هل الشورى والبيعة هما الديموقراطية والعقد الاجتماعي؟١
أولًا: مقدمة: قياس المجهول على المعلوم
-
(١)
جرت العادة في العقود الأخيرة بعد أن تأخر العالم الإسلامي عن الإصلاح وبدا وكأنه خارج الزمن ومسار التاريخ، وأن عقارب الساعة قد توقفت بالنسبة إليه وأنه لم يعد يدري في أي مرحلة من التاريخ هو يعيش إن اعتبر الإسلام هذا الكيان الهلامي الذي لا شكل له ولا مضمون. تعددت نماذجه في التاريخ بين خلافة وسلطنة ودولة وإمارة. ثم زيد إليها في العصر الحاضر الملكية والجمهورية والجماهيرية. توصف أحيانًا بأنها عربية، وأحيانًا أخرى بأنها إسلامية، وأحيانًا ثالثة بأنها لا ذا ولا ذاك. يكفي اسم القطر. وتساءل الغرب أكثر مما تساءل الشرق: ما هذا الكيان الغريب الذي اسمه «الإسلام» الذي يحرك الشعوب، ويقيم الدول، ويمارس العنف، ويزهق الأرواح للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء؟ يصفي الخصوم، ويقتل الرهائن، ويقوم أنصاره بعمليات استشهادية في فلسطين، ويناضلون في العراق وأفغانستان والشيشان وكشمير. بل ويقتتلون فيما بينهم. بأسهم بينهم شديد في الجزائر، والحصيلة أكثر من مائة ألف شهيد وكأن الجزائريين ما زالوا في حرب الاستقلال التي كلفتهم مليون شهيد، والقاتل والمقتول في النار. وما هي الفئة الباغية التي يجب قتالها؟ هل كل المسلمين بغاة، يعيشون في نظم الكفر دون الإيمان ومجتمعات الجاهلية دون الإسلام؟
-
(٢)
ولما كانت أحد وسائل المعرفة قياس المجهول على المعلوم، وكانت النظم الغربية المستقرة نظمًا ديموقراطية تقوم على التعددية الحزبية، والأغلبية والأقلية، وتداول السلطة، والوزارة المسئولة، وحرية الصحافة والدستور، والقضاء المستقل، والفصل بين السلطات، وهو نظام مستقر خاصة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، لم تشهد انقلابات الجيش ضدها ولا الثورات الشعبية عليها، شهدت الولايات المتحدة الأمريكية فقط قتل بعض رؤسائها لأنها مجتمع يقوم على العنف والجريمة المنظمة، وجماعات العنف التي تمثل المصالح الكبرى للشركات والجمعيات والطوائف، وهي التي تحكم من وراء الستار، تم قياس المجهول على المعلوم، وإحالة النظام الإسلامي الهلامي الشكل غير الواضح المضمون إلى النظام الغربي الواضح الشكل المستقر المضمون. فيوضع سؤال الإسلام والديموقراطية. الإسلام هو المجهول والديموقراطية هي المعلوم. ويحال المجهول إلى المعلوم. وقد حدث نفس الشيء في كثير من التساؤلات الأخرى مثل «الإسلام والعلم»، «الإسلام والعقل»، «الإسلام وحقوق الإنسان»، «الإسلام والمجتمع المدني»، «الإسلام والعولمة»، «الإسلام وصدام الحضارات»، «الإسلام والحداثة»، «الإسلام والتقدم»، «الإسلام والعدالة الاجتماعية»، «الإسلام والليبرالية» … إلخ. فلا أحد يتشكك في المعاني الواضحة للطرف الثاني بعد حرف العطف «و»، العلم، العقل، حقوق الإنسان، العولمة، المجتمع المدني، صدام الحضارات، الحداثة، التقدم، العدالة الاجتماعية، الليبرالية بالرغم من اختلاف المعاني حولها، وتعدد المذاهب فيها، وتباين الآراء والنظريات بصددها. فما يظن أنه معلوم هو في الحقيقة مجهول. ومِن ثَم تكون إحالة ما يظن أنه مجهول إلى مجهول لا تفيد علمًا ولا إيضاحًا، إنما تعبر عن موقف نفسي يرى أن الطرف الثاني للمعادلة هو الأصل والمعيار، وأن الطرف الأول هو الفرع والمعار. ومِن ثَم وجب إلحاق الفرع بالأصل، والمعار بالمعيار.
-
(٣)
وتعريف طرفي المعادلة يكون بإرجاع طرف إلى ذاته وليس إلى غيره لمعرفة بنيته الداخلية والظروف الاجتماعية والسياسية التي نشأ فيها، والمرحلة التاريخية التي يعبر عنها. فقد يكون لكل طرف بنيته الخاصة، وظرفه الاجتماعي والسياسي الخاص المخالف للآخر. يعبر عن مرحلة تاريخية وروح عصر غير الذي يعبر عنه الطرف الأول. ومِن ثَم يكون القياس في هذه الحالة قياس شبه، وهو أضعف أنواع القياس، وليس قياس دلالة أو علة. وقياس العلة هو أقوى أنواع القياس. ومِن ثَم يكون الخطأ ليس في منطق الجواهر، الإسلام أو الديموقراطية، بل في منطق العلاقات، حرف العطف. فلا يتم العطف إلا بين ما يمكن عطفهما معًا وإلا كان عطفًا غير متجانس. العطف الدال يكون بين شبيهين مثل العالم والكون أو بين نقيضين مثل الحياة والموت ولكن لا يكون بين شبهتين بناءً على خلط الصور في الذهن، والمواقف النفسية التي يغيب عنها الحياد، وتدفعها الأحكام المسبقة. كما أن طرفي المعادلة غير متجانسين كمًّا. فالإسلام دين وحضارة وثقافة ونظم ومؤسسات ومذاهب وفرق. ونظام الحكم فيه أحد جوانبه. أما الديموقراطية فهي أصغر حجمًا. هي إحدى النظريات السياسية في الثقافة الغربية، وليست كلها. وهي لا تشير إلى المسيحية كما يشار إلى الإسلام في الطرف الأول. يمكن مقارنة مفهوم بمفهوم أو نظرية بنظرية مثل الشورى والديموقراطية، البيعة والعقد الاجتماعي، جزءًا بجزء أو كلًّا بكل، وليس كلًّا بجزء. لقد تضخم مفهوم الديموقراطية في الغرب بل وفي أحد أشكاله وهي الديموقراطية النيابية وفاض خارج حدوده الجغرافية بسبب أجهزة الإعلام، فأصبح هو المفهوم–القيمة. في حين لم يحدث ذلك بالنسبة لنظام الحكم في الإسلام الذي ظل منضويًا في الاستشراق مع حكمه الشائع بالخلط بين «الروحي» و«الزمني»، بين الدين والدولة، وأن الحاكمية لله تعني الثيوقراطية التي لفظها الغرب ثم بنى الحكم على أنقاضها.
-
(٤)
وعادة ما تكون الإجابة معروفة سلفًا طبقًا لجدل السلب والإيجاب، ومنطق الغياب والحضور. فالديموقراطية حاضرة لا أحد يشك في قيمتها. هي مكتسب إنساني، نموذج أوحد. وصل إليه الغرب بعد طول عناء. أما نظام الحكم في الإسلام فهو الغائب عنه الديموقراطية. ومِن ثَم تنطوي الإجابة بالضرورة على موقفين مسبقين. الأول اعتبار الديموقراطية تجربة وحيدة، ونموذجًا أوحد، لا يمكن التساؤل حوله أو التشكك فيه. والثاني الدفاع عن الإسلام بأن هذا الغائب، الديموقراطية، حاضر فيه. ومِن ثَم يلجأ المفكر للدفاع عن الغياب بالحضور، ودون التساؤل عن الطرف الآخر، ربما يكون الحضور فيه غيابًا، والديموقراطية فيه زائفة، ديموقراطية الشكل دون المضمون.
-
(٥)
ولماذا يكون اختيار الطرف الثاني من المعادلة بلا تساؤل أو شبهة، بل إن أي تساؤل حول الديموقراطية يوقع صاحبه في حرج شديد بأنه غير ديموقراطي، لا يؤمن بالديموقراطية؟ ثم يتحول منطق الإحراج إلى منطق اتهام. واختيار الطرف الآخر هو حكم مسبق بالإيجاب. ويمكن باختيار آخر يكون الحكم المسبق بالسلب مثل الإسلام والاحتلال، الإسلام والاستعمار، الإسلام والغزو، الإسلام والاستغلال، الإسلام والرأسمالية، الإسلام والعنصرية بحيث يصبح الطرف الثاني أضعف من الطرف الأول، والطرف الأول أقوى من الطرف الثاني، وبالتالي يكون الحكم قد صدر بالإيجاب على الأول، وبالسلب على الثاني. ويكون الأول في منطق الهجوم، والثاني في منطق الدفاع في مقابل «الإسلام والديموقراطية» الذي يكون فيه الطرف الثاني في موقف هجوم، والطرف الأول في موقف دفاع. الطرف الثاني يتحدى بما لديه ويطالب الآخر بالمثل. والأول يدافع مستعملًا حجة الخصم بأن لديه مسبقًا ما يُطالب به، ولا يحاول أن يخضع ما لدى الآخر إلى النقد والتحليل، ولا أن يعيد صياغة ما لديه بطرق ولغة جديدة حتى يخفف الطعون عليه. بل ولا يفكر مرة أن ينتقل من الدفاع إلى الهجوم، متجاوزًا الشكل إلى المضمون، واللفظ إلى المعنى، والظروف التاريخية المتباينة إلى البداهات العقلية المشتركة بين الناس والتي يتفق هجوم عليها جمهور العقلاء.
-
(٦)
وهذه دراسة وصفية مقارنة بين الشورى والديموقراطية، وبين البيعة والعقد الاجتماعي دون تفضيل ثقافة على أخرى، وفي حياد تام دون ولاء لثقافة دون أخرى. وليس أحد الطرفين معيارًا للآخر. يفعل ذلك المفكر الإسلامي الذي يعتز بالشورى الإسلامية وينقد الديموقراطية الغربية كرد فعل على المفكر الغربي الذي يبين مآثر الديموقراطية الغربية وينقد الحاكمية الإسلامية، ويوحد بينها وبين الثيوقراطية، و«الخلط» بين الدين والدولة. مقياسا المقارنة هما العقل والمصلحة، البديهة واتفاق العقلاء، ومصالح الناس وما تعم به البلوى. وظيفة المقارنة رصد أوجه التشابه بين الثقافتين دون أخذ أحدهما مقياسًا للآخر. يكفي رصد التجربتين التاريخيتين الحضاريتين لكل منهما دون حكم بالخطأ أو الصواب أو حتى بالأفضلية والكمال.
-
(٧)
نظام الحكم الإسلامي ليس فقط نظامًا سياسيًّا مثل الديموقراطية، بل هو نظام شامل للسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. الشورى والبيعة فقط هما عمدة النظام السياسي، ولكنه يشمل أيضًا النظام الاقتصادي الذي يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج باسم الأمة وليس الخاصة باسم الأفراد، وعلى القطاع العام في الزراعة مثل الإقطاع، وفي الصناعة مثل النار، وفي الزراعة مثل الماء والكلأ، وفي التعدين مثل «الركاز» وهو كل ما في باطن الأرض غير منقول ولا يجوز ملكيته ملكية خاصة، وفي التجارة عن طريق التسعير وباقي أحكام السوق، وتحريم الاحتكار، فالمحتكر ملعون. فكيف تتم المقارنة بين كلٍّ، وهو نظام الحكم الإسلامي، وجزءٍ وهو الديموقراطية؟ أما الديموقراطية فهي الجانب السياسي في الحكم دون الاقتصادي وإن ارتبطت عادة بالرأسمالية كمذهب اقتصادي. يمكن أن تكون الديموقراطية رأسمالية كالغرب أو ديموقراطية اشتراكية مثل نظم الحكم في البلاد الإسكندنافية، ونظام الليندي السابق في شيلي الذي قضت عليه الولايات المتحدة عن طريق انقلاب الجيش.
ثانيًا: الشورى والديموقراطية
(١) أوجه الاختلاف
-
(أ)
«الشورى» لفظ عربي من «شار» و«شور» وهو العسل. و«الشوار» هو الحسن والجمال. و«استشارت» الإبل أي حسنت وسمنت. و«استشار» الفحل الناقة أي كرفها ألاقح هي أم لا. و«المستشير» من يعرف الحائل. و«أشار» ومنها الإشارة وتكون بالكف والعين والحاجب. و«أشار» عليه أي أمره. ومنها الشورى والمشورة.
و«الشوار» متاع البيت، وأيضًا ذكر الرجل وخصياه واسته، و«شور به» أي فعل به فعلًا يستحيا منه. فالمعاني الاشتقاقية كلها تشير إلى حلاوة العسل ولزوجته أو إلى الحسن والجمال والسمنة، وهي مقاييس الجمال العربي القديمة. كما يشير اللفظ إلى الفعل الجنسي الذي يدل على التداخل كما هو الحال بين المستشارين في تبادل الرأي. والإشارة الحسية باليد والكف والعين والحاجب مثل الإشارة بالرأي. وإذا كان معنى «أشار» الأمر تكون الشورى في هذه الحالة ملزمة، بناءً على الحقل الدلالي لكل هذه المعاني.
أما لفظ «الديموقراطية» فهو اللفظ اليوناني الشهير «ديموس» أي الشعب أو الدهماء، «كراتوس» أي القوة أو السلطة. ويعني اللفظ المركب السلطة للشعب. فشتان ما بين المعنى الاشتقاقي للفظين، «الشورى» التي تعني التوحيد مع الآخر كالفعل الجنسي أو السلطة للشعب كرد فعل على السلطة للقاهر أو الدكتاتور أو الطاغية أثناء حكم الطغاة الذي ساد أثينا. الديموقراطية سلطة بديلة عن سلطة الحاكم الفرد، سلطة الشعب في حين أن الشورى تبادل في الرأي.
-
(ب)
و«الشورى» اصطلاحًا ضد الاستبداد بالرأي، والتفرد بالقرار. تعني الاسترشاد برأي الآخر، وتبادل وجهات النظر، ورؤية الشيء من وجهات نظر متعددة حتى لا يقام الحكم على هوى فردي أو مصلحة شخصية. تحدد سلبًا وليس إيجابًا، نظرًا لتعدد أشكالها وصيغها وطرق ممارساتها. الشورى قصد ونية وهو التحرز من خطأ تقديم التجربة الفردية على التجربة المشتركة، ورأى الفرد على رأى الجماعة، ورؤية الفرد دون رؤية الآخر. الشورى حماية للحق من أهواء النفس، والموضوع من انفعالات الذات وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.
في حين أن الديموقراطية هي سلطة الشعب. وقد يقوم الشعب بلعب دور الحاكم الفرد فيستبد كما هو الحال في حكم الغوغاء، الشعب يقرر، والشعب يحكم. والسؤال هو: وماذا يعني الشعب؟ إن الشعب يتكون من عدة طبقات. وكل منها تدعي تمثيل كل الشعب. قد تكون ديكتاتورية البروليتاريا. وقد تكون نخبوية الطبقة العليا واستغلالها واحتكارها. وقد تكون برجوازية الطبقة الوسطى التي تخدع الطبقة الدنيا وتموه عليها بالدفاع عن مصالحها، وتستفيد من الطبقة العليا لأنها أداتها التي تسيطر بها على الطبقة الدنيا. ولا توجد سلطة مباشرة للشعب إلا من خلال ممثليه ونوابه ومجالسه ومؤسساته التي قد تعبر عن سلطة الشعب أو سلطة الطبقة أو سلطة الحزب الحاكم أو حتى الحاكم الفرد الذي كثيرًا ما سبح الشعب باسمه في فترات الطغيان مثل النازية والفاشية والنظم الشمولية.
وقد ورد اللفظ في القرآن ثلاث مرات بالمعنى الاصطلاحي: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي أخذ رأي الناس، واستشارة الحاكم للمحكومين، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ أي استشارة الناس بعضهم لبعض سواء بين الحكام والمحكومين أو بين المحكومين أنفسهم، والمشورة بين الزوجين كنموذج للمؤسسات، فالأسرة مؤسسة صغرى فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا. وردت مرة واحدة بمعنًى مجازي حسي وهو الإشارة باليد فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. -
(جـ)
الشورى توافقية إجماعية برضا الجميع، وليست بفرض الأغلبية رأيها وإرادتها على الأقلية. في الشورى لو عارض واحد فقط رأي الجماعة، يؤخذ رأيه بعين الاعتبار، ويكون الإجماع ناقصًا وليس تامًّا. الشورى تصور كيفي للحياة، يقوم على احترام الرأي بصرف النظر عن عدد المنتسبين إليه. فكل إنسان فرد، وللفرد رأي، والشخص رؤية. في حين أنه في العمل والمصالح العامة كل إنسان جماعة «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، و«يد الله مع الجماعة».
وفي الديموقراطية الحكم للأغلبية عن طريق صناديق الاقتراع. والتشريع والقوانين إنما تصدر باسم الأغلبية، وتلزم الأقلية باسم طاعة القوانين. ويكون همها هو الاحتفاظ بالسلطة أكثر من تحقيق مصالح الناس. بل وتتبع أساليب لا أخلاقية للوصول إلى الحكم بما في ذلك تشويه سمعة الأقلية والتنصت عليها. الديموقراطية تصور كمي للحياة طبقًا للرؤية المادية للحضارة الغربية، وأولوية الكم على الكيف، والقياس على الحدس، والبدن على النفس، والمرئي على اللامرئي. وبالرغم من ادعاء الحضارة الغربية أنها تقوم على الفرد وحقوق الإنسان «أنا أفكر فأنا إذن موجود» في حين أن الحضارات الأخرى تعطي الأولوية للجماعة على الفرد إلا أنه في الديموقراطية تكون الأولوية للأغلبية على الأقلية، وللمجموعات الكبيرة على المجموعات الصغيرة.
-
(د)
الشورى ليس لها شكل محدد بل هي روح وقصد ضد الاستبداد والتفرد بالرأي. لا يهم طريقة التنفيذ. قد تكون حكمًا رئاسيًّا يستشير فيه الرئيس أهل الحل والعقد أي أهل الاختصاص وهم علماء الأمة، ومفكروها، وأصحاب الرأي فيها. وقد تكون رئاسية وزارية، والوزارية تفويضية لها من سلطات الرئيس أو تنفيذية محضة لقرارات الرئيس. قد يكون على قمتها الخليفة أو الإمام أو السلطان أو الملك. واختلفت الأسماء والمسمى واحد. ربما ارتبطت الشورى القديمة بالشكل القبلي، وبمشايخ القبيلة وحكمائها الذين يشيرون على شيخها ورئيسها. ربما ارتبطت بجلسات الخيمة والمقيل والمصطبة والدوار والديوانية والصالون.
أما الديموقراطية فلها شكل نموذجي. وهي الديموقراطية البرلمانية التمثيلية بمجلس أو بمجلسين، مجلس النواب ومجلس الشيوخ، البرلمان ومجلس العموم حتى يتم إصدار القرار بناءً على حماس الشباب وحكمة الشيوخ لمزيد من الروية، والتعاون بين أهل الثقة وأهل الخبرة. وفي بعض البلدان الصغرى مثل سويسرا هناك الديموقراطية المباشرة بنظام «الكانتونات» خشية من التمثيل حيث تقوم المجالس النيابية بدور الجدار العازل بين الشعب والسلطة. وهناك قوانين للانتخابات وتأسيس الأحزاب وطرق عديدة لها بالقائمة أو بالنسبة. نموذجها صوت واحد لفرد واحد.٢ ويظل للرئيس فيها ميزة تنفيذية كما هو الحال في الدستور الأمريكي. ويستطيع أن يعترض على قوانين مجلس النواب قبل أن يكون ملزمًا له للمرة الثانية. وفي الدستور الفرنسي في عصر ديجول كانت هناك المادة ١٦ التي تعطي الرئيس سلطات استثنائية في حالة الخطر حفاظًا على أمن البلاد.٣ -
(هـ)
الشورى غير ملزمة في رأي وملزمة في رأي آخر طبقًا لتأويلين مختلفين وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ. فالقرار عزيمة بعد المشورة يكون الإمام ملتزمًا بها. وقد يستنير الإمام بالمشورة ولكن إحساسه بالمسئولية قد يجعله يرى ما لا يراه المستشارون بتقديره للموقف، وخبرته بالميدان. فأهل الحل والعقد في النهاية أهل نظر، في حين أن الإمام يجمع بين النظر والعمل. أهل الحل والعقد أهل رأي ومشورة، في حين أن الإمام رجل فعل وحسم. وهو الذي يتحمل المسئولية في النهاية في النصر والهزيمة، وليس أهل الحل والعقد. ومع ذلك فالشورى أقرب إلى عدم الإلزام منها إلى الإلزام.
والديموقراطية أيضًا ملزمة وغير ملزمة. فهي ملزمة للرؤساء عن طريق المجالس النيابية المنتخبة من الشعب. وهي غير ملزمة نظرًا لإمكانية اعتراض الرئيس عليها محتجًّا بالسلطات التي يكفلها له الدستور. وكذلك يستمع الرئيس إلى مستشاريه، ومع ذلك ليسوا ملزمين له بشيء. يشيرون عليه فقط، والقرار للرئيس، والمسئولية عليه. وفي النظام الوزاري، الشورى أقرب إلى الإلزام منها إلى عدم الإلزام لأن الحكومة مسئولة أمام البرلمان، ويمكن إسقاطها إن لم تحصل على الأغلبية البرلمانية. وفي النظام الرئاسي الأمريكي يستطيع الرئيس أن يرد قرار المجلس النيابي مرة، ولكنه يصبح ملزمًا إذا أقره المجلس النيابي للمرة الثانية.
-
(و)
الشورى وسيلة لمنع الاستبداد، والتفرد بالرأي، وأخذ القرار في تقرير المصالح العامة، وتسيير شئون الأمة فيما تعم به البلوى مضمونًا وليس شكلًا وصورة: تعددية حزبية وانتخابات برلمانية، وأغلبية وأقلية. الشورى أداة للحكم وليس غاية في ذاتها. أما الذي يحكم فهي منظومة القيم المستقلة عن إرادة الأغلبية والأقلية. الشورى شكل من أشكال الديموقراطية «البدوية» تحت الخيمة حيث يستشير شيخ القبيلة بطونها وأفخاذها مثل القضاء أيضًا الذي يحضر فيه المتخاصمان بعيدًا عن القوانين الرسمية ومحاكم الدولة والمحامين والشهود المأجورين، وألاعيب الإجراءات القضائية الرسمية.
أما الديموقراطية فهي غاية في ذاتها ليس فقط في قيمتها أنها ضد التسلط والتفرد والطغيان، بل أيضًا في أشكالها وصورها ومؤسساتها. والشكل الوحيد هي الديموقراطية البرلمانية والتمثيل السياسي والانتخابات العامة والتعددية الحزبية، والوزارة المسئولة أمام البرلمان. وهناك الديموقراطية الشعبية أو الديموقراطية المباشرة دون تمثيل يتوسط بين الحاكم والمحكوم. إن الديموقراطية في الحقيقة وسيلة وليست غاية، أنجح وسيلة وأكثرها رسوخًا واطمئنانًا لتحقيق أهداف عليا عن طريق المشاركة الشعبية بدلًا من تحقيقها بسلطة الفرد أو بجهاز الدولة.
-
(ز)
ومنظومة القيم التي هي غاية الشورى منظومة ثابتة دائمة وعامة يتفق عليها جمهور العقلاء. وهي ما يسمى مقاصد الشريعة الكلية التي من أجلها وضعت الشريعة ابتداءً. وهي الضروريات الخمس: الدفاع عن الحياة، والعقل، والدين، والعرض، والمال. الحياة تمنع من القتل والإجهاض والانتحار وإماتة النفس والهلاك بسبب المرض والجوع والعري. والعقل هو قوام الحياة والذي يميز الحياة الإنسانية عن الحياة الحيوانية والنباتية. والعقل هو مناط التكليف وشرطه. ويتضمن العلم والمعرفة والدراية والوعي والخبرة والفهم ومحو الأمية والتخصص الدقيق في آن واحد. والدين أي القيمة الثابتة ومجموع ما يتفق عليه العقلاء. والعِرض هو الشرف والكرامة. ولا يعني فقط الشرف بالمعنى الجنسي، عِرض المرأة، بل الكرامة الوطنية. وفي الريف الأرض هي العِرض. ومن يستولي على الأرض ينتهك العرض. وأخيرًا المال الذي لا يعني المال الفردي والثروة الشخصية فقط بل المال العام والثروة الوطنية. هذه هي الأهداف العامة التي تمثلها المقاصد الكلية للشريعة. ولا يمكن لأغلبية أن تغيرها حتى ولو كانت لديها الأصوات الكافية والسلطة التشريعية.
أما الديموقراطية فبإمكانها تغيير الحق باطلًا والباطل حقًّا بإرادة الأغلبية. فحق الإجهاض وحق العري وحق الشذوذ الجنسي مكفول إذا قررته الأغلبية التشريعية. وحق العدوان على الغير واستعمار الشعوب واحتلال الأراضي، واستنفاد الثروات تتفق عليه الأحزاب، أغلبية وأقلية. فلا فرق بين الجمهوريين والديموقراطيين في أمريكا لاحتلال العراق والعدوان على أفغانستان. ولا فرق بين حزب العمال وحزب المحافظين في بريطانيا في الدخول في قوات الغزو لاحتلال العراق. ولا فرق بين حزبي العمل والليكود في احتلال كل فلسطين، وإقامة الجدار العازل، والاستيطان، والعدوان اليومي على شعب فلسطين باغتيال زعماء المقاومة، وهدم المنازل، وتجريف الأراضي، وقتل النساء والأطفال والشيوخ. ولا فرق بين الأيديولوجيات الرأسمالية أو الشيوعية في العدوان والمقايضة وتبادل المنافع، احتلال الروس للشيشان واحتلال أمريكا للعراق وأفغانستان.
(٢) أوجه التشابه
-
(أ)
ومع ذلك هناك أوجه تشابه بين الشورى الإسلامية والديموقراطية الغربية وإن كانت أوجه التشابه أقل من أوجه الاختلاف. فكلاهما يحكمهما القانون، الشريعة في الشورى، والدستور في الديموقراطية. فالشريعة هي الثابتة. وهي التي تحكم. وتعني «الحاكمية لله»، الحاكمية للشريعة. فلا يوجد ثيوقراطية في الإسلام Theocracy بل يوجد حكم الشريعة أو القانون Monocracy. الشريعة ثابتة. وهي المبادئ العامة للشرع كما حددتها المقاصد الكلية للشريعة. والحدود والكفارات جزء منها وليست كلها، نتائج لا مقدمات، استثناء لا قاعدة. والعقوبات تؤخذ بالشبهات. فلم تأتِ الشريعة جابية بل هادية. وهي واجبات تقابلها حقوق، حق الإنسان في الطعام والشراب والكساء والإيواء والعلاج والعمل، أي إشباع الحاجات الأساسية التي بدونها تعلق العقوبات في حالة السرقة من أجل البقاء. فالشريعة وضعية لها أحكام وضع كما أن بها أحكام تكليف. وتعني أحكام الوضع وضع الفعل في المحيط الاجتماعي الذي يتحقق فيه. وهي السبب، والشرط، والمانع، والعزيمة والرخصة، والصحة والبطلان. فكل فعل له سبب مثل القدرة، وبدون السبب لا يتم الفعل. وكل فعل له شروط، ودون الشرط لا يتحقق الفعل فشرط حد السرقة عمل السارق، والبطالة مانع من تطبيق الحد. والعزيمة والرخصة يعنيان عدم جواز تكليف ما لا يطاق، ورفع الحرج. والصحة والبطلان، إتيان الشريعة عن صدق دون تحايل. أما الفقه أي الأحكام المستنبطة من أصول الشريعة فهو يتغير بتغير الظروف والأحوال.أما الدستور فإنه أيضًا ثابت لا يتغير. به نفس الصفات اتفاقه مع العقل والمصلحة العامة. وهي صفات القانون والطبيعة مثل الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات. صحيح أنه يمكن إدخال بعض التعديلات على الدستور Amendements طبقًا لظروف العصر المتجددة. ومع ذلك يبقى في مبادئه العامة واحدًا. والعقل والطبيعة الدعامتان الرئيسيتان في الوحي نظرًا لوحدة الوحي والعقل والطبيعة. يلتزم الجميع به ولا يمكن خرقه. ويحتكم الكل إليه، حاكمًا ومحكومًا. يشبه المواثيق الدولية مثل ميثاق الأمم المتحدة، وميثاق حقوق الإنسان، ومواثيق جنيف بالنسبة لأسرى الحرب والأراضي المحتلة.
-
(ب)
ويتشابه النظامان «الشورى» و«الديموقراطي» في استقلال القضاء. ففي الشورى القضاء مستقل. يفصل بين المتخاصمين دون تدخل السلطان. بل إن كل محكوم يستطيع أن يقاضي الحاكم إذا ظلمه، وأن يستدعيه إلى القضاء. ويعين الحاكم قاضي القضاة ولكنه لا يستطيع عزله. بل إن قاضي القضاة هو القادر على عزل الحاكم إذا أخل بواجباته. إذا لم يستمع إلى النصح له بناءً على قاعدة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». قد يفسد الحاكم ولكن لا يفسد القضاء. بل إنه في تاريخ الشعوب مثل بني إسرائيل هناك عصر الملوك وعصر القضاة. وكثيرًا ما حكم القضاة في غياب الحكام.
وتقوم الديموقراطية على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية. وإذا اختلفت السلطتان التشريعية والتنفيذية فإن السلطة القضائية هي الحكم بينهما. وهناك نظم عديدة للتقاضي ومستويات عديدة للمحاكم: الابتدائية، والاستئناف ثم النقض والإبرام من أجل ضمان العدل في الحكم. وهناك مجلس الدولة، والمحكمة الدستورية العليا، والقضاء الإداري من أجل مخاصمة الدولة في تطبيق القانون. وهناك مجلس القضاء الأعلى وعدة مجالس قضائية أخرى يتم الالتجاء إليه لتحقيق العدل المطلق. وهناك القضاء الدولي مثل محكمة العدل الدولية لفض النزاعات بين الدول ومحاكمة مجرمي الحرب. بل إن قسم اليمين للحاكم يتم أمام رئيس المحكمة الدستورية العليا وهو قاضي القضاة The High Judge. -
(جـ)
وفي الشورى هناك دور كبير للرأي العام في مؤسسات مثل «الحِسبة». وظيفتها الرقابة على تطبيق الشريعة في الحياة العامة خاصة في الأسواق مثل «أحكام السوق». الحسبة هي الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية كما قال الفقهاء من قبل، وظيفة الرقابة على جهاز الدولة ومدى تطبيق الشريعة. والمحتسبون موظفون، أشبه بأجهزة الرقابة الإدارية. وهناك أيضًا النصيحة، «الدين النصيحة»، لأولياء الأمر ولعامة الناس من خلال خطب المساجد أيام الجمعة ودروس العصر والفتاوى الشرعية. والمبدأ الذي يعم الجميع هو «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الذي جعله المعتزلة أصلًا من أصولهم الخمسة. ليس في المسائل الصغرى مثل التحذير من التدخين بل في الأمور الكبرى والشئون العامة، فيما تعم به البلوى. وليس في محظورات الجنس في مجتمع محروم ومحبط بل في الشئون السياسية العامة وأحوال البلاد، التحرر أو الاحتلال، القهر والحرية، التبعية أو الاستقلال، التفاوت الشديد بين الطبقات والعدالة الاجتماعية، التجزئة والوحدة.
وفي الديموقراطية حرية وسائل الإعلام خاصة الصحافة في المجتمع الأمريكي أو هيئة الإذاعة البريطانية في المجتمع البريطاني. فالصحافة عين الشعب على الحكم. وهي قادرة على معرفة أسرار الدولة ومخالفاتها وإخراجها إلى العلن. ليست وظيفة الصحافة تبرير السياسات القائمة، والدفاع عن النظام السياسي بل النقد والتوجيه، وبيان المخالفات والتحايل على القانون، وكل مظاهر الرشوة والفساد. من هنا أتت أهمية استقلال الصحافة عن نظام الحكم. الدولة ليس لها صحيفة تدافع عن سياساتها. وليس لها قنوات فضائية تبرر قراراتها. بل إن الإعلام المرئي والمسموع والمقروء جزء من مؤسسات المجتمع المدني.
ثالثًا: البيعة والعقد الاجتماعي
(١) أوجه الاختلاف
وهناك أيضًا أوجه اختلاف بين البيعة والعقد الاجتماعي أكثر من أوجه التشابه.
-
(أ)
إن البيعة تتم عن طريق أهل الحل والعقد. وهم أهل الاختصاص بلغة العصر. فهي بيعة عن طريق التوسط وليست عن طريق الانتخاب المباشر، صوت واحد لكل فرد. تتم بالفعل في الزمان والمكان من أشخاص إلى شخص، وليست حالة افتراضية. ومن أقدر على الحل والعقد إلا العلماء وفي مجتمع يسيطر عليه العلم، وليس الجهلاء الذين يُضلون الناس بالإفتاء؟ أهل الحل والعقد هم أهل العلم. وليس العلم الديني وحده بل أيضًا علوم الدنيا. فالدولة تقوم على شئون الدنيا أولًا ورعاية لمصالح الناس.
أما العقد الاجتماعي، بالرغم من أنه حالة افتراضية، إلا أنه يقوم على تفويض كل فرد جزءًا من سلطته إلى ممثل له يجمع كل السلطات المخولة له من جميع الأفراد، ويمثل الإرادة العامة. يطيعها الأفراد طالما أن ممثل الإرادة العامة يحقق مصالح الجميع، وليس مصلحة فرد دون آخر. فهو عقد اجتماعي ضمني غير مدون. تنشأ السلطة في الأولى عن طريق البيعة، وهنا عن طريق التفويض. البيعة فعل إيجابي في حين أن التفويض فعل سلبي. البيعة إرادة، والتفويض تسليم. البيعة مسئولية، والتفويض ثقة. البيعة لأهل الخبرة، والتفويض لأهل الثقة.
-
(ب)
وفى البيعة يقوم فرد بمبايعة فرد آخر «امدد يدك أبايعك». فهي بيعة لآخر وليس بيعة للنفس، «والله لا نولي هذا الأمر من يطلبه». فالبيعة للآخر تدل على زهد في الحكم ممن يبايع، وإيثار الآخر على نفسه، ورعايته للمصالح العامة، ودرء شبهة الهوى عن النفس. هي تخلي الأنا عن أنانيتها، وتفضيل الآخر عليها. هي إنكار للذات وإثبات للآخر. فالحاكم الحقيقي هو المحكوم لأنه هو الذي يولي الحاكم. سلطة الحاكم مستمدة من سلطة المحكوم، وسلطة المحكوم هي أصل سلطة الحاكم. فعندما يمارس الحاكم سلطته فإنه يمارسها بالضرورة لصالح المحكوم.
وفي العقد الاجتماعي في تحقيقه الديموقراطي يقدم المرشح نفسه للناس طالبًا البيعة. فهو راغب في الحكم تواق إليه بالرغم من ثقله ومسئوليته. ومع ذلك العقد الاجتماعي في حد ذاته لا يوفر آليات لتحقيقه. فمن أين تأتي المبادرة؟ من المحكومين أم من الحاكم؟ تتضارب المصالح وتنشأ النزاعات لصعوبة التوفيق بين المصالح الشخصية المتعارضة، فتنشأ الحاجة إلى معيار أو مقياس أو حكم أو قاعدة أو إلى إرادة عامة توضع بين إرادات الأفراد المتصارعة. فعلى هذا النحو ينشأ العقد الاجتماعي تجريبيًّا لحل مشكلة واقعية وهي تضارب المصالح ونشأة النزاعات بين الأفراد. وفي هذه الحالة يأتي المفوَّض إليه عن طريق الاقتراع العام. وربما يظهر هذا المخلص لما يشعر به من قدرات خارقة، ويفرض نفسه على الصراعات الجزئية واضعًا نفسه حكمًا بينها تلتقي حوله كل الأطراف. العقد الاجتماعي أقرب إلى الطريقة الأولى من حيث المبدأ Der Jure ولكن الواقع أحيانًا يفرض نفسه فتنشأ السلطة في المجتمع على نحو فعلي ضروري De Facto وليس باختيار عقلي رشيد. -
(جـ)
وتتم البيعة من فرد إلى فرد بناء على حسن التقدير ونقاء الضمير وإدراك قيمة الآخرين. فالبداية بالوفاق وبالمصلحة العامة واختيار أفضل ممثل لها. الكل زاهد فيها من حيث عظم المسئولية. فالإمام مسئول عن كل كبد رطب، إنسانًا أو حيوانًا «والله لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها يا عمر لماذا لم تسوِّ لها الطريق». فالحكم تكليف لا تشريف، وواجب وليس حقًّا.
وفي العقد الاجتماعي يتم الاختيار من الحزب أو من قوة سياسية وليس من الفرد، في مواجهة فرد، مرشح حزب آخر معارض. فالبداية بالتعارض وبالمنافسة وبالخلاف. والحزب تطوير لصور العائلة أو العشيرة أو القبيلة أو الطائفة القديمة. يعبر عن مصالح فئة أو طبقة. ويمثل تيارًا سياسيًّا يدعو إلى المحافظة والتحرر، إلى الرأسمالية أو الاشتراكية، إلى الحرب أو السلام. وقد يرشح الإنسان نفسه مستقلًّا بعيدًا عن القوى والتكتلات والأحزاب السياسية وتجاوزًا للاستقطاب الشديد بين حزبين كبيرين.
-
(د)
في البيعة لا يوجد إلا مرشح واحد هو الذي يبدأ الناس بمبايعته. ولا يجوز لأحد أن يبايع شخصًا آخر فيصبح لدى الناس مرشحان يختارون بينهما. فذاك أحد مظاهر الشقاق والخلاف، أن تنقسم الأمة إلى قسمين، قسم مع الأول وقسم مع الثاني. وقد تمتشق السيوف، وتمتد الانفعالات وتتدخل الأهواء، وتتضارب المصالح.
وفي العقد الاجتماعي يتعدد المرشحون داخل الحزب الواحد. ثم يتم تصفيتهم داخل المؤتمر العام للحزب إلى مرشح واحد. ثم يتقدم أمام مرشح الحزب الآخر. ويختار الناس بين مرشحين أو ثلاثة طبقًا لعدد الأحزاب. وقد يرشح أحد نفسه مستقلًّا خارج الترشيحات الحزبية. فكثيرًا ما يضيق الناس بالرؤية الضيقة للحزب التي تضحي بمصالح الوطن من أجل صالح الحزب، وتعطي الأولوية للمصالح الخاصة على المصلحة العامة.
-
(هـ)
وصاحب البيعة مبايع إلى الأبد طالما أنه قادر، ولم يخرق البيعة من طرفه، والناس تدين له بالطاعة والولاء. لا يوجد حد أقصى للبيعة بفترة أو فترتين أو ثلاث. بل هي مبايعة مدى الحياة. لا يوجد تداول للسلطة. بل إن العصر كله يسمى باسمه: العصر الأموي، العصر العباسي … إلخ. أو باسم القبيلة أو العشيرة التي ينتسب إليها الإمام: الأمويون، العباسيون، الفاطميون، الطولونيون، الإخشيديون، الغساسنة، السلاجقة. بل تسمى الدول كلها بأسماء الأسر الحاكمة: دولة بني أمية، دولة بني العباس، دولة بني بويه، الدولة العثمانية. وأحيانًا تسمى الخلافة، الخلافة العثمانية. وقد يشتق اسم الحكم من الرق مثل «المماليك».
وفي العقد الاجتماعي لا يوجد تفويض أبدي لممثل الإرادة العامة، بل هو تفويض وقتي يتجدد باستمرار طبقًا لقدرات الحاكم على استعمال هذا التفويض لتحقيق المصالح العامة. فهناك فترة محددة لصلاحية العقد. وإن تجدد فلفترة أو لفترتين وليس إلى الأبد. تداول السلطة جزء من العقد حتى لا يتحول العقد إلى تفويض دائم باسم الزمان أو التاريخ أو عبقرية الزعيم. فيتحول التفويض الإنساني إلى تفويض إلهي.
-
(و)
وأساس البيعة هو الأخلاق وليس المصالح، والالتزام بتطبيق الشريعة وليس بتنفيذ مصالح الشركات وجماعات الضغط. شروط الإمام كلها أخلاقية مثل العدل والقوة والأمانة والكياسة.
وأساس العقد الاجتماعي هو تحقيق المصالح العامة التي تتحول من الناحية العملية إلى الدفاع عن المصالح الخاصة نظرًا للتركيب الاجتماعي للأحزاب، وتعبيرها عن قوى سياسية، محافظين أو إصلاحيين أو مصالح طبقية للعمال أو لأصحاب رءوس الأموال.
(٢) أوجه التشابه
-
(أ)
ومع ذلك هناك أوجه تشابه ولو قليلة بين البيعة والعقد الاجتماعي. أهمها إمكانية الفك من رقبة البيعة وفسخ العقد الاجتماعي. إذا ظلم الإمام ولم يستمع إلى النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا تهاون في الذب عن البيضة وتقوية الثغور والدفاع عن البلاد، إذا ما صالح الأعداء أو خان أو إذا ما اختفى وغاب أو أُسر تنحلُّ البيعة.
ويمكن فسخ العقد الاجتماعي إذا أخل طرف ببنود العقد. فالعقد شريعة المتعاقدين. إذا خرق الحاكم الدستور الذي يحتوي على بنود العقد من طرفه فإن للشعب أن يخرق العقد من طرفه كما هو الحال في الثورات الكبرى ضد الملوك والطغاة. وقد يتم ذلك سلمًا عن طريق المجالس النيابية التي تمثل الشعب وتبدأ إجراءات العزل Impeachment. -
(ب)
ويتشابه كلاهما، البيعة والعقد الاجتماعي، في أن السلطة تنشأ من الأمة والشعب وليس من الله. فالحاكم ممثل للناس وليس ممثلًا لله. كلاهما يرفضان نظام الحكم الثيوقراطي الذي كان سائدًا في العصور الوسطى في الغرب. البيعة اختيار إنساني حر كما حدد الأصوليون «الإمامة عقد وبيعة واختيار».
والعقد الاجتماعي أكبر رد فعل على سلطة الكنيسة والجمع بين السلطتين الدينية والسياسية في العصر الوسيط في المسيحية. وأكبر رد فعل على «العهد» أو «الميثاق» الإلهي الذي عقده الله مع بني إسرائيل. وهو عقد ذو اتجاه واحد من طرف واحد، من الله إلى شعب مختار، وغير مشروط، أبدي لا ينفسخ مهما عصى بنو إسرائيل الله ومهما كان الكفر بالأنبياء وقتلهم. وهو ميثاق مادي، يعطي الأرض والمدينة والهيكل والنصر في الحرب، وله تابوت يوضع فيه. وليس عهدًا روحيًّا أخلاقيًّا بالطاعة والفضيلة. وهو عهد جماعي وليس عهدًا فرديًّا لشعب في مجمله يغفر الله خطاياه بفضل القلة المؤمنة فيه.
-
(جـ)
والبيعة والعقد الاجتماعي عاملان إنسانيان خالصان بالرغم من المحيط الثقافي للبيعة والمحيط العلماني للعقد الاجتماعي. فالبيعة مذكورة في القرآن الكريم بعدة معانٍ:٤
- (١) بيعة النساء للنبي على الإيمان. فالبيعة للرجال والنساء إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ. والمبادرة من النساء والاستجابة لها من النبي فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
- (٢) البيعة للرسول هي بيعة لله أي الالتزام بالحق. فالطرف الثاني في البيعة ليس بشخصه بل بما يمثله إِنَّ الذينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ.
- (٣) البيعة تتلوها البشارة والخير فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ.
- (٤) يرضى الله عن البيعة لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ.
- (٥) البيعة أيضًا تعني البيع والشراء في التجارة أي بالنسبة للأشياء وليس فقط بالنسبة للسلطة وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ. ويكون البيع مدونًا وبشهود حتى يحفظ كل ذي حق حقه من الطرفين. ومنها اشتق لفظ «بيع» الذي يعني التبادل التجاري.٥ وقد يعني المعنيين معًا، السياسي والتجاري في آنٍ واحد.
أما العقد الاجتماعي فيدور في محيط ثقافي معادٍ للدين كما كان موجودًا في مطلع العصور الحديثة في الغرب ضد نظريات «الحق الإلهي» و«التفويض الإلهي» و«السلطة الإلهية»، والتي كانت الكنيسة تروج لها في صراعها مع الدولة. العقد الاجتماعي هو عقد بين الناس أولًا، عقد المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، ثم عقد بين الناس والحاكم على تطبيق أحكام القانون على الجميع كما يقتضيه مبدأ العدل.
- (١)
رابعًا: ضرورة النقد المزدوج
(١) النقد الذاتي
ويعني ضرورة فتح باب الاجتهاد في نظام الحكم الإسلامي، والتمييز بين روح الشورى والبيعة وبين أشكالهما القديمة التي ارتبطت بظروف العصر. الشورى قصد عام ضد الاستبداد والتفرد بالرأي، وليس لها شكل تنظيمي خاص. ويمكن صياغة أشكال جديدة للتشاور بين المحكومين مثل الحوار الوطني أو بين المحكومين والحكَّام في تحديد حقوق وواجبات كل من الطرفين. إنما الأهم هو البيعة في شكلها القديم. وهي في حاجة إلى تجديد صيغها وأشكالها ودرء المخاطر عنها والشبهات التي قيلت حولها.
-
(أ)
هناك خطر الأهواء القبلية والنزعات العرقية والمصالح الشخصية التي قد تتحكم في البيعة. وفرق بين الصورة المثالية والتنفيذ الفعلي. ولقد اختلف المسلمون الأوائل منذ البيعة الأولى، الصغرى والكبرى، وامتُشقت السيوف. وضد اقتسام السلطة «منا أمير ومنكم أمير»، مد عمر يده وشد على يد أبي بكر يبايعه. وهي فلتة وقى الله بها المسلمين من شر الاقتتال على السلطة. فمهما بلغ صفاء النفس الإنسانية وتجردها عن الأهواء إلا أن الواقع الاجتماعي والسياسي والإنساني يفرض نفسه. فالصحابة بشر أيضًا مهما بلغت درجة التجريد لصورهم المثالية. والغيرة أيضًا كانت تُوقع بين زوجات الرسول.
-
(ب)
وهناك خطر التحول من البيعة إلى الحكم الإلهي، ومن بيعة البشر إلى بيعة الله. ولن ينزع الحاكم عنه قميصًا ألبسه الله إياه كما حدث أيام عثمان في مواجهة الخارجين عليه. وقد تتحول البيعة أيضًا إلى ملكية وراثية كما حدث أيام بني أمية وكما تنبأ الرسول «الخلافة بعدي ثلاثون سنة تتحول بعدها إلى ملك عضوض». فإن كانت البيعة مثالًا إلا أنها تتحرك في التاريخ وسط صراع البشر. في البداية يكون المثال، وفي النهاية يتغلب الواقع على المثال، في البداية تكون النفس، وفي النهاية يكون الطين.
-
(جـ)
ومن هم أهل الحل والعقد؟ وكيف يمكن التعرف عليهم؟ هل هم بالتعيين أم بالانتخاب أم بالعرف أم بالبداهة واتفاق العقلاء؟ ومن الذي يحدد أن هذا من أهل الحل والعقد وذاك ليس منهم؟ وما مدى علم أهل الحل والعقد وقد اتسعت المعارف، وتشعبت العلوم، وأصبح من الصعب على إنسان واحد أن يعي كل العلوم الاجتماعية والسلوكية والسياسية والاجتماع والاقتصاد والثقافة والتاريخ والإحصاء بالإضافة إلى علم النفس والأخلاق؟ وبعد اتساعهم في الأقطار وانتشارهم في كل الأمصار كيف يوجدون في مكان واحد لإبداء المشورة، يحلون ويعقدون في مكان واحد وزمان واحد؟ وهناك فرق أيضًا بين المثال والواقع، بين الإمكان والتحقق، بين النية والفعل.
-
(د)
إن وجود مرشح واحد للبيعة يمنع من تداول السلطة وفرصة الاختيار والمقارنة بين أكثر من مرشح. وإذا كان عمر قد بايع أبا بكر فإن عمر اختار أكثر من مرشح كي يختار واحد من المسلمين واحدًا من بينهم في مدة معلومة، أقصر مدة ممكنة. ولو تجرأ واحد آخر وبايع واحدًا آخر غير الذي بايع عليه الأول فإنه يحدث الفتنة. ولما كانت الفتنة أشد من القتل فمن الممكن قتل الثاني حفاظًا على وحدة الأمة من الفتنة والشقاق. وهناك صعوبة عملية الآن للبيعة عن طريق المصافحة باليد، والناس صفوف طوال. وما العمل لو قام أكثر من واحد في نفس الوقت لمبايعة أكثر من واحد. وكلهم من أصحاب الفضل الذين تتوافر فيهم شروط الإمامة؟ وهل يمكن أن يعرف كل أهل الحل والعقد بعضهم بعضًا وقد ترامت الأطراف واتسعت الآفاق؟ وهل هناك ضمان كافٍ أن تتم البيعة بناءً على المصالح العامة للأمة وليس المصالح الخاصة لفئة أو فرقة أو جماعة أو طائفة، وأن يتم نوع من تبادل المصالح بين الفئات لصالح فريق ضد فريق وحدوث اتفاق مسبق وتواطؤ في بيعة خاصة قبل البيعة العامة؟ صحيح أنهم كلهم فضلاء. ومع ذلك لا يمنع الفضل الأهواء البشرية والتزاحم والتنافس وإبراز الرأي طبقًا لقانون الغلبة.
-
(هـ)
وكيف يُدرأ الاتهام بالنخبوية وحكم الأقلية؟ فأهل الحل والعقد في النهاية نخبة من علماء الأمة. فالحكم للعلماء. والفقهاء أمناء الرسل، والعلماء ورثة الأنبياء. ولما كان العلم هو العلم بالشريعة فتبدأ شبهة حكم رجال الدين، وهي شبهة ما زالت عالقة بأهداب التاريخ. وهل يبتعد كثيرًا «أهل الحل والعقد» عن «ولاية الفقيه»؟ إنما الفرق هو سلطة الجماعة أو سلطة الفرد. وكلاهما معصوم عصمة الأمة وعصمة الإمام؟ ويظل للعقد الاجتماعي ميزته أنه يمنع من التسلط منذ البداية عن طريق التوافق الحر بين الناس. ويظل الفكر الديني متهمًا بأنه ما زال معلقًا بالنبوة والولاية والإمامة، وبأنه فكر فوقي علوي مفروض على الواقع ومتسلط عليه.
-
(و)
وهل هناك ما يمنع من أن يصبح العلماء فقهاء السلطان؟ لقد فقد «أهل الحل والعقد» استقلالهم عبر التاريخ أمام سطوة الدولة وسلطانها. وانتهى العلماء إلى فريقين. فريق أخذ الصرة والخلعة والركب، والمنصب والجاه والشهرة وجالس السلطان وأصبح من ندمائه مثل الشعراء والظرفاء والوزراء. وفريق أُودع السجون، وعُذب وضُرب بالسياط، ونُفي خارج البلاد لأنه جهر بالحق. فالساكت عن الحق شيطان أخرس. وإن أعظم شهادة كلمة حق في وجه إمام جائر. وكلاهما إلى رسول الله منتسب. كيف يمكن لأهل الحل والعقد مقاومة إغراء السلطة والجاه والمنصب «مفتي الديار»، «قاضي القضاة»، «شيخ المشايخ»، «الإمام الأكبر»، «إمام الأئمة» … إلخ؟ وتراث تقرب العلماء للسلاطين وتقرب السلاطين للعلماء معروف على مدى التاريخ.
(٢) نقد الآخر
ويعني القدرة على الاستقلال عن الآخر بدلًا من الانبهار به لشيوع نموذجه ولضعف في الاجتهاد في تراث الذات والنقد للموروث من أجل تطويره وتجديده بالاجتهاد فيه، والنقد للوافد من أجل بيان محليته وتاريخيته وحدوده ثم توسيع منظوره من أجل إكماله والسماح بالتعددية في النماذج دون الانبهار بنموذج واحد وتهميش النماذج الأخرى، وبالتالي إعطاء الآخر أكثر مما يستحق. وإعطاء النفس أقل مما تستحق. وقد أسرفنا في نقد الذات إلى حد الجلد، وفي الانبهار بالآخر إلى حد التبعية والتقليد.
ونظرًا لارتباط الديموقراطية بالعقد الاجتماعي فإنه يمكن بيان حدود نظرية العقد الاجتماعي أيضًا بالرغم من شهرتها، وصعوبة إيجاد بديل عقلي وتاريخي لها، واتهام كل من يتعرض لها بالنقد بالتسلط السياسي والثيوقراطية الدينية.
-
(أ)
العقد الاجتماعي حالة افتراضية خالصة لا وجود لها. هو افتراض ذهني يقوم على تصور مثالي لمجتمع يجلس أفراده في مكان وزمان محددين، ويختارون فيما بينهم من يفوضون إليه جزءًا من سلطاتهم ليحكم باسم الإرادة العامة وليس باسم الإرادات الفردية المشخصة. فلم يحدث في الواقع ولا في التاريخ أن نشأ عقد اجتماعي على هذا النحو. والدول لا تدار بحالات افتراضية. وهي مثل حالة الطبيعة الأولى أو البراءة الأصلية التي تحدث عنها جان جاك روسو. هو أقرب إلى الحلم الجميل كرد فعل على الواقع الأليم الذي كان سائدًا في العصر الوسيط، تسلط الكنيسة باسم الثيوقراطية، وتسلط الدولة باسم الملكية الوراثية.
-
(ب)
ومن هو هذا الشخص الذي سيتم تفويض بعض سلطات الأفراد إليه؟ وكيف يمكن التعرف عليه؟ وكيف يتم اختياره؟ هل هو الذي يقدم نفسه طالبًا الإمارة أم يختاره الناس فيما بينهم؟ وبأي مقياس؟ وكيف تقسم سلطات الأفراد بحيث يأخذ الحاكم جزءًا دون جزء؟ وكيف تتكون سلطة الحاكم الكلية من مجموع إرادات جزئية للأفراد؟ وهل تقسم إرادة الفرد على نحو كمي سواء من ناحية الذات وهو الأصعب أو من ناحية الموضوع والمجال، السياسة والاقتصاد، فيتحول إلى «تابوه» محرم على الفرد أن يدخل فيه ما دام قد تم التفويض فيه من قبل؟
-
(جـ)
وعلى أي أساس وفي أي موضوع يتم تفويض أحد أفراد المجتمع؟ هل لصفات خاصة فيه؟ وما هي هذه الصفات؟ وما مقياس التفاضل والأولويات فيها لو كان هناك أكثر من واحد يجوز أن تفوض إليه أجزاء السلطات ليجمعها في إرادة عامة واحدة؟ وأي الصفات أولى؟ العدل أم القوة أم الأمانة؟ وهل هناك فرد مثالي يتصف بكل هذه الصفات أم أنه محض خيال، ولا يوجد في الواقع إلا إنسان تنتابه كل مظاهر الضعف وانفعالات البشر؟
-
(د)
وماذا لو نازعه شخص آخر أو أكثر ولم يحدث تراضٍ بين مرشحين كل منهما صالح للتفويض؟ كيف يتم اختيار واحد فقط دون الآخرين؟ وهل يحدث ذلك بالتراضي دون نزاع قد يصل إلى حد استخدام القوة والنزاع المسلح؟ هذه الصورة الخيالية المتفائلة لا وجود لها في الواقع الذي يحكمه قانون صراع القوى، والاستيلاء على السلطة بالشوكة، ووقوع المجتمع كله في حرب أهلية، وقسمة البلاد إلى بلدين، لكل بلد زعيم من الزعيمين المتناحرين. وكثيرًا ما انقسمت الإمبراطوريات والملكيات والدول إلى شمال وجنوب أو شرق وغرب. وربما يستولي عامل من الأمصار على السلطة المركزية إذا ما قويت شوكته.
-
(هـ)
وهل يتنازل الإنسان طوعًا عن جزء من إرادته يفوضها إلى صاحب الإرادة العامة؟ وماذا لو لم يشأ إنسان ما التنازل عن جزء من سلطته إلى ممثل للجميع لأنانيته ولتسلطه ولفرديته ورغبته في الاستيلاء على السلطة؟ وهل الإنسان خيِّر بطبعه إلى هذا الحد، يعطي أكثر مما يأخذ، ويتنازل أكثر مما يستحوذ؟ وإذا كان كل فرد يولد حرًّا مختارًا فماذا لو اختار عدم التنازل عن جزء من إرادته واستبقاها لنفسه فهو أدرى بالصالح العام؟ بل إن الإنسان بطبعه يريد المزيد من السلطة وليس القليل.
-
(و)
وقد يستمرئ الممثل للإرادة العامة السلطة ويحولها من تفويض إنساني إلى تفويض إلهي، ومن مجموع الإرادات الجزئية إلى تجسيد لإرادة عامة، إرادة الله أو التاريخ أو القدر أو الشعب أو المخلص والمنقذ والملهم. وكما تحول العقد الإلهي إلى عقد اجتماعي في البداية في لحظات التقدم يعود العقد الاجتماعي إلى عقد إلهي في لحظات التخلف. فالعقد الاجتماعي ليس جوهرًا ثابتًا بل هو جزء من حركة التاريخ، ذهابًا وإيابًا، تقدمًا ونكوصًا.
ما يهم في «نظام الحكم الإسلامي والديموقراطية، الفروق وإمكانية التعايش» ليس الاستقطاب بين جوهرين ثابتين متناقضين على خلاف نظري أو دفاعًا عن خصوصية ثقافية. بل المهم هو الإبقاء على التأصيل لكل تجربة مع الانفتاح على تجارب الآخرين. فهناك قاسم مشترك بين تجارب الشعوب بالإضافة إلى تعدد النماذج. الوحدة في التنوع، والتنوع في الوحدة. تتعايش النظم السياسية فيما بينها بسبب هذا القاسم المشترك. وهو رفض الاستبداد بالرأي، والتفرد بالقرار. وتحتفظ كل تجربة تاريخية بخصوصيتها الثقافية وأشكالها التطبيقية نظرًا لاختلاف الشعوب فيما بينها في ظروف نشأتها وموروثها الثقافي وفي مسارها التاريخي. المهم ألا يكون «نظام الحكم الإسلامي» كلمة حق يُراد بها باطل، قبول من حيث الشكل والشعار والإعلان ثم ممارسة أبشع أنواع القهر والتسلط باسمه. والمهم أيضًا ألا تكون «الديموقراطية» أيضًا كلمة حق يُراد بها باطل، مجرد شعار براق تنجذب إليه الشعوب التي تعيش تحت نظم القهر والتسلط، وتخفي وراءها الدعوة إلى الانخراط في العولمة واقتصاد السوق؛ إذ تعني الديموقراطية هنا التسلط الاقتصادي الحر والقطاع الخاص، وحرية الاستيراد من الأطراف والتصدير من المركز.
ما يهم هو إعادة التفكير الحر المستقل في الموروث والوافد حتى لا ينزوي الموروث في غياهب التاريخ، ويظهر الوافد وكأنه النموذج الوحيد، وممارسة النقد المزدوج لتطوير الموروث ونقد الوافد والتعبير عن احتياجات اللحظة الراهنة تحقيقًا لمقاصد الشريعة ومصالح الشعوب.