث وليس للعمل. فكل ميسر لما خلق له، وتتحاور البقرة
والذئب عن الإيمان، والمسلم في الجنة يتميز عن الكافر كالشعرة
البيضاء في جلد ثور أسود أو كالشعرة السوداء في جلد ثور أحمر،
ويحادث الرسول جبل أحد «هذا جبل يحبنا ونحبه»، ربما لنسيان
الهزيمة وتقوية الروح المعنوية وتحويل آلام المكان إلى محبة
وخير، وعندما اهتز أُحد تحت قدميه والصحابة أبو بكر وعثمان
خاطبه الرسول «اثبت فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيدان». كما
يتحدث مع أعضاء الجسد «ما أنت إلا إصبع دميت في سبيل الله ما
لقيت»، وقد يشار إلى المدن أيضًا مثل طابا بعد تبوك ومكة
والمدينة وإصدار الحكم عليه بالإيمان أو الكفر مما يتنافى مع
المسئولية الفردية، ويثبت فضائل أهل المدينة التي استعملها
مالك لإثبات عمل أهل المدينة كأحد مصادر الشرع، ويدعو لحب
المدينة مثل حب مكة.
وتبدو البيئة الاجتماعية في كثير من الأحاديث «الشؤم في
ثلاثة: في المرأة والدار والفرس». فهذه هي مقومات الحياة
الجاهلية ودعامة حياة العربي، وهو ما يعادل الزوجة والمنزل
والعربة في الحياة المعاصرة، وكذلك تحريم سفر المرأة أكثر من
ثلاث ليال إلا مع ذي محرم، ربما لحاجة المرأة إلى الجنس
وتعرضها للغواية وربما من أجل الوصايا على المرأة، وربما من
أجل حمايتها من التعب، وهو ما لا يحدث الآن في الحياة
المعاصرة، وتظهر بعض التشبيهات الصناعية في المدينة مثل المداد
وصاحب السك وبعض مظاهر الحياة المترفة مثل القدح والشراب،
ويدعو الرسول للأشخاص لاستئناسهم وتأليفهم تحقيقًا للتضامن
الاجتماعي في حياة المدينة
١١٣ كما تظهر بعض جوانب المجتمع التجاري. إذًا تتكرر
صور التبادل التجاري مثل البيع والشراء والمكسب والخسارة
والأجر والثمن والربح. فمن أنفق زوجيه من أي شيء دخل من باب
الجنة، ومن صلى دخل من باب الصلاة، ومن جاهد دخل من باب
الجهاد، ومن تصدق دخل من باب الصدقة، ومن صام دخل من باب
الصيام وهو باب الريان، وتذكر الروايات أنواعًا مختلفة عن
الأنبذة: الطلاء والسكر، والعصير، وهي ليست محرمة، وقد أنقعت
خادمة الرسول للعروس تمرًا في نور من الليل حتى الصباح وأسقته
ليلة عرسه، وقد شعر بعض الأعراب بارتباط الدين بالبيئة
الزراعية فقال أعرابي: يا رسول الله، لا تجد هنا إلا قرشيًّا
أو أنصاريًّا فإنهم أصحاب زرع فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع. فضحك
الرسول وربط آخر بين الدين طرق القوافل «ويلكم أتقتلون رجلًا
من غفار ومتجركم على غفار». كما ربط البخاري بين الصلاة
والزكاة في كتاب واحد. بين العبادة والمال.
١١٤
وتكشف الأحاديث عن البيئة الثقافية في الجزيرة العربية خاصة
ديانات الصابئة والأعراف الجاهلية، وكان الهدف منها تحرير
الوجدان العربي من عبادة الكواكب إلى عبادة الله، وجعل الكواكب
مطيعة له، والشمس والقمر آيتان على وجود لا ينكسفان لموت أحد
حتى ولو كان ابنه إبراهيم، والشمس تذهب وتستأذن في السجود حتى
تغرب فيؤذن لها، لذلك حرمت الصلاة وحرم النحر وقت طلوع الشمس
أو غروبها كما كان الحال عند الصابئة، ونُهي عن الصلاة بعد
الفجر حتى ترتفع الشمس وبعد العصر حتى تغيب حماية للشعور من
عبادة الكواكب. «الشمس والقمر آيتان من آيات الله فإذا رأيتم
منها شيئًا فصلوا وادعوا الله حتى يكشفها»، وتغرب الشمس تحت
العرش وتنضوي تحته، وتحولت الأهلة إلى مواقيت للناس وأشهر حرم،
فقد استدار الزمان يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا
عشر شهرًا، وأربعة حرم، ثلاث متواليات، ولقد أصبح الكسوف
والخسوف الآن موضوعًا لعلم الفلك وليس لنقد الصابئة أو تأملًا
في الطبيعة للتحرر من صورية الشرع ومظهرية العبادة، وأصبح
التحرر الآن من التقليد للماضي والتقليد للمستقبل، تقليد
الموروث من الأنا وتقليد الواحد من الآخر، وتظل الصابئة في
الوجدان العربي وفي الشريعة ضمن أهل الكتاب لأنهم يعرفون الخير
ويعملون الصالح.
١١٥
ويبرز جدل التواصل والانقطاع مع الجاهلية في الروايات حيث
تسود الرواية وتقل الأقوال المباشرة، ويدل على ذلك هذا الحديث
«من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بالجاهلية ومن أساء في الإسلام
يؤاخذ بالاثنين»، ويبدو التواصل مع الجاهلية في فعل الخير
«خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام»، واستيفاء الصدقة
والنذر من الجاهلية إلى الإسلام. فالخير في الجاهلية خير في
الإسلام مما يدل على تواصل الدين الطبيعي «أسلمت على ما سلف من
خير»، ويبدو هذا التواصل أيضًا في مناسك الحج مع إعادة
توظيفها. فقد كانت قائمة منذ دين إبراهيم. يعظم العرب الكعبة،
ويقومون بالطواف، ويسعون بين الصفا والمروة، ويرمون الجمرات،
فمعظم مناسك الحج من الجاهلية بما في ذلك تقبيل عمر للحجر
الأسود، ولولا حدثان القوم بالكفر لهدمت الكعبة ولسار الدين من
الخارج إلى الداخل، ومن المظاهر والطقوس إلى التقوى والعمل
الصالح، ومن الشكل إلى المضمون. كان للحرم المكي حرمته قبل
الإسلام «إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بدم ولا فارًّا
بخربة»، وكان الرسول يريد أن يتألف قريش لأنهم حديثو عهد
بالجاهلية، وكان يعطي رجالًا حديثي عهد بكفر، يذهبون بالأموال
ويرجع الأتقياء إلى رسول الله جمعًا بين التواصل والانقطاع،
وكان الاستسقاء موجودًا في الجاهلية وتحول إلى صلاة في الإسلام
مع استمرار الحياة الصحراوية في الحالتين، وبنى الرسول مسجده
والباب لصيق بالأرض لأن القوم ما زالوا حديثي العهد بالجاهلية
حتى التواصل في طراز البناء، ويستمر التواصل مع الجاهلية في
صلة الرحم والعتاقة والصدقة والوفاء بالنذر المقطوع في الجاهلية
١١٦ والأسواق في الجاهلية هي التي تبايع الناس بها في
الإسلام.
أما الانقطاع فيدل عليه لفظ الجاهلية نفسه الذي يتضمن حكم
قيمة في تعارضه مع الإسلام وكما هو الحال لدى الجماعات
الإسلامية المعاصرة مثل: العهد البائد، جاهلية القرن العشرين.
كان في الجاهلية تعدد الآلهة والشرك، ويفسر الراوي «الوزر» في
سورة الانشراح بالجاهلية، والكهانة والقسامة من الجاهلية،
والفرع والعقيرة، الفرع النتاج الذي يذبح للطواغيت والعقيرة في
رجب، تحول ذلك كله إلى النحر في الحج، والتفاخر بالأنساب
والنعرات القبلية، وعنجهية الأنصار للأنصار والمهاجرين
للمهاجرين من الجاهلية، وقد تغير وضع النساء وطرق النكاح من
الجاهلية إلى الإسلام، وقد عبرت عن ذلك عائشة بقولها: «كنا في
الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا حتى قسم الله لهن»، وكان النكاح
في الجاهلية على أربعة أنحاء. حرمت في الإسلام خطبة الرجل
ونيته الاستبضاع والنكاح الجماعي والبغايا، وأبقى الإسلام على
نكاح الأزواج، وكانت المرأة في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس
الحول وهي الآن أربعة أشهر وعشرًا لما طلبت المرأة أن تكحل عين
ابنتها دواء، وحرم الإسلام لطم الخدود وشق الجيوب في الجاهلية.
فلا يجوز لأحد في الإسلام أن يبتغي سنة الجاهلية.
١١٧
وتبدو البيئة السياسية في الصراع السياسي بين الصحابة.
فالخلافة استمرار للنبوة، والنبوة تواصل مع الخلق. ففي كتاب
«بدء الخلق» يتم الانتقال من بدء التاريخ إلى قصص الأنبياء
لوراثة محمد الأنبياء السابقين إلى سيرة محمد وغزواته إلى
فضائل الصحابة إما مجموعات كالمهاجرين والأنصار أو قبائل كمضر
وربيعة أو أفراد كأبي بكر وعمر وعلي وعثمان طبقًا للتسلسل
التاريخي، لا فرق بين تاريخ الكون وتاريخ الفكر، بين الوجود
والمعرفة، بين الموضوع والذات، ويتحول الأمر من بدء الخلق
والأساطير والغيبيات إلى تاريخ النبوة وتاريخ الصحابة. فيتحول
الحديث إلى تاريخ، والكلمة إلى شخص، بداية التشخيص والإعجاب
بالبطولة، ويستمر تاريخ البعثة، إسلام أبي بكر وسعد وأبي ذر
وعمر، ويتحول الأمر بعد ذلك من فضائل الصحابة إلى تاريخ الدعوة
الأولى في أحاديث تغلب عليها الرواية، ويتداخل تاريخ الصحابة
مع تاريخ النبي في الحدود وتطبيقها، وتبدو شخصية الرسول قاسية
تقوم باللعان، وينادي «اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا».
فيرد عليه القرآن
لَيْسَ لَكَ مِنَ
الْأَمْرِ شَيْءٌ، ويصبح مثل نوح ولعن الكافرين
رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا مما يدل على بداية الصراع
السياسي واستعمال الحديث كأداة لنقد الفرق السياسية. تاريخ
الصحابة والخلافة الراشدة استمرار للنبوة مما يدل على صلة علم
الحديث بعلم التاريخ وكما هو الحال في «كتاب المغازي والسير»،
وقد بدأت السياسة منذ وفاة الرسول إذ يعرف الموت في وجوه بني
عبد المطلب، وأراد الناس الوصية والتحول من النبوة إلى
السياسة، وقد أشار الرسول إلى أبي بكر لسؤاله إذا ما غاب الرسول،
١١٨ وبرز الشكل الشرعي للصراع السياسي في التفضيل بين
الصحابة وبيان مناقبهم في مواجهة تيار آخر لا سياسي لا يريد
التفضيل بين الصحابة ويجد
كل فريق ما يؤيد موقفه من أحاديث، ويؤثر البعض التفضيل في
المناقب والخير دون حسد أو منافسة ثم الجمع بينهم على نفس
المستوى مثل «خير الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو
الحارث بن الخزرج ثم بنو ساعدة وفي كل دور الأنصار خير»، ويتضح
التفضيل في مناقب الصحابة وبداية الصراع السياسي وظلم علي.
فكان التخيير أيام النبي بين أبي بكر وعمر وعثمان دون ذكر علي
إما لتهميشه من طلاب السلطة السياسة مثل أبي سفيان أو لترفعه
عنها لمدى قربه وقرابته من الرسول،
١١٩ وقد تكون الأفضلية في قراءة القرآن دون خلفية سياسية،
١٢٠ والاستفاضة في مناقب الصحابة تدل على وجود مشكلة
بينهم، التنافس والتحاسد وهو موضوع حي في الجماعة الأولى،
وهناك أحاديث كثيرة تكشف عن الحسد بين الصحابة، وأقواها أحاديث
الصحابة أنفسهم، وهناك أحاديث أخرى توصي بعدم سب الأصحاب.
بعضهم يتحزب إلى عثمان (طلحة)، والبعض الآخر إلى علي (الزبير)،
ويبدو الحديث هناك كأنه جزء من التاريخ الخالص، تاريخ الصحابة،
وليس جزءًا من تاريخ الرسول، وتذكر فضائل الصحابة، صحابيًّا
مثل فضائل أبي بكر خليل الرسول، ويأتي التفضيل على نحو شجرة
قمتها الرسول ويتلوها أبو بكر وعمر، ثم درجة ثانية عثمان،
وثالثة علي.
ويظهر ابن عباس مفسرًا. فضَّله الرسول بالحكمة يغرف منها ما يشاء،
١٢١ والغالب لا تفضيل بين الصحابة، وهناك عمل فني في
رسم الشخصيات كما هو الحال في حواري المسيح مثل أبي ذر الضعيف،
وعمر القوي، مثل يوحنا وبولس، وهناك أيضًا تفضيل بين أزواج
الرسول وبناته ومريم بنت عمران ومن ضمنها أزواجه خاصة عائشة،
طفلة أم أنثى، زوجة أم طالبة سلطة. كان الرسول يضع قدماه في
صدرها للتدفئة، وقد نزل الوحي على الرسول وهو معها تحت الغطاء.
فالوحي لا يضاد الحب، وجبريل ليس عزولًا، والله مع الإنسان.
فكلاهما ود ومحبة، وخير نسائه مريم في حديث، وخديجة في حديث
آخر. كل ذلك في سبيل المدح والملاطفة وإلا وقعت الأحاديث في
تعارض، وفاطمة سيدة نساء الجنة. فالتفضيل ليس فقط على الأرض بل
أيضًا في السماء.
١٢٢
ولم يكن للرسول ذكور، أب أو أخ أو ابن حتى لا تتعقد المشكلة
السياسية ويتحول الأمر إلى وراثة، ووفاة الرسول تمثل الجزء
الآخر في السيرة، ويستمر الصراع السياسي في الشعوبية التي تبدو
في بعض الأحاديث مما يدل على أنها متأخرة في الوضع أو في قراءة
شعوبية لم تكن موجودة من قبل. فتكثر الأحاديث حول العرب والفرس
والترك والحبش كأقوام وعادات وثقافات ولغات، وحول السوريانية
والحورانية والعبرانية والنبطية والقبطية والرومية كلغات
وبدرجة أقل.
يشار إلى العرب في الحديث بأنهم أهل لغة في كلام العرب،
وضرورة شرح القرآن باللغة العربية، وتعد العرب الرمان فاكهة.
فاللغة عادة كلام، والعرب تقول رجل حُسان وحُجال، ولا تجاوز
العرب رباع طبقًا لعاداتهم اللغوية. ثم ينتقل مستوى اللغة إلى
مستوى الأشراف. فقد قال سعد: إني أول العرب من مجالسهم في سبيل
الله وأبو بكر أوسط العرب دارًا. ثم تظهر أسماء العرب وقبائلهم
وما لهم من دلالات مثل أسد، ويشار إلى أعطر نساء العرب وأكمل
العرب ومعشر العرب وأحياء العرب. فالرسول يلعن فلانًا من
الحياء العرب. كما يشار إلى الأعرابي أو رجل من الأعراب أي
العامي الذي يأتي لطلب الهداية من الرسول ويسأل سؤالًا ينم عن
طبيعة صحراوية وغلظة بدوية مثل: جاء أعرابي أي أمي من العرب
وبال في المسجد وقال الرسول «لا تزرموه». فالطبيعة لها
الأولوية على الفكر، وتتكرر عبارة «جاء أعرابي وسأل» أو رجل من
الأعراب وأقلها تهكمًا عربي مثل «قل عربي مشى بها»، فالعادات
عربية، ومثل «قال عربي نشا بها مثله»، وسأل الرسول «عن أي
معادن العرب يسأل الناس؟» فالعرب قيمة وإن كانوا يجهلون قصصهم،
قصة زمزم، ومع ذلك فقد أراد الرسول تطهير الجزيرة العربية من
كل الديانات السابقة وتوحيدها باسم العرب والدين الجديد
«أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» وكأنها الدولة القاعدة
لتوحيد الأمة ونقطة ارتكازها مثل مصر في العصر الحديث، ويحذر
الرسول من المستقبل «ويل للعرب من شر قد اقترب»، ويزيد أحد
الرواة «من الخبث» بالرغم من وجود الصالحين
١٢٣ لذلك لا بد من تطهير الأوثان من جزيرة العرب. قد
صارت الأوثان في قوم نوح في العرب، وأمر العرب هو أمرهم الأول
في البداية عندما كانوا على الطبيعة ثم كان للعرب يوم الفتح،
ولم يقل الراوي للمسلمين.
١٢٤
ثم يتم تخصيص العرب في قريش. فقد نزل القرآن بلسان قريش
والعرب، ويضع البخاري عنوانًا لباب حديث «إذا اختلفتم في عربية
القرآن فاكتسبوها بلسان قريش فإن القرآن نزل بها»، وتعني عقرى
حلقى بلغة قريش، وتسمى لغة أو لسان وليست مجرد لهجة، ويتحول
الأمر من اللسان إلى الحرفة أو المهنة أو الحضارة. فإن قريشًا
أصحاب زرع كما قال الأعرابي للرسول «لا يجد هذا إلا قرشيًّا أو
أنصاريًّا فإنهم أصحاب زرع فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع». ثم
يتدرج أكثر فتصبح خصائص وميزة لقريش «قريش أوسط العرب نسبًا
وقدرة» ولها أحياؤها بين معشر العرب، و«خير نساء ركبن الإبل
نساء قريش»، والسياسة في قريش «لا يعادي أحد قريشًا إلا كبه
الله على وجهه ما أقاموا الدين» وأيضًا «لا يزال هذا الأمر في
قريش ما بقي اثنان»، وفي رواية «يكون اثنا عشر أميرًا»، وزادت
أخرى «كلهم من قريش»، وقد انتصر الإسلام بالقرابة، وتحدد
الميراث بالقرابة. بل إن الرسول ذاته لديه إحساس عروبي قريشي
في جو شعوبي بل ويخصص قريشًا بأفخاذها وأبطانها، ويفخر ليس فقط
بالنبوة ولكن بنسبته إلى بني عبد المطلب:
وقريش بها اتجاهان: اتجاه محمود يمثله الأشعريون من نسب أبي
موسى الأشعري ويمدحهم الرسول. يسأل عنهم ويجزل لهم العطايا،
وهو الإنسان الطيب الذي ضحك عليه عمرو بن العاص يوم التحكيم،
ويقول الرسول فيهم «هم مني وأنا منهم»، واتجاه مرذول شرير
تمثله ربيعة ومضر. فهم غلاظ القلوب ومنهما سيطلع قرنا الشيطان
«قرنا الشيطان في ربيعة ومضر»، وهم القدادون الحفاة، ومع ذلك
تهلك الأمة على يد غلمة من قرش «هلاك أمتي على يد غلمة من قريش».
١٢٦
ثم تبدو الشعرية الجغرافية مع الشعوبية القبلية والسياسية،
وتأتي اليمن في المقدمة. فأهل الحكمة اليمان، والحكمة يمانية
«الإيمان والحكمة يمانية»، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل،
والسكينة والوقار في أهل الغنم، وقد سميت اليمن لأنها عن يمين
الكعبة والشام عن يسار. الكعبة فالمشأمة الميسرة، والرسول ذو
أصول يمنية، والنيل والفرات نهران من الجنة أي فضل مصر
والعراق، ويهل كل قوم الشام والعراق واليمن، من باب من أبواب
الكعبة، وسؤال المحدثين: من أين تهل إندونيسيا والملايو
والفلبين وأواسط آسيا وأفريقيا؟ ومن أي باب يهل مسلمو أوروبا
وأمريكا؟ وتظهر الشعوبية في الرواية قدر ظهورها في القول
المباشر حيث إمكانيات الإبداع أكبر مثل «قرنا لنجد والجحفة
لأهل الشام، وذا الحليفة لأهل المدينة»، وفي زيادة رواية أخرى
ما دام الأمر توزيعًا على المناطق «لأهل اليم يلملم وذكر
العراق ولم يكن عراق يومئذٍ» وهذه هي الحدود الجغرافية
للإبداع، وتروى قصة الأسود العنسي، وقصة دوس والطفيل بن عمرو
الدوسي، من عُمان والبحرين وهي قصص بيئية خالصة حتى يدخل الأدب
في معركة الشعوبية.
١٢٧
ومع العرب يأتي الفرس ما لهم وما عليهم. فالنبي يعرف
الفارسي. فقد قال مرة بالفارسية «كخ كخ أما تعرف أنا لا نأكل
الصدقة»، وربما كانت فارسية الأصل ثم تعربت، وربما هي صوت يدل
على النقد والرفض، وقد تداخلت بعض الصور الفارسية في الرواية.
فقد كان معظم جماع الحديث الأوائل في فارس الحضارية الكبرى
التي تشمل أواسط آسيا. فبعد إسلام الهرمزان قال: «إن الأمة
طائر له رأس وجناحان فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح
ورأس فالرأس كسرى والجناح قيصر والجناح الآخر فارس. فأمر
المسلمين بالنفاذ إلى كسرى». ففارس الإسلامية هي التي سترث
كسرى وقيصر، فارس القديمة وروما القديمة، ويظهر في الرواية
تعبير ملك الأملاك أي شاهان شاه واسم أذربيجان، وكان سب
الأعجمي أو تعبير بلسانه أحد مظاهر الجاهلية، وقد وضع الرسول
يده على سلمان الفارسي وقال «لو كان الإيمان عند الثريا لناله
رجال أو رجل من هؤلاء» وفي رواية أخرى «العلم». فقد جمع الحديث
هناك لوجود كثير من الصحابة. كما أنهم أهل علم وسياسة منذ
القدم، ونظرًا لاضطهادهم عندما تبنوا المذهب الشيعي أصبحوا
ذاكرة الأمة. كانوا في حاجة إلى تشريع لبعدهم عن مهبط الوحي في
الجزيرة العربية وإلى نصوص مدونة باللغة العربية للاعتماد
عليها في التعليم وتعريب القبائل، وتظهر الشعوبية في وصف
المجوسي وفي جعل الكفر قادمًا من الشرق دون تحديد فارس والفخر
والخيلاء في أهل الخيل والإبل، وأهل الوبر والسكينة في أهل الغنم.
١٢٨
والثناء الثالث على الأحباش أو الحبشي، فقد كان الرسول يعرف
اللسان الحبشي كما يعرف اللسان الفارسي، وربما كان الرسول
يتحبب للأقوام ويطلق بعض الألفاظ بلسانهما تقربًا إليهم وهو
الودود الأليف. فقد قال الرسول «سنه، سنه»، وتشرح الرواية أنها
تعني بالحبشية حسنة، ويتضح التشابه في الأصل بين العربية
والحبشية كلغتين ساميتين وربما تم تعريبها من قبل، وما ينطبق
على الحديث ينطبق على القرآن ووجود الألفاظ المعربة فيه،
ويتبرع الرواة بشرح ألفاظ الحديث وردها إلى أصولها الحبشية.
فقد شرح أبو ميسرة «الرحيم» بلسان الحبشية والأترج بالحبشية
متكئًا وحصب حطب، والمشكاة الكوة، وحرم وحب. كما تظهر أسماء
الأدوات فالظفر مدى الحبشة، ويتعدى حضور الأحباش إلى وصف
عاداتهم وطبائعهم. فهم أهل لعب ولهو، وكان الرسول يستر عائشة
بردائه وهي تنظر إلى الحبش أو الحبشة، ولهم قوة عضلية مشهودة
فقد جمعت قريش لحرب الرسول ومعهم الأحابيش.
١٢٩
وتظهر في الحديث مجموعة أخرى من اللغات السامية كالعبرانية
والسريانية والسوريانية، فعن أبي هريرة أن أهل الكتاب كانوا
يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام.
فقال الرسول: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم». كانت هناك
إذن معرفة باليهودية والنصرانية دون جعلهما مصدرًا للعقيدة
والتشريع ولكنها تدخلت في التفسير وجمع الحديث، وترد في
الروايات بعض الألفاظ السريانية مثل «سريا» وهو نهر صغير
بالسريانية، والسؤال: هل كانت السريانية معروفة في أواسط آسيا
في النصف الأول من القرن الثالث عصر البخاري عبر يهود فارس؟
وكذلك لفظ «سطور» يعني بالسريانية الجبل، وتعني عبارة القرآن
في سورة يوسف «هيت لك» بالسوريانية.
١٣٠
ومع لغات الشرق في فارس والوسط في فلسطين تظهر اللغة الرومية
في الغرب. فقد دعا هرقل ترجماته. فقد كان هناك من يعرف العربية
والرومية في بلاط هرقل، وتظهر صورة محمد الكريمة في قومه وحب
استطلاع هرقل وعدله، وقال مجاهد: القسطاس تعني العدل بالرومية،
وربما كانت في الأصل رومية قد عربت.
١٣١
وتظهر بعض اللغات الأخرى أقرب إلى اللهجات العربية مثل
النبطية. عند ابن جبير تعني «طه» بالنبطية يا رجل
١٣٢ ويشار إلى عبد قبطي مات. فربما كان مصريًّا
نصرانيًّا، ومن مصر يأتي الفاخر من الثياب، والغريب تشابه لفظ
أحمس العربي مع لفظ أحمس في مصر القديمة إلا إذا رجع التشابه
إلى نفس الأصل السامي، ويبدو أن بعض مظاهر ثقافة مصر القديمة
كانت معروفة في الجزيرة العربية لنهي الرسول عن التحنيط «لا تحنطوه».
١٣٣
وإذا كان الكفر يبزغ من الشرق دون تخصيص فارس فإن سيادة
الترك من أشراط الساعة لدرجة جعل البخاري ذلك أحد عناوين
أبوابه «الترك كشرط من أشراط الساعة»، وهم قوم ينتعلون نعال
الشعر، عراض الوجوه كأن وجوهم المجان المطرقة، ويزداد الوصف في
رواية أخرى «صغار الأعين حمر الوجوه ذلق الأنوف». فمن هم
الترك؟ ولماذا يوصفون بهذا الوصف العرقي وقد نصروا الإسلام على
مدى خمسمائة عام وحتى الآن؟ هل معنى الترك الفرس في أواسط آسيا؟
١٣٤
وقد دخل الشعر العربي في المعارك السياسية باعتباره ثقافة
العرب قبل الوحي وبعده، ويمتلئ صحيح البخاري بالأشعار من
الرسول أو الصحابة أو الشعراء أو الرواة، ومشكلة تدوين الحديث
هي نفس مشكلة تدوين الشعر. فقد قرض الرسول الشعر وهو من بلغاء
العرب في صياغات عدة مثل:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار
والمهاجرة
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار
والمهاجرة
اللهم لا أجر إلا أجر الآخرة فاصلح للأنصار
والمهاجرة
اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة
١٣٥
وقد قال الرسول شعرًا أثناء حفر الخندق على
النحو التالي:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرد الأنصاري يوم الخندق شعرًا أيضًا في روايات
مختلفة:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما حيينا أبدا
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
نحن الذين بايعوا محمدا على الإسلام ما بقينا أبدا
١٣٧
وكان الرسول يعجب بقول لبيد «ألا كل شيء ما خلا الله باطل»،
وهو يدل على وحدة الشهود كما يقول الصوفية
١٣٨ وقال خبيب الأنصاري حين قتل في صياغات
متعددة:
ولست أبالي حين أقتل
مسلمًا
على أي شق كان لله
مصرعي
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا
على أي جنب كان لله مصرعي
١٣٩
وقد أصبح هذا البيت من شعارات الحركة الإسلامية المعاصرة،
وكان الصحابة يقرضون شعرًا تعبيرًا عن إيمانهم وصراعهم على الحق
١٤٠ وبطبيعة الحال يذكر الرواة حسان بن ثابت شاعر
الرسول والتراشق بينه وبين أبي سفيان بن الحارث
١٤١ كما يذكر الرواة ثلاثة أبيات لامرئ القيس، وهناك
شعر القليب، وأطولها أربعة أبيات، وشاركت النساء في إلقاء
الشعر مثل قول امرأة:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا
ألا إنه من بلدة الكفر نجاني
١٤٢
كما يكثر الشعر في كتاب التفسير كشواهد لتفسير القرآن
١٤٣ وقد تبدو بعض ألفاظ الأبيات قديمة إلا أن الشعر
العربي الحديث مثل شعر المقاومة والشعر الوطني قادر على القيام
بنفس الدور.
وتظهر البيئة الدينية في تعبير العديد من الروايات عن
الخلافات العقائدية بين الفرق. فالعقائد موجهة للذاكرة، ماذا
ستبقي وماذا تستبعد؟ ماذا تتذكر وماذا تنسى؟ فالعقائد جزء من
الرؤية للعالم، وعامل موجه لإدراك الحواس واستدعاء الذاكرة،
تدوين الحديث إذًا جزء من المعارك الكلامية عن طريق تدوين
الحجج النقلية لتأييد فريق ضد فريق، وغالبًا تأييد أهل السنة
والجماعة الذين أصبحوا الأشعرية فيما بعد ذلك بقرن من الزمان
ولكن كانت عقائدهم ساندة في الثقافة الشعبية ضد عقائد المعارضة
خاصة المعتزلة والخوارج والشيعة، وتبلغ ذروة الموضوعات
العقائدية في كتاب «التوحيد» آخر كتب البخاري.
١٤٤ والعجيب أن يأتي موضوع التوحيد في آخر صحيح
البخاري مع «باب القدر»، بالرغم من أنه العقيدة الأولى مع
كتابي العلم والإيمان، وهو كتاب نظري خالص مملوء بالقصص
الغيبية والارتباط بالتراث الديني السابق، ويخرج عن موضوعات
الحديث وغايته وهي بيان أوجه العمل وتفصيلات السلوك للمبادئ
العامة والقواعد التي وضعها القرآن، وهو أقرب إلى شرح القرآن
بالحديث، ومِن ثَم فهو أدخل في كتاب التفسير، وأحيانًا يكون
مجرد قرآن، مجرد شرح آيات. فالقرآن تأييد للحديث، والحديث شرح
للقرآن، وهو مملوء بالتشبيهات والصور الفنية نظرًا للقدر
الكبير من الإبداع في القول المباشر في الرواية، ومملوء بالصيغ
البلاغية والأدبية وكأن الخطاب قد استقل بذاته مثل «اللهم إني
ظلمت نفسي كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت» في باب الأدعية
تكشف عن خيال الشعراء، وعبقرية الأدباء، وكتاب الحوار، ومناظر
الإخراج، والقصص فيه طويل للغاية لأنه نتيجة للإبداع الجماعي،
ونظرًا لطول الرواية يتم تقطيعها افتعالًا حتى تلتقط الأنفاس
وربما لقطع الملل أو ربما لإبداعات متعددة على دفعات. ثم
ارتبطت فيما بينها بطريقة افتعالية، مجرد تجاور لعديد من
الإبداعات واحد تلو الآخر برواية قصيرة تعلن عن نهاية منظر
وبداية آخر وبالتالي يكون السؤال: كيف استطاعت الذاكرة حفظ هذا
القصص الخيالي الطويل وكيف تمت روايته؟ ما مناسبته؟ الأحاديث
العملية أسئلة عملية وهي مهمة الحديث الرئيسية، والقصص تكفل
القرآن به، وقصص الحديث يتطلب معلومات لم يعرفها العرب إلا من
الديانات والبيئات الثقافية التي كانت موجودة قبل الوحي. هل
راجع الراوي هذه الرواية الطويلة على نفسه أو على الآخرين؟ هل
كتبها ثم قرأها من مدونات؟
١٤٥
والعقيدة الأولى التي تكاد تكون شبه مسيطرة على «كتاب
التوحيد» وعلى «صحيح البخاري» كله هي عقيدة القضاء والقدر التي
أفرزتها الدولة الأموية وروجت لها ضد خلق الأفعال وحرية
الإنسان ومسئوليته عند المعتزلة. فالكتاب كله وكأنه مكتوب ضد
المعتزلة، إحدى فرق المعارضة. فكل شيء بمشيئة الله ولا يتم فعل
إلا بقول «إن شاء الله». فقد طاف سليمان بن داود على نسائه
المائة كي يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله دون أن يقول «إن شاء
الله» فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاء بشق رجل! وقد دونت
المصنفات الأشعرية ذلك في باب قول «إن شاء الله»، والسند
القرآني جاهز
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. حتى
علي وفاطمة عندما أراد الرسول إيقاظهما تحجبوا بمشيئة الله.
فرد الرسول عليهما بالقرآن
وَكَانَ
الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، والله هو
الفاعل الحق ولا فاعل سواه. فلما اعتذر الرسول للأشعريين بانه
لا يجد ما يحملهم عليه للقتال ثم وجد بعد ذلك قال «لم أحملكم
الله حملكم»، والله هو الشافي، ومن أكل ناسيًا فإن الله أطعمه
وسقاه. بل إن عائشة المثالية هي الأخرى تفخر بأن الله هو الذي
زوجها في السماء في حين أن باقي الأزواج فعل أهاليهن، وكل شيء
مكتوب على الإنسان في بطن أمه وهو ابن أربعين يومًا ثم علقة ثم
مضغة، ويبعث الله ملكًا فيأمره برزقه وأجله وشقائه وسعادته قبل
أن ينفخ في روحه، وقد كتب على ابن آدم حظه من الزنا، زنا العين
النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى والفرج يصدق ذلك
ويكذبه، والعمل ما هو إلا تحقيق لما كتب من قبل. «الله كتب على
ابن آدم حظه من الزنا». بل إن الإنسان يحمل جزءًا من وزر خطيئة
آدم الأولى كما هو الحال في المسيحية، وتعذيب الميت في القبر
ببكاء أهله عليه ضد المسئولية الفردية «لا تقتل نفس ظلمًا إلا
كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنه أول من سن القتل»،
ولا يظهر الاعتزال إلا على استحياء كاستدراك الأشعرية قبل
أوانها بعد أن اعترض أحد الناس بأن هذا يورث الاتكال فرد
الرسول «إن أهل السعادة وأهل الشقاوة كل ميسرون لما عملوا»،
وفي صياغة أخرى «كلٌّ يعمل لما خلق له أو لما يسر له» كل يعلم
مقعده من النار دون اتكال ميسر لما خلق له. كما تؤكد بعض
الأحاديث الحرية والمسئولية الفردية طبقًا لخلق الأفعال عن
المعتزلة «لا يقولن أحدكم الله يغفر لي، اللهم ارحمني إن شئت
فليعزم المسألة فإنه لا مكره له».
١٤٦
والعقيدة الثانية الفصل بين الإيمان والعمل والقول بالإرجاء
ضد المعتزلة والخوارج. إذ يقول المعتزلة بالاستحقاق، ثواب
المحسن وعقاب المسيء، ويقول الخوارج بوحدة النظر والعمل. ففي
معظم الأحاديث المروية ليس العمل جزءًا من الإيمان باستثناء
«لا يزني الزاني ولا يسرق السارق ولا يقتل القاتل وهو مؤمن».
بل تظهر أحيانًا اتجاهات الصوفية في أواسط آسيا بداية بالكرم
الإلهي والفيض الرباني، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف،
والسيئة بواحدة من أجل استدعاء الذاكرة مجموعة أخرى من
الأحاديث عن التقارب بين الإنسان والله، تقرب العبد إلى الله
شبرًا وتقرب الله إلى العبد ذراعًا، وتقرب العبد إلى الله
ماشيًا وإتيان الله إلى العبد هرولة، وقد شاعت عقيدة الإرجاء
في الدولة الأموية وعند أهل السنة من أجل إخراج العمل من
الإيمان وتأجيل ذلك إلى يوم القيامة. يفعل الله ما يريد إن شاء
أثاب وإن شاء عاقب حتى يفعل الحكام ما يشاءون. فكل من قال لا
إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق، وقد تزاوجت عقيدة
الإرجاء في أذربيجان مع سيادة المذهب الحنفي في الفقه. فقد كان
أبو حنيفة من المرجئة. الإيمان والإسلام في حد ذاتهما عمل ولا
يحتاجان إلى عمل خارجي. يكفي الإيمان بالله وحده دون الشرك به،
بل يكفي الوضوء والصلاة «من توضأ وصلى ركعتين في هذا المسجد
غفر الله ما تقدم من ذنبه». بل يكفي الدعاء والاستغفار ولو
سبعون مرة، ويتكرر الحديث المشهور عن قتل أسامة لكافر قال لا
إله إلا الله وحزن الرسول وعاتبه له بأنه لم يشق على قلبه كي
يعرف أنه قالها متعوذًا من أجل تدعيم الإرجاء. إن الإيمان
باللسان، وقد دعا الرسول لعبيد بن عامر خاصة، أن يكون فوق
الكثير من الخلق في الجنة، وهي الدعوة التي سبق بها عكاشة دون
غيره. بل إن دخول الجنة أصبح بمجرد الرحمة الإلهية أو بمحبة
الله ورسوله أو بشهيدين. فلا يدخل أحد الجنة بعمله حتى لو كان
الرسول إلا برحمة الله، ولا يدري الرسول في الجنة ما يفعل به
وهو ما يتعارض مع العصمة والبشارة والقرآن بأن الله غفر للرسول
ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وحديث «ما منكم إلا واردها»، ولا
يدخل الجنة إلا بأربعة شهود كما هو الحال في حكم الزنا أو
ثلاثة أو اثنان على التدريج دون عمل، ويمكن دخول الجنة
بالبشارة أو الشفاعة كما هو الحال عند الأشاعرة. فالبشارة
بالجنة لسبعين ألفًا وطلبها عكاشة وطلبها آخر ولكن سبقه عكاشة
وكأن البشارة لا تستطيع الاتساع لواحد آخر، وكأن السبق في طلب
الحجة، والبشارة بالجنة على ثلاث حلقات، عمر فأبو بكر فعثمان،
مما يكشف عن أدبيات التفاضل بين الصحابة كغطاء شرعي للصراع
السياسي، وتذكر أحاديث كثيرة للشفاعة، شفاعة محمد لأمته، وهو
ما يناقض قانون الاستحقاق عند المعتزلة. فقد يكون الإنسان من
أهل النار فيصبح من أهل الجنة، وقد يكون من أهل الجنة فيصبح من
أهل النار، وبالرغم من أن الأطفال لا حكم لهم في الجنة أو
النار لأنه لا عمل لهم فهم في الجنة طبقًا للفطرة، وبهذا
المعنى كان لإبراهيم ابن الرسول مرضع في الجنة، والله أعلم أين
يضع ذراري المشركين
١٤٧ وتضم الأحاديث بعض تصورات المعاد عند المتكلمين
مثل عجب الذنب الذي منه يركب الخلق حين البعث. كما أن النار
تقول «هل من مزيد فيضع الله قدمه فيها فيطفئوها حتى تظل
الجنة»، وهي تشبيهات وصور إبداعية تدل على العظمة والرحمة في
آن واحد. كما تسمع نداءات جبريل وشهاداته.
١٤٨
وواضح أن معظم العقائد الكلامية الموجهة للأحاديث النبوية من
السمعيات وليست من العقليات لأنها تثير الخيال مثل النبوة
والمعاد وتسمح بأكبر قدر ممكن من الإبداع الفردي والجماعي،
وارتبط موضوع الإيمان والعمل بالمعاد، واختفى موضوع الإمامة
لدخوله من قبل في تفضيل الصحابة ومسار التاريخ من النبوة إلى
الخلافة، ومن الوحي إلى السياسة، وقد كان السمعيات هي الأمور
العملية التي وقع فيها الخلاف السياسي قبل أن تتحول إلى
سمعيات، ولا يشار إلى النبوة إلا بذكر صفة التبليغ وللتعرض لها
في وراثة الأنبياء. أما العقليات فهي أقل حضورًا مثل الذات
والصفات والعقل والنقل إن دخلت قضية خلق الأفعال مع الإيمان
والعمل من السمعيات. فالتوحد بمعنى الذات والصفات صياغات عقلية
متأخرة، ولا تظهر في الروايات إلا بعض التشبيهات المشهورة في
الإسرائيليات مثل «لما خلق الله الخلق كتب في كتابه وضع على
العرش أن رحمته غلبت غضبه» تخييلًا بدلًا من الخبر المباشر،
وأن من أحصى أسماء الله دخل الجنة بمجرد إحصاء دون حفظ أو
دراسة أو تصنيف أو كشف لمجموع القيم المعرفية والأخلاقية
والجمالية فيها
١٤٩ وتثار بعض القضايا الكلامية مثل هل يجوز تسمية
الله شيء؟ ويكثر الخيال الكوني في كون عرش الله على الماء وخلق
السموات والأرض وكتابة الذكر في كل شيء، وضاعت ناقة الأعرابي
قبل أن يستمع إلى نهاية السورة وقام على استحياء، وتظهر قضية
العقل والنقل لصالح الحشوية والتأييد المطلق لأولوية النقل وهو
أساس الرواية. فلم يكن النبي يسأل عما لم ينزل عليه الوحي فيه
ويقول: «لا أدري» أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي
ولا بقياس لقول القرآن
بِمَا أَرَاكَ
اللهُ، وكأن الرسول لا أقيسة له، وكأنه لم يقل أيضًا
«من شبه أصلًا معلومًا بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم
السائل» إثباتًا للقياس
١٥٠ وتستعمل كثير من الآيات القرآنية في القصص كمنوال
ونموذج للإبداع ما دام لا يحكمه عقل ولا يعتمد على برهان،
ويظهر الحديث على لسان الله زيادة في التأكيد والتأثير
والإبلاغ. فما يقوله الله أكثر إقناعًا مما يقوله البشر أو حتى
الرسول في رواية ضعيفة، والأخطر من ذلك كل ذكر أحاديث تتيح قتل
الخوارج والمرتدين والمارقين كما هو الحال في علم الكلام
اعتمادًا على الحديث الظني، حديث الفرقة الناجية، وقد جعل
البخاري ذلك عنوانًا لباب «قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة
الحجة عليهم»، ويشار إلى الخوارج مكررًا ويسمون الحرورية
لنزولهم بأرض حروراء، ويطبق عليهم آية
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ
أَعْمَالًا. ويجمع بين الحرورية واليهودية والنصارى
الذين ينقضون عهد الله بعد ميثاقه وهم الفاسقون، وأيضًا «يأتي
في آخر الزمان قوم حدثان الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير
قول البرية. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية. لا
يجاوز إيمانهم حناجرهم. فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم
أجرًا لمن قتلهم إلى يوم القيامة» وعلى هذا النحو يبدو أن
تدوين الحديث إنما كان انعكاسًا للبيئة الاجتماعية والثقافية
والسياسية والدينية التي تم التدوين فيها في أواسط آسيا، وهو
جزء من تاريخ الحياة الثقافية والسياسية تحت ستار علم
الحديث.
سادسًا: الوعي التاريخي والخيال الإبداعي
والحديث باعتباره مجموع الروايات عن آخر الأنبياء يكشف عن
وعي تاريخي بالماضي بتاريخ الأنبياء السابقين ووعي بالمستقبل
باعتباره الوريث للماضي والحاضر والأمين على المستقبل، يبدأ من
التاريخ ولا ينتهي إليه، يبدأ من الحاضر ويعيد توظيف التاريخ
بناءً على متطلباته، ويتنبأ بالمستقبل بناءً على إمكانياته.
فالوعي التاريخي وعي إبداعي وليس رصدًا لحوادث الماضي، يكمله
الخيال بالنسبة لمستقبل العالم. فلا فرق في الوعي التاريخي بين
الواقع والأسطورة، بين الشهادة والغيب.
ولفظ الإبداع لفظ حديث يعبر عما عناه القدماء والمحدثون باسم
الوضع. فالوضع تصور تاريخي يقوم على معيار للصدق والكذب في
الأخبار. فالحديث الصحيح هو المنقول تاريخيًّا عن طريق
التواتر، والحديث الموضوع هو عكس ذلك. فالصحة والوضع هنا
يقومان على مقياسين: الأول تواتر السند، والثاني مطابقة القول
القائل في السماع أو التدوين. فهناك حديث صحيح صادق، وحديث
موضوع كاذب، وحديث مشكوك فيه بين الصدق والكذب مثل خبر الآحاد.
أما الإبداع فإنه يعني نسجًا جديدًا على منوال قديم اعتمادًا
على الوعي الجمعي والخيال الفني دون أن يكون بالضرورة مخالفًا
للمبدع منه. بل هو تطوير له وتأكيد على معناه وتعميق لأبعاده
وتكرار لنماذجه وتغيير لأساليبه ولكن الجوهر واحد والمعنى لم
يتغير. فالوعي الجمعي وعي إبداعي كما هو الحال في الآداب
الشعبية والأمثال العامية، له نواة في التاريخ وجذور فيه ولكن
فروعه وأوراقه في الخيال، والخيال تاريخ اسمي، والتاريخ خيال
محدود.
وليس المقصود بالتحول من الوضع إلى الإبداع مجرد تغيير لفظ
بلفظ بل الانتقال من مجرد النتيجة إلى المقدمة، ومن الحكم
بالوضع إلى بيان منطق الإبداع، من النقل إلى الإبداع، ومن
الإخبار إلى الإنشاء، ويساعد هذا التحول على اكتشاف البيئة
الثقافية والسياسة والاجتماعية من جديد التي وراء الإبداع
المتوالي والمتراكم عبر الأجيال.
ويتجلى ذلك بوضوح في كتاب «بدء الخلق»، والعنوان يدل على
مضمونه، ويتناول أمورًا غيبية صرفة تاريخية كونية تتعلق بنظرية
الخلق كما هو الحال عند المتكلمين والفلاسفة، ويبدأ بالآية
القرآنية التي تعطي الكتاب شرعية الأصل الأول وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ، وتتفاوت فيه المستويات بين الأمور الشرعية،
الأوامر والنواهي، والأمور الغيبية مثل قصص الخلق.
وإذا كانت الغاية من علم الحديث تفصيل القرآن من النواحي
العملية فإن دخول الغيبيات يخرج عن إطار هذا العلم كما هو
الحال في علم أصول الفقه، وأثناء حديث النبي عن بدء الخلق
والعرش انفلتت راحلة أعرابي فندم على أنه جاء لسماع هذا الحديث
النظري الذي لا قيمة له من الناحية العملية أو أنه قطع عليه
حبل تفكيره وشوق خياله إلى العالم العلوي الذي استغرق فيه، وهو
أقرب إلى موضوع النبوة والسيرة. فبدء الخلق يعني بدء النبوة
توحيدًا بين الموضوع والذات كما هو الحال في المسيحية وارتباط
خلق العالم بخلق المسيح، وعند الصوفية بارتباط النبوة بالخلق
والنبي بالكون في النبي الكوني، وبطبيعة الحال ونظرًا لخروج
الموضوع عن دائرة الحس تدخل الخرافة وينشط الخيال وتكثر
الغيبيات مثل كون العرش على الماء وتقرير مصير البشر منذ الأزل.
١٥١
والعنوان «بدء الخلق» عنوان مثير تدخل تحته موضوعات كثيرة
بما في ذلك الموضوعات العملية الفقهية الخالصة المتكررة في
باقي كتب الحديث، ويدخل فيه موضوع الدين وغزوات الرسول حتى
ليكاد يصبح هو الموضوع الغالب. فالنبوة استمرار للخلق وخاتم
الأنبياء، تحقيق للغاية من الخلق والنبوة معًا. يغلب على
الموضوعات في البداية موضوعات الطبيعة والكون، والشمس والقمر
والنجوم والكواكب. يصعب تقسيم الكتاب إلى موضوعات محدودة لأنه
لا موضوع محدود له بل مجموعة من القصص الخيالية والحكايات
الغيبية لا شأن لها بالتشريعات العملية والتفصيلات الجزئية،
وتضطرب عناوين أبوابه والأبواب التي ليست لها عناوين مثل
المناقب وحياة الرسول مما يدل على أنه أدخل في علم السيرة
وفضائل الصحابة ومناقب المهاجرين والأنصار وغزوات الرسول
بالتفصيل وكتبه إلى الملوك ومرضه ووفاته، وببداية المناقب
تنتهي الغيبيات الكونية، ويظل «كتاب الخلق» هو المصدر الأول
لقصص الأنبياء والنبوة كهداية للتاريخ الإنساني.
١٥٢
والقصص طويل للغاية لأنه يدل على الإبداع الجماعي. ينسج على
منوال التراث اليهودي خطايا الأنبياء السابقين ثم عظمة محمد
الذي لا يخطئ، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ثم محمد، وكلها
غيبيات لوراثة اليهوديات، والنموذجان المفضلان المثاليان
إبراهيم وموسى، النظر والعمل، العقيدة والشريعة، وتتكرر نفس
البنية في تاريخ الأنبياء في صيغ صغيرة أو مطولة، ويكون
الإبداع في الرواية وفي القول المباشر على حد سواء، والقصة
الطويلة لا تعيها الذاكرة، وتخرج عن قصص الأنبياء. رجل يحمل
الحجر على رأسه عدة مرات مثل برومثيوس، ورجل آخر يشق رأسه
بحديد، ونساء ورجال عراة يصعد إليهم لهب من أسفل، ورجل يسبح
يقذفه الناس بالحجارة. ثم تعطى الرواية تفسير القصة كما يعطى
موسى الخضر، ويشرح له غير المعقول فيها، ويبين مغزاها
الأخلاقي. فالأول من يرفض القرآن وينام عن الصلاة، والثاني
الكذاب، والثالث الزاني، والرابع آكل الربا. مالك خازن جهنم،
وإبراهيم على الروضة، والولدان حوله على الفطرة، وأولاد
المشركين نوعان طبقًا للحسن والقبح في الأفعال، وأحيانًا تكون
الرتابة ركيكة ومكررة. ثم السؤال كل مرة عن الطارق والصاحب
وفتح الباب من أجل التشويق والإطالة، ولا تنسج الحكاية الطويلة
فقط بمناسبة أهل الكتاب بل كوعظ أخلاقي مثل الذي يسعى على
إخوته ويتقي الله في ابنة عمه والذي يأخذ أجر الأجير ويستثمره
ويعطيه حقه أضعافًا مضاعفة، وهو جزء من أدبيات الشرق وحكاياته
الوعظية، ويتخلل مجموع الحكايات القطع والفواصل وإعلان النهاية
لحكاية والبداية لأخرى للتخفيف عن طولها ولتنبيه السامعين. يتم
تقطيع الحدث عدة مرات لأن الذاكرة لا تعي الحديث الطويل، وربما
هو إبداع متصل الحلقات على دفقات متتالية ثم الربط بينها
بأفعال القول، ويصعب حفظ الأحاديث الطويلة شفاهًا لطولها وعدم
تعلقها بمسائل عملية. أحيانًا يغلب عليها الرواية أكثر من
القول المباشر نظرًا لسهولة الإبداع والوصف ونظرًا لصعوبة وضع
حوار في موضوعات غيبية خالصة، لا تعي الذاكرة كل هذه التشبيهات
والإيحاءات والتأويلات قدر استيعابها للأوامر والنواهي الواضحة
المباشرة، وأحيانًا يتم إبداع حوار بين مظاهر الطبيعة
وتأنيسها، حوار بين الحيوان والنبات، ويسهل ذلك اقتفاء أثر
القرآن وتحويل الأوامر الإلهية والقوانين الطبيعية إلى حوار مع
الطبيعة وتشخيص لقوانينها. فالشمس تحت العرش بعد استئذانها،
شروقًا وغروبًا، ولا يوجد «قال النبي» أي فعل القول من الدرجة
الأولى وهو أكبر أفعال القول يقينًا لأن المتن إبداع خالص،
صدقه في التجربة الإنسانية، وليس رواية صدقها في السند، ومعظمه
في صيغة «حدثنا» دون سند متصل؛ إذ إن إبداع المتن يتعارض مع
اتصال السند، ولا يوجد سؤال وجواب، أمر ونهي، توجه عملي كما هو
الحال في كتب الحديث الأشبه بكتب الفقه.
١٥٣
ونظرًا لغموض الرواية الإبداعية فإنه يتم شرح ألفاظها كما هو
الحال في القرآن، وشرح الرواية يعني أن الإبداع يشرح نفسه
ويبحث لذاته عن شرعية في الوضوح من أجل إيصال الرسالة. بل إن
الرسول نفسه يشرح حديثه، وتغيير الألفاظ يدل على الوضع. ففي
صياغة المدية وفي صيغة أخرى السكين، وقد تختلف الرواية بالشرح.
فالراوي شارح ومفسر ومؤوِّل وصاحب موقف ووجهة نظر كما هو الحال
في النقل عند اليهود والنصارى وليس مجرد راوٍ ناقل.
١٥٤
وتكشف الرواية عن بعض جوانب الإخراج المسرحي وإعداد المناظر
وتغييرها ودخول الأبطال وخروجهم. فهناك تدرج في مناظر ثلاثة
متتالية في حديث البشرى بالجنة لعمر ثم عثمان ثم علي. في حين
يغيب هذا الترتيب الزماني في الإعداد المسرحي لقصص الأنبياء
ودخولهم وخروجهم، آدم ثم يحيى وعيسى ثم يوسف ثم إدريس ثم هارون
ثم موسى ثم إبراهيم، ويتفرد موسى بالبطولة لأنه صاحب التجارب
مع قومه في الشريعة والألواح، وهو الذي يحاور محمدًا في عدد
الصلاة الواجبة في اليوم بناءً على تجربته وحتى يستفيد محمد من
تجاربه السابقة، من خمسين صلاة إلى خمس صلوات بعد استحياء محمد
من طلب مزيد من التخفيف، وهناك بعض الإخراج المسرحي عندما نزلت
آية تغيير القبلة إذ انحرف المسلمون من القبلة القديمة إلى
القبلة الجديدة أثناء الصلاة، ويغطي محمد ركبته بعد دخول عثمان
للدلالة على حيائه وعظمة عثمان، وبعد أن قرأ القارئ القرآن
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ رأى مصابيح متدلية من السماء وسمع أصوات
الملائكة، ويكون ذلك بالصوت والصورة. فعذاب القبر رواية، وقد
تكون البداية في الرواية حسية تعتمد على المشاهدة مثل اليقين
بوجود الشمس والقمر حتى يبدأ الخيال من بداية حسية تسمح
بالانطلاق إلى ما بعد الحس وربط المطلق بالنسبي والخيال
بالواقع كما هو الحال في الإنجيل الرابع، إنجيل يوحنا، وهو ما
اتخذته «مدرسة القدس» في النقد التاريخي دليلًا على الصحة
التاريخية للنص، وهو أقرب إلى أن يكون دليلًا على الإبداع،
سبعون ألفًا أو سبعمائة ألف من الأمة في الجنة على نحو جماعي
حكم مطلق، ثم سعد بن معاذ كعينة نسبية في الأرض.
١٥٥
ومعظمها موضوعات غيبية تضاد القصد من الحديث وهو بيان
التفصيلات العملية، فلا فائدة عملية ترجي من معظم الأحاديث، هي
مجرد حكايات لا تفصل مجملًا، ولا تبين أوجه ممارسة، ولا تخصص
عمومًا، ولا تبين مجملًا، ولا تحكم متشابهًا. الغرض من الحديث
الإبداعي القصص وهو ما يتضح من عناوين بعض الأبواب مثل «قصة
إسحاق بن إبراهيم». فلا توجد أسئلة عملية في قصة الإسراء
والمعراج باستثناء فرض الصلوات الخمس، وكلها إثارة للخيال منذ
البراق إلى السماء السابعة، وكيف يروى هذا الجانب الغيبي كله
وهو ما لا يتفق مع شروط التواتر، الاتفاق مع العقل والحس ومجرى
العادات؟ صحيح أنه تتكرر بعض الموضوعات العملية التي لها كتب
أخرى بأسمائها مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج محشورة حشرًا
لإخفاء الطابع الغيبي والإقلال منه ولو بنسبة ضئيلة، ولم يعرف
عن الرسول الإيغال في هذه الأمور الميتافزيقية بل كان أقرب إلى
التوجه العملي المباشر، الحديث عن السماء والأرض والجبال ونشأة
الخلق يهتم به الفيلسوف بحثًا عن الحكمة أو المتكلم تأسيسًا
للعقائد، ويتم هذا الإبداع كله في السماء وليس على الأرض،
والمحاور الرئيسي فيه جبريل أو الملائكة أو الشياطين حيث يبدع
الخيال في حرية تامة دون حدود من الأرض والشخصيات الإنسانية
والواقع الاجتماعي. فإذا أحب الله عبدًا أعلن جبريل عن ذلك في
السماء حتى يحبه أهل الأرض، وكلها روايات يسهل فيها الإبداع
بلا حوار أو سند، ويمكن بناء سلسلة وهمية وسند لا وجود له من
أجل الإيحاء بالصحة التاريخية للحديث ما دامت صحة المتن مشروطة
بصحة السند.
١٥٦
وتضطرب الرواية أحيانًا لدرجة صعوبة معرفة من قال ماذا؟
فالحبكة غير متقنة، ولا يهم القائل بل القول كما هو الحال في
الانتحال. كما تظهر بعض الأخطاء التاريخية في الحديث الإبداعي
مثل أن الفترة الزمنية بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى
أربعون عامًا وهي تزيد على سبعمائة عام. تدعو بعض هذه الأحاديث
إذن إلى الشك في صحتها نظرًا لطولها. فالإبداع ليس في القضايا
والجمل والأحكام والأوامر والنواهي، وتغلب الرواية عليه لصعوبة
الكذب على الرسول، ويتم في السماء وليس على الأرض لزيادة في
التأثير، ومملوء بالصور والتخييل لأنه لا إبداع في الوقائع
والأحكام، وهي موضوعات غيبية يسهل فيه الإبداع الحر، والمخزون
الثقافي من الإسرائيليات يمد الخيال بما يشاء.
١٥٧
والحقيقة أن ذلك يضع سؤالًا: من أين أتى المحدثون بهذه
المصادر التاريخية عن تاريخ الأنبياء بالإضافة إلى القرآن
والحديث الصحيح، وكلها أحاديث وقصص وروايات لا تحتوي على
توجهات عملية يمكن مطابقتها مع سائر الأوامر والنواهي في
القرآن والحديث الصحيح؟ ويجيب البخاري بنفسه على السؤال في
«كتاب التوحيد» في باب مستقل «باب ما يجوز من تفسير التوراة
وغيرها من كتب الله بالعربية لقول الله
فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ، ويذكر حديث أبي هريرة: كان أهل الكتاب
يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام.
فقال الرسول «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم»، وتضيف رواية
أخرى «بل الإيمان بما أنزل الله»، وقد أمر الرسول زيد بن ثابت
أن يتعلم كتب اليهود حتى كتب إليه كتبه وأقرأه كتبهم، وكان
ابن عباس هو الممثل لهذا الوعي الجمعي وأحد المصادر الرئيسية
لروايات بدء الخلق ولكتاب التفسير، ولا يرفع ابن عباس رواية
إلى النبي تمثلًا للتقوى ومنعًا للكذب، وربما نسب الوعي الجمعي
إلى ابن عباس الذي رفعه إلى النبي دون سند متصل. بل أحيانًا
يكون ابن عباس هو الأساس والرسول مكمل له وشارح. مما يبين ظهور
شخصية ابن عباس تدريجيًّا ليحل محل الرسول في الرواية. كان
المفسرون هم الرواة حتى يسهل الإبداع بما لديهم من تراث ينسجون
على منواله.
١٥٨
وقد بدأ الخيال الإبداعي بقصص الأنبياء بالنواة الأولى لهذا
القصص، تاريخ الأنبياء في القرآن. فليس كل الوعي التاريخي
خيالًا إبداعيًّا بل هناك وعي تاريخي مجرد، الارتباط بتجارب
الأمم السابقة والاستفادة منها. فموسى نموذج النبي الصابر على
الأذى، وإبراهيم نموذج المتأمل الباحث عن الله بالعقل الطبيعي.
الأول للشريعة والثاني للعقيدة. كانت الغاية وراثة اليهود
والنصارى في القصص وإكماله لما كان محمد هو خاتم الأنبياء
بمنطق الاستيعاب ثم الاستبعاد والاستقصاء، والثمرة لا تحتاج
إلى البذرة إذا أثمرت، والنتيجة لا تحتاج إلى المقدمات إذا ما
أخرجت، ويحدث ذلك في الرواية وفي القول المباشر على حد سواء.
١٥٩ بل إن «كتاب الخلق» بهذا المعنى يعتبر نموذجًا
لأدب الخصوصية، خصوصية المسلمين عن اليهود والنصارى، أدب
التمايز بين المسلمين والأمم السابقة، وهو في نفس الوقت أدب
المقاومة بعد التمثل أو أدب الاكتمال بعد الاستيعاب. فالغاية
من الإبداع الخيالي في قصص الأنبياء هو وراثة أهل الكتاب،
اليهود النصارى، وتجاوزهم من أجل إكمال التاريخ، والإعلان عن
المصب بعد المنبع، والنهاية بعد البداية، بل وتجاوزهم في القصص
والأدب القصصي الخيالي. فليس من المعقول أن يكون العرب أهل
البلاغة والثقافة والشعر أقل إبداعًا في القصص بل وأحسن القصص
من اليهود والنصارى ومن الأحبار والرهبان. كما كان القرآن أبدع
من سجع الكهان. فالعرب ترث الأمم السابقة، والإسلام يرث
الديانات السابقة. لذلك تكثر الإشارة إلى اليهود والنصارى في
تراث الأنبياء وتاريخ النبوات، ويتضح ذلك في عناوين بعض أبواب
كتب الحديث مثل «باب دعوة اليهود والنصارى وعلى ما يقاتلون
عليه»، وقد قلد محمد عظيم الروم في ختم الكتاب بخاتم من فضة
منقوش عليه «محمد رسول الله» نقشًا بنقش، وخاتمًا بخاتم، ما
دامت هذه عادة الملوك.
وبالرغم من النهي عن تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض إلا أن
الأحاديث مملوءة بالتفضيل، وبالرغم من أن الرسول منع التفضيل
بينه وبين موسى فالرسول أول ما يفيق يوم القيامة ويجد موسى
باطشًا بجانب العرش. فإما قد صعق قبله أم استثناه الله. إلا أن
المقارنة بينه وبين موسى وإبراهيم من أجل وراثة الشريعة
والعقيدة مستمرة، ويعطي القرآن النموذج لعدم التفضيل. فالكل
أنبياء يبلغون رسالاته حتى خاتم الأنبياء، ويفسر اليهود آية
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ عليهم أنفسهم، وينكرون خاتم الأنبياء، ويكرر
القرآن هذه الصورة
يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا من أجل صب الماضي في الحاضر، وينسج الحديث
على نفس المنوال، أن اليهود عملوا في اليوم حتى الظهر،
والنصارى حتى العصر، والمسلمون حتى آخر النهار، ولكل أمة شهيد،
والرسول يشهد على الكل كما يقرر القرآن ويتبع الحديث، ويحادث
الرسول آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وهو سيدهم يوم القيامة،
وكل نبي غضب الله عليه إلا محمد، ولكل نبي خطيئة إلا محمد.
الكل مرءوس، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وهو الرئيس، وهو
مشابه للقصص القرآني، قصص إدريس وهارون وإبراهيم وموسى، ويغلب
التصوير الفني على القصص للتحرر من الوقوع في التشبيه كما وقع اليهود
١٦٠ ويبرز الإبداع الخيالي في قصص الأنبياء حتى يبدو
محمد رئيسًا لآدم ونوح في حديث ولآدم وإدريس وموسى وعيسى
وإبراهيم في حديث آخر. لا يهم الترتيب الزماني أو المنزلة أو
الربط التاريخي بين الإسلام ومراحل الوحي السابق دون تشخيصها
في الأنبياء، ويقطع القول المباشر للسماح للإبداع على دفقات
وإلا طال اللحن في حين أن الدافع الحيوي قد توقف أو هي إبداعات
متعددة متراكمة كما هو الحال في القصص الشعبي أو لمزيد من
الترويح عن النفس، ومثل الرسول مع باقي الأنبياء كرجل بنى
دارًا فأكملها وحسنها إلا موضع لبنة، ويتعجب الناس ويقولون
لولا موضع اللبنة! وقد عرضت الأمم على الرسول يوم القيامة، كل
رسول مع قومه، ثم موسى وقومه، ثم سواد عظيم وهي أمة محمد تبدو
في الأفق. يدخل الجنة منهم بغير حساب سبعون ألفًا وهو رقم صغير
بتعداد اليوم، وهو ما يعارض قانون الاستحقاق، ويستجاب للمسلمين
في اليهود ولا يستجاب لليهود في المسلمين طبقًا لمنطق التمثيل
والاستبعاد، والاحتواء والإقصاء، وكلاهما يتبع فلسفة السؤال،
وأحيانًا تبدو الإشارة إلى اليهود والنصارى من منطق الهوية
والاختلاف، وهو أفضل من منطق الاحتواء والإقصاء. الحاضر في
مقابل الماضي أو الهداية في مواجهة الضلال، والتفاضل بين
الأنبياء إنما يكشف في الحقيقة تفاضلًا بين الشعوب والثقافات
ما زال قائمًا حتى الآن بمنطق الصراع أو بمنطق الحوار.
ويتم الربط بين محمد وموسى وإبراهيم خاصة داود وسليمان
ويونس. فإبراهيم صاحب العقيدة والدين الطبيعي والباحث عن
التوحيد، وموسى صاحب الشريعة وقائد الأمة، ومحمد قد جمع بين
العقيدة والشريعة، التوحيد والأمة، وتنسج القصص الخيالية حول
موسى حتى يبدو محمد أعظم منه واعتمادًا على الإسرائيليات مثل
قصة موسى والحوت والبحر والشيطان. فالقرآن نموذج الخلق الحديث،
والحديث الصحيح نموذج لإبداع حديث خيالي، وقد حج آدم موسى في
قصة تثبت القضاء القدر وإنه أخطأ بقدر الله، ومحمد يرى أن كل
شيء مقدر سلفًا، والإنسان ما زال مضغة ثم علقه بل منذ آدم الذي
سن القتل، وإذا كان الرسول قد نسي فقد نسي موسى من قبل.
فالإيجاب في موسى يتجاوزه الرسول، والسلب في الرسول يتجاوزه
موسى، وفي قصة والشدق والكلاب، عرايا وشيوخ وشباب كنايات عن
الكذب وعدم العمل بالعلم والزنا، وميكائيل وجبريل مع الرسول من
أجل استعمال الخيال للإيحاء والتربية الخلقية، ويترحم الرسول
على موسى لصبره على الأذى والرسول أكثر منه صبرًا عليه، ومحمد
يفوق إبراهيم في التوحيد لأنه هو الذي أكمله وصفاه واستنبط منه
الشريعة جمعًا بين النظر والعمل، العقل والإرادة. إبراهيم أبو
الأنبياء ومحمد خاتم الأنبياء، ولقد ختن إبراهيم وهو
ابن ثمانين سنة! ويذكر الرسول حكايته مع سارة وادعاء أنها أخته
حماية لها من فرعون، ويتدخل الخيال الإبداعي في وصف إبراهيم
وإيجاد دلالته. فإبراهيم هو الأصل، واضع البيت المعمور. يصلي
فيه كل يوم سبعون ألف ملك، وسدرة المنتهى ورقها كآذان الفيل.
في أصلها أربعة أنهار، اثنان باطنان واثنان ظاهران، النيل
والفرات في مصر والعراق، ويمتد نسب الرسول إلى داود أسوة بالمسيح
١٦١ وما ينبغي لأحد تفضيل نفسه على يونس بن متى، ويذكر
الرسول قصة سليمان قاضيًا بين المرأتين اللتين تنازعتا أمومة
طفل وقصة ابتلاء الله الثلاثة من بني إسرائيل، والرسول مذكور
في التوراة ببعض صفاته في القرآن، ووقعت غزوة بدر على نموذج
طالوت وجنوده في الرواية، ثلاثمائة وعشرًا من المؤمنين.
والإسراء والمعراج هو الموضوع النموذجي الذي يبدع فيه
الخيال. فهو منذ بدايته مثير للخيال، ويخرج عن المألوف، ولا
يسير طبقًا لمجرى العادات، انتقال البدن والروح أو الروح فقط
من مكة إلى القدس، ومن القدس إلى السماء، وتتعدد هذه الإبداعات
في عدة صياغات. ففي البيت بين النوم اليقظة جاء رجلان بطشت ملئ
حكمة وإيمانًا فشقا الرسول من النحر إلى البطن وغسلا البطن
بماء زمزم ثم ملئ حكمة وإيمانًا. ثم ركب دابة بيضاء، حمارًا أو
براقًا، وصحب جبريل إلى السماء الدنيا، وقابل آدم ثم عيسى ثم
يوسف ثم إدريس ثم هارون ثم موسى ثم إبراهيم دون مقياس للاختبار
أو ترتيب زماني، وتمتلئ القصة بالإخراج مثل السلام، ثم فتح
أبواب السماء، والسؤال عن الطارق والصاحب، ويبدأ النقاش مع
موسى الذي تبدو عليه الغيرة فيبكي من هذا الغلام الذي أتى بعده
كي يدخل الجنة قبله هو أمته. وفي رواية أخرى شهيرة تم الإقلال
من عدد الصلوات من خمسين إلى خمس بناءً على نصيحة موسى مع قومه
وتأكيدًا لمنهج التجريب، ولم تكن هناك صلاة قبلها. فالقصة تمثل
نوعًا من الوعي التاريخي الرأسي وليس الوعي التاريخي الأفقي
صعودًا إلى السماء وليس تقدمًا في الأرض. تصعب معرفة مقياس
الانتقاء فيه. هل أولو العزم من الرسل، آدم ونوح إبراهيم وموسى
وعيسى ومحمد، فأين آدم ونوح؟ وفي هذه الليلة عرض على الرسول
الخمر واللبن فاختار اللبن. فمدح جبريل الرسول الذي هدته
الفطرة وإلا لو أخذ الخمر لغوت أمته، وهو ما تعارضه الرواية،
وفي السدرة أربعة أنهار: باطنان ظاهران. الظاهران النيل
والفرات، والباطنان في الجنة، ثم ثلاثة أقداح: لبن وعسل وخمر.
فأخذ اللبن طبقًا للفطرة دون تدخل جبريل للتأثير من الرسول أو الراوي
١٦٢ وتختلف رواية ثالثة تنقص الأقداح الثلاثة، ويتم
تعظيم محمد تدريجيًّا، وتتحول الرواية من كلامه إلى شخصه وهو
الإنسان، وبعد أن نهش ذراع الشاة تحدث أنه سيد القوم يوم
القيامة يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، تدنو منهم الشمس،
ويفوق آدم ونوحًا، وله الشفاعة وحده، وهي ليست لآدم ونوح
وإبراهيم وموسى وعيسى، والبداية هي صورة محمد لدى أصحابه إجابة
على سؤال عظيم الروم في مدينة إيليا. أقربهم نسبًا، ونبوته
صدقه. يتبعه ضعفاء الناس، ويزيد أتباعه ولا يرتد أحد عنه، لا
يغدر، قائم لدينه في حرب سجال. يأمر بعبادة الله وحده، وينهى
عن عبادة ما يعبد الآباء. يأمر بالصلاة والصدقة والعفاف
والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، ولم يفعل بذلك أحد غيره. لم
يتهم بالكذب من قبل، وليس من آبائه ملك. فشتان ما بين هذه
الصورة الواقعية الإنسانية الأخلاقية والصورة الأسطورية
الكونية الخيالية في أحاديث الإسراء والمعراج. ثم يرتبط كتاب
الرسول إلى هرقل بين دعوته ودعوة الأريسين وربما الآريوسيون
الموحدون بالله أتباع آريوس في القرن الرابع الميلادي في الإسكندرية.
١٦٣
ولم تذكر الروايات النصرانية قدر ذكرها لليهودية، ومع ذلك
هناك إشارات لبعض عناصرها. فورقة بن نوفل كان امرأً تنصر في
الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي فيكتب بالعربية من الإنجيل.
مما يدل على أنه كان مترجمًا قبل عصر الترجمة أو كان يقرأ
باليونانية ثم يترجمها إلى اللغة العربية، وأمر الرسول بالصلاة
على النجاشي وقال «مات اليوم رجل صالح. فقوموا فصلوا على
أخيكم»، وفي رواية أخرى «استغفروا لأخيكم» بصرف النظر كيف عرف
الرسول بوفاته في نفس اليوم دون وسائل الاتصال الحديثة، وربما
هو إبداع روائي، وتذكر إحدى الروايات قصة راهب في صومعته
واتهامه في ولد امرأة وحديث الولد واعترافه بالأب الراعي مثل
قصة المسيح وتبرئة أمه مريم، خيال بخيال مع ألفاظ أجنبية وربما
يونانية قالها الرسول مثل «بابا بوس من أبوك»؟ كما تحث بعض
الأحاديث على حسن معاملة أهل الكتاب والدعوة للإسلام بالحسنى،
وقد سمي الحواريون كذلك لبياض ثيابهم وليس لحوارهم حول المسيح،
وتظهر بعض التعبيرات المسيحية مثل الروح القدس، وظلت زينب لا
تكلم الناس، وحجت مصمتة سواء كان ذلك من عمل الجاهلية أو نموذج
مريم، وتؤخذ بعض أمثال المسيح مثل «أنتم ملح الأرض» تنسج على
منوالها أمثال الرسول.
١٦٤
وتبدو صلة الحديث باليهودية فيما يتعلق بالشريعة العقيدة.
فهناك من الشرائع اليهودية ما تواصلت في الحديث مثل الرجم، وحد
السرقة، والعين بالعين، وصوم عاشوراء، ومناسك الحج إلى البيت
العتيق. كان الرجم في الشريعة اليهودية، وكان اليهود إذا سرق
فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف طبقوا عليه الحد، وهذا
هو السبب في هلاكهم، وهذا مما دفع الرسول إلى التشدد في تطبيق
الحد «والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، والعين
بالعين والسن بالسن والقصاص إلهي، وترك الرسول صوم عاشوراء في
اليهودية على التخيير. من شاء صامه ومن شاء لم يصمه، وذلك لأن
المسلمين أحق بصومه، وهو أولى بموسى منهم، وكان الحج في
الشريعة اليهودية من شعائر العرب في الجاهلية، وكان أهل الكتاب
يسدلون أشعارهم، والمشركون يفرقون رءوسهم، والرسول سدل ناصيته
ثم فرق فيما بعد،
١٦٥ وتكشف بعض الأحاديث عن منافسة بين العرب واليهود
على أول من بنى البيت العتيق وعلى نسبة إبراهيم للعرب أم
لليهود، وتغيرت الشريعة اليهودية أيضًا وانقلبت إلى ضدها في
الحديث مثل بناء القبور وإطراء الأنبياء والعقاب الجماعي ولبس
الذهب والفضة وإتيان النساء والتحية. فقد بنى اليهود والنصارى
القبور على أنبيائهم وصوروا عليها صورًا. هم شرار الخلق. كما
حرم الإسلام الصور والتماثيل بناءً على تجربة اليهود والنصارى،
وأخرج الرسول صور إبراهيم وإسماعيل من الكعبة وفي أيديهما
الأزلام، وصحح الرسول التاريخ بأنهما لم يستقسما، وأصحاب هذه
الصور يعذبون يوم القيامة لأنهم لا يستطيعون إحياء ما خلقوا،
والبيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة حرصًا على التوحيد.
التنزيه ضد التشبيه باستثناء الرقم في الثوب أي ما أتى من فن
حياكة الثياب في الجزيرة العربية، والغريب أن الكلب من
مستلزمات الصيد وثقافة العصر عند كثير من المعاصرين، وقد كانت
المعركة، معركة الأقانيم قائمة قبل ذلك بقرنين من الزمان،
وكانت أحد أسباب انفصال الكنيسة الشرقية عن الكنيسة الغربية.
فربما أتى الحديث هنا دفاعًا عن الكنيسة الشرقية ومنها الكنيسة
القبطية. كما تميز المسلمون عن اليهود في تحريم الرسول إطراء
الأنبياء «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم»، وكذلك
حرم الحديث لبس الذهب والفضة مع أصل قرآني
وَالذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا
يُنْفِقُونَهَا كرد فعل على حب اليهود للذهب والفضة،
ويرفض الحديث تصور اليهود للخلاص الجماعي والعقاب الجماعي،
ويؤكد المسئولية الفردية، ويستعمل الرسول لغتهم قائلًا: «لو
آمن بي عشرة من اليهود لأمن بي اليهود». كما سخر الرسول من
العقاب الجماعي عند اليهود عندما أحرق نبي قرية نمل بأكملها
لأن نملة قرصته! وإذا كثر الخبيث انتهى الصالحون. بل إن القرآن
نفسه يرد عليهم عندما قالوا إذا جامع الرجل امرأته من ورائها
جاء الولد أحول بقوله
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ. كما رد الرسول عليهم عندما كان
يحيونه بقولهم «السام عليكم» بقوله وعليكم»،
١٦٦ ولم يقتصر رد الفعل في الأحاديث على الشريعة
اليهودية وحدها بل امتد أيضًا إلى العقيدة ووقوعهم في التجسيم
والتشبيه وعبادة العجل، ولم يقدروا الله حق قدره. فقد قالت
اليهود إن الله يجعل السموات على إصبع، والأرض على إصبع، ويقول
أنا الملك، فنزلت آية
وَمَا قَدَرُوا
اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وقد قال اليهود إن الله خلق آدم
على صورته. طوله ستون ذراعًا ثم تناقص الخلق، وهو ما يشبه
نظرية التطور، وتناقص حجم الإنسان من الإنسان البدائي حتى الآن
وكما يقرر علماء الأنثروبولوجيا الطبيعية، وأحيانًا يتدخل
الخيال الإبداعي لإبراز هذا التعارض بين الشريعتين، فقد نهى
قومه ألا يتبعه من لم يبنِ بامرأته، ومن لم يرفع سقفًا أو
ينتظر ولادة غنم، وأمر الشمس بالاحتباس حتى فتح الله عليه. لم
تأكل النار الغنائم ولكنها أكلت رءوس الغنم الذهبية. ثم أحل
الله الغنائم لما رأى ضعف الناس، وهي حكايته ضد الشرك وعبادة
العجل وآية يشوع في إيقاف الشمس والاعتراف بالضعف الإنساني
وبيان أسباب التحليل والتحريم، وبالرغم من استعمال المسلمين
اليهود في الزراعة ولهم النصف إلا أن الرسول أمر بإجلائهم عن
شبه الجزيرة العربية لأن الأرض لله ورسوله.
١٦٧
وتظهر الإشارات الأخيرة إلى اليهودية والنصرانية في علامات
الساعة وشرائطها. علامات الساعة لها ما يشابهها عند اليهود.
أما شرائطها فتتعلق بأحوال العرب ومستقبل الأمة، وكما يبدأ
الخلق في بداية الزمان ينتهي في نهاية الزمان. فعلامات الساعة
موجودة عند اليهود وكررها الحديث، نزول المسيح الدجال ويأجوج
ومأجوج. فقد رأى الرسول نفسه في مكة مع رجل أملح هو المسيح،
ورجل جعد أعور هو المسيح الدجال، وهو تصوير فني للحسن والقبح،
للخير والشر، المسيح الدجال أعور والله ليس كذلك تصوير فني
للرعب، وينزل ابن مريم حكمًا مقسطًا يكسر الصليب، ويقتل
الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال أي يطبق الشريعة الإسلامية.
أما حرب يأجوج ومأجوج فإنها دلالة على الفتن والهرج والقتل،
وعندما ذكر الرسول أن من كل ألف تسعمائة وتسعين في النار، جعل
من يأجوج ومأجوج ألفًا ومن المسلمين واحدًا فقط بعد اعتراضهم
على هذه القسوة. ثم يتناقص العدد إذ يشيب الصغير، وتضع الحامل،
والناس سكارى وما هم بسكارى، وفي رواية أخرى «يأجوج ومأجوج مثل
هذه»، وعقد سفيان تسعين أو مائة، والهلاك للأمة وفيها الصالحون
طبقًا لتصور العقاب الجماعي عند اليهود أو الإنقاذ الجماعي من
خلال البقية الصالحة.
١٦٨
أما شرائط الساعة فهي العلامات الداخلية في العالم الإسلامي
التي تنبئ بانهياره وضياعه وهو ما سماه فلاسفة التاريخ انهيار
الأمم وسقوطها، وتدل معظم هذه الشرائط على التصور المنهار
للتاريخ التي تعبر عنها أحاديث الفتن ونهاية الزمان، وتضع
احتمالًا واحدًا، والانهيار وليس النهضة، السقوط وليس الصعود،
وسيادة الجهل وليس العلم، والفتن وليس السلام، والبكاء وليس
الفرح مما أثر في الوجدان العربي الإسلامي وزرع فيه روح
التشاؤم لا التفاؤل، وكان من أحد أسباب الفتور واللامبالاة
التي تعرض لها الكواكبي في «أم القرى»، وحاول إيقافها الأفغاني
وهو في نضاله ضد الاستعمار، وهو التصور الذي يعيبه العلمانيون
على الإسلاميين ونقد العصر الذهبي الذي في الوراء وهم دعاة
التقدم إلى الأمام، وقد تكون هذه الأحاديث التي خصص لها
البخاري «كتاب الفتن» عن رفع العلم وكثرة الزلازل والهرج
والمرج والقتل وكثرة المال وسيادة الرعاع تصويرًا للاضطراب
السياسي والاجتماعي وحال الأمة من أجل كشف الغمة.
١٦٩
وتقوم هذه الأحاديث على القدرة على التنبؤ بالمستقبل أولًا
من أجل إثبات صحة رؤيته لنهاية الزمان. فقد رأى أناسًا من أمته
غزاة في سبيل الله يركبون البحر، ويتنبأ لأم حرام أنها منهم.
فغزت وماتت عندما ركبت البحر زمان معاوية، وقد رأى الرسول هذه
الرؤية وهو ينام عند زوجة صحابي تطعمه، وضحك بعد الرؤيا وفيها
موت، والرؤيا الصادقة من علامات النبوة. كما تنبأ الرسول للحسن
بن علي بأنه على يديه سيتم الصلح بين فئتين من المسلمين، وقد
تنبأ بشهادة بعض الصحابة بإصابة زيد بعد أن أخذ الراية ثم جعفر
وابن رواحة في غزوة مؤتة، وهو نوع من الرؤية عن بعد
Telepathy وقع لعمر أيضًا في
الحادثة المشهورة «يا سارية، الجبل الجبل»، وتحدث عنها كثير من
الصوفية وعلماء النفس. كما تنبأ الرسول بوقوع «امرأة سوداء
ثائرة الرأس تخرج من المدينة»، وهذه هي الأحاديث التي يتم فيها
التنبؤ لصالح الأمة وليس لإنذارها بوقوع الشر وخراب الديار.
١٧٠
ويأتي حديث «خير القرون قرني» في المقدمة ليعلن انهيار
التاريخ وسقوط الأمة واندثار العصر الذهبي الأول وفساد الزمان،
ويتصدر «كتاب الفتن». فالأمة تمشي القهقرى لما أحدثته بعد
الرسول، أثرة أنانيون «سحقًا سحقًا لمن بعدي». وأطول صياغة له
«خيركم قرني ثم يجيء قرن ينذرون ولا يفون، يخونون ولا يأتمنون،
ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن»، وهو تصوير دقيق
للحالة الراهنة عند المتشائمين. هذا التصور هو الذي عبر عنه
ابن خلدون في وصفه لمسار التاريخ، النهضة من البداوة إلى
الحضارة ثم السقوط من الحضارة إلى البداوة من جديد، ويتكرر نفس
المعنى في أحاديث أخرى مثل «لا يأتي زمان إلا بعده أشر منه» أو
«من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء».
١٧١
وأكثر الأحاديث في وقوع الخراب. إذ تقع الفتن خلال البيوت
كوقع القطر، فهي أقرب إلى الفتن الداخلية وخراب النفوس، يتقارب
الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج.
الفتنة في قلة العمل والرزق والبخل وشيوع الاضطراب ووقوع
الفتن، ولا تقوم الساعة قبل أن تقتتل فئتان عظيمتان مما يدل
على الفساد في الأرض على أيدي دجالَين كذابَين يزعم كلٌّ منهما
رسول، حالة الاقتتال بين المسلمين التي كانت سائدة في كل عصر
منذ الفتنة الأولى حتى الاقتتال في أفغانستان والحرب بين
العراق وإيران، ولم تقم الساعة. يُرفع العِلم، وتكثر الزلازل،
ويتطاول الناس في البنيان، وتهلك الأمة على أيدي أغلمة سفهاء،
وتخصص رواية أخرى «من قريش» مما يتناقض مع حديث «الأئمة في
قريش» وكل أحاديث فضل قريش. يُرفع العِلم، ويسود الجهل، ويكثر
الهرج والقتل، وينتشر الزنا وشرب الخمر، ويمشي الرجل الواحد
تتبعه أربعون امرأة من قلة الرجال وكثرة النساء ومن انتشار
الجنس، ويكثر المال، ويتطاول الرعاع حتى إنه إذا أراد أحد أن
يتصدق فلا يجد من يأخذها وكان الرسول يتنبأ بثروة النفط وشيوخه
فالخشية ليست من الفقر بل من الغنى وبسط الدنيا كما بسطت على
السابقين، واللهو عن الدين. لا يخشى على الأمة من الشرب ولكن
المنافسة على الدنيا أي القوة والثروة التي تجتمع في أيدي
الرعاع، وتحول الخلافة إلى ملك عضوض، ويتنبأ الرسول أن يأتي
وقت يكون في ملء كف الرجل ذهب وفضة وفي يوم القيامة لا يرى إلا
جهنم، ويتخذ الناس الأنماط أي الفراش الوثير، ويستعجلون الدنيا
بعد طلب الدعاء للناس بالتوسيع عليهم مثل الفرس والروم. تستعجل
الناس وراثة الإمبراطورتين القديمتين وهما في طريق الزوال. فقد
هلك قيصر ولا قيصر بعده، وهلك كسرى ولا كسرى بعده، وتؤخذ
الكنوز في سبيل الله، وهو ما تحقق بالفعل قديمًا وما قد يتحقق
حديثًا بانهيار معسكر الشرق وتأزم معسكر الغرب، وقد تنبأ
القرآن من قبل بغلبة الروم بعد هزيمتهم أمام الفرس
الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ
لِلهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
١٧٢
وتظهر الفتن من المشرق. ففيه تقع الزلازل والفتن ويطلع قرنا
الشيطان. فماذا يعني المشرق؟ فارس والشيعة؟ هل هو الشرق
حاليًّا صاحب النهضة الصناعية؟ وماذا عن الغرب وفتنه من
استعمار وسيطرة وهيمنة ورأسمالية وعنصرية وحرب عدوان؟ وتخرج
النار من أرض الحجاز ربما آبار النفط وشعلها الملتهبة، وربما
الفساد والنفاق مجازًا، ويكتفي الرسول بالتحذير والتنبيه «أنا
النذير العريان لجيش أتي ليهلك القوم»، «ويل للعرب من شر قد
اقترب». يكتفي الرسول بالحزن من ضحك الأمة والأولى لها أن تبكي
«يا أمة محمد لو تعلمون لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلًا»، ويكتفي
بمنعهم من الحوض
١٧٣ ومعظمها تدل على روح اليأس والتشاؤم والإنذار
بالخراب. ربما من دوائر المعارضة السياسية كالشيعة مع استبعاد
أحاديث المهدي المنتظر، والنصر، وملء الأرض عدلًا بعد أن مُلئت
جورًا والذي عقد له ابن خلدون أكبر فصوله.
١٧٤
ويبدو الخيال الإبداعي ليس فقط في قصص الأنبياء والوعي
التاريخي بل أيضًا في أمور العباد وخلق عالم علوي، عالم
الملائكة والشياطين والجنة والنار والمعجزات والطب النبوي
والسحر وكأن الوعي بالماضي بتراث الأنبياء قد طغي على الوعي
بالحاضر، وأن الصورة الفنية أصبحت بديلًا عن العالم الواقعي.
إذ تكثر، هذه الصور الفنية في تخيل الموت والحياة بعد الموت
قياسًا للغائب على الشاهد، وقد يكون ذلك أحد معاني «بدء الخلق»
أي ما بعد الخلق، ويبدو الخيال الإبداعي كالعادة في الرواية
أكثر منه في القول المباشر لأن الرواية وصف سياق، وجانب
الإبداع فيها أكبر من جانب النقل مثل الصوت الذي سمعه الرسول
يؤذن له بالصلاة فصلى ولم يتوضأ، وأن الرسول تنام عينه ولا
ينام قبله.
١٧٥
ولا ترد الملائكة والشياطين في حديث واحد ربما لصعوبة الجمع
بينهما في عمل واحد، فهما مفهومان متضادان، ولكن يرد كل منهما
في أحاديث منفصلة. ترد الملائكة على الأرض وفي السماء، فالملك
هو الذي يجعل الوحي يأتي في صورة صلصلة جرس أو رجل يتكلم، وفي
الأحاديث يرد خاصة أثناء الصلاة «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا
فإن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه»،
وتقول الملائكة في السماء «آمين»، وتؤمن الملائكة بعد قول
المصلي بسم االله الرحمن الرحيم، وتصلي مع صلاته وكان الاتفاق
عرض محض لا دور للإنسان فيه ومِن ثَم لا يستحق المغفرة، وتدعو
الملائكة بالرحمة لكل مصلٍّ طالما أنه في انتظار الصلاة،
ويتدخل الملائكة في موضع ثانٍ أثناء الاعتدال من الركوع بضعة
وثلاثون ملكًا يبتدرون أيهم يكتب «ربنا لله الحمد» التي صدرت
تلقائيًّا من أحد المصلين فسنها الرسول، وأُعجبت بها الملائكة
وكررتها والناس قيام تصلي عليه الملائكة في السماء. كما تحضر
الملائكة لحضور الذكر من الإمام يوم الجمعة، وتتدخل الملائكة
في الموت بالرغم من اعتراض المسلمين على عذاب القبر. فهي تظل
الشهيد سواء كان عليه بكاء أم لا، وتهبط إلى القبر لسؤال
الميت، وتعمل في السماء والأرض. إذ تضرب بأجنحتها في السماء،
وتطوف بالطرقات تلمس أصل الذكر، فيسألون ربهم، وهو حديث طويل.
١٧٦
ويرد ذكر الشيطان أكثر من الملاك أثناء الصلاة والأذان وسماع
القرآن ويتعامل الجسد والذهن، ويسير في الطرقات أثناء الليل.
لذلك يستحسن إطفاء الأنوار ليلًا لدرء الشياطين. فحضوره أكثر
من حضور الملاك، وفعله أكثر تأثيرًا. فالشر أقوى من الخير من
أجل التحذير والتنبيه، وتدخل الشياطين كالعادة في الرواية أكثر
منها في القول المباشر ولسهولة اللجوء إلى القوى الغيبية في
التأثير في التخويف. فالملاك والشيطان صورتان مجازيتان للترغيب
والترهيب، وإعداد النفس لفعل الأوامر وتجنب النواهي خاصة ولو
كانا حاضرين في الثقافة الشعبية العربية قبل نزول الوحي. تتسرب
الشياطين الصلاة على الرسول إذ إن قدراته تجعله فعالًا حتى على
الرسول الذي يحرسه جبريل. كما أوحى إليه في القرآن الآيات
الشيطانية، والصلاة خير وسيلة لطرد الشيطان «يعقد الشيطان على
قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام يستيقظ ويتوضأ ويصلي فتنحل
العقد»، وتفصل رواية أخرى هذه العقد الثلاث. إذ يعقد الشيطان
على قفا الإنسان إذا نام ثلاث عقد. إذا ذكر الله انحلت عقدة،
وإذا توضأ انحلت الثانية، وإذا صلى انحلت الثالثة ونشط
الإنسان، تصويرًا للأثر النفسي الجسمي للوضوء والصلاة على
الإنسان وكان الشيطان لا يظهر إلا إذا غاب الإنسان عن الوعي.
فالشيطان صورة مجازية للغفلة، وقد حيل بين الشياطين وسماع
القرآن. فالضدان لا يجتمعان، وإذا ما أذن للصلاة غادر الشيطان
وله ظراط حتى يشوش عليه! والرؤيا الصادقة من الله، والحلم من
الشيطان، ويتعامل الشيطان مع الجسد، يبول في أذن الإنسان،
ويطعنه في جنبيه إلا عيسى ابن مريم الذي وقاه الله شره،
والتثاؤب من الشيطان بصرف النظر عن التفسير النفسي والفسيولوجي
للحلم والتثاؤب «إذا حلم الإنسان حلمًا سيئًا فليبصق على يساره
اتقاءً من الشيطان» بصرف النظر عن قواعد الرعاية الصحية. فلا
تفل القذارة إلا القذارة، واليسار مكانها واليمين مكانها
الطهارة، وهو الذي يدفع الإنسان إلى الكفر والتساؤل عن الخلق
حتى يمتد السؤال إلى خلق الخالق. فالفلسفة والكلام إذن شيطانان
بالسؤال عن العلة الفاعلة والعلة الغائية والعلة الأولى. يحاور
الشيطان أبي هريرة كما يحاور المسيح في الإنجيل، ولا يسير
الشيطان ليلًا. لذلك يستحسن إمساك الصبيان لأن الشيطان لا يفتح
بابًا مغلقًا وكأنه غير قادر على ذلك وهو الذي يقطع صلاة
الرسول، وكما هو الحال في الثقافة الشعبية من تخويف الأطفال
بالشياطين لمنع خروجهم ليلًا، ويكفي للاتقاء منه التعوذ بالله.
«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». بها دواء كل شيء وكان الشيطان
هزيل إلى هذا الحد يخاف من القول أو مؤمن يخاف من الله.
١٧٧
ويقرن بالشياطين الجن وإبليس. إذ يدخل الجن مع الإنس،
ويسجدون مع الرسول والمشركين لإثارة الخيال، ويفسر الرسول
الكهان بالجن الذي يضع في آذان وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها
أكثر من مائة كذبة، وأراد عفريت من الجن تفلت على الرسول ليقطع
صلاته فمكنه الله منه، وأراد ربطه إلى سارية المسجد ينظر إليه
المصلون في الصباح، ويطعم الجن العظام والروث. لذلك لا يجوز
الاستنجاء بهما مع تغير العصر واستعمال الماء أو الورق الصحي،
وهو تناقض في تصور الجن الذي يستمع إلى القرآن ويعجب به ويهتدي
بفضله، ولكنه أقرب إلى التصورات الشعبية الذي يجعله أقرب إلى
الشياطين. أما إبليس فقد ظهر يوم أحد، وهو الذي غوى المسلمين
بالعصيان. فأين كان يوم بدر؟ قتله المسلمون من أجل انتصار الحق
على الباطل. فهل يعني ذلك أنه لم يعد موجودًا؟
١٧٨
وإذا لم تقرن الملائكة والشياطين في حديث واحد فقد قرنت
الجنة والنار في عديد منها، وتوصف الجنة والنار في الرواية،
نعيم الجنة وعذاب النار تفصيلًا، وتعتمد الرواية على صور
القرآن كنموذج للإبداع لأخذ غطاء الشرعية في الصورة والمصداقية
في التعبير، وقد أرى الرسول الجنة والنار وهو يصلي، وفي القبور
يراهما الموتى في عرض الحائط وكأنها شاشة عرض، ولا يدخل أحد من
أهل الجنة إلا أُري مقعده من النار، والعكس أيضًا صحيح طبقًا
لجدل السلب والإيجاب، ويدخل أهل النار مع أهل الجنة لغلبة
الخير على الشر ويسميهم أهل الجنة أهل الجنتين
١٧٩ وتذكر الجنة بمفردها في القول المباشر وفي الرواية
على حد سواء وهي تعويض نفسي للأم إذا ما فقدت طفلها أو للطفل
اليتيم الأم، فإبراهيم له مرضع في الجنة، فهو في الفردوس
الأعلى تطييبًا للخاطر، وبشر بها الرسول عمر وعثمان والرسول
جالس ورجلاه مدليان في بئر، وفعل عمر مثله ثم عثمان، وهو إخراج
أدبي وفني. ماء البئر صورة من أنهار الجنة، ويقوم الوصف على
المبالغات لإثارة الخيال والتشويق، وهي جنان كثيرة أفضلها جنة
الفردوس، وفيها شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها،
قياسًا للمكان بالزمان. رآها الرسول وهو يصلي، وتناول منها
عنقودًا ولو أخذه لأكل منه ما بقيت الدنيا، ويمسك الله الأرض
بيده والخبز بيده الأخرى نزلًا لأهل الجنة. كما يضع الإنسان
خبزته في السفر، وتوجد زراعة في الجنة رمزًا للخضرة والحياة والنماء
١٨٠ أما النار فقد رأى الرسول جهنم يحطم بعضها بعضًا
في صلاة الكسوف قرنًا باللون الأحمر في النار والشمس، وكل بني
آدم تأكله النار إلا مكان السجود. فالإيمان أقوى من النار،
والقرينة أيضًا لون سواد بقعة الجبهة وسواد دخان النار، في حين
تحرق النار من يأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويفعله
تعبيرًا عن الأحكام الشرعية بالصورة الفنية.
١٨١
وتذكر الأحاديث فتنة القبور أكثر من فتنة المسيح الدجال
لامتحان المسلمين في القبور، ويأكل المؤمنون من زائدة كبد
الثور يوم القيامة سبعون ألفًا مما يدل على حجم الحوت وربما
للتقوية الجنسية كما هو الحال في الثقافة الشعبية، وعندما أخبر
الرسول أن الناس يمشون عرايا اعترضت عائشة بنظر الرجال والنساء
بعضهم لبعض إحساسًا منها كامرأة مع أن الأمر أهم من أن يشغل
الناس ذلك كما أجاب الرسول، وتنتظر الحور العين المقصورات في
الخيام، عيون سوداء، وهي صورة للمرأة القابعة في الدار التي
تنتظر إعطاء الرجل المتعة، والعيون السود مقياس للجمال العربي.
١٨٢
ثم تأتي أحاديث
المعجزات، معجزات الطعام والشراب أسوة بالمسيح وحديثه مع
النباتات، ثم معجزات الطبيعة والحيوان والمعجزات للأصدقاء وضد
الأعداء، وعادة ما تكثر المعجزات في الرواية وليس في القول
المباشر. فهي مناط الإبداع وانطلاق الخيال مثل معجزة أم سليم،
مرة رواية ومرة قولًا مباشرًا. كان عند أم سليم قصعة طعام لا
تكاد تكفي لواحد فأصبحت وليمة دعا إليها الرسول الناس عشرًا
عشرًا عشرًا على ثلاث دفعات وتبقى منها الكثير. كما بارك
الرسول حفنة من تمر وأكل منها الناس وما تبقى يكفي إلى يوم
الدين، وبارك تمرًا آخر تكاثر حتى يدفع صاحبه دينه فأكل منه
الجميع وشبعوا وفاضت البيادر. كما بارك النخل حتى أثمر، وأكل
الناس حوتًا صادوه من البحر ثماني عشرة ليلة ولم ينتهِ، وكان
مع رجل صاع من طعام عجنه واشترى شاة وشوى سواد البطن وأكل
الناس بالمئات وفضل أكثر مما كان، وأكل الرسول عند جابر ونام
وبارك الله في نخله وفاض، ويبدو أن معجزة تكاثر الخبز من
المعجزات النمطية في الأدبيات السامية عرفها كل الأنبياء، وليس
الرسول بأقل منهم، وهي معجزة ومصلحة شخصية في آن واحد لصاحب
الطعام والنخل، وقد سبح الطعام بين يديه، وهناك معجزة الماء
وزيادته ووفرته. فقد نزل المطر بعد الاستسقاء في الخطبة يوم
الجمعة بعد أن شكى أعرابي لجوع العيال فثار السحاب مثل الجبال
والمطر يتساقط على لحية الرسول. كما مسح العزلاوين فامتلأ
بالماء وشرب أربعون رجلًا وملأ كل منهم قربته وظنته امرأة
سحرًا. ففي ذهنها لا فرق بين السحر والمعجزة
١٨٣ ونبع الماء من بين يديه حتى توضأ الجميع، ثمانون
رجلًا، ولو كانوا مائة ألف لكفاهم، وهو إحساس نفسي بالشبع عند
حضور الحبيب ومشاهدة الغالي، وإذا امتلأت النفس امتلأ البطن،
وبصق الرسول في البئر فامتلأ وشرب الناس، لا فرق بين ماء
وبصاق، ولا مراعاة لقواعد الصحة والنظافة، ووضع يده في الماء
ففار من بين أصابعه كالعيون، وتوضأ المصلون، وشرب حوالي ألف
وأربعمائة، وفي رواية أن الرسول شمر وصلى ركعتين إلى العنزة
فسار الدواب والناس من بين يديه وراء العنزة وشرب حوالي ألف
وأربعمائة، وهناك معجزات أخرى طبيعية مثل انشقاق القمر. فقد
انشق القمر على عهد رسول الله شقتين فقال النبي «اشهدوا»، وقد
اعتبرت عائشة كسوف الشمس آية، وهو ما يعارض أحاديث أخرى تمنع
انشقاق القمر بل والقرآن نفسه، وقد طُلب من الرسول أن يُري آية
فأراهم انشقاق القمر، وسأل أهل مكة الرسول آية فأراهم انشقاق
القمر فرأوا حراء بينهما، ودعا الرسول على الفارس الذي لحق به
وبأبي بكر أثناء الهجرة فصرعه الفرس، وإذا كانت الملائكة قد
نزلت وحاربت مع الرسول في غزوة بدر فأين كانت في أحد؟ ولماذا
تركت المسلمين وإبليس يغوي رماة النبال حتى ينهزموا؟ وقد حن
جذع النخلة إلى الرسول وأصدر صوتًا فمسح عليه الرسول فسكت،
وربما كان من اهتزاز الريح وأسكنه الرسول بيديه، وقد عاقب
الرسول المرتد فأماته الله ولفظته الأرض، وغرف الرسول من رداء
أبي هريرة وضمه إلى صدره فلم ينسَ أبو هريرة حديثه قط، وصورة
الرسول في القرآن أنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وصورته مع
نفسه أنه ما هو إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد، ولم يمنع
القرآن المعجزات إلا لأن الأولين قد كذبوا بها، وقد طلب الناس
من الرسول المعجزات فرد علهم القرآن
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ
الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ
جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ
خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ
السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ
بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي
السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ
عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ
كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا. لذلك جعل الأصوليون
من أحد شروط التواتر الاتفاق مع الحس والعقل ومجرى العادات
لاستبعاد روايات المعجزات لأنها لا ضرورة لها في التشريع.
١٨٤
وهناك معجزات طبية للرسول، انتقالًا من المعجزة إلى الطب
النبوي. فقد بصق الرسول في عيني علي فتبرأ حتى لا يتخلف عن
غزوة خيبر. ثم أعطاه الراية ليفتح الله على يديه الأرض، وأخرج
عبد الله بن أبي من قبره ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه. ففي
الثقافة الشعبية الشفاء من ريق الرسول وربما بعث الموتى، ومسح
الرسول رجلًا به وجع فضاعت الشكوى، ومسح على رأس الأخ ودعا له
بالبركة ثم توضأ وشرب الأخ الصحابي من وضوئه
١٨٥ وهناك بين المعجزات والطب النبوي التبرك بالرسول.
فقد وضعت الأم مولودًا في المدينة فأتت به الرسول فدعا بتمرة
ومضغها ثم تفل فيه فكان أول شيء دخل في جوفه ريق الرسول. ثم
حنكه بتمرة ودعا له وبرك عليه فكان أول مولود في الإسلام. فهل
يستطيع الرضيع أن يبلع تمرًا حتى ولو كان ممضوغًا بريق الرسول؟
بل إن الرسول كان يداوي نفسه ويبارك نفسه. فكان عندما ينام
يضطجع وينفث في يده ويقرأ بالمعوذات ويمسح بها جسده، وكان
الناس يفعلون نفس الشيء بالنسبة لنخام الرسول. إذ تذكر الرواية
«ما تنخم الرسول نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم يدلك بها وجهه وجلده».
١٨٦
والطب النبوي بين الطب العلمي والمعجزة مثل شرب أبوال الإبل
للصحة والسمنة، وشرب اللبن بعد مسح الضرع وإزالة ما عليه من
تراب وقش دون غليه، وشرب الرسول من ماء وضوئه ربما لندرة
المياه وتجنب الفاقد دون أخذ في الاعتبار المضمضة والاستنشاق،
وقد رمي قتلى بدر ومن بينهم أبو جهل وعتبة وأمية في البئر دون
رعاية لمياه الشرب، وطلب الرسول إخراج الفأرة من السمن وما
حولها وأكل الباقي
١٨٧ وهناك بعض وسائل العلاج أقرب إلى الوصفات الشعبية
وممارسات الطب التقليدي مثل الدواء بأبوال الإبل، وهو ما كان
متوافرًا من مواد عضوية في البيئة الصحراوية، وكذلك الشفاء
بحبة البركة والعود الهندي بها سبعة أشفية والتلبينة نوع من
الطبخة الشعبية شفاء للناس، وثلاثة فيها شفاء: شربة عسل، وشرطة
محجم، وكية نار، وقد أثبتت التجربة أن شربة عسل تزيد الإسهال
ولكن الرسول يصدق والبطن تكذب، وأحيانًا ينهى الرسول عن الكي،
ومن لا يكتوي يدخل الجنة بغير حساب، ربما لسبب طبي أو لدلالته
الدينية. فالنار عقاب للآخرة وليست علاج الدنيا بالرغم من
وسائل التعقيم بالغليان، والحمى من نار جهنم تشبيه أكثر منه
تشخيصًا أو علاجًا، وأحيانًا تتفق بعض المبادئ العامة مع الطب
العلمي مثل أن لكل داء دواءً، والطاعون وضرورة «الكرنتينة» حتى
لا تنتقل العدوى.
١٨٨ وهناك بعض وسائل العلاج أقرب إلى الطب النفسي منها
إلى الطب العلمي مثل أن الله يكفر عن آلام الشوكة، وأن علاج
الصرع إما بالصبر ثم الجنة أو الدعوة له بالشفاء، وقد أوصى
الرسول عائشة بالتكبير والتسبيح والحمد لكل منها ثلاثون مرة
عندما طلبت خادمًا تقوية لروحها المعنوية على أعباء المنزل.
المهم ألا يتمنى الإنسان الموت لضر أصابه، فالحياة أولى من الموت.
١٨٩
وأحيانًا يتجاوز الطب
النفسي إلى السحر والحسد، فعن عائشة أن النبي قد سُحر حتى
ليخيل إليه أنه صنع شيئًا ولم يصنعه، والنساء مولعات بالسحر
والتفسير الغيبي لظواهر الطبيعة، وهو أقرب إلى السهو وليس
سحرًا. بل ظنت عائشة أن هناك من عمل عملًا للرسول، مشط ومشاقة
وجف طلعة مدفونة في بئر، نخلها كأنها رءوس الشياطين. فلما
استخرجت شفي الرسول وردم البئر. فالعمل مطبوب كما طبه لبيد بن
درهم، وقد يكون علاج السحر كل يوم سبع ثمرات عجوة، وهو نفس
العلاج للسم، وسحر الكلام هو السحر المقبول «إن من البيان لسحرًا»
١٩٠ ويرتبط بالسحر الحسد والعين. فالعين حق عند الرسول
ولكن الحماية منها ليس بالوشم الذي نهى عنه. كما نهى عن الرقية
والطيرة والفأل والكهان والتعويذة، وكلها من عادات العرب وطرق
التعرف على المستقبل، ويمكن إماطة الأذى عن المولود بالعقيقة
وإهراق الدم، ومع ذلك يقال «الشؤم في ثلاث: المرأة والدار
والدابة»، وهي مقومات الحياة في الجاهلية.
١٩١
سابعًا: الواقع والمثال
بالرغم من التحول من نقد السند إلى نقد المتن قد يكشف بوضع
تاريخي الحديث وارتباطه بالبيئة العربية مع قدر كبير من الخيال
الإبداعي فإن سؤال الماهية يظل قائمًا: ماذا يبقى من الحديث
بعد إثبات تاريخيته؟ فالمعنى واضح بالرغم من اختلاف الصيغ،
والمعنى هو القصد وليس اللفظ، الماهية وليس الواقعة الحاملة
لها، والماهيات مستقلة عن الواقع في الظاهريات المعاصرة.
المعنى يقين واللفظ ظن. ما قد يضيع من استقلال المعنى عن اللفظ
هي جوامع الكلم والحديث باعتباره جزءًا من تاريخ الأدب
والأمثال العربية
١٩٢ وفي هذه الحالة إبداع المعاني باعتبارها ماهيات
مستقلة تعبر عن ماهية الحديث حتى ولو لم يكن واقعًا تاريخيًّا،
وهو السؤال المعروف عند المجددين المعاصرين عن روح الإسلام
التي تبقى بالرغم من كل شيء لأنها ليس في الزمن بل في الروح
والواقع والتاريخ، في الإنسان والطبيعة والمجتمع. التنوير الذي
يعتز به الغرب والذي أعجب به العلمانيون بعد نقله وترجمته منذ
القرن الماضي واعتبار الغرب نموذجًا للتحديث، وهو صاحب المعيار
المزدوج، فهو يطبق مثل التنوير داخل الغرب ويخرقها خارج الغرب
بناء على المركزية الأوروبية.
١٩٣
وتتجلى هذه الماهية في
النظر وتوجيه الشعور نحو البداهة. «الصلاة أمامك»، وقبل النظر
يأتي الشك. فالشك واجب على المسلم، وهو أساس النظر كما قال
المعتزلة: «نحن أحق بالشك من إبراهيم». كما قد يبدو النظر في
القياس كنظر منظم مثل قياس الحج بدلًا من الأم على قضاء الدين
عنها، وقد يأخذ القياس شكلًا تساؤليًّا تجريبيًّا حتى يستطيع
السائل أن يقيس بنفسه بناءً على تجربته الخاصة. فولادة ابن
أسود من أب أقل سوادًا مثل ولادة جمل أصفر من جمل أحمر فلعل
عرقًا نزع الحالتين، وقد يأخذ شكل استفهام بديهي مثل شرح
«ناقصات عقل ودين» بأن نقص العقل مثل شهادة المرأة نصف شهادة
الرجل، ونقص دينها مثل عدم صلاتها وهي حائض، وقد يأخذ شكلًا
حواريًّا مع الصحابة مثل الذي قاتل وجاهد وجعله الرسول من أهل
النار شدًّا للانتباه حتى ارتاب المسلمون فيما يسمعون. ثم أبان
لهم الرسول السبب أنه انتحر، وكان عمر بن الخطاب يحسن استعمال
هذا الجانب العقلي البديهي، يدرك عقله ما ينزل به الوحي حتى
لقد أدرك وفاة الرسول بعد نزول آية
إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ. لذلك قال عنه الرسول:
«إنه قد كان فيما مضى قبلكم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه
منهم فإنه عمر بن الخطاب». لذلك أيضًا كان العقل شرط التكليف،
وليس على المجنون أو الصبي حرج. لذلك حرمت الخمر بسبب السكر،
وهو ذهاب العقل. فالخمر ما خامر العقل، وأنواعها خمسة: العنب
والتمر والعسل والحنطة والشعير، ويجوز الشراب دون التخمير قبل
أن تظهر فيه الفقاقيع. فكل شراب مسكر فهو حرام كيفًا أو كمًّا،
ولم تكن باقي الأنواع معروفة مثل الأرز وغيره ولكن تعرف
قياسًا، وكانت الخادمة تنقع للرسول التمر، ورخص الرسول ذلك في
الأوعية والظروف بعد النهي. ثم نهى الأنصار عن الظروف ثم رضي
في الجر غير المزفت، وصرح بتخمير اللبن كي يصبح لبنًا زباديًّا.
١٩٤
وفي نفس الوقت الذي تقوم فيه الماهية على العقل والنظر تتجه
نحو والفاعلية والتأثير على العقل النظري ثم العقل العملي.
لذلك ارتبط الإيمان بالعمل. فلا يزني الزاني ولا يشرب الخمر
ولا يسرق وهو مؤمن، وهذا هو شرط الاستحقاق. فحق الله على
العباد عبادته، وحق العباد على الله ألَّا يعذبهم، ولم يحب
الرسول أن يبشر الناس بذلك حتى لا يتكلوا. إن الرجل ليعمل عمل
أهل الجنة أمام الناس وهو من أهل النار، والعكس صحيح أيضًا لأن
العمل الكامل الشامل الكلي هو المقياس، وليس عمل الجهاد ثم
الانتحار، والعمل يضم العمل اليدوي المنتج حتى ولو كان حمل حطب
على الظهر حتى لا يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وليس أفضل من
الطعام من عمل اليد، والعمل كلمة طيبة. فالكلمة تؤدي إلى النور
ويكون فيها العمل أبعد من المشرق، ومن هنا أتت كراهية السؤال
في موضوعات لا ينتج عنها أثر عملي، موضوعات نظرية خالصة أو
خاصة لا قيمة لها للناس أو إخبارية لا دلالة لها. «كره الله
قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، وكان الرسول يضيق من
كثرة السؤال ويكرهه ويغضب له مثل سؤاله عن أب أحد من الناس أو
راحلته، وهي المناسبة التي نزلت فيها آية
لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ، أو سؤال عن اللقطة وضالة الإبل أو الغنم،
السؤال المركب الذي لا يكتفي بمرة واحدة أي بالإلحاح في
السؤال. كما كره الرسول سؤال رجل إذا وجد امرأته مع رجل أيقتله
أم يأتي بشهداء أربعة. حينئذٍ نزلت آية الملاعنة للإجابة بدلًا
عن الرسول ورفع الحرج عنه، وأحيانًا يكون من الأفضل التوقف عن
الإجابة مثل السؤال عن الروح لأن الموضوع نظري خالص لا ينتج
عنه أثر عملي، ومثل السؤال عن الساعة والإجابة ليس بتحديد
الوقت بل بالاستعداد لها، والفعل يكون طبقًا للقدرة ودون حرج
أن يبايع الناس الرسول على السمع والطاعة فيما استطاعوا،
والاستطاعة لفظ اعتزالي، وشرط الفعل النية، «إنما الأعمال
بالنيات»، وليس المهم الشيء بل النية منه، صدقة أم هدية، وليس
المهم الشعائر بل التقوى، ويمكن للعمل أن يكون أحد مظاهر
الترابط الاجتماعي مثل الصلاة والصيام والحج نيابة عن الأقرباء.
١٩٥
والعقل النظري والعقل العملي كلاهما بعدان في الطبيعة
الإنسانية، فالطبيعة معطًى يجتمع فيه المثال والواقع، وتعني
الطبيعة أولًا الكون وقوانينه واستقرارها وثباتها واطرادها.
الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد أو لحياته
بالرغم من روايات أخرى ترى حدوث الكسوف والخسوف كآيات أو بناءً
على دعوات، وتعني الطبيعة أيضًا الأرض والماء والزرع والنماء،
وكان الرسول إذا رأى مخيلة في السماء تغير وجهه. فإذا سقط
المطر سُرِّي عنه وهو في بيئة صحراوية حياتها المطر. لذلك نشأت
صلاة الاستسقاء قبل الوحي واستمرت بعده. ولا يمنع فضل الماء
ليمنع فضل الكلأ، وتوضع جريدة خضراء على القبر للرحمة طالما هي
خضراء، والطبيعة لا فاقد فيها، والمسلم يؤجر على كل شيء ينفعه
إلا شيء يجعله في التراب، ويمكن الانتفاع بجلود الجيفة
وشحومها، وقد نهى الرسول عن كسر أفواه الأواني للشرب منها وليس
كما يفعل الأعراب في الصحراء لكسر الأنابيب للشرب منها حتى ولو
تسرب الماء إلى الرمال، وكان الرسول يحب الطعام وينهش اللحم
خاصة عضد الشاة وكتفها، وما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإن
عافه تركه، وقد احتز من كتف الشاة وأكل منها ولم يتوضأ، والجنس
مثل الطعام حاجة طبيعية. لذلك نهى عن اللواط والسحاق لأنهما ضد
الطبيعة البشرية، ولعن المخنثين والمسترجلات المتشبهين من
الرجال بالنساء والمتشبهات بالرجال من النساء، وكان يحب اللهو
كما يحبه الأنصار، وكان يسأل: «يا عائشة ما كان معكم لهو؟»
وكان الأطفال من أحب الناس إليه. فالطفولة براءة وفطرة، وكان
يستأذن من الغلام كي يسقي الشيوخ أولًا، ويمكن معرفة الطبيعة
بالتجربة. فعندما شك الزوجان في ولدهما قال الرسول: إن جاء
أحمر قصيرًا فقد صدقت وإن جاء أسود العين فقد صدق. طبقًا
لقانون الوراثة بالرغم من وجود رواية أخرى تجعل قانون الوراثة
يتجاوز الأنساب المتصلة الحلقات، والتعلم من التجربة «لا
يُلدَغ المؤمن من جحر مرتين»، والطبيعة وسطية تنأى عن التطرف
وتميل إلى الاعتدال. فإذا تصدق الإنسان بكثير قيل منافق،
وبالقليل قيل بخيل، وبتكرار التجربة يتربى عند الإنسان ذوق
طبيعي أو حسي بديهي بالحسن والقبح وهو حس شرعي نظرًا لاتفاق
الوحي والعقل والطبيعة، الشرع والبداهة ومصالح الناس. كان
الرسول لا يأكل الضب مع أنه غير محرم ولكن «لم يكن بأرض قومي
فأجدني أعافه». فالطعام عادات، ومن هنا جاء تحريم أكل الثوم في
المسجد، ولحوم الحُمر الأهلية يوم خيبر، ورخص في الخيل. ربما
لارتباط ذلك بالبيئة أو لأن الخيل لم يخمس أو لأنه يأكل
العذرة. فالرواية تجتهد في تقديم التعليل، وكذلك النهي عن
الاستنجاء بالبول شيء تأباه الفطرة، وهي الفطرة التي يولد كل
مولود عليها. الطبيعة والفطرة شيء واحد. فالحياء طبيعي، ولا
يأتي إلا بخير، خير من السؤال، ومكتوب في الحكمة «إن من الحياء
وقارًا وسكينة». فالنبوة تساوي الحكمة، يلتقيان في حياء الطبيعة.
١٩٦
ويتجلى التقاء العقل والعمل والطبيعة فيما عرف بواقعية الوحي
التي أبرزها «أسباب النزول». فالوحي ممكن الوقوع، والوقوع وحي
ممكن. الوحي واقع نازل والواقع وحي صاعد
١٩٧ لقد فُرضت الصلاة في حوار سماوي مع موسى من خمسين
إلى نصفها حتى وصلت إلى خمس صلوات، واستحيى الرسول الرجوع إلى
الله للتخفيف أكثر من ذلك. فالوحي يتكيف طبقًا لقدرات الواقع،
والواقع هو الذي يقبل الحد الأدنى لقدراته، والصلاة قصيرة، وقد
اعترض المسلمون على إطالة بعض الأئمة وحذرهم الرسول من ذلك،
وأوصى بالصلاة بالسور القصار: «يا أيها الناس إن منكم منفرين،
فمن أمَّ الناس فليتجوز فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة».
بل إن بكاء الطفل مدعاة لتقصير الصلاة. «إني لأقوم في الناس
أريد أن أطول فيها فاسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن
أشق على أمتي»، وتكون الصلاة في الظل وليس في الشمس، والعشاء
مقدم عليها، فالجوع لا ينتظر، والصلاة تنتظر، ويجوز النحر قبل
الصلاة لإطعام العيال حتى ولو كان ذلك حكمة خاصة يتعارض مع
الحكم العام، النحر بعد الصلاة، وقد احتج علي وفاطمة عندما
أيقظهما الرسول ليلًا للصلاة، وكان الرسول يصلي بعد أن يغفو
دون وضوء، والسؤال مندوب، ولولا أن يشق الرسول على أمته لأمرهم
بالسواك عند كل صلاة، وقد ترك الرسول الأعرابي الذي يبول في
المسجد وصب على بوله ماءً
١٩٨ وقد حرم الرسول مواصلة الليل بالنهار في الصلاة
والصوم، فلا رهبانية في الإسلام بل ابتدعها النصارى دون أن
يكتبها الله عليهم، والرسول نفسه يصوم ويفطر، يقوم ويقعد، ولا
يقوم كل الليل أو يصوم كل الدهر، فللعين والجسد حق النوم،
وكذلك للزوجين حقوقهما. كما حرم الصوم يوم الأضحى لأنه يوم
عيد، وقد أراد أحد الناس الصمت والجلوس في الحر وأن يقوم الليل
ويصوم الدهر فأمره الرسول بأن يتكلم ويستظل ويقعد ويفطر، وفي
حالة السفر الإفطار رخصة. كما طلب أحد الناس الحج على راحلة،
واستجاب الوحي بناءً على طلب الواقع، والصدقة ببعض المال وليس
بكله، وقد رفض الرسول التصدق بالمال كله، ولم يقبل النصف أو
الثلث فهو كثير، وإن ترك الأبناء أغنياء خير من تركهم فقراء،
وما خير الرسول بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
فالدين ليس تكلفًا ولا مزايدة ولا مشقة مفروضة على النفس «إنما
بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»، «يسِّروا ولا تعسِّروا،
وبشِّروا ولا تنفِّروا»، ولا حرج في الدين، وقد أتت الشريعة
لرفع الحرج، وهو لفظ قرآني، وقد رفع الرسول الحرج في مناسك
الحج ونظام الشعائر. الحلق قبل الذبح، والنحر قبل الرمي، وكثير
من أحاديثه في صيغة «افعل ولا حرج» مثل «اذبح ولا حرج»، «ارمِ
ولا حرج»، ويستند الرسول أيضًا إلى أصل قرآني
لَيْسَ عَلَى الذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا بعد تحريم
الخمر دون أثر رجعي.
١٩٩ كما لم يشأ الرسول أن يشق على الأمة «لولا أن أشق
على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة». فالأعمال تتم طبقًا
للقدرة والاستطاعة دون تعجيز، ومقياس القدرة ما يتم بالفعل،
ولم يطلب الرسول شيئًا أكثر مما في مقدور الإنسان «فإنه لم
يخفَ عليَّ مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها»،
وقد طلب الرسول حل الحبل من الرأس الذي ربطه أحد المسلمين
ليوقظه إذا مالت الرأس «ليصل أحدكم نشاطه فإذا آخر فليقعد».
فالأعمال طبقًا للطاقة، «عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله
لا يمل حتى تملوا»، «خذوا من الأعمال ما تطيقون»، ورفض تعذيب
النفس بالمشي كما هو الحال في اليوجا والبوذية، والقليل الدائم
أفضل من الكثير المنقطع حتى لا يقع الإنسان في الملل، ويستند
الرسول إلى أصل قرآني آخر
الْآنَ خَفَّفَ
اللهُ عَنْكُمْ، ولما نزلت آية
لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ اعترض المسلمون فخُفف
الذينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ، وقد سمى الأصوليون ذلك الرخص، وهو لفظ
قرآني، التيمم في حالة غياب الماء، وقد رخص الرسول في الحديث
للزبير وعبد الرحمن لبس الحرير لحكة بهما، ولم يمنع الرسول
النواح على الميت من النساء اعترافًا بالواقع الإنساني
والطبيعة البشرية، ولما حرم الصيد في مكة اعترض البعض «إلا
الأذخر» فهو في كل بيت، فوافق الرسول رعاية للمصلحة العامة،
ولما حزن الأشعريون من عدم وجود شيء يحملهم الرسول عليه للقتال
استدعاهم ليوفر لهم ما طلبوا ما دامت القدرة الإنسانية
متوافرة. فالرسول يأخذ اعتراضات الناس في الاعتبار للتخفيف أو
لطلب المزيد. فعندما صرح بأن أي امرأة لها ثلاثة أولاد لها
الجنة تساءلت امرأة: واثنان فوافق، ولما دعا «اللهم ارحم
المحلقين» وطلب منه مرتين «والمقصرين» استجاب لطلب الواقع.
٢٠٠
ومن متطلبات الواقعية التدرج في الفعل من أجل تحقيقه والتعود
عليه، وقد يكون ذلك وسيلة للتربية نظرًا للطبيعة العملية في
التشريع أو طريقة للإقناع من إبداع الراوي، وقد يكون الأمران
معًا، ويعني التدرج أيضًا درجات التفضيل إجابة على سؤال أيهما
أفضل، والتدرج يعني أيضًا الخطوة خطوة من أجل التعود بداية من
الأقل إلى الأكثر، ومن الأخف إلى الأثقل صعودًا من الواقع إلى
المثال، وهو الغالب أو من الأكثر إلى الأقل ومن الأثقل إلى
الأخف نزولًا من المثال إلى الواقع كما هو الحال في النسخ،
والمثال المشهور على النوع الأول هو علاقة الحج بباقي أركان
الإسلام من حيث الأولوية مما أثار نقاشًا واسعًا في الفكر
الإسلامي المعاصر في مواجهة الاستعمار الحديث. فالإيمان ثم
الجهاد ثم الحج، وأفضل الجهاد الحج يجعل الجهاد متأخرًا بعد
الإيمان، ويجعل أفضل الجهاد الحج وكأن مقاومة الاستعمار ليست
بأفضل الجهاد. «أفضل الجهاد حج مبرور»، ويكرر نفس الحديث
بصياغات مختلفة تجعل أفضل العمل الإيمان ثم الحج، وتجعل الحج
في المرتبة الثانية بعد الإيمان. هناك مراتب للجهاد، الصلاة
فبر الوالدين. فالجهاد في سبيل الله في المرتبة الثالثة في عصر
مقاومة الاستعمار، وجهاد النساء الحج وكأن النساء لم يداوين
الجرحى ولم يساعدن الجند، وجعل الجهاد الأصغر جهاد العدو،
والأكبر جهاد النفس، فالجهاد أولًا بالنفس والمال يقلل من شأن
مقاومة الاحتلال، وربما يقع الخلط في ترتيب الراوي من غير قصد
أو في تأخيره جهاد الظالمين والمعتدين في الداخل والخارج عن
عمد. والصدقة إلى الأقرب بابًا. فإن لم توجد فكل معروف صدقة.
الأمر بالمعروف والإمساك عن الشر والكلمة الطيبة كلها صدقة،
تدرجًا من الأعلى إلى الأدنى، مما ينبغي أن يكون إلى ما هو
كائن، وكذلك الكبائر تتدرج من أكبرها إلى أصغرها، من الشرك إلى
قتل الولد إلى الزنا بخليلة الجار، وفي الروايات الأخرى من
الشرك إلى عقوق الوالدين إلى اليمين المغموس، وفي رواية ثالثة
من الشرك إلى قتل النفس إلى عقوق الوالدين إلى قول الزور،
وربما قال الرسول كل ذلك. الصياغات مختلفة والقصد واحد، وقد
يعبر عن التدرج بالتشبيه عن الأكمل فالأقل كمالًا. فالغسل يوم
الجمعة كمن قدَّم قربانًا بدنة، وحتى الساعة الثانية بقرة،
وحتى الثالثة كبشًا، وحتى الرابعة دجاجة، وحتى الخامسة بيضة،
والقرآن مثل الأترجة ريح طيب وطعم طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ
القرآن كالثمرة لا ريح لها وطعم حلو، والمنافق الذي يقرأ
القرآن كالريحانة ريح طيب وطعم مر، والمنافق الذي لا يقرأ
القرآن كالحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر، وقد يكون التدرج
بالصورة وطبقًا للطلب؛ إذ تُنجَّى الأهل من النار بثلاثة أولاد
ثم باثنين حسب طلب امرأة لها ولدان.
٢٠١ وقد يكون التدرج صعودًا إلى أعلى أو تقدُّمًا إلى
الأمام بعد التعوُّد، خطوة خطوة، فالصوم ثلاثة أيام فإن استطاع
أكثر فخمسة فسبعة فتسعة فأحد عشر ثم صوم نصف الدهر وهو صوم
داود. كما تتم دعوة أهل الكتاب تدريجيًّا إلى الصلاة. فإن
أطاعوا فإلى الصدقة، وفي رواية أخرى يبدأ التدرج بالشهادة،
والمسلمون ربع الجنة. فلما اعترض المسلمون أصبحوا ثلثها، ولما
اعترضوا ثانية أصبحوا نصفها، وقد يكون التدرج على نفس المستوى
إنما هي الأولية فقط. فأحق الناس بالصحبة الأم ثم الأم ثم الأم
ثم الأب.
٢٠٢
وتأتي رعاية الجسد ونظافته وحسن التعالم معه من جوانب
الواقعية. فليس كل الطب النبوي خيالًا بل البعض منه ما يسانده
في الواقع مثل عدم الأكل متكئًا صحة أم أدبًا، وعدم التنفس في
الإناء ساعة الشرب، وعدم مسح الذكر باليمنى أو الاستنجاء، وهو
ما يتفق مع الفطرة والطبيعة، ولا يحتاج إلى أمر ونهي، والفطرة
في خمس، الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص
الشارب مخالفة للمشركين الذين كانوا يقصون اللحى ويطيلون
الشوارب، وكان الرسول في الدعاء يرفع يديه فينظر الناس إلى
عفرة إبطيه، ويكون السؤال الآن: كيف يتم التمايز عنهم الآن؟
وكان الرسول يصبغ لأن اليهود والنصارى لا يصبغون، والآن
الصباغة في الثقافة الشعبية عيب، واللباس دون خيلاء ضد عادات
المعاصرين في الأناقة والمباراة في «الشياكة» حتى يصبح أحد
الرؤساء «أشيك رجل في العالم»، وكان الرسول يحب الحلة الحمراء،
وقد يكون ذوقًا خاصًّا وليس سنة عامة، والغطاء إلى الكعبين،
وما أسفل الكعبين في الإزار في النار، ولباس الحلة لاستقبال
الوفود، والطامة للرسول. أما عمر فلم يلبسها بل ليكسو بها
أحدًا أو لبيعها، ورفض الرسول لبس الخاتم ذهبًا أو فضة حتى بعد
أن نقش عليه اسمه لمراسلة الملوك أسوة بعادة القوم، ورفض
الصحابة خواتم من ورِق ثم نقضها اتباعًا للشرع العام، والجسد
له احترامه في الموت دون تمثيل، فقأ العين أو كسر السن،
حيوانًا كان أم إنسانًا ممَّا يحرم إلقاء النابلم لحرق
الأجساد، ويتضح من هذه الأحاديث ثقافة البدن وعلاقاته بالطعام
والشراب والصحة والدواء، واللباس والنظافة والعلاقات مع الآخرين.
٢٠٣
وإذا كان البدن أحد مظاهر الواقعية فإن النفس أحد مواطن
التقاء المثال والواقع. فالنفس إحساس داخلي بالزمان، والإنسان
في الصلاة طالما انتظر الصلاة. يتم الفعل في الزمان، الصوم
والصلاة والزكاة والحج في أوقات معلومة، والشهادة في كل وقت،
والطلاق والزواج والعدة والأشهر الحرم والبيوع والصدقات في
زمان. لذلك كثرت ألفاظ الزمان في القرآن: الساعة، اليوم،
الشهر، السنة، الدهر، الحين … إلخ، وهو الزمان النفسي
الاجتماعي. السفر والحرب يوم الخميس والخروج آخر الشهر، وهو ما
قد لا يتفق مع الاستعمال المعاصر للزمن، وقد يصبح الزمان كمًّا
فأحب الأعمال أدومها، والساعة لا تحدد بزمن موضوعي بل بزمن
ذاتي، أن يعيش الطفل ولا يدركه الهرم تقوم الساعة، والزمان
الكوني استعمال للوقت للمنفعة العامة في عدة الشهور. فقد
استدار الزمان يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر
شهرًا، أربعة حُرُم، وتشير الروايات إلى حديث النفس وعالم
النفس أو العالم الشعوري، فقد تجاوز الله لهذه الأمة عن وسوسة
الصدور ما لم تعلم أو تتكلم. ذلك فالقرآن والحديث مملوءان
بتحليلات الشعور والأزمان النفسية لعائشة وأم موسى ومريم
وإبراهيم ونوح وعيسى. فالقرآن في الصدور والحرج أيضًا في
الصدور، والرسول يحادث نفسه «قلت فيما بيني وبين نفسي»، وفي
أزمة نفسية نذرت عائشة ألا تكلم الزبير ثم كلمته لأنه لا يجوز
الخصام أكثر من ثلاث ليال، والنفس مملوءة بالدوافع والرغبات
والانفعالات التي يصفها القرآن والحديث. لم يشأ استمرار أبي
بكر في إقامة الصلاة بعد أن خرج النبي احترامًا للنبي، و«شر
الناس ذو الوجهين» درءًا للمنافق، ولكل انفعال فعل: صلاة
الاستسقاء خوفًا من الجفاف، وصلاة الشكر خوفًا من الجحود،
والغيرة في النساء، وينصرن بعضهن بعضًا. هكذا فسرت أما عائشة
فلها الدافع على حديث الإفك «لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند
رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها»، وصعوبة دفاع البريء
المتهم عن نفسه جعل عائشة تصبر «فصبر جميل والله المستعان»،
وكانت عائشة تغار من المرأة التي تهب نفسها إلى الرسول حتى
قالت: «ما أرى ربك ألا يسارع في هواك» بعد نزول آية
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي
إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ، والخجل من النفس انفعال تكشف
عنه قصة الثلاثة المخلفين، وطلب العفو ضد الانتقام انفعال
بشري، فكثير من الأحاديث تصف انفعالات النفس: الغيرة والحسد،
والتنافس، والعشق مثل غيرة سعد، وغيرة الزبير، وغيرة النساء،
ومن طالب بضرب عنق الإفك احتملته الحمية.
٢٠٤
وحياة الشعور حياة حرة، ويخصص البخاري كتابًا بأكمله في
صحيحه باسم «كتاب الإكراه»، واحترام حرية الإنسان تنهى عن جر
إنسان إنسانًا آخر من أنفه كصورة مجانية عن الحرية، ويعني
الحديث «الولاء لمن أعتق» أن الدين للحرية ولمن أعطى صك
التحرر، وللعبد المملوك الصالح أجران، ولولا الجهاد في سبيل
الله والحج وبر الأم لأحب الرسول أن يموت مملوكًا تضامنًا
العبيد، والحرية تجعل الفعل على التخيير. الغسل ثلاثًا أو
خمسًا، بل والدفن مواراة في التراب أو حرقًا ثم نثر الرماد في
اليم خشية من الله كصورة فنية على التقوى، والمندوب والمكروه
فعلان شرعيان على التخيير كما قال الرسول «إلا أن تطوع»،
والتخيير بين أفعال كلها حسنة مثل الصوم والصلاة والجهاد
والعتق ودعوة الناس.
٢٠٥
وصورة المرأة في الحديث صورة فريدة ومتميزة على المستوى
العام أو على المستوى الخاص في حياة الرسول. فهي المرأة للرجل
والمرأة لنفسها والأم والأخت وفي حياة الرسول والحبيبة، ولا
حرج في الحديث كما هو في القرآن في تناول موضوع الجنس في صورة
جنسية بلاغية أدبية. فهو موضوع شرعي مثل باقي الموضوعات
الشرعية حتى ولو كانت الألفاظ قديمة مثل الهُدبة والهنة، وما
زال الحديث فيها مفهومًا مثل العسيلة والترجيل والتفخيذ. فقد
تزوجت امرأة مرة ثانية وتريد العودة إلى الأول لأن الثاني «لم
يكن معه إلا مثل الهُدبة، ولم يقرب منها إلا هُنة واحدة لم يصل
منها إلى شيء».
٢٠٦
والمرأة متعة جنسية
للرجل. يحتاجها ولا يستغني عنها. فبعد أن حلف الرسول أنه لن
يقرب نساءه إلا بعد شهر نزل إليهن بعد تسعة وعشرين يومًا وليس
ثلاثين كما ذكرته عائشة لأن الشهر العربي كذلك، وكان الرجل
يبني بامرأته قبل المعركة. فالحب قبل الموت أحيانًا، واقترح
البعض الاختصار في الحرب لغيبة النساء، ويصل إلى حد الحاجة إلى
المرأة بعد ترجيل الحائض كما كان يفعل الرسول حين يضع رأسه على
عائشة وهي حائض دون أي اعتبار حسي آخر
٢٠٧ وقد بنى رجل على أهله في رمضان وليس لديه رقبة
ليعتقها ولا يستطيع صوم شهرين ولا إطعام ستين مسكينًا. فأعطاه
الرسول ما يتصدق به فتصدق به على أهله لأنهم أكثر احتياجًا.
فضحك الرسول وكان متسامحًا، وطلب أحدهم الزواج ممن عرضت نفسها
على الرسول واتضح أنه غير راغب فيها ولم يكن لديه مهر أو خاتم
من حديد، فإزاره صغير ولا يكفي اثنين، وكان مهره ما معه من
القرآن، ويتساوى في الحاجة إلى النكاح كل الناس. الغني
والفقير، بصرف النظر عن طبقته. ففقير المسلمين ينكح ويشفع
ويستمتع فهو ملء الأرض.
٢٠٨
وبالرغم من أن المرأة
متعة جنسية للرجل فإن الرجل أيضًا متعة جنسية لها، وكما أن
للرجل حق المتعة فإن للمرأة أيضًا حق المتعة. كانت المرأة تعرض
نفسها على الرسول وتخطو أمامه ليرى قوامها ويرى محاسنها حتى
نزلت آية
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ
مِنْهُنَّ مما دفع عائشة إلى الغيرة وقولها معاتبة «ما
أرى ربك إلا يسارع في هواك»، وتوقف الرسول عن قبول عروض النساء
بعد أن عرضت أم سلمة ابنتها عليه وكانت ابنة أخيه في الرضاعة
ولا يتزوج إلا برضاها، وقد خير القرآن زوجات الرسول رغبة أو
إحراجًا. الأيم تستأمر، والبكر تستأذن، وصمت البكر رضاها حياءً
وقد سمح الرسول لامرأة بأن تتزوج وهي حبلى بعد أن أبت «انكحي»
بعد الوضع أو السقط. فالزواج حق المرأة، ومن حقها إذا ما طلقها
زوجها ثلاث مرات وزهد فيها ألا تعود إليه إلا بعد أن تتزوج
آخر. ليس شفاهًا كما هو الحال في عادة المحلل بل فعلًا حتى
يذوق بالطلاق ثانية أو أن تستمتع بالثاني، فالجديد مرغوب فيه
أكثر من القديم، وقد يتعلم الأول بعد ذلك ألا يرمي يمين الطلاق
ويتسرع فيه أكثر من مرة، ومن حق المرأة حياتها الخاصة. فإذا
تأخر الزوج فلا يطرق بيته ليلًا لئلا يزعجها، ولا يعاشرها إلا
برضاها. فقد دخل الرسول على ابنة الجون فاستعاذت بالله منه
فألحقها بأهلها لأنها اعتاذت بعظيم. ربما خافت السيد وهي
السبية، ولا يجوز طلاق المجنون والسكران والمستكره، وقد أراد
الرسول التشفع لدى امرأة أن تعود إلى زوجها لأنه يحبها ولكنها
لا تحبه دون أن يأمرها فرفضت لأن الرسول لا يستطيع أن يأمر
فيما لا يملك، والمرأة ليست سلعة. لذلك نهى الرسول عن الشغار
وهو تبادل الأولياء النساء واحدة بواحدة، ولا تُجلد المرأة ولا
تُضرب ثم يجامعها الرجل آخر النهار. فالحب يقتضي حسن المعاملة،
وهي الأم يلحق الولد بها، «حنان الأم رحمة وضعها الله فيها»،
وهي الأخت، فلا تطلق الأخت أختها لتتزوج زوجها.
٢٠٩
والمرأة لها مكانة
مركزية في حياة الرسول بين التسامح والتشدد. بل إن القرآن كان
مع التسامح معهن. فعندما شرب الرسول عسلًا وفاحت رائحته وكان
قد أسر بذلك إلى عائشة وحفصة فأذاعا السر وغضب الرسول فنزلت
آية
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ
تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ، واليقظة في الصلاة
أثناء الليل تساعد على اليقظة في الجنس، وكان يحتبس عند حفصة
أكثر مما كان يحتبس عند باقي نسائه باستثناء عائشة، وهما ابنتا
صاحبيه عمر وأبي بكر، وقد جعل ذلك حفصة وعائشة في حزب واحد ضد
باقي نسائه بما فيهن زينب بنت جحش، وقد تزوج النبي ميمونة وهو
محرم وبنى بها. تزوجها في عمرة القضاء، وما لمست يد الرسول
امرأة قط إلا كان يملكها
٢١٠ وكانت لعائشة الأولوية المطلقة على باقي نسائه،
فهي مركز المركز، وصورة عائشة في الحديث هي صورة الأنثى
والحبيبة والزوجة والطفلة والابنة والعالمة والسياسية. تحفظ
القرآن وتحسن استعماله كما استعملت الآية على لسان يوسف
انتظارًا لتبرئتها
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وقد رآها الرسول قبل أن
يتزوجها مرتين، الأولى يحملها الملَك في سَرَقة من حرير فلما
أمر الرسول بكشفها كانت عائشة فقبلها إن كانت من الله،
والثانية في نفس الملابسات، وكانت تفخر على ضرائرها بأن الله
زوَّجها في السماء في حين أن أهليهن زوَّجهن في الأرض، وهو
معروف في تجارب الحب عندما يشعر المحب أنه رأى حبيبته منذ قديم
الأزل، وكان يقسم ليلته على نسائه إلا عائشة. كان يدور عليهن
في ليلة واحدة وتحته تسع نسوة، وقد تكون مبالغة لأنه عمليًّا
يصعب ذلك. إذا كان يبدأ بعد العصر. فإذا استمر بعد المغرب،
وبعد العشاء وفي منتصف الليل، وقبل الفجر فإن ذلك لا يكفي،
وربما كان يجلس دون معاشرة للأنس، وفي رأي الطب أن ذلك مضر
كيماويًّا، وعند العامة أن هذه صورة بلاغية مستقاة من البيئة
الصحراوية. الديك مع الدجاج، والجدي مع الماعز، وربما أيد
الصور المبالغة هذه ما قيل من أن الرسول قد أوتي قوة أربعين
رجلًا، وفي مرضه الأخير كان يريد أن يقضي آخر ليلة له عند
عائشة، وكان يسأل باستمرار: «أين أنا غدًا؟» وانتقل إلى الرفيق
الأعلى وهو عند عائشة، وقد جمع الله بين ريقه وريق عائشة في
موته، وكانت عائشة على علم بميزتها على سائر نساء الرسول. فقد
كانت هي البكر الوحيدة، وكانت باقي نسائه ثيبات، وكانت تشبه
نفسها بالشجر الذي لم يرتع فيه البعير من قبل، وهو أحلى من
المستخدم ويوافقها الرسول والرسول يفضل البكر على الثيب له
ولأمته. يقيم الرجل عند البكر أسبوعًا وعند الثيب ثلاثًا،
وينصح بالجارية البكر «تلاعبها وتلاعبك» بعد أن تزوج رجل ثيبًا
كي ترعى إخوته الصغار، وقد أعجب الرسول حسنها، وقد رخص الرسول
بعمرة بعد أن اعترضت «أتنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحجة؟»
٢١١ لم تلد عائشة، ولو كان لها ولد لكانت مشكلة سياسية
في الصراع على السلطة بعد وفاة الرسول، ويظل السؤال: هل عدم
نكاحه أزواجه من بعده قسوة عليهن خاصة عائشة أم احترام لذكرى
الرسول أم رضا منهن؟
وأخيرًا يبدو أن جوهر الإسلام كما يبدو من الحديث هو
الأخلاق، وأن الأخلاق أساس الدين «إن من خياركم أحسنكم
أخلاقًا». بعض الأحاديث تشير إلى عادات وأعراف وتقاليد، والبعض
الآخر يكشف عن فطرة ثابتة وحقائق عامة عند كل الشعوب، وهي
أخلاق تقوم على احترام الحياة، وأن الحياة قيمة في ذاتها، ومِن
ثَم تحريم القتل وإراقة الدماء. فأول ما يُقضى بين الناس
بالدماء. بل إن التدريب على القتال لا يكون بالسلاح الحي خطر
الموت، ومِن ثَم حرَّم الانتحار لعدم الصبر على الآلام حتى ولو
كان من المجاهدين في سبيل الله، والقاتل والمقتول كلاهما في
النار، والنفس بالنفس. كذلك حرم قتل النساء والأطفال والشيوخ
وكل من لم يحمل السلاح، وقد حاول يهودي حماية المرأة من القتل
رجمًا إحساسًا منه بالحياة، ويحرم قتل كل من قال «لا إله إلا
الله» حتى لو قالها تعوُّذًا. فلم يشق أحد على قلوب الناس،
وتبرأ الرسول مما فعل خالد، ولم يعاقب الرسول المشرك الذي أخذ
سيفه وهو نائم وهو يسأل: من يمنعك مني؟ والعزل لا يمنع الكائن
الحي من أن يولد، والحياة قيمة في حد ذاتها بصرف النظر عن
الدين والإيمان. فقد صلى الرسول على المنافقين وأوَّل
الاستغفار سبعين مرة بأنه سيستغفر أكثر حتى بعد نزول الوحي
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ
مَاتَ أَبَدًا، وكان يصلي على جنازة يهودي، والحياة
والوجود شيء واحد. فقد قبل الرسول إبراهيم وشمه قبل أن يواريه
التراب ويعلن حزنه على فراقه.
٢١٢
وتظهر الأخلاق في حياة الفرد والجماعة بداية بالسكينة
الداخلية والاطمئنان في الصلاة دون أن تتحول إلى شعائر أو مجرد
حركات سريعة لأداء الواجب أو التظاهر، وكذلك عدم رفع الصوت
أثناء الصلاة منعًا للمزايدة، وأفضلية الصلاة في البيت منعًا
للمشاهدة والإعلان. وهي أخلاق البراءة، أخلاق الطفولة، وكان
الأطفال أحب الناس إلى الرسول، ويظهر الصبر باعتباره فضيلة
أولى صبر الأم وابنها يجود بنفسه احتسابًا للأجل عند الله.
«اتقي الله واصبري»، قالها الرسول لمن كانت تبكي على القبر. ثم
تأتي قيمة الصدق الذي يؤدي إلى البر فالجنة في مقابل الكذب
الذي يؤدي إلى الفجور فالنار، وبتكرار الكذب يتحول إلى عادة
فيكتب عند الله كذابًا، واحترام الطبيعة ورفض الفاقد اعتراف
بالنعم. فالشيء للاستعمال الإنساني، والإنسان يعيش في عالم من
المعاني. فقد منع الرسول الشرب من بئر تبوك، وإراقة الدماء،
وطرح العجين فيه.
٢١٣
ثم تتحول الأخلاق الفردية تدريجيًّا إلى أخلاق اجتماعية.
بدءًا بتحريم الشرك، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وكلها
تتعلق بالآخر كقيمة، الآخر المطلق أو الآخر الفردي، فالبر
بالوالدين يعادل التوحيد بالله، والجهاد فيهما لا يقل عن
الجهاد في سبيل الله، وتتعدد الحكايات للتعبير عن هذه القيمة
في صورة شيخين كبيرين، ويتم التركيز على عدم «عقوق الأمهات،
ومنعًا وهاتِ، ووأد البنات»، وهي صلة الرحم، والحنان الطبيعي
في البشر خاصة في الأم، وحنان الأم بولدها مثل حنان الله
لعباده. لا فرق في ذلك بين الإنسان والحيوان والله، وتركز
صياغة على قول الزور وتكررها ثلاث مرات وكان الموضوع تجربة حية
عند الرسول، وقد أعطى عمر كسوة فأرسلها إلى أخيه المشرك بمكة.
فجوهر العلاقة الاجتماعية القرابة وليس الدين.
٢١٤
وقد تعني الأخلاق الأدب بالمعنى الواسع، الأدب مع النفس
الآخرين، وقد خصص البخاري في صحيحه عدة كتب من هذا النوع مثل
«كتاب الاستئذان» و«كتاب الأدب» بمعنى الآداب الاجتماعية،
والاستئذان من أجل غض البصر، وهو سياق نزول آية الحجاب. هتك
العرض معاشرة بلا استئذان كما هو الحال في رواية من استحلفته
ألا يفض الخاتم إلا بحقه.
٢١٥ ومن وسائل الترابط الاجتماعي والتعارف تشميت
العاطس. فالتثاؤب مرذول وتشميت العاطس مقبول. فالأول يدل على
الكسل والثاني يدل على اليقظة، وكلاهما فعلان للجسم، وكذلك
الإفساح في المجالس وعدم تصدرها، ومن طلب الشرب يكون في آخر
الشاربين، وقد أخذ الرسول رأي الأطفال في إعطاء الشيوخ الشرب
قبلهم، ولقد وصى الرسول بالجار وكأنه سيورثه، وشرار الناس يوم
القيامة من تركه الناس اتقاء شره، وهو قول الرسول «بئس أخو
العشيرة» أو «بئس ابن العشيرة»، وكان الرسول يدلل أصحابه
وأزواجه تحببًا إليهم واستئناسًا مثل: يا أبا هر، يا عائش،
ويناديهم بالكنية مثل «يا أبا تراب، يا أنجش، يا أبا عمير».
٢١٦
ومن وسائل الترابط الاجتماعي الطعام المشترك وإقرار السلام
على من يعرف ومن لا يعرف، وعدم السماح بالهجرة للأخ أكثر من
ثلاث ليالٍ، وخيرهم من يبدأ بالسلام، وطعام الاثنين كافٍ
لثلاثة، والثلاثة لأربعة، وكان الرسول يدعو أربعة فيأتي خمسة،
وما يسري على الطعام يسري على اللباس. فقد طلب أعرابي رداء
الرسول فأعطاه فاحتفظ بها لكفنه حتى يعيش فيها إلى الأبد،
والمكثرون المقلون كما قال المسيح الآخرون هم الأولون طبقًا
للتعبيرات السامية، وكان اليهود يقولون للرسول «السام عليكم»
ويرد «وعليكم»، حفاظًا على السلام، وردًّا للإهانة بالإهانة،
والهدف إخراج الأنا إلى الآخر. فقد حذر الرسول من قول: «أنا،
أنا»، ومن عدم النجوى بين اثنين وهم ثلاثة، وهذا لا يمنع من
التوحد والفردية «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»
٢١٧ ويرتبط الناس فيما بينهم بالعروة الوثقى، وهو لفظ
قرآني. ثم استعمل ذلك سياسيًّا بضرورة لزوم الجماعة والصبر على
ما يكرهه الإنسان من الأمير. «من خرج على السلطان مات ميتة
الجاهلية»، مما جعل الشيعة يروون «من مات ولم يعرف إمام زمانه
مات ميتة الجاهلية»، واحدة بواحدة. السلطة تحرم الخروج عليها
بالسلاح «من حمل علينا السلاح فليس منا»، «من فارق الجماعة مات
ميتة الجاهلية»، والمعارضة تعصي السلطة. السلطة تطلب الطاعة
المطلقة للأمير بصرف النظر عن الأمير بل الطاعة في حد ذاتها
«السمع والطاعة وإن استعمل عبد حبشي كأن رأسه زبيبة»، وتجعل
طاعة الأمير من طاعة الله «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني
فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد
عصاني»، ويصل الأمر إلى إباحة قتل المارق من الدين تارك
الجماعة أي الخارج على السلطان وكأن الخروج على السلطان خروج
على الدين، وقليل من الأحاديث تجعل لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق مثل «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما
لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» أو «لا
طاعة في معصية، إنما الطاعة في معروف».
٢١٨
والأمة وحدة سياسية واقتصادية وقانونية بالإضافة إلى كونها
كيانًا اجتماعيَّا أخلاقيًّا، والنبي قائد الأمة مثل راعي
الأغنام وهو تشبيه الرسول، والإمام في الأمة هو المسئول عن
الجماعة كالرجل في الأسرة، والمرأة في البيت، والرسول أولى
بالمؤمنين من أنفسهم. فمن توفي من المؤمنين وترك دينًا فعلى
الرسول قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته. الأمة تقضي الدين،
والمال يرثه الأهل. فالإمارة مسئولية. لذلك لا تطلب، «لا نولي
من سأله ولا من حرص عليه»، وبطانتها مفسدة. فكل نبي له
بطانتان. الأولى تأمره بالمعروف، والثانية تأمره بالشر. لا
يجوز مدح الأمير، ولا يجوز للأمير تقبل الهدايا لأنها للمنصب
وليست للشخص.
٢١٩ مهمة الإمام تحقيق العدل، والقاضي لا يتأثر ببلاغة
الخصم، وإذا حكم ظلمًا فكأنما مقتطع للظالم قطعة من نار،
وتتصدر آية الميراث «كتاب الفرائض»، وهي آية مركزة للغاية،
كمية تشريعية دون تعليل إلا مقياس المصلحة والضرر. كلها
احتمالات قد توجد في الواقع وقد لا توجد. لذلك كثر تكرار حرف
الشرط منها «إن»، وتقوم على نظام القرابة العربي القديم، وهو
متشعب ومختلف عليه بين القبائل، وهي وصية وليست أمرًا، وتعطي
الأولوية للوصية والدين قبل الميراث أي على إرادة الموروث
الحرة وعلى حق الآخرين في ماله، وقد اختلف المفسرون والفقهاء
على نسب التوزيع: النصف فالثلث فالثلثان فالربع فالسدس فالثمن،
أم النصف فالربع فالسدس فالثمن فالثلثان، صعودًا أم هبوطًا،
وليس للأنبياء ميراث لأنهم نموذج ميراث النبوة وليس الأشياء،
الحكمة وليس المال. الأثر بالفعال وليس بالثروة، وبها ممارسات
متعددة في الروايات، وقد تأثرت فاطمة من أبي بكر وعمر والصحابة
لحرمانها من إرث فدك لعدم الوضوح والاختلاف عليه، والوحي يتدخل
ليجيب أحيانًا على ما غمض
يَسْتَفْتُونَكَ
قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ.
٢٢٠
والأمة هي أمة الفقراء والمستضعفين وليست أمة الأغنياء
والمستكبرين. فأهل الجنة المستضعفون وأهل النار المستكبرون،
وأكثر أهل الجنة من الفقراء، والأخسرون هم الأكثر أموالًا،
والمال للاستعمال، ولو كان للرسول مثل جبل أحد ذهب لأنفقه في
ثلاث ليال، والنذر لا يرد منه شيء ولكن يستخرج من البخيل
لتعويده على الإنفاق، وقد وقع رجل مغشيًّا عليه ليس من الجنون
بل من الجوع، ولبس الحرير وشرب الخمر وسماع المعازف وفي نفس
الوقت نهر الفقراء يؤدي إلى المسخ قردة يوم القيامة، والنهي عن
لبس الحرير والديباج والشرب في آنية من الذهب والفضة من أعمال
الآخرة، ولا ينبغي لبس الفاخر للمتقين، وقد نزع الرسول خاتمًا
من فضة في إصبعه نقش «محمد رسول الله» لتبادل الرسائل مع
الملوك ثم نزعه، ولم يأكل على خوان حتى مات، والعامل يُعطى حقه
بل ويضاعف إذا ما راعاه صاحبه واستثمره. فالكل لصاحبه الأول
٢٢١ ولا هجرة بعد الفتح بل المقاومة والصمود، وقد كان
القدماء ينشرون نصفين لصمودهم، وبهذا ترث الأمة فارس والروم.
٢٢٢