(١) موضوع المقاصد
لا يوجد موضوع يتفق على
أهميته ودلالته بين معظم علماء أصول الفقه قديمًا وحديثًا بل
ويتفق عليه السلفيون والعلمانيون، المحافظون والإصلاحيون، مثل
موضوع «المقاصد» في علم أصول الفقه، والذي أبرزه الشاطبي
الغرناطي الأندلسي في كتابه الشهير «الموافقات في أصول
الشريعة». وأحياه محمد الطاهر بن عاشور المصلح التونسي في
«مقاصد الشريعة الإسلامية» وعلال الفاسي، السلفي الإصلاحي إبان
حرب الاستقلال في المغرب العربي في «مقاصد الشريعة ومكارمها».
انتسبت الحركات الإصلاحية إليه، لا فرق بين سلفي وعلماني.
وأجريت عليه بعض الرسائل الجامعية في كليات الشريعة بالجامعة
الأزهرية، وبقسم الفلسفة بالجامعة المصرية.
٢ يفخر به الإصلاحي لأن الشريعة للحياة، ويلجأ إليه
العلماني لأنه يجد جذوره المنسية في مقاصد للشريعة. ويجد فيه
الإعلامي وسيلة لمخاطبة الناس والحديث عن مصالحهم بعد أن
تشبعوا بأحاديث عذاب القبر والصراط والميزان والملائكة
والشياطين والجن وكأن الدين لا يتعلق إلا بأمور الغيب وليس
بأمور الدنيا، وكأن الله هو عالم الغيب وحده، وليس عالم الغيب
والشهادة.
كتبه الشاطبي قبل سقوط غرناطة آخر مدن المسلمين في الأندلس
بنصف قرن تقريبًا كمحاولة لإحياء الشريعة، وتنبيه المسلمين على
المصالح العامة، والتوجه نحو الواقع والدنيا. وقد حاول ابن
عربي قبل ذلك بقرن ونصف نفس الشيء عن طريق الوحدة الصوفية جمع
الحق والخلق، والدين والدنيا، والمعرفة والوجود، والله
والعالم، والأنا والغير، والخيال والواقع، والعقل والذوق. كما
حاول ابن رشد قبله بنصف قرن تقريبًا عن طريق العقل والقول
البرهاني ضد الإشراق ورد الاعتبار إلى العالم وقوانينه ضد
تغليب إرادة الله على حكمته، وحاول استعادة واجب النظر كحكم
شرعي في «فصل المقال»، واستعادة علوم الحكمة ضد تكفير الحكماء،
وتجديد الفقه وأحكام الشرع في «تهافت التهافت»، كأحكام أخلاقية
طبيعية في «بداية المجتهد ونهاية المقتصد».
٣
ويبين تتبع نشأة المصطلح وتطوره قبل الشاطبي أن الشاطبي هو
أصولي المقاصد؛ إذ وردت فكرة الضروريات الخمس أو المصالح
العامة قبل الشاطبي دون أن تتبلور في مفهوم «المقاصد» ويصبح
أحد أعمدة علم أصول الفقه وكجزء صغير في الاجتهاد أو القياس
وفرع عليه في الاستدلال المرسل باسم الاستحسان أو الاستصحاب أو
دليل العقل أو المصالح المرسلة وعلى نحو سلبي باعتباره قياسًا
«حرًّا» لا يخضع لمنطق القياس الصارم، تعدية الحكم من الأصل
إلى الفرع لتشابه بينهما في العلة، وكما هو الحال في «المستصفى
من علم الأصول» للغزالي آخر ما وصل إليه علم الأصول القديم من
إحكام نظري وإبداع علمي.
٤
وقد انتبهت الحركة الإصلاحية وامتداداتها في الجامعة المصرية
منذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق إلى أهمية علم الأصول بشقيه علم
أصول الدين وعلم أصول الفقه والإبداع الفكري عند المسلمين ضد
شبهة المستشرقين بأن الحضارة الإسلامية ناقلة لليونان والرومان
غربًا أو لفارس والهند شرقًا، وأن حكماء المسلمين مجرد شراح
لليونان، وأن المنطق الإسلامي ما هو إلا منطق مشائي في جوهره،
في مضمونه وصياغته. ثم أثبت أحد تلاميذه إبداع المسلمين في
المنطق في «مناهج البحث عند المسلمين، ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسي»
٥ واستمرت البحوث والرسائل الجامعية في علم الأصول
عند الأجيال التالية تجد فيه ضالتها من حيث الأصالة والإبداع
ضد شبهة النقل في الفلسفة «المشائية» وروج التصوف عن روح
الإسلام في «الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» لابن تيمية.
٦
وأصبح موضوعًا شائعًا في أجهزة الإعلام والمجلات الثقافية
والمتخصصة. فلا أحد يعترض. كما أنه يعطي صاحبه الأمان، ويضعه
في مصاف المجددين. وانتسبت إليه المجلات الإسلامية الفكرية
المعاصرة في مصر والعالم العربي والإسلامي، تجد فيه إحدى
الركائز لتطوير الفكر الإسلامي مثل «المسلم المعاصر».
٧
بل لقد ساهم أصول الفقه الشيعي منذ «الحلي» حتى محمد باقر
الصدر في تجديد علم الأصول باعتباره أحد المداخل لتجديد الفكر
الإسلامي وإصلاح العالم الإسلامي.
٨
وهو استئناف لأصول الفقه المالكي الذي ساد في الأندلس
والمغرب العربي وتطوير لفكرة المصالح المرسلة أو المصالح
العامة والتي جعلها الطوفي أساس التشريع. وقد جعل مالك
الاستحسان تسعة أعشار العلم.
٩
أراد الشاطبي التوحيد بين المالكية والحنفية، بين مالك
والقرافي، أي المصلحة والقياس، الواقع والعقل. وهما مقياسان
لفهم الوحي نظرًا للتطابق المبدئي بين الوحي والعقل والواقع.
١٠ ولم يتم التوحيد بين المالكية والشافعية نظرًا لأن
الشافعية وسط بين المالكية والحنفية. أما الحنبلية فهي عود إلى
النص الخام دون أي تفعيل أو «توقيع» له أي فهمه بالعقل وتحويله
إلى واقع الناس.
١١
ونظرًا لأهمية الموضوع رآه الشاطبي في المنام وكأنه إلهام.
يستند إذن الموضوع على ثلاثة أنواع من اليقين، العقل والنقل،
النظر والمصلحة، بالإضافة إلى الذوق والإلهام. وهو إلهام قائم
على حمل هموم الأمة ومخاطر هجمات الفرنجة من قشتالة في الشمال
على الأندلس في الجنوب فيما سمي بحروب «الاسترداد»، وقبل أن
تتحول الأندلس من منارة للفكر الحر والعلم الأصيل إلى محاكم
التفتيش والتطهير العرقي والديني وعودة المسلمين واليهود إلى
المغرب العربي.
١٢
والوحي كله قصد إلهي،
توجه من الله إلى الإنسان في العالم، والعلم كصفة تجلت في
الوحي ككلام. ليس موضوع الوحي الذات الإلهية، فالله لا يخاطب
نفسه، ولا يتكلم مع نفسه، بل يخاطب غيره، الملائكة والطبيعة،
الأرض والسماء، والأنفس والبشر والرسول والإنسان. الوحي اتجاه
من الله إلى الإنسان، حركة من أعلى إلى أسفل. ومِن ثَم فإن
«المقاصد» تسير وفقًا لاتجاه الوحي، من الله إلى الإنسان قبل
قلبه في علم الكلام، من الإنسان إلى الله عندما يتخذ العلم
الله، موضوعًا له، وفي التصوف عندما يتخذ الصوفي الله قصدًا
له، وعند الحكيم عندما يتخذ «واجب الوجود» موضوعًا له. صحيح أن
علم الكلام يبدأ من المعلوم وهو الحادث أي الطبيعة، وأن الصوفي
يبدأ من الخلق للوصول إلى الحق، وأن الحكيم يبدأ من الطبيعيات
للوصول إلى الإلهيات ولكن يظل القصد مقلوبًا من أسفل إلى أعلى
بعد أن كان من أعلى إلى أسفل، من الإنسان إلى الله بعد أن كان
من الله إلى الإنسان.
١٣
ويتميز علم أصول الفقه عن علم أصول الدين بأن الأول يضع أصول
العمل، الثاني يضع أصول النظر. لا يتحدث الأول عن الله بل عن
الشارع، ولا يتعرض للعقائد بل للمصالح، كنوع من تقسيم العمل
بين العلمين. صحيح أن الشاطبي أحيانًا. يضع مسألة كلامية،
ويشير إلى بعض المتكلمين كرأس موضوع مثل أن الشرائع موضوعة
لصالح العباد في العاجل والآجل استشهادًا بالرازي، وهو موضوع
أصولي وليس موضوعًا كلاميًّا. والرازي أصولي ومتكلم.
وقد بدأ الغزالي في «المستصفى» هذا التقليد بالبداية بالخلاف
الكلامي حول الأصل العلمي كغطاء نظري أولي. فكل مبدأ عملي يقوم
على فلسفة نظرية. ولا يؤثر هذا الخلاف الكلامي على سلامة
المبدأ الأصولي. ويفيد على الأمد الطويل في توحيد علم الأصول
بشقيه، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، بل ووحدة نسق العلوم
الإسلامية كلها، خاصة أن كل متكلم هو أصولي. كتب في العلمين.
فقد كتب الجويني «الإرشاد» في علم أصول الدين و«الورقات»
و«البرهان» في علم أصول الفقه. وكتب الغزالي «الاقتصاد»
و«المستصفى»، وابن حزم «الفصل» و«الأحكام».
١٤
صحيح أن الشاطبي يشير إلى بعض الفرق الكلامية، ولكن في
موضوعات أصولية مثل الإشارة إلى المعتزلة في موضوع التعليل،
وأن الأحكام معللة على عكس الرازي الذي نفى التعليل مثل
الأشاعرة والظاهرية. فعلة الشريعة المصلحة. والمقاصد رصد
للمصالح. فإثبات المصلحة يتطلب إثبات التعليل. المصلحة هي
السبب الموضوعي للشرائع. ويتقدم المعتزلة على الأشاعرة والفلاسفة.
١٥
فعند المعتزلة الأحكام معللة بمصالح العباد، في القصد
التشريعي وليس في القصد الخلقي أو التكويني. ولا يمكن العدول
عن أصل المصلحة والمفسدة في حين يحرص الأشاعرة على أن الله
يفعل ما يشاء، وأنه فعال لما يريد. وهي مصالح ومفاسد يدركها
العقل طبقًا لقاعدة التحسين والتقبيح. والمعتزلة من المصوبة في
الاجتهاد اعتمادًا على أصل الفعل. ويتفق الأشاعرة مع المعتزلة
على عدم جواز تكليف ما لا يطاق. وقد جاءت الشريعة وفقًا لأغراض
العباد طبقًا لمبدأ الصلاح والأصلح عند المعتزلة. يعاب عليهم
فقط محنة خلق القرآن.
١٦
ولفظ «المقاصد» لفظ إبداعي أصيل من العقل التشريعي الإسلامي.
وهو لفظ قرآني.
١٧ يعني الاتجاه مثل
وَعَلَى
اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، والتوجه نحو مثل
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا
لَاتَّبَعُوكَ. كما يعني الاقتصاد والإحجام. الاقتصاد
في الشيء
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
والاقتصاد في الخير
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ
إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ،
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ.
وورد أيضًا في علم الحديث يعني القصد بالقلب، والمعنى بالفكر
والتوجه في المكان، والمعنى الغالب هو المعنى الثاني الاقتصاد
في المعيشة والطعام والشراء والاقتصاد في الصلاة والخطبة
والعبادات مع الدوام أي عدم المغالاة والتطرف.
١٨
وهو باستمرار في صيغة الجمع «مقاصد» وليس «قصد» مما يدل على
أن الشريعة لها عدة مقاصد وليس مقصدًا واحدًا، وهناك فرق بين
القصد والمقصد، «القصد» من جانب الذات، و«المقصد» من جانب
الموضوع. فالقصد اتجاه من الذات نحو الموضوع، والمقصد اتجاه من
الذات نحو العالم.
وهناك فرق بين النية والقصد. النية جزئية، والمقصد كلي.
النية هو قصد الفعل، والمقصد هو قصد الشريعة. لذلك قسم الشاطبي
المقاصد إلى نوعين، مقاصد الشارع وهي الكلمة، ومقاصد المكلف
وهي النية. هناك قصد متبادل بين قصد الشارع ونية المكلف،
الاتفاق في حالة النجاة والفوز، والهلاك في حالة الهلاك
والضياع.
ولفظ «القصد» و«القصدية» لفظ حديث في الفلسفة الغربية
المعاصرة. أصبح الموضوع الرئيسي في الظاهريات
«الفينومينولوجيا». ويعني الإحالة المتبادلة بين الذات
والموضوع، الإنسان في العالم، والعالم في الإنسان، ولتجاوز
ثنائية الفلسفة الحديثة بين الذات والموضوع منذ ديكارت، وبعد
تحويل المحور الرأسي، القصد المتبادل بين الله والإنسان إلى
المحور الأفقي بين الأنا والآخر في التجربة المشتركة أو بين
الذات والموضوع في الإنسان في العالم.
١٩
(٢) منهج القراءة والتأويل
والمنهج المتبع ليس هو المنهج التاريخي الذي يرصد مفهوم
المقاصد في كتب علم الأصول حتى يكتمل في «الموافقات»، ولا
المنهج الفقهي الذي يرصد اختلاف الفقهاء في مفهوم المقاصد
طبقًا للمدارس الفقهية الأربع الشهيرة، ولا المنهج التحليلي
الذي يكتفي بتحليل المفهوم وبيان مكانته في نسيج علم الأصول،
ولا المنهج الدفاعي الذي يقوم على بيان مكارم الشريعة والرد
على الطاعنين فيها بالحرفية في التطبيق ضد مصالح العباد،
والقسوة في الحدود فيما يتعلق بالعقوبات، وأن الشريعة
الإسلامية إنسانية النزعة قبل إعلان حقوق الإنسان في الغرب الحديث.
٢٠
وإذا اعتمد القدماء على الحجج النقلية والحجج العقلية
المستقاة من جزيئات الشريعة قد يعتمد المحدثون على الحجج
العقلية أكثر من الحجج النقلية. فالعصر عصر العقل والبرهان.
ويشمل الواقع والإحصائيات والتحليلات الكمية التي تعبر عن عصر
المصالح العامة.
والحجة النقلية وحدها دليل ظني ولا تتحول إلى يقين إلا
بالحجة العقلية. وكما يقول الإيجي في المواقف: إن كل الحجج
النقلية حتى ولو تضافرت لإثبات شيء أنه صحيح، ما أثبتته ولظل
ظنيًّا، ولا يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة.
٢١ الحجة النقلية وحدها تقوم على الابتسار أي
الانتقاء الجزئي خارج السياق الداخلي، تكامل الآيات، والخارجي
«أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ». واللغوي. وكثير منها يحمل
على عادات العرب مثل بكاء الحي على الميت ومناسك الحج وبعض
القيم العربية.
٢٢
وهناك مسائل في
المقاصد تعتمد على الدليل العقلي وحده دون النقلي. تقوم على
تحليل الحجج والرد مسبقًا على المعارض في صيغة «فإن قيل» حتى
يصبح الفكر متسقًا مع نفسه، له براهينه الداخلية وليست الخارجية.
٢٣ وثلث المسائل خالية من الحجة النقلية.
٢٤
والعقل عند القدماء يشمل الحس الخارجي والداخلي، المحسوسات
والمجربات والبداهات الوجدانية ومجرى العادات وما تواتر من
البشر وتراكم الخبرات في الأقوال المأثورة والأمثال العامية
حول الحقائق الإنسانية الثابتة عبر العصور مثل قول الصدق
والنأي عن الكذب.
٢٥
وتتفاوت الحجج النقلية بين القرآن والحديث مع غلبة القرآن في
معظم المسائل لأن القرآن هو الأصل الذي منه تُستنبط الأصول.
والحديث أقرب إلى الفروع لأنه بيان وتفصيل. ولا يذكر إلا حديث
قدسي واحد، وسط بين الأصل والفرع.
٢٦ ومجموع الآيات ضعف مجموع الأحاديث تقريبًا.
٢٧
ويعتمد الشاطبي على «الاستقراء المعنوي». ويعني استقراء
جزيئات الشريعة للوصول إلى مبدأ كلي. هو استقراء لأنه يعتمد
على إحصاء الجزيئات، وهو معنوي لأن الإحصاء يتوقف إذا ما وصلت
الجزيئات إلى حد يظهر فيه المبدأ الكلي وأي إضافة جديدة
لجزيئات أخرى لا تطعن في المبدأ سلبًا ولا تقويه إيجابًا. وهو
ما سماه المناطقة المعاصرون الاستقراء الناقص أساس الاستقراء
العلمي الغربي الحديث. وبهذه الطريقة أمكن وضع علم القواعد
الفقهية، كقواعد عامة للاستدلال أو كبديهيات علمية.
٢٨
ويمكن تطوير هذه الطريقة القديمة إلى منهج حديث يقوم أيضًا
على اطراد التجربة البشرية، وشمول العقل الإنساني، وتكرار
الوقائع المشابهة، وتوارد الأفكار عند الناس. والاشتراك في
تجارب حية متطابقة، تمثلها حكمة الشعوب، والأمثال العامية. وهو
ليس بعيدًا عن تحليل الشاطبي للحظوظ والمراءاة وكل ما يتعلق
بأحوال النفس وكما يفعل الصوفية. وفي اتباع المقاصد الأولى دون
التابعة، والطاعة دون الحظ. ويمكن الاعتماد على الأفعال العامة
والأقوال المأثورة وسير الأبطال وكل ما يعبر عن حكمة الشعوب
وتراكم المعارف البشرية.
٢٩
وقد اعتمد القدماء على الشعر العربي كرصيد للتجارب
الإنسانية، فهو مصدر للتجربة وتصديق للآية والحديث. والقرآن
إعجاز، والرسول أفصح العرب، والأحاديث تقارب جمهرة أمثال
العرب. يستشهد بشعر ذي الرمة على اختلاف الألفاظ، وتشابه
المعاني، مثل بائس ويابس، فالبؤس يبس، واليبس بؤس. وقد يعني
التخوف التنقص في الشعر العربي في شرح آية
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ. حتى لقد قال عمر
«أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم».
٣٠
والاستقراء دليل على المبدأ، استقراء الشريعة أي مجموع
الآيات. المصلحة أساس التشريع مبدأ عام مستقرى من الآيات
المفردة وكما هو مقرر في علم القواعد الفقهية. فالاستقراء مفيد
للعلم وهو أساس الاجتهاد، رد الفرع إلى الأصل لأن الأصل مستقى
من جميع الفروع. والأصول الاستقرائية قطعية، تدل على ما هو
معتبر وما هو غير معتبر، ومقاييس المصلحة والمفسدة. كما جرت
الشريعة على حكم العادة، والعادة استقراء. والكليات لا تخرق
الجزيئات. فالمصلحة أمر كلي واحتمال وقوع الضرر أمر جزئي.
الجهاد مصلحة عامة في الدفاع عن الأوطان وإن نتج عنه القتل
والتدمير، إزهاق الأرواح وخراب الديار. الكليات الاستقرائية هي
كليات «عربية» مستقاة من القرآن العربي، وصحة أحكام الشريعة بالاستقراء.
٣١
والمنهج المتبع هو منهج القراءة والتأويل، أي إعادة بناء
الموضوع طبقًا لظروف العصر، بمصطلحاته ولغته وأدوات تحليله
ومستوياته وظروفه وحاجاته، وهو لب المنهج الأصولي ذاته،
الاجتهاد. لقد أبدع القدماء لغتهم ومصطلحاتهم وأثنينا عليهم في
ذلك، وفي مقدمتها مفهوم المقاصد. فلماذا يقتصر الإبداع عليهم
ويكون نصيبنا التقليد، فالسلف خير من الخلف، ولم يترك السلف
إلى الخلف شيئًا مسيئين تأويل الآية الكريمة فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا
الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ؟ ولماذا لا
نقول: هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم؟ نحن من
المجددين ولسنا من المقلدين. نستأنف جهود الشاطبي من القدماء
ومصطفى عبد الرازق وعلي سامي النشار والطاهر بن عاشور وعلال
الفاسي من المحدثين. ويفرض السياق التاريخي علينا في عصر
الاستقطاب جعل المقاصد نقطة التقاء بين السلفيين والعلمانيين
يتفقون عليها. فالعلمانية إشكال غربي لحل الصراع بين الكنيسة
والدولة لصالح الدولة، وحسم الخلاف بين السلطتين الدينية
والسياسية لصالح السلطة السياسية. وقد اختار الإسلام هذا الحل
من قبل. فالمجتمع الإسلامي مجتمع مدني، الإمامة فيه عقد وبيعة
واختيار، والسلطة فيه تفويض من الأمة وليست من الله.
ديموقراطية وليست ثيوقراطية. الهدف هو تأصيل جماعات حقوق
الإنسان بدلًا من روافدها الغربية في التصورات الفردية للإنسان
ومعيارها المزدوج في الممارسة، حقوق الإنسان الغربي ثم
انتهاكها في الإنسان اللاغربي، الأفريقي الآسيوي والأمريكي
اللاتيني عامة، والعربي المسلم خاصة. فالمقاصد تتجاوز استقطاب
الفكر المعاصر بين السلفية والعلمانية عودًا إلى
الأصول.
ولا تعني القراءة المعارضة والقلب والنقد والرفض بالطرق
المباشرة وإيجاد البديل بدعوى الحداثة والتجديد القطيعة مع
الماضي. إنما تعني الإبقاء على الروح مع تغيير البدن،
والمحافظة على القصد مع تطور الوحي، مرحلة وراء مرحلة. القصد
واحد، التوحيد، وظروف العصر مختلفة في مصر والشام والحجاز
والعراق واليمن. وهو ما فعله معظم الفلاسفة المعاصرون مع
القدماء خاصة هيدجر مع الفلاسفة اليونانيين والغربيين في
العصرين الوسيط والحديث.
والقراءة غير العرض. ومع ذلك فإنها تشمل عرضًا على مستوى
العصر. فالعرض للقديم مجرد تكرار ممل لا فائدة منه. في حين أن
العرض الخلاق هو نقل للماضي على مستوى الحاضر. في العرض لا فرق
بين المقروء والقارئ. العرض في البداية وليس في النهاية. في
القراءة يمحى التمييز بين الموضوعي والذاتي. يظهر الموضوعي من
خلال الذاتي، ويتجلى الذاتي من خلال الموضوعي.
كما تتغير المادة والأمثلة القديمة من المادة الفقهية في
العبادات أو المعاملات التجارية البدائية كالبيع والشراء إلى
المادة الفقهية الجديدة في المعاملات والعلاقات الدولية
والتجارية المعقدة مثل منظمة التجارة العالمية، واتفاقية
الجات، والبنك الدولي، وصندوق النقد، ومؤسسات التعاون الدولي.
٣٢ ارتبطت المادة الفقهية القديمة، العبادات، بظروف
عصرها الأول. كانت مادة جديدة بالنسبة للمجتمع الإسلامي الأول،
ولم تعد كذلك بالنسبة للمجتمع الإسلامي الحالي. وهناك مادة
فقهية جديدة لم تدخل بعد كأمثلة يُستقرى منها أصول الفقه
الجديد دون الاكتفاء بإصدار الفتاوى فيها مثل فوائد البنوك
وشهادات الاستثمار ودفاتر التوفير، وموضوعات الهندسة الوراثية،
وزرع الأعضاء، والاستنساخ، والتخصيب الصناعي، وكل ما يتعلق
بعلوم الأجنة.
كما تكثر الأمثلة الفقهية ونقل المبادئ الأصولية عند القدماء
مما يدعو إلى قلة الأمثلة الفقهية وتعميق المبادئ الأصولية عند
المحدثين. لقد أطال الشاطبي في «وضع الشريعة للامتثال» في
موضوع الحظوظ والكرامات مما يخرج عن المبادئ العامة ويدخل في
التفصيلات الجزئية.
٣٣
ويمكن التوسع في المفاهيم القديمة عن طريق إطلاق معانيها،
وبالتالي تجديد ألفاظها. الدين مثلًا ضمن المقاصد الضرورية
الخمسية لا يعني فقط ما عناه القدماء العقائد والشعائر والكتب
المقدسة أي ميدانًا خاصًّا هو ميدان «المقدس»، وهو مفهوم
«الدين» في الغرب في كتب «تاريخ الأديان المقارن». بل يعني
أيضًا كل شيء، لا فرق بين الديني والدنيوي. يعني الحقيقة
الثابتة الدائمة، العامة الشاملة، ضد النسبية والشك والغنوصية
واللاأدرية والعدمية. لا يوجد شيء، وإن وجد لا يمكن معرفته.
العدم أصل الوجود. وكذلك مفهوم «العرض» الذي لا يعني فقط الشرف
بالنسبة للعلاقات بين الجنسين، بل يعني أيضًا الكرامة الوطنية،
وكما هو الحال في الثقافة الشعبية أن الأرض هو العرض، ومن
يستولي على الأرض فقد انتهك العِرض. وكذلك مفهوم «المال» الذي
لا يعني فقط المال الخاص في محفظة النقود ضد لص «الأتوبيس»
ونشال الطريق والحدائق العامة والتجمعات السكنية، بل يعني
أيضًا الثروات الوطنية والمال العام، وعوائد النفط، والثروات
الطبيعية. فالواقع متغير، والسياقات التاريخية والاجتماعية
والسياسية والاقتصادية متغيرة. والقصد ثابت لا يتغير. والمادة
متغيرة مع تغير المصالح. وهذا هو الفرق بين الأصول والفقه.
الأصول ثابتة والفقه متغير.
وتتعدد مستويات التحليل بين المستوى الإلهي والمستوى
الإنساني. التحليل على المستوى الإلهي يخرج من مقاصد علم
الأصول الذي يتحدث عن الشارع أي واضع الشريعة حتى يظل التمييز
بين علم أصول الفقه وعلم أصول الدين قائمًا. الله في علم أصول
الفقه هو الشارع أي واضع الشريعة. وفي علم أصول الدين هو الذات
والصفات والأسماء والأفعال. ولما كانت الشريعة الإسلامية شريعة
وضعية وأحكامها أحكام الوضع فإن الشارع واضع الشريعة جعلها
كذلك شريعة وضعية. وهو المستوى الذي يجمع الإخوة الأعداء في
عصرنا، السلفيين والعلمانيين والذي يصل فيه الخصام إلى حد
الاقتتال الدموي كما هو الحال في الجزائر، والصراع الخفي
السلطة كما هو الحال في تونس والمغرب وليبيا ومصر وسوريا
والعراق، والصراع العلني كما الحال هو في الكويت واليمن،
والتعددية السياسية الصريحة في لبنان. أما التحليل على المستوى
الإلهي فإنه يقضي على وضعية الشريعة ويقع في صف أحد الفريقين
المتخاصمين، السلفيين، ويقضي على إمكانية الحوار مع الخصوم ومد
الجسور ونقاط الالتقاء مع العلمانيين ويخرج عن إطار المنظور
العملي لعلم الأصول.
وتتعدد القراءات لعلم الأصول عامة وللمقاصد خاصة. ولا توجد
قراءة «صحيحة» والأخرى «خاطئة». بل هي اجتهادات متعددة تنبع من
طبيعة موقف القارئ ووضعه الثقافي والاجتماعي والسياسي
والأخلاقي. فقد تنوعت كتب الأصول القديمة وتعددت طبقًا للمذاهب
الفقهية، وطبقًا للعرض اللامذهبي والعرض المذهبي. فهناك أصول
الفقه الحنفي (القرافي، البزدوي)، وأصول الفقه المالكي
(الشاطبي)، وأصول الفقه الشافعي (الجويني، الغزالي، الشوكاني،
الرازي)، وأصول الفقه الظاهري (ابن حزم)، وأصول الفقه الحنبلي
(ابن الحاجب)، وأصول الفقه الشيعي (الطوسي، محمد باقر الصدر).
ولا توجد قراءة أفضل من قراءة. ولا يوجد نسق أفضل من نسق.
تتعدد الاتجاهات في العلم، والعلم واحد.
كما تتعدد اللغات ومصطلحات التعبير والتخصصات والثقافات
والاهتمامات العامة والجرأة على الاجتهاد والرغبة في التواصل.
والفلسفة تعطي جرأة على القراءة وتجديد المصطلحات وتبدع في
مستويات التحليل ومناهجه. والإصلاح يدفع إلى مزيد من الجرأة في
المواقف دفاعًا عن مصالح المسلمين وحقوق الأمة.
ليس من شيم العلماء مزايدة بعضهم على بعض في الإيمان
والإخلاص والحمية. ذلك مطلوب بطبيعة الحال، ولكنه لا يكفي
بمفرده دون التعقل والعلم والتحليل والمصالح العامة والتواضع
والبعد عن التعصب الذي قد يصل إلى حد الاستبعاد والتكفير. إن
علم الأصول وسيلة وليس غاية. الغاية هي القدرة على وضع أصول
قادرة على الدخول في تحديات العصر وحل مشاكل الأمة، والربط بين
مقاصد الشريعة وأهداف الأمة. ليس هدف العلماء أخذ حظوة في
الدنيا عن طريق الدفاع عن الدين طلبًا للرياسة والصدارة دون
الأخذ بعين الاعتبار مصالح الأمة.
(٣) المقاصد في بنية الأصول
المقاصد جزء من بنية رباعية يقوم عليها أصول الفقه مع
الأحكام. المقاصد هي الغايات، والأحكام هي الأفعال. ولا تتحقق
الغايات إلا بالأفعال.
٣٤ وتأتي المقاصد في الترتيب بعد الأحكام وإن كانت من
حيث الأهمية تأتي قبلها. أي مقاصد الأفعال. الفعل البداية،
والقصد النهاية. ومع ذلك المقاصد أهم من الأحكام من حيث الكم،
أكثر من ثلاثة أضعافها.
وهي بنية رباعية جزئية تدخل في بنية رباعية كلية للعلم:
الأحكام والمقاصد والأدلة والاجتهاد. الأحكام هي أنماط الفعل
ونماذج السلوك. والمقاصد الأهداف والغايات. والأدلة مصادر
الأحكام والمقاصد. وهي الأدلة الشرعية خاصة الدليلان النصيان،
الكتاب والسنة. والاجتهاد طرق استنباط الأحكام والمقاصد من
الأدلة. وهي القسمة الرباعية التي اتبعها الغزالي في المستصفى
الثمرة وهي الأحكام، والمستثمَر وهي الأدلة الشرعية،
والمستثمِر وهو المجتهد، وطرق الاستثمار وهي طرق التعليل. أما
المقدمات «العلمية» الأولى فإنها تحدد الإطار العام لعلم أصول
الفقه واتجاهه العملي وليس النظري واضعًا أصول العمل وليس أصول
النظر. بل إنه أمكن تطوير هذه الأصول في «قواعد» هو علم
القواعد الفقهية الذي سماه القدماء «الأشباه والنظائر» الذي
أبدعه ابن النجيم، والطوفي، والسيوطي.
٣٥
وتنقسم كل من المقاصد والأحكام إلى قسمين. تنقسم المقاصد إلى
مقاصد الشارع ومقاصد المكلف. وتنقسم الأحكام إلى أحكام الوضع
وأحكام التكليف. مقاصد الشارع هي المقاصد من وجهة نظر الله أي
المقاصد الإلهية. فالشريعة مقصد قبل أن تكون حكمًا.
٣٦ ومقاصد المكلف هي المقاصد من وجهة النظر الإنسانية
أي النية. مقاصد الشارع أكثر أهمية كمًّا وكيفًا. إذ إنها
تنقسم قسمة رباعية، ابتداء وللإفهام وللتكليف وللامتثال، في
حين أن مقاصد المكلف قسمة واحدة لا تنقسم. والسؤال هو: كيف يتم
التوحيد بين المقصدين؟ كيف تصبح مقاصد الشارع هي مقاصد المكلف،
ومقاصد المكلف هي مقاصد الشارع؟ أما أحكام الوضع فهي الأحكام
كما يتصورها الله في العالم، وأسسها الموضوعية فيه. هي ميدان
الفعل وسياقه التاريخي ومكوناته المادية الموضوعية قبل أن تبزغ
فيها الإرادات الفردية والحريات الإنسانية في أحكام التكليف،
وهي السبب والشرط، والمانع، والعزيمة والرخصة، والصحة
والبطلان. هي الميدان الموضوعي لتحقق الفعل، ثلاثة ذات لفظ
مفرد: السبب والشرط والمانع، واثنان ذوا لفظين على التقابل:
العزيمة والرخصة، والصحة والبطلان. وهي تعادل مقاصد الشارع أي
المقاصد الموضوعية للشريعة من وجهة نظر الله قبل أن تتحول إلى
مقاصد ذاتية في مقاصد التكليف تعادل أحكام التكليف. يتغير
اللفظ في المقاصد والأحكام، الوضع والتكليف، والمعنى الواحد في
حين يبقى اللفظ، التكليف في المقاصد والأحكام بنفس المعنى.
وتأتي أحكام الوضع كيفًا وكمًّا قبل أحكام التكليف. فسياق
الفعل وميدان تحققه أهم من الفعل ذاته.
٣٧
وتنقسم مقاصد الشارع إلى قسمين رباعية أولًا، ثم تنقسم
الأولى منها قسمة خماسية
٣٨ فمقاصد الشارع أربعة: أولًا وضع الشريعة ابتداءً
أي أولًا، أي السبب المبدئي الذي من أجله وضعت الشريعة، العلة الغائية.
٣٩ ثانيًا وضع الشريعة للإفهام (بكسر الهمزة) ولفهم
مقاصدها وليس بفرضها عنوة على الناس دون فهم من أجل شرحها
وبيانها وإقناع الناس بها وليس فرضها عليهم قهرًا حتى يعطى
الحاكم نفسه الذي تنقصه شرعية البيعة شرعية تطبيق الشريعة،
ويعنى بها الحدود وليس المقاصد. ثالثًا وضع الشريعة للتكليف أي
للتحقيق ولتمثلها بالأفعال طبقًا للقدرة الإنسانية وعدم جواز
تكليف ما لا يطاق، وعدم الشق على الأنفس. رابعًا وضع الشريعة
للامتثال أي الطاعة وحتى تتحول إلى طبيعة ثانية في الحياة
الإنسانية تساوق الفطرة. هناك تدرج في المقاصد من الأساس إلى
التحقق، ومن الحفر إلى البناء، ومن التأسس إلى التكوين. وأهمها
مقاصد الشريعة للامتثال أي الطاعة بالإرادة الحرة بعيدًا عن
الهوى والحظوظ والكرامات. ثم توضع الشريعة للتكليف أي التنفيذ.
ثم توضع الشريعة للمصالح العامة ابتداء وأخيرًا توضع الشريعة للإفهام.
٤٠ والأمر كذلك أيضًا من حيث عدد المسائل.
٤١
ويتدرج القصد الأول وضع الشريعة ابتداء إلى ثلاثة مستويات:
الضروريات، والحاجيات، والتحسينات. الأول هي الضروريات الخمس،
النفس، والعقل، والدين، والعرض، والمال. والثاني الحاجيات، وهو
مستوى أقل من الضروريات ولكن لا تستغني عنه كالطعام والشراب
واللباس والمسكن للحفاظ على الحياة. والثالث التحسينات وهو
مستوى أقل من الحاجيات مثل الكماليات الطعام الجيد، والمسكن
الراقي، واللباس الفاخر طبقًا لمستوى الدخل والتركيب الطبقي
للمجتمع كواقع وليس كمبدأ.
الضروريات الخمس، كلها لها لفظ واحد، باستثناء الضرورتين
الأولى والرابعة لفظان مترادفان على التبادل النفس والحياة،
الخاص والعام. النفس الإنسانية خاص والحياة عام، حياة النبات
والحيوان والإنسان وكل ذي ظفر. فالحياة أصل ومقصد. والنسل أي
حفظ الأنساب دون اختلاطها أي العرض.
٤٢
(٤) المصلحة أساس التشريع: الضروريات الخمس
«ووضع الشريعة ابتداءً» يتضمن ثلاث قضايا رئيسية، التمييز
بين الضروريات والحاجيات والتحسينات، والفرق بين المصالح
والمفاسد، وحفظ الشريعة ودوامها. والثانية هي الأطول والأهم.
٤٣ وهي المقدمة الأولى للمقاصد كلها بعد قسمتها.
٤٤
والضروريات هي ما لا تستقيم الحياة بدونها، تحتاج إلى
إثباتها وحمايتها من الخلل والاختلال. وهي في العادات
والعبارات. والتفرقة بين العبادة والعادة تفرقة دقيقة لأن
العبادة تتحول إلى عادة، والعادة إلى عبادة. وبعض العبادات
كانت عادات مثل بعض مناسك الحج والصوم لدى الأمم السابقة. أما
التفرقة بين العبادات المعاملات فهي الأهم، لأن المصالح
الناتجة عن العبادات معروفة. إنما المصالح الناتجة عن
المعاملات فمتغيرة لأن المعاملات الاقتصادية متغيرة من عصر إلى
عصر.
والعلاقة بين الضروريات والحاجيات والتحسينات علاقة تراتبية.
الضروريات هي الأساس، وهي الحقوق الطبيعية للإنسان والتي اتفقت
عليها جميع الملل والأقوام مثل الضروريات الخمس. كل منها تتمة
وتكملة للأخرى. أما الحاجيات فمن باب الوسع والضيق على
المستويين الفردي والاجتماعي، وليس فقط على المستوى الفردي.
الضروريات حقوق عامة لكل الأفراد أما الحاجيات فهي ميزات خاصة
تفرضها الأذواق الفردية في حالة توفر الإمكانيات أو الطبقات
الاجتماعية في حالة نقصها. وهي عامة في العبادات والعادات
والمعاملات والجنايات. والتحسينات هي الأخذ بما يليق بمحاسن
العادات طبقًا للذوق الرفيع مثل مكارم الأخلاق أيضًا في
العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. ودلالة ذلك حرية
الاختيار، والفروق الفردية، والسبق إلى الخيرات، والإمكانيات
المادية، والتفاوت في الرزق الناتج عن الجهد.
وشرط التراتبية ألا تعود مرتبة على أخرى بالإبطال. الضروريات
أصل، والحاجيات فرع، والتحسينات فرع الفرع. فإشباع الحاجيات أو
التحسينات دون الضروريات سفه وادعاء وتظاهر وتفاخر. وتقوم
الثورات والهبات الشعبية من أجل نقص الضروريات وليس من أجل عدم
توافر الحاجيات والتحسينات. وقد تقوم من أجل توافر الحاجيات
والتحسينات عند البعض في مظاهر الوفرة والغنى ونقص الضروريات
عند البعض الآخر. إبطال الأصل يؤدي إلى إبطال الفرع، ولكن
إبطال الفرع لا يؤدي إلى إبطال الأصل. فالجهاد مع ولاة الجور
واجب كما قال مالك. الجهاد أصل والجور فرع، جهاد أعداء الأمة
في الخارج أصل، وجهاد الجور في الداخل فرع. وبلغة العصر،
التناقض الرئيسي له الأولوية على التناقض الثانوي. وهو أيضًا
موقف الغزالي في «المستظهري» في الإمام الذي لم يستجمع شروط
الإمامة، ومثل الصلاة في الدار المغصوبة، في وجوب تحرير الأرض
من يد الأعداء قبل وجوب الصلاة.
٤٥
ولا تعني التراتبية في المصالح التراتبية في الدنيا في صيغة
طبقات أو طوائف أو ملل أو نحل أو بيوت أو عشائر أو أعراق.
فالضروريات الخمس حقوق إنسانية عامة تخترق الحدود الإقليمية
والخصوصيات البشرية. ومراحل الوحي ليست تراتبية أو أفضلية بل
مراحل في تقدم التاريخ ورقي الوعي الإنساني.
وقد لا توجد مصلحة خالصة أو مفسدة خالصة بل قد تختلط المصلحة
بالمفسدة والمفسدة بالمصلحة. وفي هذه الحالة تصبح المصلحة
الغالبة هي الراجحة والمفسدة الغالبة هي المرجوحة. فالكم جزء
من الكيف. والمصلحة والمفسدة مبدأ كيفي، والراجح والمرجوح مبدأ
كمي. فالجهاد كدح، والعلم جهد، وحُفت الجنة بالمكاره. والعادة
أي التجربة هي مقياس التقدير الكمي لغلبة المصلحة أو المفسدة.
والخطاب الشرعي لا يأمر إلا بما فيه مصالح العباد على الأمد
الطويل. وهو ما أشار إليه الفلاسفة بأن الخير هو المقصود وإن
شاب الفعل بعض الشر على مستوى التكوين وليس على مستوى التشريع.
وهو ما أثاره أيضًا المتكلمون خاصة المعتزلة. وأما إذا خرجت
المصلحة والمفسدة على حكم العادة فإنها تخضع لمبدأ «الضرورات
تبيح المحظورات» من أجل المحافظة على تراتبية الضرورات الخمس.
٤٦
ولا تتبع المصالح والمفاسد أهواء النفوس بل هي مصالح ومفاسد
عامة للجميع. المصلحة عامة والهوى خاص. لذلك تسمى المصالح
العامة، وهي الحق في الحياة الإنسانية وأفعال الناس وعليها
تقوم السموات والأرض. ومع ذلك المصلحة والمفسدة إضافيان، في
حال دون حال، ووقت دون وقت، وشخص دون شخص، نسبة إلى الموقف. قد
تختلف الأغراض في الأمر الواحد. ومِن ثَم فإن الإذن بالمصلحة
والمنع للمفسدة ليسا على الإطلاق كما قال الرازي طبقًا لنسبية
الأشاعرة على عكس قاعدة التحسين والتقبيح الاعتزالية كما لاحظ
القرافي. المصالح مطلقة عامة لا تخص بابًا دون باب ولا محلًّا
دون محل، مصلحة مطردة في كليات الشريعة. وهذا هو معنى العصمة
الشرعية وحفظها أي بقاءها كحقيقة إنسانية ثابتة.
٤٧
والدليل على المصلحة والمفسدة دليل قطعي طالما أن المصلحة
مبدأ قطعي. والظني لا يكون دليلًا على أصل قطعي. والدليل
العقلي يقيني مثل الدليل الشرعي، في حين أن الدليل النقلي لا
يكون يقينيًّا بمفرده، ولا يصبح قطعيًّا إلا بتضافره مع الدليل العقلي.
٤٨ والمصلحة حكم عقلي وشرعي معًا. والإجماع دليل قطعي
أيضًا. واستقراء الشريعة دليل قاطع. وهو أساس يقين التواتر.
والأصل القطعي لا ترفعه آحاد الجزيئات. الأصل القطعي عام،
والجزيئات خاصة. وفي الحياة العام والخاص، المشترك والفردي.
ليس الأصل في المصالح الإذن بها وفي المفاسد المنع لها بل لها
أدلتها اليقينية في ذاتها والمستقاة من جزيئات الشريعة أو
القائمة على الحسن والقبح العقليين.
والضرورات الخمس عند القدماء، الدين، والنفس، والنسل،
والمال، والعقل، في حاجة إلى إعادة ترتيب، الترتيب القديم يبدأ
بالدين في حين أن الدين لا يدرك إلا بالعقل. والعقل لا يكون
إلا عند الأحياء. ومِن ثَم يبدأ الترتيب الطبيعي بالحياة التي
يشارك فيها المؤمن والكافر. الحياة هبة من الشارع، وصفة له،
شرط العلم والقدرة.
٤٩ والنسل مع الحياة وليس إحدى الضروريات الخمس لأنه
استمرار لها.
ثانيًا العقل، فالعقل شرط التكليف. وهو أول ما يبزغ في
الحياة. فالحياة هي الحياة العاقلة كما عبر ذلك الحكماء
القدماء الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن باجة وابن
رشد.
ثالثًا، الدين لأنه لا يدرك إلا بالعقل، فالعقل أساس النقل
عند المعتزلة، ومن قدح العقل فقد قدح في النقل عند ابن تيمية
زعيم السلفيين في «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول». وهو
مجموعة من الحقائق المعطاة سلفًا والتي يصدقها العقل
والتجربة.
رابعًا، العرض الذي لا يعني فقط اختلاط الأنساب والمحافظة
على صحة النسب بل يعني أيضًا الكرامة الوطنية، والاستقلال
الوطني، والكرامة الإنسانية، واحترام حقوق الإنسان.
خامسًا، المال الذي لا يعني فقط المال الخاص بل المال العام،
والثروة الوطنية ضد التبديد والنهب والاستغلال والتهريب إلى الخارج.
٥٠
والمصالح والمفاسد في الأمور الدنيوية وليست في الأمور
الأخروية؛ إذ لا تعرف الآخرة إلا بالخبر أو قياسًا للغائب على
الشاهد، ولكن لا تعرف بالتجربة.
٥١ والمصلحة والمفسدة أمور تجريبية خالصة. أمور
المعاد أدخل في علم أصول الدين وخارج عن علم أصول الفقه.
الغيبيات خارج عن حدود علم أصول الفقه الذي لا يتناول إلا
المشاهدات التي تخضع للعقل والسبر والتقسيم. وقياسًا للغائب
على الشاهد في الآخرة مصلحة محضة هو خير محض، ومفسدة محض هو شر
محض. وهو ما ينفي تفاوت الدرجات في الدارين.
٥٢
(٥) فهم الشريعة: اللغة العربية
والمقصد الثاني «وضع الشريعة للإفهام» وذلك عن طريق اللغة،
اللغة العربية. فالوحي كلام، والكلام لغة، واللغة أداة تعبير
وإيصال شفاهًا أو تدوينًا. فالشريعة الإسلامية عربية، لسانها
عربي، والقرآن عربي خالٍ من العجمية إلا من الكلمات التي تم
تعريبها من قبل نزول الوحي فارسية أو روسية أو حبشية أو قبطية.
فقد كان العرب في اتصال عبر التجارة مع الشعوب المجاورة، وهو
ما لاحظه الشافعي من قبل في «الرسالة»، ارتباط علم الأصول
بالبيان أي باللغة العربية مثل ارتباط المنطق اليوناني باللغة
اليونانية مما سمح للأصوليين والحكماء والمناطقة بنقد المنطق
اليوناني و«ترجيح أساليب القرآن على منطق اليونان».
٥٣
وألفاظ اللغة لها معنيان. أصلي وفرعي، مطلق ومقيد. الأول
تشترك فيه جميع الألسنة. ويمكن معرفته بالنحو. والثاني خاص بكل
لسان لا تعرفه إلا البلاغة فيما يتعلق بالتركيز والإطناب،
والمجاز والتشابه والتأويل والتقديم والتأخير، والذي كثيرًا ما
يبرز في القصص. الأول يمكن ترجمته ونقله من لسان إلى لسان،
والثاني لا يمكن ترجمته لأنه خاص بكل لغة. وقد أشار إلى ذلك
المناطقة القدماء. لذلك نفى ابن قتيبة إمكان ترجمة القرآن.
القرآن المترجم لفهم المعاني وليس للتعبد.
٥٤ وكل ترجمة تحرص على المعنى يضيع اللفظ وموسيقاه
وتصويره. وكل ترجمة تحافظ على اللفظ تضيع المعنى وتقع في
الحرفية. وهذا هو سبب الإعجاز بمعنى عدم القدرة على تقليده
والإتيان بمثله.
ومِن ثَم يكون النظر في الأحكام هل هي على المعنى الأصلي
وليس المعنى الفرعي، ويكون المعنى الفرعي دالًّا على الأحكام
وليس أصلًا لها. وفي هذه الحالة يكون السؤال: وما لزوم المعنى
الفرعي؟ ألم يستعمل أيضًا في استنتاجه لأحكام وهو جزء من
اللسان العربي، كما فعل ذلك الفقهاء من قبل، الشافعي وغيره،
والأمثلة على ذلك كثيرة؟ ويكون الجواب أن المعنى الفرعي خادم
للأصل ومؤكد له وليس واضعًا لحكم. ولو كان أصلًا للحكم لكان
أصلًا في المعنى. فهو معنى مساند وليس مستقلًّا تستنبط منه
أحكام مستقلة. لا يمكن إهماله وفي نفس الوقت لا يمكن اعتباره
أصلًا.
وقد تدل المعاني الفرعية على آداب شرعية وتخلقات حسنة وإحساس
مرهف بالمعنى من أجل الإقناع والإيحاء بالحكم المستند إلى
المعنى الأصلي مثل النداء المزدوج لله وللإنسان للدلالة على
القرب وللألفة مع الأشياء بتشخيصها وتوجيه النداء إليها،
وضرورة التنزيه وعدم نسبة الشر إلى الله، والأدب في المناظرة،
وإجراء الأمور على العادات في التسببات.
٥٥
لذلك جاءت الشريعة أمية لقوم أميين بواسطة رسول أمي. ولا
تعني الأمية فقط عدم معرفة القراءة والكتابة، وهو المعنى
الحالي نسبة إلى لغة الأم، ولكن أيضًا الطبيعي قبل حالة
التعلم. علوم الأميين فطرية وعلوم الأمم المتحضرة بالاكتساب
والتعلم. تعني الأمية الاعتماد على البداهة ولغة الإشارة
الحسية المرئية والوسائل «السمعية والبصرية» بلغة هذا العصر
مثل لغة الأصابع، ولغة اليد، ولغة العينين، ولغة الوجه والرأس،
باختصار «لغة البدن».
٥٦
كانت للعرب علومهم الطبيعية التلقائية الفطرية. أبدعوها من
وحي الحاجة والبيئة مثل علم النجوم للاهتداء بها في البر
والبحر. ثم استعمل بعد ذلك في الشريعة لمعرفة مواقيت الشعائر.
وعلم الأنواء وأوقات نزول الأمطار وانتشار السحب وهبوب الرياح،
علوم أهل صحراء، نقَّته الشريعة وأبقت ما هو علمي واستبعدت ما
هو خرافي، وهو ما سماه الحكماء «علم أحكام النجوم».
٥٧ وعلم الطب كان مأخوذًا من تجارب الأميين قبل نقل
علوم الأوائل. وعلوم البلاغة والفصاحة وأساليب الكلام من بيان
وبديع كانت وراء الإحساس بإعجاز القرآن. وعلوم مكارم الأخلاق
كانت تعبيرًا عن الفطرة مثل الصدق والعدل والشجاعة ونصرة
الضعيف وموالاة المظلوم. أقر الوحي البعض وعدَّل البعض الآخر،
وأكمل نوعًا ثالثًا، ورفض علوم الفأل والطيرة والزجر
والطالع.
والسؤال هو هل ذكر القرآن والحديث والحث عليها يدل على معرفة
العرب بها أم توجيه العرب نحوهما بالنظر في الطبيعة والتعرف
على قوانينها ثم الاهتداء بها في أمور الدنيا والاستدلال بها
على التوحيد؟
٥٨ هل القرآن مصدر علم لحياة العرب في الجاهلية أم
أنه واقع على إنشاء علوم الطبيعة من أجل الانتقال إلى ما بعد
الطبيعة كما لاحظ المتكلمون والحكماء والصوفية بجعل الطبيعة
مقدمة لما بعد الطبيعة وكما أورد الغزالي:
وفي كل شيء له آية
تدل على
أنه الواحد
لذلك تفهم الشريعة بطريقة الأميين الذين نزل الوحي بلسانهم
في الألفاظ والمعاني والتراكيب وأولوية المعنى على اللفظ.
فالمعنى هو الغاية واللفظ وسيلة. ومن هنا أتت شرعية التأويل
والمجاز. بل إنه يمكن تبديل بعض الألفاظ بألفاظ أخرى أكثر قدرة
على التعبير عن المعاني وإيصالها. والأمثلة على ذلك من الشعر العربي.
٥٩ كما يمكن إهمال بعض الألفاظ كلية، والتعبير العربي
بعيد عن التكلف والاصطناع. وهو ما عابه الأصمعي على الخطيئة،
وما يُعاب على الخطاب الفلسفي الغربي المعاصر. وتفهم العبارة
كما يفهمه عامة العرب وليس خاصتهم في الأمور «الجمهورية»
بالرغم من نزول القرآن على سبعة أحرف أي على مستويات متعددة من
العمق والفهم طبقًا لمستوى الثقافة والعمق.
٦٠ وقد لا يفيد اللفظ معنى محددًا ولكن يفيد بموسيقاه
وجرسه وإيحاءاته مثل «الأب» في «فاكهة وأبًّا» ومثل «المرسلات»
و«العاصفات» دون التوغل في المقصود منه والبحث عن المطابقة مع
الشيء. قد يكون المقصود منها إثارة النفس والخيال في «نظرية
الكشف» وليس الإحالة إلى شيء في «نظرية المطابقة». المقصود هو
تعقل التكاليف الاعتقادية والعملية من أجل تحقيقها. فليس النظر
غاية في ذاته ولا الخطاب غاية في ذاته كما هو الحال في
اللسانيات المعاصرة. تكون التصورات أي الاعتقادات سهلة الفهم
والتكاليف واضحة وميسورة. ولغياب ذلك نشأت الفرق الكلامية
والمذاهب الفقهية المتكلفة مثل فقه الفرق. وفي العمليات يكون
الفهم طبقًا للأميين والبدو أي الفهم الطبيعي التلقائي دون
تكلف واصطناع الباطنية. وهذا لا ينافي تدقيق النظر في الأحكام
في مواطن الشبهات. وهي أمور إضافية لا تعبد فيها من باب الجليل
أو الدقيق من الكلام. فالناس في فهم الشريعة على مراتب
ومستويات مختلفة من العمق والقدرة على التأويل طبقًا لتعدد
الثقافات والتخصصات والاختصاصات والهبات والقدرات الطبيعية.
والتطبيق التدريجي للتكاليف ينعكس على الفهم فتظهر الصياغات
اللينة التدريجية التي لا تغفل المراحل وحتى يتعود الناس على
التكليف الجديد، والشديدة الصارمة التي تريد تغيير الواقع دفعة
واحدة، مما يؤدى إلى قتل الأنبياء وعصيان أقوامهم.
٦١
لا يعني ذلك كما ادعى بعض القدماء والمحدثين أن القرآن حوى
كل العلوم، مسيئين تأويل آيات مثل
مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ،
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا
لِكُلِّ شَيْءٍ وضع القدماء فيه علوم عصورهم الطبيعيات
والتعاليم والمنطق والحروف كما وضع فيه المحدثون علوم الطب
والكيمياء والذرة وطبقات الأرض والهندسة الوراثية، والعلوم
الإنسانية مثل علوم النفس والاقتصاد والسياسة والاجتماع بدعوى
أن القرآن سابق على علوم العصر. ومن ثم فالمسلمون أفضل من
الغربيين، خير أمة أخرجت للناس. وأفاضوا في أسرار القرآن مثل
فواتح السور. وتركوا التفسيرات الاجتماعية والسياسية التي تأخذ
حقوق الفقراء من أموال الأغنياء، وحقوق الضعفاء من سلطة الأقوياء.
٦٢
ولا تبعد «إسلامية المعرفة» عن ذلك كثيرًا؛ إذ إنها تأخذ
المعارف الغربية الحالية التي توصل إليها الغربيون بجهودهم ثم
«غربلتها» بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ما اتفق منها
معها يكون إسلاميًّا، وما اختلف معها يكون غير إسلامي في حاجة
إلى تصحيح تقوم به العلوم الاجتماعية الإسلامية. وهو موقف
ينتهي أولًا إلى التسليم بأن آخر ما وصل إليه العلم هو ما توصل
إليه الغربيون.
٦٣ يعبر عن إحساس بالنقص أمامهم، وتأبيد هذا الإحساس
في الأمة منتظرين ماذا يأتي به الغربيون. فالعلم من الغرب.
والغرب ليس مصدرًا للعلم بل موضوعًا للعلم. ثانيًا اقتصار دور
الأمة على النقل دون الإبداع وعلى إصدار الأحكام بالصواب
والخطأ على العلوم الغربية ليس بناءً على مراجعات علمية بمناهج
علمية كما يفعل العلماء مع العلماء. ويكون مقياس ذلك هو الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية بكل ما في ذلك من انتقاء وابتسار
واجتزاء وتأويل وتشابه ومجاز وإطلاق. وهو نوع من الكسل العقلي
والتبعية العلمية لم يكن طريق القدماء الذين أبدعوا في العلوم
الرياضية والطبيعية ولم يكتفوا بنقل اليونان.
٦٤ ثالثًا، وماذا لو تغير العلم الغربي إلى النقيض
كما هو معروف في تاريخ العلم؟ هل يتغير فهم القرآن معه؟ في هذه
الحالة تؤدي «أسلمة العلوم» إلى ربط الثابت وهو الوحي بالمتغير
وهو العلم. ويصبح العلم هو الرائد والوحي هو التابع. رابعًا،
ولماذا يكون العلم غربيًّا وهناك علوم الصين والهند واليابان؟
هل «أسلمة العلوم» ما زالت مرتبطة بعلاقتنا بالغرب إبان العصر
الاستعماري، وإكمالًا لحركة التحرر الوطني عن طريق الثقافة
والعلم بطريقة «وداوني بالتي كانت هي الداء»؟
(٦) القدرة ورفع الحرج: عدم جواز تكليف ما لا يطاق
والمقصد الثالث «وضع
الشريعة للتكليف». ولا يكون التكليف إلا طبقًا للقدرة وعدم
جواز تكليف ما لا يطاق، ورفع المشقة. فإشباع الحاجات الضرورية
للإنسان لا يمكن إغفالها لأنها جزء من طبيعة الإنسان خارج
دائرة الكسب، الأفعال الخارجية والداخلية. وهو نوعان مثل أفعال
الشعور الداخلية كالعلم والحب والصفات الفطرية، كالشجاعة
والحلم، وهي خارج أفعال التكليف.
٦٥ ولا يوجد تكليف بالأوصاف الجبلِّية التي لا اختيار
للإنسان فيها. فالتكليف قائم على حرية الاختيار. وكذلك لا يجوز
التكليف بالشاق، لا فرق بين أشاعرة ومعتزلة. وترفع المشقة عن
أعيان الأفعال وعن كلياتها معًا. وهو حكم العادة والإجماع. ولا
يعني ذلك إسقاط مشقة مقاومة اتباع الهوى. بل إن المشقة في هذه
الحالة جزء من الفعل. المباح لا مشقة فيه. إنما الواجب
والمحظور فيقترنان بالمشقة للفعل أو عدم الفعل. لذلك شُرعت
الرخص لرفع المشقة والحرج. ولقد قام النسخ على أساس رفع
المشقة، والتحول من الأثقل إلى الأخف أو من الأخف للأثقل. وفي
كلتا الحالتين يُقد الحكم على قد القدرة. أو ينتج عن المشقة
فساد يعارض أصل المصلحة.
٦٦
والمشقة على درجات. ما لا يطاق وهي مانعة من التكليف،
والخارجة عن المعتاد وهي مانعة من التكليف أيضًا، والزائدة على
المعتاد وهي غير مانعة من التكليف بل هي اختبار وابتلاء.
والقصد هو المحك وليس قدر المشقة. وأخيرًا مشقة مخالفة الهوى
وهي مقصودة بالتكليف. ولا تقصد المشقة لذاتها حتى يراد الثواب
لأن الأعمال بالنيات، وإلا تحول التكليف إلى تجارة، والفعل
الشرعي إلى مكسب وخسارة.
وسبب رفع الحرج الخوف من الملل والانقطاع والتحول من النقيض
إلى النقيض، والمزايدة والتكلف والادعاء والتنطع في الدين
والرغبة في الثناء من الناس أو زيادة الكسب في الآخرة، وتعطيل
شئون الدنيا، وعدم القدرة على الإتيان بالأفعال الشرعية
الأخرى. وقد تكون المشقة في الامتناع عن المحرم أكثر منها في
الإتيان بالواجب. فمجاهدة النفس نوع من المشقة. ولا ينطبق مثل
«الصلاة في الدار المغصوبة» على رفع المشقة والخوف من القبض
على الإمام من الأعداء بل على أولوية تحرير الأرض على الصلاة
فيها، وأولوية الولاية العامة على الولاية الخاصة.
٦٧
وتعني القدرة ورفع المشقة والحرج بلغة العصر أولوية الواقع
على الفكر، والحفاظ على الحياة كأحد الضروريات الخمس، وعدم
التنطع في الدين.
وهناك حالات خاصة مثل الأصفياء والأتقياء والأولياء، حالات
البطولة والتضحية، حيث تكون المشقة لديهم وسيلة للخير الحميم
وتأتي عن طبيعة دون تكلف واصطناع كسهر الليالي من العلماء.
تعتمد على أخبار آحاد، وتُؤَوَّل تأويلًا خاصًّا. ومعارضة
بأحاديث أخرى متواترة. ويُغلَّب التواتر على الآحاد في حالة
التعارض. هؤلاء هم أرباب الحظوظ وأصحاب المواهب، والاستثناء من
القاعدة. وهو نفس موقف ابن تيمية في اعتبار التصوف للخاصة وليس
للعامة. وكما لا يطلب وقوع المشقة العادية لا يطلب رفعها لأنها
جزء من التكليف والجهد بذل الوسع وممارسة الحرية. والحرج العام
أقصى من الحرج الخاص. فحرج الجماعة أقصى من حرج الفرد. قد يسقط
الحرج العام ولا يسقط الحرج الخاص إذا كان من المعتاد.
٦٨
والمشقة تكون على التوسط والاعتدال.
٦٩ لذلك كان الشافعي فقيه الوسطية هو الأكثر ذكرًا من
الفقهاء في المقاصد. وكلا طرفي الأمور ذميم. وكل ما هو متوسط
معتدل داخل في مقدور العبد. وكثيرًا ما يكون هدف التشريع رد
الطرف إلى الاعتدال، لا فرق بين سلوك البدن وأحكام التكليف.
الغاية من التشدد هو الاعتدال لأنه تشدد طرف مع طرف متشدد.
والاعتدال هو السبب في السماح بالرفض حتى تزول المشقة الزائدة.
ويعرف الاعتدال من الشرع والعادة والفعل نظرًا لتطابق الوحي
والعقل والطبيعة.
والمشقة أمر دنيوي وليست أمرًا أخرويًّا
٧٠ فالمصالح أمور دنيوية وليست أخروية، هي مصالح
العباد لأنه الله لا يجوز عليه المصالح. وقد تكون المشقة على
غير المكلف وهو ما ينتج عن الولاية العامة. وفي هذه الحالة يجب
الترجيح.
ومِن ثَم فإن تشدد الجماعات الإسلامية المعاصرة قد يخرج عن
إطار القصد الثالث وضع الشريعة للتكليف عندما تتشدد في حرفية
التكليف دون روح الأحكام، وعندما تركز على العبادات دون
المعاملات، وعندما تجعل هم الشريعة البدن والعري والعلاقات
الجنسية وليس الفقر والقهر والعلاقات الاجتماعية. ومن مظاهر
تشددها تكفير المجتمع والانعزال عنه وتكوين جماعات مغلقة طاهرة
هي جماعة المؤمنين وسط مجتمع الكفر. ولا علاقة بين الاثنين إلا
بأن يقضي أحدهما على الآخر، والنصر للأقلية المؤمنة على
الأغلبية الكافرة. إن التشدد ظاهرة اجتماعية طبيعية في مجتمع
يغلب عليه التسيب والتميع والانحلال والضياع. قد يكون التشدد
هنا جرس التحذير والانتباه. فالطرف يؤدي إلى الطرف الآخر. وقد
يعبر عن رغبة لانتصار سريع ومحدود على مستوى «جهاد النفس» إن
تعثر الانتصار على الجهاد الأكبر، جهاد العدو، وتمترسنا بآية
إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ.
(٧) مقاومة الأهواء والحظوظ والكرامات وإثبات العادات
والقصد الرابع هو «وضع الشريعة للامتثال» وتعني التمثل
والطاعة وتحويل الشريعة إلى بناء شعوري للإنسان وهو قصد الشارع
من دخول المكلف تحت أحكام الشريعة وإخراجه من دواعي الأهواء
حتى تتأكد حرية الأفعال وضرورة التكليف. فالكون يقوم على الحق
وليس الهوى ومصالح العباد موضوعية ولا تخضع للأهواء. ولا عبث
في الكون بل كل شيء فيه لحكمة. ومِن ثَم فإن كل الأعمال التي
تقام على الأهواء هي أعمال عبثية، عبادات أو عادات. لذلك كتب
الفقهاء في «ذم الهوى» مثل الهروي. الهوى ظن والحق يقين. الهوى
مفسدة واليقين مصلحة. واتباع الهوى في المحمود طريق إلى
المذموم. وإن متبع الهوى كالمرائي يتخذ الأحكام آلة لاقتناص
أغراضه كمن يبدل النساء بدعوى تعدد الزوجات والطلاق، وينغمس في
الحياة الدنيا بدعوى عدم جواز تحريم ما أحل الله من طيبات، ومن
يكسب الملايين بدعوى دفع الزكاة، ويبني عقارًا ويجعل أسفله
مسجدًا لإلغاء ضرائب العقار والعوائد.
٧١
والمقاصد الشرعية
ضربان: أصلية وفرعية (تابعة). الأصلية لاحظ فيها للمكلف لأنها
الضروريات المعتبرة في كل ملة. هي مصالح عامة أو منافع عمومية
وليست حظوظًا شخصية. والضرورة إما عينية على كل مكلف أو كفائية
إذا قام بها مكلف سقطت عن الآخر. وكلاهما معرًّى عن الحظ. فلا
أجر على الولاية والعلم والقضاء والحكم والإحسان والإقراض.
لذلك حرم الربا. والمقاصد الفرعية هي التي قد تتحقق فيها حظوظ
المكلف مثل إشباع الحاجات والتمتع بمباهج الدنيا. وهي خادمة
للمقاصد الأصلية. وهنا تتحول العادة إلى عبادة. والحظ قد يكون
مقصودًا عاجلًا مثل المعاملات أو غير مقصود آجلًا مثل الولاية
العامة وما تجلبه من عز السلطان ونخوة الرياسة. وقد تكون
الحظوظ مباشرة للنفس أو غير مباشرة للغير مثل الزوجة والأولاد
والرعية. وفي الحظوظ عموم وخصوص، حظ المكلف بالقصد الأول، وحظ
الآخر بالقصد الثاني، وقسم متوسط بين الاثنين.
٧٢
وقد يتخلى المكلف عن حظه ويكون فعله لله وللناس.
٧٣ ويكون العمل صحيحًا إذا ما روعيت فيه المقاصد
الأصلية، وهو أقرب إلى الإخلاص في العمل. أما الترهب فإنه
تنازل عن حظ صغير لنيل حظ أعظم مثل الزهد في الدنيا. العمل على
المقاصد الأصلية فيه صلاح عام وعصيانها فيه فساد عام.
٧٤ والعمل طبقًا للمقاصد التابعة قد يحقق المصالح
الأصلية. وإن يحققها كان حظًّا للنفس.
٧٥ والحظوظ أقسام. الأول ما يرجع إلى صلاح الهيئة
وحسن الظن عند الناس، والثاني حظ النفس من الدنيا دون مراءاة
أو بمراءاة الناس.
٧٦ والمقصود هو الحظ الدنيوي وليس الحظ الأخروي.
الأول معروف بالعادة والتجربة، والثاني بالقياس.
والمطلوب الشرعي عادة أم عبادة. العادة سلوك أفقي في
المعاملات، والثانية سلوك رأسي في العبادات. النيابة في العادة
صحيحة أما النيابة في العبادة فإنها تعارض مبدأ الاستحقاق الذي
يقوم على أساس كسب الأفعال وتصور فردي لعلاقة العمل بالجزاء.
فإذا كانت فيه نيابة فإنه يكون تحقيقًا للفعل التواصلي بين
الأفراد، بين الأحياء والأموات في نطاق القرابة والصداقة
والأخوة والأمة، واعتمادًا على مبدأ الرحمة بعد مبدأ العدل.
فالشارع عادل يطبق قانون الاستحقاق، ورحيم يطبق الشفاعة
والنيابة والمغفرة. النيابة رؤية إنسانية ومشاركة وجدانية،
وعطاء فردي يشبه أخذ حقوق الفقراء في أموال الأغنياء. علاقة
الإنسان بالله علاقة فردية وعلاقته بالإنسان علاقة تبادلية.
العلاقة بالله علاقة حرية ومسئولية وعلاقة الإنسان بالإنسان
علاقة تبادل منافع ومصالح. الفعل التواصلي كالصدقة الجارية،
وقبول الدية في حالة الخطأ العمد، وتحمل المسئولية حتى بعد
الموت من أفعال الميت أو الحي، وفرض الكفاية. والجزاء الجامعي
لا يقلل من شأن الأفعال الفردية. ومع ذلك يظل مبدأ الاستحقاق
أقوى، وقانون العدل له الأولوية على فضل الرحمة. والمستحق
بالعمل خير من المستحق بالشفاعة والواسطة.
٧٧
ومن مقصود الشارع ودوام التكليف. فالأمر للتكرار دون حاجة
إلى تجديده. وقد غالى الصوفية في ذلك بإلزام أنفسهم بالأوراد
في كل وقت. والتكليف عام للناس جميعًا طبقًا للحد الأدنى من
القدرات العامة، لا يخص فردًا متميزًا أكثر أو أقل. والخطاب
مصوغ على أواسط الناس في القدرات النظرية والعملية. فالعباد
حوامل النص ومراياه. ويقاس على الخطاب العام ولا يقاس على
الخطاب الخاص، بالرغم من حديث الصوفية عن المناقب، مناقب
الصحابة والأولياء. وتستنبط الأفعال الخاصة من القواعد العامة.
ومعروف في علم الأصول خصوص السبب وعموم الحكم. ويفتح هذا الأصل
باب الكرامات والمعجزات، ولا يمكن غلقه فيضيع التكليف العام.
وإن لم تعارض الكرامة الحكم الشرعي فالعمل به أولى. قد تعني
الكرامة إحساسًا غامضًا، وتوجسًا، وقدرة على رؤية المستقبل وهو
موضوع دراسة في العلوم الاجتماعية في علم المستقبليات أو في
علم النفس مثل التراسل الروحي، والرؤية عن بعد، وصدق الأحلام.
وإذا كانت الكرامة لا تعارض الأحكام الشرعية وفيها مصالح
العباد وتنبيه وتحذير للاستعداد، فالأولى اتباع الأصول الشرعية
وليس فروعها.
٧٨
وتفهم الخوارق كلها طبقًا لمجرى العادات ونصوص الشريعة
ونهاية عصر المعجزات التي قام بها الأنبياء السابقون قبل خاتم
الأنبياء كوسيلة للإقناع ولم تعد كذلك بعد اكتمال النبوة، بعد
استقلال الوعي الإنساني عقلًا وإرادة، في النظر والعمل.
٧٩
وخصوصية الرسول كحكم فيما وقع بين الناس من اختلاف، وصلاة
الله وملائكته على النبي، وعطاء الله ورضاه عنه، وغفرانه
لذنوبه ما تقدم منها وما تأخر، وتكريمه بالوحي ونزول القرآن
عليه، وشفاعته التي خص بها، وشرح الله صدره، واختصاصه بالمحبة،
وأنه أكرم الأولين والآخرين، وشهادته على أمته، وما أجريت على
يديه من كرامات، ووصفه بالحمد في الكتب السالفة، وبالعلم مع
الأمية، والعفو قبل السؤال، ورفع الذكر وموافاته ومعاداته
موافاة لله، والاجتباء، والتسليم، والتثبيت، والعطاء، وتيسير
القرآن، والسلام عليه في الصلاة، واشتراكه مع الله في الأسماء
وطاعته، وشفقته وصفائه، والعصمة، وإمامة الأنبياء، كل ذلك لا
يدل على خصوصية في خطاب التكليف. وقد اعتمد الصوفية على هذه
المناقب لمدها من الرسول إلى الأولياء، وخرقوا بها قواعد الشرع
وشخصوا بها حياة الرسول، وعظموا شخصه حتى خرج على الحدود كما
فعلت النصارى مع عيسى ابن مريم بالرغم من نهي الرسول عن
إطرائه.
الشريعة عامة لكل المكلفين، وجارية على مختلف أحوالهم. وهي
تتعلق بعالم الشهادة حيث تقاس المصالح والمفاسد. ولا يعلم عالم
الغيب إلا قياسًا، قياس الغائب على الشاهد. تقوم الشريعة على
العموم وليس على الخصوص، على اطراد قوانين الطبيعة وليس على
خرقها، على القاعدة وليس على الاستثناء.
والعوائد جارية ضرورة، شرعية أو طبيعية اجتماعية مثل القصاص.
ولا يقدح في العادة إمكانية خرقها. لذلك أصبح «مجرى العادات»
أحد مقاييس الصدق عند ابن حزم وجمهور الأصوليين.
٨٠
والعوائد نوعان شرعية مثل أفعال التكليف الخمسة: الواجب
والمحرم والمندوب والمكروه والمباح، وطبيعية وهي العوائد
الجارية بين الخلق، القوانين الطبيعية والنظم الاجتماعية.
وكلاهما ثابت ومتغير في آن واحد. فكشف الرأس قبيح في المشرق
غير قبيح في المغرب. والعوائد نوعان: الأول كلية عامة لا تتغير
مثل الحاجات البدنية الأساسية، والثاني العوائد الاجتماعية
المتغيرة من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان.
٨١
وتعظم الطاعة والمعصية بعظم المصلحة والمفسدة. والمصالح
والمفاسد ضربان. ما بهما صلاح العالم وفساده مثل إحياء النفس
أو قتلها، وما به كمال ذلك الصلاح كالمساواة بين الأغنياء
والفقراء. الأمر يقتضي المصلحة، والنهي يقتضي الفساد. فالأوامر
والنواهي قائمة على جلب المصالح ودفع المفاسد. وكلها حق
الإنسان لأن الشارع غني لا تنفعه مصلحة، ولا تضره
مفسدة.
إذا كان الأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني
على عكس العادات. فإن هذا يطعن في فهم الحكمة في العبادات. وقد
اطردت المعاني عند الحكماء. وقد لا تخلو العادة من التعبد
ولا يخلو التعبد من العادة. والتعبد على الاقتضاء أو التخيير.
وإذا كانت الشريعة موضوعة لمصالح العباد فإن شكر الشارع يكون
بتنفيذها لأن شكر النعم واجب عقلي كما يقول المعتزلة.
٨٢
(٨) مقاصد المكلف: الفعل التبادلي والحيل
وكما أن للشارع مقاصد للمكلف أيضًا مقصد أو نية. وكما أن صحة
الأحكام الشرعية في مقاصدها كذلك صحة أفعال المكلف في مقصده
طبقًا للحديث الشهير «إنما الأعمال بالنيات». فلا تكليف على
الغافل والنائم والصبي والمجنون.
ونظرًا للتمييز بين العادة والعبادة، وفي العبادة بين الواجب
والمحرم، وفي العادة بين المندوب والمكروه، والصحيح الفاسد، لا
تحتاج العادة إلى نية لأنها طبيعية ثانية، والعبادة تحتاج إلى
نية متجددة. والإكراه يبطل النية. فالعمل فعل حر.
٨٣
ويكون الفعل شرعيًّا في حالة اتفاق القصدين، قصد الشارع وقصد
المكلف، نوع من التوحد الفعلي بين المقصدين، ليس التوحد
المعرفي النظري كما هو الحال في وحدة الشهود أو الوجودي الكوني
كما هو الحال في وحدة الوجود عند الصوفية. قد تتم الموافقة بين
المقصدين بقصد الموافقة وهو الفعل الشرعي أو المخالفة بقصد
المخالفة وهو الفعل اللاشرعي، وأن تكون الموافقة بقصد المخالفة
وهو التحايل والرياء أو أن تكون المخالفة بقصد الموافقة وهو
عذر واجتهاد. وكل فعل له قصد مغاير لقصد الشريعة فهو فعل غير
شرعي. فالشريعة وضعت لمقاصد. ومخالفتها مخالفة للشريعة.
٨٤ وللمكلف تحقيق مصلحة الشرع بعد أن يفهم قصده أو عن
دون فهم أو مجرد امتثال الأمر. والأفضل عن فهم حتى تستند
الحرية إلى العقل ولا يتحول الفعل إلى مجرد تنفيذ آلي.
٨٥
وقد يكون في الفعل مصلحة للنفس ومفسدة للغير. وشرط فعل
المكلف أن يحقق مصلحة النفس دون الإضرار بالغير عن قصد أو عن
غير قصد.
٨٦ فلا يكفي التطابق بين قصد المكلف وقصد الشارع، بل
يلزم أيضًا تطابق قصد المكلف ومصلحة الآخر والصلاح في العالم
ضد الإفساد في الأرض. وفي نفس الوقت لا يجوز القيام بمصالح
الغير العينية إلا عند الضرورة وبعد القيام بمصالح النفس
أولًا. وإذا كانت هناك مشقة سقطت عنه إذا كانت مصلحة خاصة،
ووجبت إذا كانت المصلحة عامة طبقًا لقاعدة تقديم المصلحة
العامة على الخاصة أو ترجيح المصلحة الأكثر على المفسدة الأقل.
٨٧ وحقوق الله لا خيرة فيها للمكلف مثل العبادات
والجنايات، وحقوق العبد له فيها الخيرة مثل الحاجات. فالمصالح
ميدان الضرورة والحرية.
٨٨
والتحايل هو إسقاط حكم بظاهر مشروع أو غير مشروع فينقلب قصد
الشارع إلى قصد مضاد. والمقاصد مطلقة لا تنقلب إلى نقيضها.
فالحيل بهذا المعنى غير مشروعة، ومفوتة للمصالح المقصودة
للشرع. الحيل باطلة شرعًا مثل حيل المنافقين والمرائين. وهناك
حيل مشروعة مثل النطق بكلمة الكفر إكراهًا، منعًا للإضرار
بالنفس، ورفعًا للمشقة، وعدم تكليف النفس بما لا يطاق. وهناك
حيل بين الشرعية واللاشرعية مثل نكاح المحلل وهو غير جائز
شرعًا، والبيع بالآجال مع زيادة في السعر، بدعوى غياب مقصد
المشرع. والحقيقة أن مقاصد الشرع واضحة وضوحًا أصليًّا لا
اشتباه فيه. وعلل الأحكام واضحة بينة.
٨٩ والتحيل هو تغليب الأهواء والحظوظ الذاتية على
المقاصد والمصالح الموضوعية، وبالتالي القضاء على وضعية الشريعة.
٩٠
(٩) أهداف الأمة
إن تطابق مقاصد الشارع مع مقاصد المكلف لا يكفي لوضعية
الشريعة، تطابق الوعي العام مع الوعي الفردي دون المرور بالوعي
الجماعي أو الانتهاء إليه. فالله والفرد والأمة ثلاثة أطراف في
المقاصد. مقاصد الشارع ومقاصد المكلف ومقاصد الأمة مقاصد
واحدة.
فإذا كانت الضروريات الخمس لب المقاصد، وضع الشريعة ابتداءً،
الحياة والعقل والقيمة الثابتة والكرامة والثروة الوطنية،
فإنها يمكن أن تكون حاملًا للأهداف القومية التي تعطي النظم
السياسية شرعيتها إذا ما قامت بتحقيقها، ويلتقي عليها
الإسلاميون لأنها مقاصد الشريعة، والعلمانيون لأنها مقاصد
الأمة.
الحياة مقصد الشريعة الأول وقصد الفرد وهدف الأمة، الحفاظ
على حياة الأمة في التاريخ ضد مظاهر العدم والفناء الداخلية
والخارجية، الجهل والجوع والقحط والوباء والانحلال في الداخل،
والعدوان والاحتلال والغزو والسيطرة والتبعية في الخارج. تحرير
الأرض جزء من حياة الأمة. وتدمير الحياة جزء من القضاء على
الشعب كما يحدث في فلسطين الآن. إن تعرَّض الشاطبي لموضوع
«الصلاة في الدار المغصوبة» يتجاوز اجتماع الأمر والنهي في
مكان واحد بتعبير الأحناف أو الحسن والقبح بتعبير المعتزلة أو
كونه مثلًا للمشقة أو اجتماع قصدين في آن واحد بل هي مسألة
أولوية تحرير الأرض على صلاة الإمام فيها، وبالتالي تبطل زيارة
القدس المحتلة.
٩١ إن العالم العربي قلب العالم الإسلامي ما زال
يعتمد في ثلاثة أرباع غذائه على الخارج، وتجارته مع الغرب تمثل
ثلاثة أرباع تجارته الخارجية، والتجارة مع أقطاره لا تزيد على
عُشر تجارته مع الغرب. ولدى الأمة الوفرة في الثروات الطبيعية
والأموال من عوائد النفط والخبرات العلمية والعمالة ما يحقق
لها الاعتماد على الذات والتنمية المستقلة.
٩٢
والعقل كضرورة ثانية يعني بالنسبة لأهداف الأمة القضاء على
الجهل والخرافة والسحر والعلم غير النافع وكل مظاهر
اللاعقلانية في حياة الأمة. هو القدرة على التفكير والإبداع
وليس النقل والتقليد في نظم التعليم من المدرسة إلى الجامعة.
لا فرق بين من ينقل من القدماء أو ينقل من المحدثين، بين من
قال: قال ابن تيمية ومن قال: قال كارل ماركس، دون أن يعرف ماذا
يقول هو وماذا يقول الواقع. هي حجة السلطة، سلطة النص، ولا فرق
بين نص التراث ونص الحاكم. وظيفة العقل في كلتا الحالتين الفهم
والتبرير، والطاعة والخضوع. في حين أن وظيفة العقل البرهان بعد
الشك ثم النظر. العقل يسيطر على الطبيعة عن طريق معرفة
قوانينها وبالتالي ينشأ العلم. ويتوجه إلى المجتمع ويكتشف
قوانين حركته وبالتالي ينشأ العلم الاجتماعي. يؤسس العلم ويشيد
المجتمع، ويرشد الحياة. ما زال محو الأمية هدفًا قوميًّا، أكثر
من نصف المجتمع أمي في عالم معاصر يتحدى بالعلم وبالثورة
العلمية. ومن يملك العلم يملك القوة. وإذا كان الغرب قد بدأ
عصوره الحديثة على «أنا أفكر فأنا إذن موجود» ثم تخطئ الإرادة
لأنها أوسع نطاقًا من الذهن ومِن ثَم فلا حدود للقوة، فإن
المعتزلة قد أثبتوا الوجود الإسلامي على «أنا حر فأنا إذن
موجود»، ثم يأتي العقل سندًا للحرية قادرًا على التمييز بين
الحسن والقبيح وحتى تكون حرية عاقلة مسئولة. وهو ما حاول محمد
عبده التعبير عنه من قبل في «رسالة التوحيد».
يعني الدين الحقيقة المطلقة الشاملة، القيمة الإنسانية
العامة التي تتفق عليها كل الشعوب، وترد في أمثالها العامية
وحكمتها المتوارثة، معيار الخلاف بين الناس، ونقطة الالتقاء
التي يتم عليها الائتلاف. ولما كان الدين واحدًا، اكتملت فيه
النبوة، وانتهت إليه غاية الوحي ومراحله المختلفة عبر التاريخ،
فالأمة واحدة إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.
وحدانية الله، وشمول الحقيقة، ووحدة الأمة ضد التضارب والتشتت
والاختلاف والتقاتل، واتخاذ الأهواء آلهة على مستوى النظر، وضد
التجزئة والتشرذم والتفتيت والبعثرة على مستوى العمل، ضد
الطائفية والعرقية والعشائرية والقبلية والمذهبية، عربي بربري،
كردي أعجمي، شيعي سني، درزي علوي، شمالي جنوبي، مسلم قبطي،
نجدي حجازي. ولما كانت الشهادة «لا إله إلا الله» إعلان حرية
الضمير، بالنفي والاعتراض ضد آلهة العصر المزيفة حتى يتحرر
الوجدان إلا من إله الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع، فإن
الدين يعني التحرر من كل صنوف الخوف والقهر والتسلط والطغيان.
ولما كان الدين واحدًا فالحقيقة واحدة ضد المعيار المزدوج،
والنسبية واللاأدرية الغنوصية والعدمية والتي تقضي على العقل
لحساب القوة، وعلى الحكمة لحساب التسلط، ولما كانت الوحدانية
تحررًا فإن العالم ذا القطب الواحد، ووحدانية السوق، والعولمة
ومظاهرها في المنظمات المالية والتجارية الدولية واستعمال
المنظمات الدولية كأداة في أيدي القوة الكبرى للسيطرة على
الشعوب بالحصار والتهديد والتفتيت والإملاء، فإن ما يسمى
بالعولمة التي شرعت الشركات المتعددة الجنسيات والرأسمالية
كنهاية للتاريخ وكأن الزمن قد توقف، هو تسلط جديد وأحد أشكال
الهيمنة الحديثة بما تفرز من قيم استهلاكية وعنف وجريمة وتجارة
بالجنس. وباسم ثورة المعلومات والاتصالات يتم حجبها، وباسم
العالم قرية واحدة تتم السيطرة عليه عبر الأقمار الصناعية،
وباسم المجتمع المدني يتم إنهاء استقلال الدولة الوطنية
الحامية للحدود ولحقوق الضعفاء، وباسم حقوق الإنسان يتم شق
الصف الوطني، وباسم حقوق الإنسان يتم نسيان حقوق
الشعوب.
والعرض هو الكرامة الوطنية، كرامة الإنسان والوطن، حقوق
الأفراد والشعوب. فمنذ الاستعمار الروماني عبر الحروب الصليبية
حتى المركزية الأوروبية الحديثة والغرب مركز العالم وغيره في
آسيا وأمريكا اللاتينية الأطراف. في المركز السادة، وفي
الأطراف العبيد، منذ
Pax
Romana حتى
Pax
Americana. في المركز العقل والتنظير والمنطق
والاستدلال والعلم والتجربة والطبيعة والإنسان والحرية والإخاء
والمساواة. وفي الأطراف السحر والخرافة والتناقض والشعوذة،
والتنجيم والأرواح والغيب، والقهر والتسلط والعنف والعبودية.
وكل حضارة تطبق مبادئها على ذاتها وليس على غيرها، فينشأ
المعيار المزدوج في الأخلاق والقيم. ولم يقتصر الأمر على نهب
الثروات واحتلال الأرض وسرقة السكان الأصليين من أفريقيا في
بداية «النهضة» الأوروبية لبناء «العالم الجديد» والقضاء على
إمبراطورية المغول، والالتفاف حول العالم من البحار والمحيطات
بعد فشل الحروب الصليبية في القلب، بل تم نهب حضارات الشعوب
والاستيلاء على ثقافاتها وعلومها وتشويهها منذ بداية الاستشراق
حتى علوم الأنثروبولوجيا المعاصرة.
٩٣ ومِن ثَم أصبح الدفاع عن الهوية الثقافية هو دفاع
عن العرض أحد مقاصد الشريعة الضرورية الخمسة.
وإذا كان المال يعني الثروة الوطنية والموارد الطبيعية أي
المال العام وليس المال الخاص، ثروات الأمم والشعوب وليس ثروات
الأفراد والعائلات الحاكمة فإن المال موفور في الأمة من عوائد
النفط. والثروات الطبيعية في باطن الأرض تحتكر معظمها الشركات
الاحتكارية الأجنبية. وعقول الأمة تعمل خارجها، وفوائض أموالها
تستثمر في البنوك الأجنبية، وفي تمويل الأساطيل الأجنبية في
المياه الإقليمية للدفاع عن النظم السياسية وفي قتل بعضنا
البعض بأموالنا وأسلحة غيرنا. وجزء من الأموال يضيع في مظاهر
البذخ والترف والبضائع الاستهلاكية المستوردة وشراء القصور في
الخارج والتمتع بمباهج الحياة. وتتراكم الثروات في منطقة،
وينتشر الفقر في باقي المناطق، وتفر رءوس الأموال للاستثمار،
ويتم الاقتراض من البنوك الأجنبية التي تستثمر الأموال
العربية. الأموال والسواعد والخبرات والأسواق موجودة داخل
الأوطان ولكن النية غير متوافرة أي مقاصد المكلف، ومقاصد
الشريعة ما زالت مطوية في «الموافقات» نخرجها بين الحين والآخر
في أجهزة الإعلام للافتخار بالتحديث وبعظمة الشريعة واجتهاد
الأسلاف. لقد أتت الثروة في الأمة وهي غير مستعدة فضاعت أو
كادت. وأتت الثورة أيضًا إلى الأمة في نفس الوقت ولم ترتبط
بالجذور فتحولت إلى ثورة مضادة وهزائم. والناس مطحونة بين
الفقر الاقتصادي والقهر السياسي، وفلسطين تتسرب من بين أصابع
الحكَّام وتنزلق بين كراسي الحكم. إن كل ما هو في باطن الأرض
ملك للأمة كما هو معروف في نظرية «الركاز» في الشريعة
الإسلامية. لا يجوز امتلاكه للأفراد أو العائلات ملكية شخصية.
لا يمتلك إلا المنقول والأرض ثابتة.
لا يكفي رصد مقاصد الشريعة كما عرضها القدماء وبلورها
الشاطبي بل تحتاج إلى ربطها بأهداف الأمة كما يفعل المحدثون.
مقاصد الشارع ومقاصد المكلف يحتاجان إلى طرف ثالث، أهداف
الأمة. ويكون تطبيق الشريعة ليس فقط عن طريق تطابق مقاصد
الشارع ومقاصد المكلف بل بتطابق مقاصد الشارع ومقاصد المكلف
وأهداف الأمة.