ملك ودوق
مرت ثلاثة أيام وليال هادئة، لطيفة، بلا مشكلات. كان النهر هائلًا، بلغ عرضه أحيانًا ميلًا ونصف ميل. ارتحلنا عبره ليلًا وخبأنا الطوف قبل بزوغ النهار، ثم كنا نسبح ونترقب ضوء النهار.
كنا نأخذ الطوف ما إن يحل الظلام إلى وسط النهر ونتركه يطفو إلى حيث يشاء تيار الماء، ثم نسترخي، ونترك أرجلنا تتدلى في الماء ونتحدث عن أي مما يطرأ من الأمور، وكنا على الدوام مجردين من الثياب، على الأقل في الأوقات التي سمح لنا فيها الباعوض بهذا.
الثياب الجديدة التي أعطتني إياها أسرة باك كانت جيدة إلى حد أنها لم تكن مريحة، فضلًا على أنني لم أحب ارتداء الثياب كثيرًا.
خلا النهر بأسره لنا أحيانًا لأوقات طويلة جدًّا، وأحيانًا أمكننا رؤية شعلة أو اثنتين من شمعة أو مصباح على طوف أو كوخ على مقربة من الشاطئ، وتنامى إلى أسماعنا بين الحين والآخر صوت كمان أو أغنية قادمة من مكان ما. الحياة على طوف جميلة. رقطت النجوم السماء، فكنا نستلقي على ظهرينا ونتأملها وحسب.
جدفت عكس تيار النهر صباح يوم ما لأرى إن كان بمقدوري جمع بعض ثمر العليق، لكن أثناء مروري بنقطة تقاطعت فيها مياه النهر مع رافد صغير، أتى رجلان يركضان مع تيار النهر بأقصى سرعتهما، فشعرت أنني هالك لا محالة؛ إذ كلما بدأت مطاردة شخص ما، شعرت بأنني أو جيم الشخص المطارد. كدت أن أجدف مبتعدًا، لكنهما كانا بحلول الوقت قد اقتربا بشدة مني ونادياني ورجياني أن أنقذهما، وقالا إنهما لم يقترفا ذنبًا، لكنهما مطاردان، وثمة رجال وكلاب قادمون.
فصعدا على متن الطوف وتنامت إلى أسماعنا في غضون دقائق صيحات مجموعة من الكلاب والرجال من مكان بعيد، فجدفت بين الأشجار واختبأنا منهم.
أحد هذين الشخصين كان في السبعين تقريبًا من العمر؛ كان أصلع الرأس ذا شارب رمادي اللون تمامًا، ارتدى قبعة بالية متهدلة وقميصًا أزرق ملطخًا بالشحم، وبنطالًا جينزًا ممزقًا حشا به رقبة حذائه الطويلة، أما الرجل الآخر فقد ناهز الثلاثين تقريبًا من العمر وارتدى الزي ذاته، وكلا الرجلين حمل خُرجًا ضخمًا.
بعد تناول الإفطار تحدثنا، أول ما اتضح هو أن هذين الرجلان لم يعرف أحدهما الآخر.
سأل الرجل الأصلع الرجل الآخر: «ما الذي أوقع بك في مشكلة؟»
فأجابه: «حسنًا، كنت أبيع أداة تنزع الصفرة عن الأسنان، وهي تنزعها بالفعل، لكنها تنزع معها ميناء الأسنان فقط، ثم مكثت هناك لليلة أخرى لم يكن من المفترض أن أمكثها. كنت بصدد الفرار لتوي عندما التقيتك في طريقي، فأخبرتني أنت بأنهم قادمون ورجوتني أن أساعدك على الفرار، فأخبرتك بأنني كنت أتوقع أنني سأقع في ورطة، وسأفر سريعًا معك، هذه هي القصة برمتها. ما هي قصتك؟»
فقال الأصلع: «حسنًا. أدرت أسبوعًا اجتماعات دينية صغيرة؛ أُحدِّث الأُسر عن السلوك الذي يجب أن يتبعوه، وأتقاضى نظير ذلك مبلغًا يصل إلى خمسة أو ستة دولارات في الليلة الواحدة — عشرة سنتات نظير الفرد — لكن دارت شائعات مساء الأمس بأنني أرتكب أفعالًا مشينة في الخفاء، وسمعت صباح اليوم أن القوم يجتمعون، وأنهم إن أمسكوا بي فسيلطخونني بالقطران ثم يكسونني بالريش، ثم سيضعونني فوق قضيب معدني ويتجولون بي في البلدة وأصبح مثارًا للسخرية.
قال الشاب: «أيها العجوز، أعتقد أننا نستطيع أن نشكل فريقًا معًا. ما رأيك؟»
– «أستطيع ذلك. ما هو مجال عملك الأساسي؟»
– «أنا عامل طباعة، لكنني في العادة أبيع بعض الأدوية أو أعمل ممثل مسرح. كثيرة هي الأعمال التي أستطيع أداءها، أعمل في أية مهنة نافعة.»
– «أنا بدوري مارست الطب في شبابي، كما أنني أجيد قراءة الطالع عندما يكون معي من يستطيع تقصي الحقائق لي، كما أجيد إلقاء الدروس الدينية.»
لم يتحدث أحد لبرهة، ثم تنهد الشاب وقال: «وا أسفاه.»
فسأله الأصلع: «علامَ تأسف؟»
فأجابه: «كم أعجب من أنني أعيش حياة كتلك، ومن أنني مرغم على تلك الرفقة …» وأخذ يمسح طرف عينه بخرقة قديمة.
فقال الرجل الأصلع: «ألا تليق هذه الرفقة بك؟»
– «بل تليق بي. إنها ما أستحق، على أحسن تقدير. لا ألومكم أيها السادة، بل على العكس؛ لا ألوم أحدًا البتة. أنا أستحق كل هذا. أنا من انحدر بنفسه، أنا من فعل هذا بنفسه.»
– «انحدر بنفسه من ماذا؟»
– «آه، لن تصدقوني. سر مولدي هو أنني …»
– «سر مولدك! أتعني أنـ …»
فقال الشاب والجدية الشديدة بادية عليه: «أيها السادة. سأكشف السر لكم، فأنا أشعر بالثقة تجاهكم. أنا دوق شرعًا! أنا دوق بيلجووتر الشرعي.»
وأخذ يبكي لما صار إليه من فقر شديد، فحاولنا التخفيف عنه، لكنه قال إن حزنه أكبر من أن تداويه كلمات المواساة. قال إن علينا أن ننحني له ونحن نخاطبه قائلين: «جلالتك» و«سيدي» و«سيادتك»، وإنه لا يمانع أن نناديه ﺑ«بيلجووتر» — لقبه — وإن على أحدنا أن يخدمه على العشاء، وأن ينفذ كل رغباته حتى أتفهها.
كان هذا سهلًا. فعلنا هذا، ووجدنا أن هذا الأمر أسعده، أما العجوز فصمت صمتًا مطبقًا ولم يبد عليه الارتياح. بدا أن هناك ما يدور برأسه، فيما بعد قال عصر هذا اليوم: «اسمع يا بيلجووتر. أشعر بالأسى لك، لكنك لست الوحيد الذي يعاني مشكلة كتلك.»
– «وا أسفاه!»
– «لا لست وحدك من يملك سرًّا، ثم أخذ يبكي.»
– «الشقي الذي يرتدي بنطالًا جينزًا أزرق ويقف أمامك يا بيلجووتر هو ملك فرنسا المستحق البائس المنفي الذي داسته الأقدام.»
لم يمض وقت طويل قبل أن أحسم أمري بأن هذين الكاذبين لم يكونا ملكًا ودوقًا على الإطلاق، بل نصابين حقيرين، لكنني لم أقل قط ما من شأنه أن يكشف أنني توصلت إلى هذه الحقيقة، لا أمانع إن كانا يريدان منا أن ندعوهما ملكًا ودوقًا، طالما أن هذا سيبقي على سير الأمور بسلام على الطوف. إن كان هناك ما قد تعلمته من أبي، فهو أن أفضل وسيلة للتعامل مع هذا النوع من الأشخاص هي مسايرتهم.
سألانا الكثير من الأسئلة عن سبب إخفائنا الطوف أثناء النهار، وعمن نفر منهم، فاختلقت قصة لهم؛ فأخبرتهم بأن أغلب أسرتي قد توفيت وبأنني كنت أعيش مع جيم على الطوف مع أبي وأخي الصغير، وبأن الأخيرين سقطا من على الطوف عندما اصطدمنا بسفينة بخارية.
بدأ المطر يهطل تلك الليلة، وتنازع الدوق والملك قليلًا حول من سينام على الفرش. فراشي كان أفضل قليلًا من فراش جيم، وكلا الفراشين كان تحت خيمة صغيرة صنعها جيم من بعض الأغطية، فنام الكذابان على فراشينا، فيما سهرنا نحن وراقبنا المكان أثناء العاصفة.