فقه النساء١
(١) الصورة والمادة
يعني «فقه النساء» صورة المرأة في الفقه القديم كما هي عليه دون زيادة أو نقصان، دون نقد أو دفاع. فإن كانت صورة سلبية، المرأة العضوية في العبادات والمعاملات، فإنها مسئولية الفقهاء المحدثين تغيير هذه الصورة إلى صورة أخرى مثل المرأة العالمة، والمرأة العاملة، والمرأة المواطنة، والمرأة المجاهدة، والمرأة رئيسة الدولة، وهي مسائل تعرضها جمعيات حقوق المرأة اليوم. وإذا كان بعض النساء يعترضن على صورة المرأة «البيولوجية»، المرأة الموضوع، المرأة الجنس في الفقه القديم فإن هذه الاعتراضات تؤخذ بعين الاعتبار عند الفقهاء المحدثين. وقد كان الرسول يسمع اعتراض النساء المسلمات ويستجيب الوحي لهم على مستوى اللغة فكان الخطاب ليس للذكور فقط بل للإناث أيضًا إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ….
ولا يعني «فقه النساء» دور المرأة في الفقه القديم. فالدور يقوم على صورة، والفعل أساسه الإدراك. الصورة هنا أقرب إلى الوضع والمكانة. قد يخرج دور المرأة في الفعل عن صورتها الذهنية، ومع ذلك تظل الصورة هي الأساس.
وقد ارتبط تاريخ التشريع الإسلامي بالتشريع اليهودي. وكثير من وضع المرأة في الشريعة لها ما يقابلها في الشريعة اليهودية. فالرؤية التاريخية لوحدة التشريع قد تفيد في فهم وضع المرأة وصورتها من أجل تغييرها طالما أن الزمان مستمر، والتاريخ لم ينتهِ مساره بعد.
كما ارتبط التشريع الإسلامي بباقي الشرائع المعاصرة خاصة عند اليونان والرومان غربًا وفارس والهند شرقًا. فالتشريع الإسلامي ليس خارج التاريخ، مقطوع الصلة عما قبله وعما يعاصره من الشرائع. هو جزء من التاريخ العام للشرائع الإنسانية. فإذا تغيرت الشرائع المعاصرة من الحضارات القديمة إلى الحضارات الحديثة شرقًا وغربًا فإلى أي حد يؤثر هذا التغيير في صورة المرأة الآن؟
وهو كتاب محايد. لا ينتسب إلى أي مذهب فقهي مالكي وهو الأقرب بحكم البيئة والمذهب الغالب على الأندلس والمغرب العربي. يرصد الاختلافات، ويختار أقرب الحلول. ويسمح بإعادة البناء والتأويل طبقًا لظروف العصر.
ولا حياء في الدين. هكذا كانت سنة القدماء والمحدثين على حد سواء. ولا حرج في الدين. المهم عرض الصور كما هي عليه من أجل تغييرها إذا توفرت الدواعي، وتجاوزها الزمن، وتجرأ الفقهاء المحدثون، وعدم الاكتفاء بالدفاع والتجميل السطحي إلى التغيير الفعلي باسم التجديد ضد التقليد، وباسم العصر ومسار الزمان.
التراث الفقهي في النهاية من صنع الفقهاء. وهو ليس تراثًا مقدسًا في ذاته ولا الفقهاء القدماء مقدسون في ذواتهم مهما علا شأنهم، وعظم قدرهم، واكتملت مذاهبهم مثل المذاهب الأربعة الشهيرة: الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية. وربما تظهر الحاجة إلى إحياء مذاهب قديمة اندثرت مثل الأوزاعي وأبي ثور. كما يجوز إبداع مذاهب جديدة تعبر عن روح العصر. كما أضاف بعض المحدثين المذهب الجعفري مذهبًا خامسًا حتى تتسع آفاق الاختيار، وتتجدد طاقات الإبداع في «فقه المجتمع».
وهذا البحث «فقه النساء» مقدمة تجريبية لمحاولة إعادة بناء الفقه القديم في إعادة بناء العلوم النقلية الخمسة: القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه في «من النقل إلى العقل». لا خطأ فيها ولا صواب بل مجرد بيان حدود القديم وإمكانيات الجديد من أجل الخروج على النمطية والإيحاء بالصور البديلة.
وهناك فقه يتساوى فيه المسلون جميعًا بصرف النظر عن الرجل والمرأة مثل الزكاة، والاعتكاف، والأيمان، والنذور، والضحايا، والذبائح، والصيد، والبيع، والشركة، والرهون، والتفليس، والصلح، والكفالة، والحوالة، والوكالة، والقذف، والسرقة، والحرابة. فلا فرق بين الرجل والمرأة في هذا الفقه. يختفي التمييز بين الذكورة والأنوثة فيه. فلا هو فقه ذكوري يثور عليه النساء، ولا هو فقه نسوي يغضب منه الرجال. هذا الفقه يبين وجود الفرد أو الإنسان أو المسلم أو المؤمن أولًا قبل أن تتمايز فيه الذكورة والأنوثة. فإمكانية إيجاد فقه عام يتساوى فيه الرجل والمرأة موجودة. إنما المهم توسيع مساحتها والإقلال من مساحة فقه التمايز بين الرجل والمرأة حتى يعم فقه واحد يقوم على المساواة دون تمييز بين رجل وامرأة أو بين مسلم وذمي أو حتى بين مؤمن وكافر، ومؤمن ومرتد، ما دام الجميع يعيش في وطن واحد يتساوى فيه الجمع في الحقوق والواجبات.
والتمايز في الفقه القديم في العبادات وفي المعاملات، في موضوع الطهارة وقانون الأسرة والعلاقات الاجتماعية كوضع خاص للمرأة متمايزًا عن وضع الرجل بحكم البنية العضوية للكائن الحي. وهو تصور بيئي خالص ناتج عن الثقافة القديمة التي تتركز أحيانًا حول «المرأة–البقرة» أو «المرأة–القط» التي مهمتها الإنجاب، المرأة الولود التي لا تختلف فيها المرأة عن أي كائن حي. آخر يتوالد. فإلى أي حد يمكن تغيير هذه الصورة الوظيفية للمرأة إلى صورة إنسانية أخرى تضع الأولوية فيها للمرأة–الإنسان على المرأة–الحيوان؟
أولًا: العبادات
(١) الطهارة
إن أول صورة للمرأة تبرز في الفقه القديم هي الطهارة من النجاسة وكأن المرأة بمفردها دون قانون ينظم كيانها العضوي تصبح دمًا وحيضًا ونفاسًا في حاجة مستمرة إلى الغسل أو عورة في حاجة إلى الغطاء أو إثارة الرجل في حاجة إلى ستر أو قاصرة في حاجة إلى ولي. فالطهارة نمط يتكرر من التلوث العضوي إلى الوصاية الاجتماعية.
وهو موضوع مرتبط بالبيئة وندرة الحياة. أما الآن فالماء متوفر ولا يحتاج الرجل أن يتوضأ بسؤر المرأة أو المرأة بسؤر الرجل. كان الماء نادرًا قديمًا، والضرورات تبيح المحظورات. فالوضوء وما يستلزم من مضمضة واستنشاق وغسيل الأذنين واليدين حتى المرافق ومسح الشعر وغسيل الرجل لا يصبح نقيًّا صافيًا إذا ما استعمل لثاني مرة. وتحبب المرأة للرجل أو الرجل للمرأة بالوضوء قد يكون عادة عند القدماء وليس عند المحدثين الذين يفضلون أنواعًا أخرى من المشاركة الجسدية كالرياضة أو العلمية والفنية والثقافية.
(٢) الحيض
وتتراوح أيام الحيض بين الأكثر، خمسة عشر يومًا عند الشافعي، والأقل، ثلاثة أيام أو الوسط بينهما، عشرة أيام عند أبي حنيفة. وربما لا يتحدد الأقل بثلاثة أيام أو بيوم وليلة.
وهل تحيض الحامل؟ عند مالك الحامل تحيض. وهو أحد أقوال الشافعي أيضًا. وعند أبي حنيفة وأحمد والثوري لا تحيض وإن كان الدم الظاهر دمًا فاسدًا. وإذا حاضت الحامل هل هو حيض أم استحاضة؟ الحيض أسود، ودم الاستحاضة أصفر. ولو تمادى دما المستحاضة كان حيضًا وهو ما تقره التجربة وليس الفقه، وتعرفه المرأة أكثر من الرجل. وعلامة الطهر القصة البيضاء أو الجفوف. وهي أمور لا تعرفها إلا النساء والأطباء. ولا يعرفها الرجال معرفة أولية.
إلى هذا الحد بلغ الشبق بالرجل الذي لا يستطيع انتظار انقضاء الحيض. وإلى هذا الحد تقبل المرأة هذا العذاب المزدوج، آلام الحيض وضرورة النكاح. وإلى هذا الحد بلغت أهمية النكاح حتى في الظروف غير المواتية. والعرف السائد هو امتناع الرجل والمرأة عن الجنس وقت الحيض. فهو أدعى للنظافة. وقد تعبر بعض الممارسات الحديثة للجنس عن متعة الجسد من حيث هو جسد، عن العناق واللمس، وعن الجنس بالفم وفي الدبر عن هذه المواقف الفقهية القديمة.
وبعد الحيض يأتي النفاس. أقله خمسة وعشرون يومًا عند أبي حنيفة، وعشرون عند الحسن البصري، وأحد عشر يومًا عند أبي يوسف، ولا حد له عند الشافعي. وأكثره ستون يومًا عند مالك ثم تراجع عن ذلك بعد سؤال النساء. وأربعون يومًا عند أبي حنيفة وأهل العلم. وقد تختلف ولادة الذكر عن ولادة الأنثى، فولادة الأنثى تتطلب أيامًا أكثر، أربعون يومًا للأنثى وثلاثون للذكر. والحكمة في ذلك بداية الطهر من أجل الصلاة والجماع، من أجل إرضاء الرب وإرضاء الزوج وقيام المرأة بوظائفها تجاه الآخر الرأسي والآخر الأفقي، تجاه المعاشرة بالروح والمعاشرة بالبدن.
وعلى المستحاضة طهر واحد، وجوبًا أو ندبًا عند مالك. وعند فريق ثانٍ عليها الوضوء لكل صلاة تشددًا. وعند فريق ثالث عليها الاطِّهار كل يوم وليلة. وكل هذا تقنين لحياة المرأة وسلوكها وواجباتها دون أن يسألها أحد رأيها أو يستشير إحساسها أو يقدر مشاعرها الداخلية، ما تريد وما لا تريد، ما تقدر عليه وما لا تقدر. هي موضوع للتقنين وكفى، وحياتها في أيدي الآخرين يقررون مسارها باسم القانون وتطبيق الشريعة، وما عليها إلا الطاعة. لذلك كانت المرأة المتمردة صعبة المنال، توصف بالنشاز، وتستدعى إلى بيت الطاعة. وتحتاج إلى موافقة الزوج لخروجها وسفرها.
(٣) العورة
ثم يتحول موضوع الطهارة إلى موضوع العورة، وما هو حد العورة في المرأة. ولا يُسأل نفس السؤال بالنسبة للرجل، ما هو حد العورة فيه. ولماذا يكون هناك حد للعورة في المرأة لإثارتها للرجل ولا يوجد حد للعورة في الرجل يثير المرأة؟ فالمرأة تثار بجسد الرجل كما يثار الرجل بجسد المرأة.
البدن كله عورة. لذلك لزم الدرع والخمار عند أحمد وأبي بكر عبد الرحمن. وكله عورة ما خلا الوجه والكفين عند الجمهور. وعند أبي حنيفة القدم ليست بعورة مع أكثر ما قيل في جمال قدمي النساء، نحتًا وتصويرًا وشعرًا وغناءً.
إن البدن صورة فنية، وتشكيل جمالي للنساء والرجال على حد سواء كما يظهر ذلك في فنون الرقص خاصة الباليه. وهناك مسابقات لكمال الأجسام للرجال، ولجمال الأجسام للنساء. ما يظنه القدماء على أنه عورة يظنه المحدثون جمالًا طبيعيًّا يمكن تقليده في الفن.
والجسد باعتباره عورة مرتبط بثقافة الستر والغطاء، ثقافة البدو والصحراء. مع أنه في أفريقيا تسير المرأة في الحقول والغابات والأحراش عارية من شدة الحر، ولا أحد ينظر إليها باعتبارها عورة. وحاليًّا لا ينظر الأوروبيون إلى العراة على الشواطئ باعتبارهم عورة فقد شبعوا من الجسد، ولم يعد يمثل شبقًا لديهم على عكس ثقافة الغطاء والحجاب. وكلها عادات اجتماعية طبقًا لظروف البيئة الجغرافية، حماية الرأس من حرارة الشمس، والوجه عن رمال الصحراء كما هو الحال عند الموريتانيين والصحراويين.
أما إذا كانا زوجين، تغسل المرأة الرجل ولا يغسل الرجل المرأة. قد تكون المرأة أقوى على حزن الفراق من الرجل. وقد يكون قاسيًا على الرجل رؤية الجسد الذي تمتع به وقد أصبح هامدًا بلا حراك. وهو رأي أبي حنيفة. في حين ساوى الجمهور بين غسل المرأة لزوجها وغسل الزوج لامرأته. والمطلقة لا تغسل زوجها فلم يعد لها. وقد تتشفى فيه. في حين الراجعة تغسل زوجها بعد أن رجعت إليه وارتبطت به من جديد عند مالك. وهي كالمطلقة لا يجوز لها غسل زوجها عند أبي حنيفة والقاسم.
والآن الغسل مهنة لا يقوم بها الزوج أو الزوجة، زوجين أو مطلقين. والشائع غسل الرجل للرجل، والمرأة للمرأة بصرف النظر عن درجة القرابة ونوعها. فالعرف هو الذي يغلب على الشرع. والعادات والثقافات هي التي تتحكم في القانون. والمسلمون في اليابان يحرقون موتاهم طبقًا لعادة اليابانيين ويجمعون الرماد في آنية جميلة يضعونها في حديقة المنزل وأمامه ورد يسقى كل يوم. وربما يحييه الأهل في الصباح والمساء.
(٤) أركان الإسلام
وفي أركان الإسلام الخمس لا يوجد فرق بين المرأة والرجل في الشهادة وفي الزكاة. إنما الفرق في الصلاة والصوم والحج وفي الجهاد كركن سادس. فالشهادة إعلان وتصريح بالحرية الإنسانية ومساواة الجميع أمام مبدأ واحد، والتضامن بين البشر. والزكاة حق الفقراء في أموال الأغنياء لا فرق بين رجل وامرأة في الالتزام الاجتماعي أي في الأفعال الفردية الخاصة.
أما إمامة المرأة في الصلاة فلا تجوز عند جمهور العلماء ومالك. وتجوز للنساء فقط عند الشافعي. وتجوز على الإطلاق عند أبي ثور والطبري. ولم تجرِ العادة لإمامة المرأة للصلاة لأن عدد المصلين من النساء أقل من الرجال. ويصلين في آخر المسجد، وبينهم وبين المصلين الرجال حاجز. وربما يصلين في مكان مجاور أو في طابق علوي. ولا يعقل أيضًا إحضار إمام رجل لإمامة النساء أيضًا فهو أكثر إثارة له ولهن باعتباره الذكر الوحيد. ولا يعقل أن تؤم امرأة واحدة الرجال بحكم العادة والعرف. والأقرب إلى العقل جواز إمامة المرأة للنساء وحدهن في مجتمع النساء. وهي قضية عادة وعرف لم تتغير كثيرًا حتى الآن بالرغم من اختلاف الثقافات وتعدد الأجناس.
فإذا طاوعت المرأة الرجل على الجماع فعليها الكفارة عند أبي حنيفة ومالك ولا كفارة عليها عند الشافعي وداود مع أن المسئولية على الرجل قدر المرأة في الجماع.
والمفطرون في الشرع الحامل والمرضع لحاجة كليهما للغذاء للجنين قبل الولادة وللطفل بعدها. وهو ما يقرره الطب الحديث أيضًا.
ثانيًا: المعاملات
(١) النكاح
ويعني الزواج أو الارتباط ولكن الفقه القديم صريح. الزواج نكاح، وارتباط جنسي دون باقي أبعاد الارتباط والحياة الزوجية من المودة والرحمة وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.
والآن وطبقًا للعرف يتعرف الخطيبان بعضهما على البعض في الجامعات وأماكن العمل وفي النوادي والتجمعات العامة. يتزاوران ويتنزهان ويتعرفان بعضهما على البعض في الحياة العامة والسلوك اليومي. وكلما طالت الفترة زاد التعارف. ويكون الارتباط النهائي بناءً على تجربة ومعرفة ومشاركة وذكريات. وقد تظل فترة الخطوبة عند الزوجين من أمتع فترات حياتهما المشتركة قبل أن تغمرهما الأولاد ومشاكل التنشئة الاجتماعية.
ويكون الإذن في النكاح بالألفاظ للثيب وعند الشافعي أيضًا باللفظ للبكر، وعند الآخرين بالسكوت للبكر وبالرفض باللفظ. فالبكر يكفيها السكوت حياءً. أما في حالة الرفض فالإعلان بالتصريح والقول. أما الثيب التي عرفت الرجال من قبل فباللفظ لما تتمتع به من جرأة وصراحة فيمن تقبل ومن لا تقبل وبما لديها من خبرة أو خبرات سابقة. والعانس مخيرة بين الاثنين لأنها بين البكر والثيب.
ولا يجوز للولي الإنكاح لنفسه نظرًا للمصلحة الخاصة في الولاية، وسيطرته على المرأة وطمعه فيها. فالولي بمثابة الأب، يمثل مصالح البنت. وفي حالة تضارب المصالح فقد يغلب الولي مصالحه على مصلحة وليه. وهذا أحد أسباب السماح بتعدد الزوجات حتى لا يطمع الولي فيمن هو تحت ولايته مالًا أو جنسًا، وله حق الولاية أي الأمر والسيطرة. فمن الأفضل للولية أن تكون زوجة شرعية حفاظًا على حقوقها.
ولا يجوز عضل الأولياء أي إرهاقهم بالشروط والمطالب. فقد تعترض المرأة لغياب الكفاءة أو الدين أو الرزق من المال الحرام أو كثرة الحلف بالطلاق. وقد تحتج المرأة باختلاف النسب أو بالحرية، أي أن يكون المتقدم عبدًا، أو باليسار أي أن يكون فقيرًا، أو بالصحة أي أن يكون عليلًا، أو بالعيوب أي أن تكون في خلقه عيوب. وهذا يدل على أن الولاية ليست أمرًا مطلقًا، بل هي محددة بآراء الولية.
ويجوِّز مالك نكاح الموالي من العرب ولا يجوِّزه أحمد وسفيان. ويوجب أبو حنيفة جواز القرشي من القرشية. وهو ما يتعارض مع «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح».
والفقر يوجب فسخ النكاح. وهي نظرية طبقية. وكثيرًا ما أحب الملوك عامة الشعب، والأغنياء الفقراء كما تروى بذلك القصص والآداب، وهي سمة من سمات المجتمع التجاري الذي تتحدد قيمه بالفقر والغنى. والآن ينشأ كلاهما فقيرين ويعملان سويًّا حتى يصلا إلى حد الكفاية وإشباع الحاجات الأساسية.
والشهادة شرط للنكاح أي الإعلان. فلا يجوز النكاح السري؛ إذ يترتب على النكاح حقوق وواجبات للزوجين وللأولاد. ولا يصح التحايل بأشكال النكاح الحالية، المسيار أو العرفي، لندرة توافر الشهود وربما الإعلان النسبي، وليس تبريرًا لأوضاع أغنياء الخليج.
والصداق شرط للنكاح. ما يدفعه الرجل للمرأة صداقًا لها. كانت العادة أن يأخذ الأب مهرًا لابنته لفك ضيقة أو لاستثمار ماله ثم أصبح مساعدة للمرأة في تأسيس بيتها. وتختلف العادات فيه. ففي بعض البلاد الأوروبية تدفع المرأة للرجل الصداق تحبيبًا له في الزواج وتشجيعًا عليه لعزوف الرجال عن النساء واستبدال الصداقة الحرة بالزواج لما في الزواج من ارتباط أدبي والتزام وواجبات. ومن حقوق الزوجية النفقة والكسوة.
وهنا تتحول العلاقات الوجدانية إلى مسائل تجارية، مكسب وخسارة، أو اجتماعية، إعلان وإشهار، حتى يضيع الأصل لحساب الفرع، وتنتهي التجربة لصالح القانون. لذلك انتشرت قضايا الأحوال الشخصية في المحاكم وتفككت الأسر لضياع الأصل فيها، وهو المحبة والتراحم والتكافل والتضامن والعيش المشترك.
وهذه الموانع كلها من جهة المرأة كي ترفض. ولا توجد موانع تذكر من جهة الرجل لأنه هو الذي يطلب. وكثيرًا ما تم تجاوز هذه الموانع إذا حضر الأصل، أي الارتباط الوجداني بين الطرفين.
وهناك موجبات الخيار للمرأة لتقبل أو لترفض مثل العيوب، عيوب الرجل الجسدية والنفسية، والإعسار بالصداق أو النفقة والكسوة أو العنِّين أو الفقد والهجرة والاختفاء أو العتق للأمة المزوجة فتحصل على حقوق المرأة الحرة. وهذا يدل على استقلال المرأة في حياتها الخاصة وأنه لا سيطرة لأحد على مستقبلها تحت أي ذريعة حتى ولو كان العرف الاجتماعي.
وهناك أنكحة محرمة مثل نكاح الشغار، التبادل دون صداق، ونكاح المتعة المؤقت، ونكاح المحلل. ففي الشغار تصبح المرأة مجرد موضوع للجنس، وليست علاقة خاصة بين رجل وامرأة. وكذلك الأمر في نكاح المتعة حتى لو حتمته الظروف. أما نكاح المحلل فهو نكاح صوري لم يؤدِّ وظيفته في تعرف امرأة على رجل آخر حتى تكتشف عالمًا جديدًا. وربما يعيد الرجل اكتشافها بغيرته عليها. وهي أشكال نادرة الوقوع. فقد ازدادت الثقافة، وكثر المتعلمون. البعض منها انقضى مثل الشغار وإن كان حاضرًا في الثقافات الغربية المعاصرة في جماعات الجنس الجماعي.
(٢) الطلاق والإحداد والحجر
والطلاق على أنواع منها البائن وفي مقابله الرجعي، والسني وفي مقابله البدعي، وقت الحيض أو إجبارًا. والخلع فديةً أو صلحًا أو مبارأة كتعويض عن الطلاق. ويمكن فسخ الطلاق بالردة أو المحرم. ويمكن للمرأة أن تخير بين التمييز والتمليك وهو أمر العصمة. علاقة الرجل بالمرأة كعلاقة الثابت بالمتحول باستثناء الخلع والعصمة التي تسترد فيها المرأة زمام المبادرة. وهو أبغض الحلال لأنه يضحي بالأسرة وبالتنشئة الطبيعية للذرية لصالح فراق الزوجين.
ولا تتزوج المطلقة قبل انقضاء العدة. وهو أيضًا أمر بيولوجي صرف يمكن أن يحول إلى الإعداد النفسي الجديد والتأهيل للحياة الجديدة. فليس الرجال على التبادل. ويكون لها نفقة المتعة. وهو لفظ كريه، وكأن علاقة الرجل بالمرأة هي مجرد علاقة جنسية مدفوعة الثمن وبأجر، وأن المرأة تبيع الرجل المتعة وتريد مقابلًا لذلك حين الطلاق.
وقبل الطلاق يبدأ الحكَمان من الأهلين للتوفيق والإصلاح قدر الاستطاعة. فوجود طرف ثالث للوساطة أهدأ للنفس وأقرب إلى العقل، وأكثر قدرة على رؤية مصالح الطرفين والتوفيق بينهما.
وأحيانًا تتحدد العلاقة بين الرجل والمرأة وكأنهما عدوان في الإيلاء (أربعة أشهر) أو الظِّهار والكفارة أو اللعان والعنف. فالحياة بين الرجل والمرأة لا تقوم على العقاب والعناد وكأنهما خصيمان.
أما الحجر فقد تدخل الزوجة مع الصغير الذي لم يبلغ سن الرشد والسفيه والعبد والمفلس والمريض. ومن الصغار ذكور وإناث. وسن الحجر على النساء والرجال واحد. وسن الرشد واحد عندهما معًا عند الجمهور وعند مالك حتى سن الزواج أو بعد ذلك بعام أو عامين من نظر البكورة سن الزواج كعادة العرب. وهو تصور قهري يقع على المرأة دون الرجل. ومن يحجر على الرجل إذا كان في نفس الموقف الذي استدعى الحجر على المرأة؟
(٣) الميراث والرق والقصاص والشهادة والقضاء
وهنا تظهر صورة المرأة ليس بعلاقاتها العائلية، بل أيضًا في علاقاتها بالأشياء، بالمكسب والخسارة، وتنسى الأحزان على الفقيد لصالح المال والعقار المكتسب. لذلك اجتهد بعض المعاصرين في قانون الميراث وتحويله من كم إلى كيف، ومن توزيع لرأسمال وتفتيت له إلى استثمار وتجميع له.
والخلاصة أن المرأة في العبادات أقرب إلى الكائن العضوي الذي يوجب الطهارة. وفي المعاملات أقرب إلى الشريك الجنسي للرجل من نكاح وطلاق أو شريك مالي في الميراث. الطهارة في علاقة المرأة بالله، والقوامة فيما يتعلق بعلاقة المرأة بالرجل. وفي كلتا الحالتين ليس للمرأة وجود مستقل، في علاقة مع نفسها أولًا قبل أن تكون في علاقة مع غيرها. فهي في علاقة مع الله والزوج والأولاد. هي المؤمنة والزوج والأم، والمحجور عليها ومن يقع عليها القصاص. وكثير من عناصر هذه الصورة عادات وأعراف مرتبطة بالحياة القبلية في شبه الجزيرة العربية التي ظهر فيها الإسلام أول مرة.
فلما تحول البعض منها إلى فقه تعددت الآراء بين التشدد واللين، بين المحافظة والتحرر، بين التقليد والتجديد، بين الحرف والروح. ويمكن تحريك صورة المرأة من الجانب المحافظ التقليدي الحرفي إلى صورة أقرب إلى التحرر والتجديد وروح الشريعة. كما أن الطابع التدريجي للشريعة كما وضح في الناسخ والمنسوخ يجعل من الممكن أخذ روح الشريعة دون حرفها. وإذا كانت الشريعة قد غيرت وضع المرأة من اللاشيء إلى المنتصف في حق الحياة والميراث وضمانات الزواج والطلاق والشهادة وإمامة الصلاة فإن روح الشريعة بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا تتطلب تطويرها من المنتصف إلى المساواة الكاملة.
وهناك اعتراضات داخلية وخارجية الآن على وضع المرأة وصورتها. فهل يمكن للفقيه الجديد أن يأخذ هذه الاعتراضات بعين الاعتبار كما أخذها الرسول عندما احتجت امرأة عليه بأن القرآن يذكر الرجال دون النساء ولبى اعتراضها، وكما قبل عمر اعتراض المرأة عليه وهي تدافع عن حقوقها وقوله «أصابت امرأة وأخطأ عمر».
إن صورة المرأة في فقه النساء لم تعد في معظمها تلبي حاجات العصر. فالطهارة موضوع للطب. والمعاملات يقننها القانون المدني. إنما المطلوب هو وضع المرأة العالمة، والمرأة العاملة في الريف والمصنع والإدارة والخدمات والوظائف العامة، والمرأة السياسية، المواطنة، والدبلوماسية كسفير وربما كرئيس دولة مثل بنازير بوتو.
وهناك أيضًا المرأة في ذاتها كقيمة مستقلة وليست في علاقتها بالله والزوج أو بالدولة، المرأة الإنسان التي تتمتع بما تنادي به المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، المرأة الأنا قبل أن تغترب في الآخر. وهي في هذه الحالة لا تختلف عن الرجل. فكلاهما مواطن. ومِن ثَم قد يكون أحد وسائل تغيير صورة المرأة هو إعادتها إلى أصلها الأول الذي تشارك فيه الرجل وهو المواطن والإنسان. ومِن ثَم يكون الدفاع عن حقوق المرأة ليس عن طريق عداوتها للرجل بل لنضالهما سويًّا من أجل حقوق المواطن وحقوق الإنسان. وليس عن طريق تقليد الغرب في الحركة النسوية وبرامجها المحلية مثل الإجهاض والشذوذ الجنسي والعري، بل في تغيير وضع المرأة وصورتها في الفقه القديم.