المشهد: وادي المسيسبي قبل أربعين إلى خمسين عامًا (١٨٣٥–١٨٤٥)
لن تعرفوني إلا إن كنتم قد قرأتم كتابًا بعنوان «مغامرات توم سوير»، لكن لا يهم، فهذا الكتاب كتبه السيد مارك توين وهو رجل يقول الحقيقة — في أغلب الأحوال — لكنه غالى في بعض الأمور، غير أن هذا ليس بالشأن المهم، فلم ألق شخصًا لم يكذب في وقت من الأوقات عدا الأرملة أو الخالة بولي، وبهذا أقصد عمة توم، التي تدعى بولي، هي والأرملة دوجلاس سيكونان في هذا الكتاب الذي تشكل الحقيقة الجزء الأكبر منه كما قلت من قبل.
انتهى كتاب «مغامرات توم سوير» بعثوري أنا وتوم على المال الذي خبأه اللصوص بالكهف، مما جعلنا أثرياء؛ فحصل كل منا على ستة آلاف دولار ذهبًا وأودع القاضي ثاتشر النقود لنا في بنك وأمكننا أن نحصل منها على دولار يوميًّا؛ إذ لم ندر بأي حال ما الذي يمكننا فعله بكل تلك النقود، وقد أوتني الأرملة دوجلاس كابن لها وتعهدت بأن تصنع مني شخصًا مهذبًا.
كانت الحياة في منزل الأرملة دوجلاس صعبة على الدوام، إذ كانت شديدة الاهتمام بالنظام، والتزمت بقواعد اللياقة في جميع تصرفاتها، فلما لم أعد قادرًا على احتمال هذا، فررت من منزلها؛ ارتديت ملابسي القديمة وشعرت بالرضا والحرية، لكن توم سوير بحث عني وعثر علي وأخبرني بأنه يخطط لتشكيل عصابة من اللصوص، وأخبرني بأنني قد أنضم إليها إن عدت إلى الأرملة دوجلاس وأحسنت التصرف، ومن ثم عدت إلى هناك.
بكت الأرملة لحالي ودعتني الحمل الضال المسكين، ونعتتني بأوصاف أخرى، لكنها لم تقصد قط أن تسيء إلي، ثم ألبستني ملابس جديدة، فما كان مني إلا التصبب عرقًا والشعور بأنني مقيد.
ثم عادت الوتيرة القديمة من جديد. دقت الأرملة جرس العشاء ووجب علي أن أَحضره في الموعد، ولم يكن باستطاعتي أن أبدأ في تناول الطعام على الفور عندما أصل إلى المائدة؛ كان علي أن أنتظر أن تحني الأرملة رأسها وتتمتم قليلًا بشيء فوق الطعام الذي لم يعبه شيء سوى أن كل صنف فيه يقدم على حدة، وقد اعتدت على تناول يخنة تمتلئ بأصناف مختلفة من الطعام تمتزج في اليخنة وسط عصارتها وتصبح شهية الطعم.
كانت السيدة واتسن أخت الأرملة دوجلاس قد أتت لتوها لتسكن معها، لقد انتقلت إلى هناك بعدي في الليلة الأولى من عودتي إلى المنزل ومعها كتاب لتعليم الهجاء، وعملت على تعليمي هجاء بعض الكلمات لقرابة ساعة إلى أن جعلتها الأرملة دوجلاس ترفق بي، إذ لم أستطع تحمل المزيد.
قصدت غرفتي وجلست بجانب النافذة، وحاولت أن أفكر في أي شيء مبهج، لكن بلا طائل. شعرت بالحزن والوحدة، وتمنيت بعض الرفقة، فلم ألبث أن سمعت غصنًا يتكسر في الظلام، فجلست ساكنًا وأنصت، فسمعت بالكاد صوتًا يقول: «مياو! مياو!»
فقلت: «مياو! مياو!» بقدر ما استطعت أن أخفض صوتي، ثم أغلقت نور الغرفة وتسلقت عبر النافذة إلى سطح الحظيرة المجاورة ثم هبطت إلى الأرض وزحفت متسللًا بين الأشجار فوجدت توم ينتظرني كما توقعت.
سلكنا طريقًا قصيرًا، لكن أثناء مرورنا بالمطبخ سقطت أنا على جذر نبتة محدثًا صوتًا عاليًا، فجثمنا على الأرض ورقدنا بلا حراك، إذ كان جيم عبد السيدة واتسن يجلس عند باب المطبخ.
قال جيم: «من هناك؟»
ثم أنصت مجددًا بعض الوقت وسار تجاهنا عدة دقائق إلا أن السكون كان يخيم على المكان. لا شك أنه أدرك أن شخصًا ما بالجوار مع أنه لم يستطع رؤيتنا، فقد جلس على الأرض على مقربة مني أنا وتوم وقال إنه يعلم أن شخصًا ما بالجوار وأخبرنا بأنه سينتظر إلى أن نظهر، ثم أسند ظهره إلى شجرة ومدد ساقيه حتى كادت إحداهما تلمس ساقي، لكن لم تلبث أنفاسه أن تثاقلت وأخذ يغط في النوم، فاستطعنا أن نفلت منه أخيرًا.
عندما وصلت أنا وتوم إلى حافة قمة التل، نظرنا إلى القرية بالأسفل وأمكننا رؤية ثلاثة أو أربعة أضواء تلتمع. كانت النجوم فوقنا تتلألأ، وبالأسفل إلى جانب القرية جرى النهر. بلغ عرضه ميلًا كاملًا وكان عظيم الامتداد، وشديد الركود. وجدنا جو هاربر وبين روجرز واثنين أو ثلاثة آخرين من الصبية، فحللنا رباط قارب صغير طفا بنا في النهر إلى الجرف الضخم الموجود بجانب التل وصعدنا الشاطئ.
اتجهنا نحو مجموعة من الشجيرات، جعل توم الجميع يقسمون عندها بأن يحافظوا على سرية هذا المكان، ثم أرانا فتحة في التل عند أكثر نقطة تحتشد فيها الشجيرات، فأشعلنا بعض الشموع وزحفنا إلى داخله على أيدينا وركبنا، وبعد دقيقة أو اثنتين ظهرت فتحة بالكهف مررنا عبرها ثم انحنى توم تحت حائط بالكهف وزحف إلى فتحة أخرى، فتبعناه عبر ممر ضيق إلى أن دخلنا مكانًا يشبه الحجرة، ذا هواء شديد البرودة كثيف الرطوبة.
قال توم: «الآن سنؤسس هذه العصابة التي سندعوها عصابة توم سوير. كل من يود الانضمام إلى تلك العصابة عليه أن يدلي بقسم.»
كنا على استعداد لذلك، فأخرج توم قصاصة ورقة كُتب عليها قسم بأن يتعهد كل صبي بالوفاء للعصابة، وبألا يبوح قط بأي من أسرارها، وبأنه إن آذى أحد الصبية آخر فسيؤمر صبي من سائر الصبية بالاقتصاص منه ومن عائلته وسيضطر إلى القيام بذلك.
الجميع قالوا إنه قسم رائع وسألوا توم إن كان قد ألفه بنفسه، فقال إنه ألف أجزاء منه أما الأجزاء الأخرى فكانت من كتب القراصنة وكتب اللصوص، وأخبرنا بأن كل عصابة ذات شأن يجب أن تقسم قسمًا كهذا.
فقال بين روجرز: «لكن مهلًا يا توم. فين ليست لديه أسرة. كيف سنقتص منه إن لم تكن لديه أسرة؟ ماذا سنفعل بشأنه؟»
فسأل توم: «حسنًا، أليس له والد؟»
فأجابه بين روجرز: «نعم، لكنك لن تستطيع أبدًا العثور عليه هذه الأيام. لقد اعتاد إثارة الكثير من المشكلات في كافة أرجاء البلدة، لكن لم يره أحد هناك منذ عام أو أكثر.»
تباحثوا في الأمر، وكانوا سيمنعونني من الانضمام إلى العصابة، إذ لم يستطع أحد أن يجد حلًّا، وكدت أن أبكي لولا أن خطر لي فجأة حل. طرحت عليهم الاقتصاص من السيدة واتسن، فرضوا بذلك، وسمحوا لي بالانضمام إليهم.
بعدئذ أخبرنا توم أننا سنصبح قطاع طرق.
قال: «سنعترض مركبا ينقل المسافرين وعربات الخيل، ونرتدي أقنعة ونستحوذ على نقود الركاب والساعات التي يرتدونها، ونأخذ بعضهم إلى الكهف ونبقيهم هناك إلى أن نحصل على فديتهم.»
فسأل بين روجرز: «فديتهم؟ ما الذي يعنيه هذا؟»
فقال توم: «لا أدري، لكن هذا هو ما يفعله اللصوص، حتى إنني رأيت هذا في بعض الكتب، لذا هذا هو ما يتعين علينا فعله بالطبع.»
– «لكن كيف سنفعل ذلك إن كنا لا ندري ما الذي يعنيه؟»
فقال توم: «علينا فعل ذلك وحسب. ألم أخبرك بأنه في الكتب؟ هل تريدنا أن نقوم بالأمور على نحو مختلف، فيفسد كل شيء.»
فقال بين: «حسنًا، لكن كيف سنحصل على فدية هؤلاء القوم إن لم ندر كيف؟»
– «لا أدري، لعل الإبقاء عليهم إلى أن نحصل على فديتهم يعني إبقاءهم هنا وقتًا طويلًا جدًّا.»
– «مدهش! لِمَ لم تقل هذا من قبل؟! سنبقيهم هنا وقتًا طويلًا جدًّا إلى أن نحصل على فديتهم! سيكون هذا مزعجًا يا عزيزي، سيلتهمون كميات كبيرة من الطعام وسيحاولون على الدوام الفرار.»
– «كيف سيمكنهم الفرار، إن كان هناك حارس يراقبهم؟»
– «حارس؟ جيد! إذن سيضطر أحدنا إلى السهر طوال الليل وعدم النوم على الإطلاق لحراستهم! أعتقد أن هذا سخف، ولا أرى سببًا يدعونا إلى القيام بهذا.»
– «السبب هو أن هذا هو ما ورد في الكتب. هل تود أن تلزم الصواب أم لا؟ ألا تعتقد أن من كتبوا هذه الكتب يدركون كيف يقومون بالأمور على نحو صائب؟ أتعتقد أن بإمكانك أن تعلمهم أي شيء؟ لا تستطيع أن تعلمهم شيئًا على الإطلاق. لا يا سيدي. سنمضي في الأمر ونحصل على فدية بالطريقة المعتادة.»
كان الصغير تومي بارنرز قد غلبه النوم بحلول ذلك الوقت، فلما أيقظه الصبية شعر بالخوف وأخذ في البكاء، وقال إنه يريد العودة إلى منزله وإلى والدته، وأنه لم يعد يريد أن يصبح لصًّا، فسخر الجميع منه، فغضب وقال إنه سيخبر الجميع بسرنا، فأعطاه توم خمس سنتات ليلزم الصمت، وقال إننا سنلتقي مجددًا الأسبوع القادم لنخطط لأولى سرقاتنا.
بعد أن سرت عائدًا إلى المنزل، تسلقت من جديد إلى سطح الحظيرة، ومنها إلى نافذتي قبل طلوع الفجر بالضبط. كانت ملابسي الجديدة قد صارت ملطخة بالشحم ومغطاة بالوحل وكنت منهك القوى.