الموقف الإسلامي المعاصر وحقوق الإنسان١
مما لا شك فيه أن من سمات الفكر العربي الحديث هو وضع طرفين، أحدهما قديم والآخر جديد والربط بينهما بواو العطف للدلالة على الرغبة في الجمع بين الاثنين، «الأصالة والمعاصرة»، التراث والتجديد، الدين والعلم، النقل والعقل، الماضي والحاضر، التقليد والاجتهاد، إلى آخر هذه الثنائيات التي ملأت الحياة الثقافية العربية منذ القرن الماضي وحتى هذا القرن. كما تدل على أن الربط بينهما بواو العطف لا يدل إلا على تجاوز بينهما دون تفاعل نظرًا لغياب طرف ثالث، هو الواقع الذي يحدث فيه هذا التفاعل. فالطرف الأول يقمع في الماضي وطوباوياته والطرف الثاني يشرئب إلى المستقبل وأحلامه. وكلاهما نظرتان مثاليتان. الأول يرى أن حل الحاضر في الماضي، والثاني يرى أن حل الحاضر في المستقبل. الأول يرى نموذجه في العصر الذهبي للإنسان في الفردوس المفقود، عصر البراءة الأول، النبوة والخلافة قبل أن تتحول إلى ملك عضوض. والثاني يتطلع إلى نموذجه في العصر الذهبي للآخر، العصور الحديثة، عصر التنوير والتقدم والإنسان والطبيعة والعلم والعقد الاجتماعي والمجتمع المدني، الفردوس القادم، الغرب الحديث الذي لم يحدث فيه انهيار، ولم تقم مثله على مركزية أوروبية، ومعايير مزدوجة، وربما عنصرية دفينة. ولا يحاول أحد الغوص في الحاضر لمعرفة مكوناته وطبيعته وعوامل حركته وأسباب ثباته، وفي أي مرحلة تاريخية يتحرك المجتمع، وما رسالة هذا الجيل بالنسبة للجيل السابق تمهيدًا للجيل اللاحق. فالأسهل هو الاغتراب بالحاضر إما في الماضي وإما في المستقبل. والأصعب الغوص في أعماق الحاضر لرؤية تفاعلاته وكيفية السيطرة عليها وإعادة تفعيلها وتوجيهها في مسار التغير الاجتماعي نحو التقدم المنشود لكلا الطرفين. ما أسهل على الفكر العربي الحديث الهروب من المواجهة والوقوع في المداخل الأيديولوجية للواقع العربي الراهن. وتنشأ الحرب بين الطرفين، الأول يكفِّر الثاني، والثاني يخون الأول حتى تسيل الدماء في الجزائر ومصر، ويشق الصف الوطني، وينسى الناس العدو الخارجي. فيتحول الصديق الداخلي إلى عدو، والعدو الخارجي إلى صديق، ويختلف العرب فيما بينهم في تحديد من هو الصديق ومن هو العدو.
أولًا: التقدمية الغربية
ثانيًا: السلفية الرجعية
حدود الله لا يمكن لإنسان أن يقترب منها وكأن هذه الحدود منفصلة عن باقي الشريعة الإسلامية. وهي واجبات على الإنسان تقابلها حقوق له. فلا قطع ليد سارق إذا سرق عن جوع أو بطالة أو إذا كان المجتمع كله سارقًا. ولا رجم أو جلد أو تغريب في مجتمع يقوم على الإثارة الجنسية وتتحول فيه فتيات الإعلان إلى نجوم. ويصعب الزواج المبكر نظرًا للأزمة الاقتصادية والمغالاة في المهور وصعوبة الحصول على سكن. وهي أحكام الوضع التي تحدث عنها الأصوليون: السبب، والشرط، والمانع، والعزيمة والرخصة، والحصة والبطلان.
والحقيقة أنها كلمة حق يراد بها باطل. صحيح أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يقوم على فلسفته الخاصة، الفردية الغربية، وفي ظروف خاصة، أوروبا بعد الحرب الأوروبية الثانية، وقد تتعارض بعض تفصيلاته مع عادات بعض المجتمعات وأعراف الشعوب. ومع ذلك هناك قيم أخلاقية ومبادئ إنسانية عامة تتجاوز الشعوب والعادات والأعراف. تعبر عن بداهات العقل والفطرة والقانون الطبيعي مثل قيم الحياة والعقل، والحفاظ على ثروات الأمم وعلى أعراض الناس. فالتعذيب الجسدي والسجن بلا ذنب، والقبض على المواطن بلا تحقيق، واغتيال الخصوم السياسيين، والتصفية الجسدية للمعارضين، كل ذلك يعارض روح الإسلام، وروح الشريعة، ويتفق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إنما المقصود من هذا التعارض إخفاء أبشع أنواع نظم الحكم الذي يقوم على سلب الثروات الطبيعية للأمم وعلى النظام القبلي العشائري الذي يقوم على القهر والتسلط، واستعمال الحدود للردع والتخويف، إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف طبقوا عليه الحد. كما يطبق الحد في العامل الأجنبي سارق القليل، ويترك صاحب العمل من أهل البلاد سارق الكثير. يُخشى من حقوق الإنسان لأن بها نوع من الحريات العامة حتى لو كانت فردية. فربما كانت مقدمة وذريعة أو مناسبة وبداية للدفاع عن الحقوق العامة، الحقوق السياسية والاقتصادية للمواطنين، والتحول من حقوق الأفراد إلى حقوق الشعوب.
وقد تتعارض بعض المبادئ العامة لحقوق الإنسان ليس مع روح الشريعة الإسلامية بل مع بعض التغيرات الحرفية لبعض قوانينها خاصة فيما يتعلق بقانون العقوبات وقانون الأحوال الشخصية. فالجسم حق طبيعي للإنسان لا يجوز بتر أعضائه إلا في حالات المرض. وإذا كان لا يجوز التمثيل به بعد الموت فالأولى عدم جواز التمثيل به في الحياة. والمثال الشهير قطع يد السارق وهي عقوبة شديدة، القصد منها حث المشرع على البحث عن أسباب السرقة، إذا كانت عن جوع أو بطالة أو مرض أو أن السرقة سلوك عام عند كل الناس إنما الفرق في حجمها، سرقة الرغيف لإقامة الأود أم سرقة ثروات الأمم للتبذير والسفه. ليس المقصود تطبيق الحد «ادرءوا الحدود بالشبهات» بل البحث الاجتماعي لتغيير الواقع والقضاء على أسباب السرقة. والرجم عادة سامية موجودة في الشريعة اليهودية نقدها المسيح «من يكن منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر». وهو عقاب جسدي يفضي إلى الموت، تألم له الرسول وعاتب القاذف وتشفيه. وقد أعطت الشريعة أكبر قدر ممكن من الإشباع الجنسي للرجل، مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت أيمانكم بحيث يستحيل عمليًّا البحث عن المزيد. إنما السؤال في إشباع المرأة. ومن حقها المطالبة بالطلاق في حالة العجز الجنسي للرجل. وقد تكون حاجتها إلى الإشباع المطلق أقل من حاجة الرجل نظرًا لما تفيضه عليها عواطف الأمومة وحب الزوج من إشباع نفسي. كما أن صلب المفسدين في الأرض وقاطعي الطريق وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف عادة سامية قديمة، عقاب شديد لنشر الأمان في الطرقات. وقد تختلف طرق الردع الآن، بالسجن مدى الحياة. وكذلك القصاص موجود في معظم الشرائع. والبعض الآخر يستعيض عنه أيضًا بالسجن مدى الحياة. فالحياة لا تزهق. ومجموع الخطأين لا يكون صوابًا. لذلك جاء التعزير ليترك للحاكم تخفيف العقوبة أو تشديدها طبقًا للحالة دون التطبيق العام والمطلق لها بصرف النظر عن الحالات الخاصة. والجلد العلني أيضًا عقاب سامٍ قديم موجود في الشرائع السابقة. والعقاب النفسي أحيانًا يكون أكثر إيلامًا من العقاب الجسدي. وما يقال في العقاب الجسدي يقال في باقي الأحكام التي تجاوزها الزمن مثل الغنائم والعبيد والصيد ودار الحرب وبعض جوانب فقه النساء مثل ما ملكت الأيمان والإماء.
ويقال نفس الشيء بالنسبة لوضع المرأة في قانون الأحوال الشخصية، وكل ما يتعلق بالميراث والشهادة والإمامة والزواج والطلاق. هناك فرق بين القانون وروح القانون، بين الصياغة الزمنية المتغيرة وبين الهدف الأبدي الدائم. لم يكن للمرأة قبل الإسلام أي حق حتى حق الحياة وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ. ولم يكن لها حق الملكية فأصبح لها شخصية اعتبارية تبيع وتشتري وتمتلك. ولم يكن لها حق الشهادة فجعل لها النصف من أجل تحقيق المساواة تدريجيًّا حتى يتم تغيير الوضع الاجتماعي بنجاح دون انتكاسة ورد فعل من مجتمع تقليدي. وتؤم الصلاة للنساء دون الرجال من الناحية الجمالية حتى لا تركع المرأة وتسجد أمام الرجال. كما تقتضي رئاسة الدولة الإمامة الكبرى، الإمامة الصغرى، وقيادة الجيوش مما قد يتنافى مع وضعية جسد المرأة ودورتها الشهرية وقدرتها على التحمل. وكان تعدد الزوجات بلا حدود، فوضعت له الشريعة حدًّا وفي حالات استثنائية مثل العقم أو العجز وبعد موافقة الزوجة الأولى وإلا كان موجبًا للطلاق، وبشرط العدل المادي والنفسي. وإذا كان العدل المادي ممكنًا فإن العاطفي يستحيل فيه العدل لأن العاطفة كيف وليست كمًّا. أما الطلاق فيمكن أن تكون العصمة بيد المرأة إذا ما أرادت، وتغلب التطبع على الطبع، والتعليم على الفطرة.
ثالثًا: الوعظ التوفيقي
ويقوم هذا الموقف على البداية بالغرب، بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقبوله نفسيًّا وذهنيًّا ثم قراءته قراءة إسلامية بإيجاد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المماثلة من أجل إثبات أن هذه الحقوق قد أثبتها الإسلام من قبل إعلانها في الغرب بأكثر من أربعة عشر قرنًا، منذ ظهور الإسلام حتى الآن. فهي لا تمثل جديدًا ولا تعلن عن شيء لا يعرفه الإسلام من قبل. ويكشف هذا الموقف على نوع من الكسل الفكري وعدم القدرة على فهم الوثائق والنصوص بالرغم من التوفيق بينها. فهي تسلم بالإعلان العالمي، وتعزله عن سياقه، وتعجب به، وتستسلم وجدانيًّا له دون أن تفكر فيه. فالبريق وهَّاج، والإعجاب بالآخر لا يتعارض مع فطرة الذات. هكذا فعل الحكماء من قبل مع الفلسفة اليونانية إعجابًا بها. فتأكيد الذات عن طريق الآخر هو اعتراف بفضل الآخرين حتى ولو كانوا من الأمم القاصية عنا كما يقول الكندي. فالحق في متناول الجميع، والكل يشرفه الحق، والحق يوافق الحق ويشهد له. وهو موقف نفسي إنساني، يحاول أن يتجاوز ثنائية المعرفة بين الوافد والموروث، بريق الوافد وظلال الموروث حتى لا ينبهر الناس بالبريق ويخشوا الظلال. وهذه بضاعتنا ردت إلينا. فالكل يعلم أثر الحضارة الإسلامية في تكوين الحضارة الأوروبية في بدايات العصور الحديثة عندما ترجمت الحضارة الإسلامية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر العبرية. وقد أتيح لهؤلاء الوعاظ المستنيرين معرفة روح الإسلام كما عبرت عنها الشريعة التي تقوم على المصالح العامة ومعرفة ثقافة الاستنارة في الغرب الليبرالي ووجدوا اتفاقًا بين الاثنين كما فعل الطهطاوي بل والأفغاني نفسه عندما رأى في الغرب إسلامًا بلا مسلمين، ورأى في الشرق مسلمين بلا إسلام.
رابعًا: المثالية النصية
وهو موقف نصي خالص، يعتمد على انتقاء النصوص من القرآن والحديث الأكثر تعبيرًا عن حاجات العصر في الحرية والديموقراطية والعمل والحق العادل في توزيع الثروة والتكافل الاجتماعي. وفي القرآن كل شيء. والإسلام رسالة عامة خالدة للناس جميعًا. وفي الذهن المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وعلى أساسها يتم قراءة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والعلوم الإسلامية. فهي قراءة موجهة عن طيب خاطر وبحسن نية من أجل إعطاء صياغة عصرية للإسلام لا تقل رونقًا عن المواثيق الدولية وتنبثق من نفس الروح. وتقوم بذلك المنظمات الإسلامية في الغرب المطالبة بالإجابة على هذا السؤال: هل هناك حقوق الإنسان في الإسلام؟ وممثلوه أهل قانون وأصحاب شريعة. يعيشون في الغرب. ومضطرون للدفاع عن الإسلام أمام انتقادات الغرب له وتشويه خصومه لمبادئه. وما أسهل القيام بذلك. فالقرآن طيِّع لعديد من القراءات، مثالية وواقعية، فردية واجتماعية، رأسمالية واشتراكية. ولما كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مثالي النزعة، يعبر عن فلسفة التنوير وعن حلم الغرب بعد الحرب العالمية الثانية وأمله في مستقبل أفضل، انعكست هذه الروح في قراءة النصوص القرآنية التي كانت تعبر أيضًا عن أحلام المستضعفين في شبه الجزيرة العربية وأشواقها نحو عالم أفضل تسوده الحرية والإخاء والمساواة.
خامسًا: الواقعية الاجتماعية
والتأصيل الإسلامي في هذه المجموعة قليل في الظاهر لأنه لا يعتمد اعتمادًا مباشرًا على نصوص دينية أو على التاريخ الإسلامي مع أن الواقع هو الذي يطرح السؤال الذي يجيب عليه النص كما هو واضح في «أسباب النزول». والواقع هو الذي يتغير ويتبدل ويتطور، فيتطور التشريع طبقًا له كما هو واضح في «الناسخ والمنسوخ». يهدف إلى تغيير الواقع عن طريق الممارسة الفعلية والإعلان والنشر أكثر مما يهدف إلى تأسيس النظر.
سادسًا: الحل الجذري: إعادة بناء التراث القديم
لما كان التراث ما زال مخزنًا حيًّا في وعي الجماهير، ومكونًا رئيسيًّا في الثقافة الشعبية للأمة فإن موضوع حقوق الإنسان، وهو موضوع فرضته أوضاع العصر، امتدادًا من الثقافة الغربية واهتماماتها فإن انتهاك حقوق الإنسان واقع في كل مجتمع، وفي كل نظام سياسي. تختلف أسبابه من مجتمع إلى آخر. كما أن الأسس النظرية لحقوق الإنسان تختلف أيضًا طبقًا لثقافات المجتمعات، بنيتها وتطورها. وتندر هذه الكتابات لأنها لا تهدف إلى نتيجة سريعة ومباشرة. ولا تصب في المصالح العاجلة لكل المراكز والهيئات التي تعمل دفاعًا عن حقوق الإنسان. تعمل على الأمد الطويل لتأصيل حقوق الإنسان في الثقافة الشعبية بعد إعادة بنائها بحيث ترتكز على الإنسان وليس على الله تحقيقًا للقصد الإلهي الذي هو الإنسان، مخاطبته ومحاورته. فالإنسان هو موضوع العلم الإلهي، خلق العالم له، وسخرت قوانين الطبيعة لصالحه. فانتهاك حقوق الإنسان في الواقع إنما سببه غياب مفهوم الإنسان كبعد مستقل في تراثنا القديم، الرافد الرئيسي في الثقافة الشعبية التي تقوم بدور الأيديولوجية السياسية في المجتمعات التراثية مثل المجتمعات الإسلامية. ليست القضية إذن قضية نصوص من أجل قراءتها من منظور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فيحدث التطابق بينهما إذا حسنت النية كما يفعل الوعاظ المثاليون أو لبيان الاختلاف كما يفضل العلمانيون الغربيون وبعض المستشرقين. إنما القضية في هذه النصوص عندما تحولت إلى ثقافة عبر التاريخ، وارتكزت على تأويل واحد لصالح السلطان وحقوقه المطلقة التي جاوزت حقوق الناس في مقابل ثقافة المعارضة التي لم تعِشْ طويلًا في الوجدان، وأصبحت هشة الجذور في الوعي التاريخي. فثقافة السلطة تعطي السلطان الحقوق وتعرض على الناس الواجبات. وثقافة المعارضة تحاول التقليل من حقوق السلطان مع زيادة واجباته والإكثار من حقوق الناس والإقلال من واجباتهم.
وفي علوم التصوف ظهرت المقامات والأحوال كانفعالات إنسانية، المقامات مثل التوبة والصبر والتوكل والرضا والقناعة، والأحوال مثل الغيبة والحضور، الخوف والرجاء، الصحو السكر، الفقد والوجد، الفناء والبقاء. وكلها طريق إلى الله من أجل الاتحاد معه والفناء فيه. صحيح أن بها تحليل التجارب الإنسانية والعواطف البشرية ولكن من أجل اكتشاف البعد الإلهي في الإنسان وليس البعد الوجودي فيه. ويغلب عليها جميعًا القيم السلبية التي تبعث على التراجع والنكوص والتقوقع على الذات، وترك العالم بمن فيه على من فيه. ظهرت القيم الصوفية في البداية كنوع من المقاومة السلبية بعد أن استحالت المقاومة الفعلية بعد استشهاد الأئمة من آل البيت. فآثر البعض إنقاذ النفس بعد أن استحال إنقاذ العالم واستمر الوضع كذلك في الثقافة الشعبية حتى الآن بالرغم من المقاومة الفعلية ونجاحها في عصر التحرر من الاستعمار وفي الثورات العربية الأخيرة دفاعًا عن حريات الشعوب والأوطان وإن غاب في الدفاع عن حقوق الإنسان نظرًا للرصيد التاريخي الطويل في المخزون الثقافي لتراث السلطة ولحقوق السلطان على حقوق الناس، وحقوق الله وأوليتها على حقوق العباد. ولم يستطع أحد باستثناء محمد إقبال تحويل نظرية الإنسان الكامل عند الجيلاني وابن عربي إلى الإنسان المتعين أي المواطن العادي، وتحويل المثال إلى واقع. فعظمة الإنسان في نقصه واتجاهه نحو الكمال وليس في كماله الذي لا نقص فيه. في نظرية الإنسان الكامل يحتوي الله كل شيء. ويصبح هو والعالم شيئًا واحدًا. ويضيع الإنسان الفردي. وبالتالي تختفي حقوق الإنسان. ولا يظهر الإنسان ضمن مصطلحات الصوفية. إنما تظهر ألفاظ النفس. والروح والسر «الإنسان الداخلي» هو الوعي الخالص، وليس الإنسان بلحمه وعظمه الذي يوضع في السجون ويصفَّى في المعتقلات.
وفي علم أصول الفقه ظهر الصراع بين الحقوق والواجبات. فالشريعة حقوق وواجبات ولو أنها على مدى التاريخ تحولت إلى واجبات صرفة، ونسي الناس الحقوق. فالأحكام الشرعية الخمسة أقرب إلى الواجبات منها إلى الحقوق، الواجب أو الفرض، ويقابله الحرام أو المحظور، والمندوب ويقابله المكروه، والمباح أو الحلال. عرف الناس الواجب في الدرجات الأربعة الأولى. الإيجاب والسلب، والمجبر والمخير، ولكن المباح أقرب إلى الحق منه إلى الواجب.
وما زال الفكر المعاصر أقرب إلى الحقوق منه إلى الواجبات، وكما عبر عن ذلك محمد بن عبد الوهاب في «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد» وكأنه يوجد حق للعبيد على الله. حق الله تسليم العباد له والإنصات لإرادته، وحق السلطان طاعة الناس له واتباع أوامره. فأين حق العباد في الاستحقاق والثورة ضد الحاكم الظالم؟ أين حق البشر في المواطنة. أن يكونوا أحرارًا متساويين في المجتمع وليسوا رعية لسلطان أو عبيدًا حتى ولو كانت العبودية لله؟ ولفظ «العبودية» أصبح ثقيلًا على النفس في عصر التحرر.
قد تساعد بعض الأمثال العامية على الإعلاء من شأن حقوق الإنسان ليس كفرد بل كجماعة وكأمة وكحياة بشر. والأمثال العامية جزء لا يتجزأ من مكونات الثقافة الشعبية. ويقوم بنفس الدور. حجة السلطة. والذي تقوم به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وقد تكون أكبر دعامة لحقوق الإنسان. فهي تدافع عن العقل وتفند من يغفل عنه «زي تور الله في برسيمه». وتفند الجهل «ما يعرفش طز من رحمة الله». وتدافع عن حق الإنسان في المعرفة العقلية «ربنا عرفوه بالعقل». وتدعو الإنسان لممارسة حريته دون الاكتفاء بمجرد الشكوى من الظلم «قال ربنا دخلنا بيت الظالمين، وطلعنا سالمين، قال وإيش دخلك، وإيش طلعك». وترفض الاحتجاج بالقضاء والقدر فتلك حيلة العاجز «في التدبير يحيل على المقادير». وترفض الاستسلام لحكم الطغاة مثل فرعون.
إن طبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع العربي تجعل معركة حقوق الإنسان هي المعركة الرئيسية بعد استقلال الأوطان وحريات الشعوب. فالعالم العربي الآن يحاول منذ فجر النهضة العربية في القرن الماضي إغلاق عصوره الوسطى، العصر التركي، وبداية عصوره الحديثة. فقد انقضت الفترة الأولى، عصر الإسلام الذهبي في القرون السبعة الأولى وأرخ لها ابن خلدون مبينًا أسباب قيام الحضارة العربية الإسلامية وأسباب انهيارها، من البدو إلى الحضر ثم إلى البدو من جديد. وهي الفترة التي تريد الحركات الإسلامية المعاصرة العودة إليها أو استعادتها أو أخذها نموذجًا ونبراسًا. والفترة الثانية منذ ابن خلدون حتى هذا القرن سبعة قرون ثانية، عصر الشروح والملخصات، ساد فيها الغزو الخارجي، التتار والمغول والقهر الداخلي، الخلافة العثمانية، والتي حاول الإصلاح الديني منذ القرن الماضي وضع بداية جديدة لها. والعالم الإسلامي الآن ينهي السبعة قرون الثانية ويبدأ سبعة قرون ثالثة يتحول فيها من القديم إلى الجديد، ومن النقل إلى العقل، ومن النص إلى الواقع، ومن الدين إلى العلم، ومن الله إلى الإنسان، ومن النفس إلى البدن مثل عصر النهضة الأوروبي في القرن السادس عشر بعد أن انتهى الإصلاح الديني الذي بدأ منذ القرن الماضي. ترتبط قضية حقوق الإنسان إذن بالتحول التاريخي من الإصلاح إلى النهضة على الأمد القصير، وبالدخول في معركة القدماء والمحدثين حتى ينتصر المحدثون على القدماء، وبالتحول التاريخي على الأمد الطويل من مرحلة العصر الوسيط الإسلامي إلى العصر الحديث الإسلامي الذي يقوم على العقل والحرية والمساواة والتقدم، والمثل التي ناضل من أجلها المعتزلة والفلاسفة قديمًا، ورواد النهضة العربية حديثًا. قضية حقوق الإنسان هي جزء من كلٍّ، نضال تاريخي طويل من أجل تحويل مسار الحضارة الإسلامية كله من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى دون الاكتفاء بنقل النموذج الغربي أو قراءته قراءة إسلامية نصية. ولا يوجد إبداع فكري خارج الإبداع التاريخي. ولا توجد حقوق إنسان إلا في مسار التاريخ.
(١) المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
(٢) المنظمة المصرية لحقوق الإنسان. وتصدر «حقوق الإنسان»، نشرة غير دورية.
(٣) مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان.
(٤) مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ويصدر عدة مجلات مثل «سواسية»، «مساعدة»، «رؤى مغايرة»، «رواق عربي».
• محمد السيد سعيد: مقدمة فهم منظومة حقوق الإنسان، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، ١٩٩٧م.
وقد كان مؤلف هذا البحث أحد خبراء صياغة هذا الإعلان العالمي الجديد برئاسة هلموت ثميت المستشار السابق لألمانيا الغربية، هانز كنج أستاذ الدراسات اللاهوتية بجامعة توبنجن بألمانيا، برسو كيم من جامعة سيول بكوريا الجنوبية.
• جمال البنا: قضية الحرية في الإسلام، الاتحاد الدولي الإسلامي للعمل، القاهرة، جنيف (د.ت).
• جمال البنا: حرية الاعتقاد في الإسلام، القاهرة (د.ت).
• الصادق المهدي: الاعتدال والتطرف وحقوق الإنسان في الإسلام. دائرة الإعلام الخارجي لحزب الأمة، الخرطوم (د.ت).
• المصادرة، مداولات الملتقى الفكري الرابع للمنظمة ١٦–١٧ يونيو ١٩٩٤م، القاهرة، ١٩٩٥م.
• حالة حقوق الإنسان في مصر، التقرير السنوي لعام ١٩٩٣م، القاهرة، ١٩٩٤م.
• جريمة بلا عقاب، التعذيب في مصر، القاهرة، ١٩٩٣م.
• وجهًا لوجه، رد المنظمة المصرية لحقوق الإنسان على تقرير الحكومة للأمم المتحدة، القاهرة، ١٩٩٣م.
• دفاعًا عن حقوق الإنسان، القاهرة، ١٩٩٣م.
وكذلك دراسات ونشرات مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان مثل:
• د. هيثم مناع، الضحية والجلاد، القاهرة، ١٩٩٥م.
• حرية الصحافة من منظور حقوق الإنسان، القاهرة، ١٩٩٥م.
• الاعتقال وقانون الطوارئ، القاهرة، ١٩٩٥م.
• الأحزاب الحق المشروع … المحظور، القاهرة، (د.ت).
• حقوق المرأة العاملة، القاهرة، (د.ت).
• حرية الرأي والعقيدة، قيود وإشكاليات، القاهرة، ١٩٩٤م.
• د. هيثم مناع: المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي، القاهرة، ١٩٩٥م.
• د. هيثم مناع: حقوق الإنسان في الثقافة العربية الإسلامية، القاهرة، ١٩٩٥م.
• د. منصف المرزوقي: حقوق الإنسان … الرؤيا الجديدة، القاهرة، ١٩٩٦م.
• د. فاروق أحمد دسوقي: نظرات في القرآن الكريم حول حقيقة الإنسان، دار الدعوة، القاهرة، ١٩٨٣م.