نذير شؤم
لم يكن والدي كما قال الصبية قد شوهد منذ أكثر من عام، لكن هذا لم يضرني، إذ لم أرد أن أراه ثانية أبدًا، فقد اعتاد أن يثور غضبًا مني، وأن يلطمني بظهر يده، لكنني اعتدت الاختباء في الغابة أغلب الوقت الذي كان فيه قريبًا. قال البعض أيضًا إنه توفي، لكنني لم أصدقهم، فقد آمنت بأن هذا العجوز سيظهر من جديد، ولو أنني تمنيت ألا يفعل.
لعبت أنا والصبية الآخرون لعبة اللصوص من حين لآخر مدة شهر، ثم انسحبت أنا منها، وانسحب سائر الصبية؛ إذ لم نسرق أي شخص، وإنما تظاهرنا بذلك وحسب. اعتدنا أن نسارع بالخروج من الغابة وأن ننقض على من يحملون النباتات والحيوانات في العربات الذاهبة إلى السوق، لكننا لم نسرق أيًّا منهم قط. كان توم يسمي الخنازير ﺑ«كنز الذهب»، وثمار اللفت ﺑ«المجوهرات»، وكنا نقصد الكهف ونتحدث عما قمنا به، إلا أنني لم أر أن الأمر مجد.
مرت ثلاثة أو أربعة أشهر ومضى جزء كبير من الشتاء. كنت قد أخذت في ارتياد المدرسة، وصرت أستطيع هجاء الكلمات والقراءة والكتابة قليلًا، كما أمكنني أن أردد جدول الضرب وصولًا إلى ٦ × ٧ = ٣٥، لكنني لم أحسب أنني أستطيع أن أزيد على ذلك حتى إن حييت إلى الأبد.
كرهت المدرسة في البداية، غير أنني اكتشفت شيئًا فشيئًا أنني أستطيع احتمالها. كنت أتغيب عنها بغير إذن كلما شعرت بالملل، وكانت المشكلات التي ستترتب على ذلك الأمر في اليوم التالي تفرحني، كما بدأت أعتاد بعض الشيء على عادات الأرملة دوجلاس، فهي لم تكن شديدة القسوة، إلا أنني ظللت أجد العيش في منزل والنوم في فراش أمرًا مزعجًا قليلًا، كنت قبل أن يتحول الجو إلى البرودة أتسلل أحيانًا خارج المنزل وأنام في الغابة، فهذا أشعرني بالراحة. فضلت عاداتي القديمة، إلا أنني بدأت أميل قليلًا إلى العادات الجديدة أيضًا، وقد قالت الأرملة دوجلاس إنني بدأت أحرز تقدمًا وإنني أحسن التصرف، وإنها لا تخجل مني.
تصادف صباح يوم ما أنني أوقعت الملاحة أثناء الإفطار وهذا نذير شؤم، أشعرني بالتوتر والقلق الشديد. انتابني شعور فظيع حتى إنني اضطررت إلى الذهاب للتمشية لأحاول أن أهتدي إلى طريقة أصرف بها عني هذا الحظ السيئ. كنت أعلم أن شرًّا ما سيقع.
اتجهت إلى الحديقة الأمامية وتسلقت سورًا. كان يغطي الأرض ثلج سقط مؤخرًا ووصل ارتفاعه بوصة، أبصرت عليه آثار قدمي شخص ما. أتى هذا الشخص من المحجر ثم وقف بعض الوقت دون أن يفعل شيئًا، ثم عاد ودار حول سور الحديقة. من الغريب أنه لم يدخل أو يطرق الباب بعد أن وقف هكذا. انتابني الفضول، فعزمت على اقتفاء أثره، لكنني بعدئذ انحنيت لأتأمل الأثر عن كثب. حُفر على كعب الحذاء الأيسر علامة على هيئة صليب لصرف الشيطان، كانت على حذاء أبي.
أخذت أركض بأقصى سرعتي، وتلفت خلفي من حين لآخر لكنني لم أر أحدًا، وبلغت منزل القاضي ثاتشر بأسرع ما أمكنني، فسألني إن كنت قد أتيت من أجل بعض من المال الذي يحتفظ به لي.
فأجبته: «لا يا سيدي، لا أريد هذا المال بتاتًا، أود أن تأخذه أنت، أود أن أعطيه لك، الستة آلاف دولار الذهبية، مع كل شيء آخر غيرها.»
فنظر إلي ذاهلًا وبدا أنه لا يفهم الأمر.
فقلت له: «أرجوك أن تأخذ المال، ولا تسألني أي شيء، لن أضطر عندئذ إلى أن أكذب.»
تطلب الأمر بعض الإقناع، فجعلني في نهاية المطاف أوقع على قطعة ورق وقال إن هذا يعني أنني قد وهبته كل أموالي وأملاكي.
بعدئذ تركته لأبحث عن جيم، عبد السيدة واتسن، الذي امتلك بعض الأغراض السحرية التي يفترض أنها تنبئ بالمستقبل. كان جيم على دراية بكل شيء عن الحظ الجيد والعاثر، فأخبرته أن والدي قد عاد مجددًا، وأنني وجدت آثار قدميه على الثلج، فقد أردت أن أعرف ماذا ينوي أن يفعل، وكم من الوقت سيمكث؟
أمسك جيم بكرة من الشعر قديمة، استُخرجت من معدة ثور، يعتقد أنها سحرية — حسبما قال — حجمها بحجم القبضة، وقال إنها تحوي بداخلها روحًا، ثم هزها وأنصت إليها وأوقعها على الأرض، وفعل ذلك عدة مرات ثم وضع أذنه عليها ليصغي إليها وقال إنها لن تتحدث دون نقود.
كان معي ربع دولار قديم زائف، فسألت جيم إن كانت كرة الشعر تستطيع أن تميز بين النقود الحقيقية والزائفة، فقال إنها لن تستطيع ذلك على الأرجح، فنظفنا ربع الدولار، ووضعناه تحت كرة الشعر، وأصغى إليها جيم مرة أخرى، ثم قال إن الكرة صارت على استعداد لأن تنبأني بحظي.
قال جيم: «والدك العجوز لا يدري بعد ما الذي سيفعله. إنه يفكر أحيانًا في المغادرة، وأحيانًا في البقاء. الحل الأمثل هو أن تهدأ وتترك والدك العجوز يختار طريقه، لكنك ستكون بخير. ستواجه في حياتك الكثير من المتاعب، وستجد الكثير من السعادة، وستتأذى أحيانًا وتمرض أحيانًا، لكن في كل مرة أحوالك ستتحسن من جديد. عليك بالابتعاد عن إثارة المتاعب قدر الإمكان ولا تخض أي مجازفات.»
تركت جيم وأنا أشعر بأنني أفضل حالًا قليلًا، لكنني ظللت أشعر بالقلق الشديد، إلا أنني لم أضطر إلى انتظار ما سيحدث بعد ذلك وقتًا طويلًا، فعندما أشعلت شمعتي وصعدت إلى غرفتي مساء ذلك اليوم، وجدت والدي جالسًا!
أغلقت باب الغرفة، وعندما التفت وجدته. كنت أخشاه دائمًا لشدة إساءته معاملتي، وأعتقد أنني خفت قليلًا عندئذ أيضًا، إلا أنني بعدما تخلصت من دهشتي، أدركت أن خوفي منه لم يكن شديدًا على الإطلاق.
كان في الخمسين من العمر تقريبًا وقد بدا كذلك. كان شعره طويلًا متشابكًا ودهنيًا، يتدلى فوق جبهته، بإمكانك أن ترى من خلاله عينيه تلمعان، وكأنه يقف خلف كرمة، لونه كله أسود وليس رماديًّا، كلون لحيته الشعثة، أما وجهه فالأجزاء التي بدت منه كانت باهتة. كان وجهًا شاحبًا لكن ليس كأي وجه؛ شحوب يشعر المرء بالغثيان لرؤيته، كلون علجوم الشجر أو لون البهاق، أما ملابسه فكانت رثة. جلس وهو يضع كاحل ساق على ركبة ساقه الأخرى، وحذاء تلك الساق ممزق يبرز منه اثنان من أصابع قدمه، حركهما بين الحين والآخر وهو يتكلم، كان ملقى على الأرض قبعة سوداء قديمة متهدلة، ارتخى الجزء الأعلى منها وكأنه غطاء.
وقفت أتأمله فيما جلس هو يتأملني. كان كرسيه مائلًا إلى الخلف قليلًا. تركت الشمعة ولاحظت أن نافذة الغرفة مفتوحة. من المؤكد أنه تسلق سطح الحظيرة ومنها إلى غرفتي. ظل يتأملني، ثم قال في نهاية الأمر: «ملابس أنيقة. هل تحسب نفسك مميزًا الآن؟»
فقلت: «ربما نعم، وربما لا.»
– «لا تفتح فمك بكلمة وقحة! كم تأنقت في غيابي، ويقولون أيضًا إنك صرت متعلمًا؛ تستطيع القراءة، والكتابة. صرت تحسب نفسك أفضل من أبيك الآن، أليس كذلك؟ لأنه لا يستطيع ذلك فحسب، أليس كذلك؟ من أخبرك أن تفعل هذه السخافات؟ من أخبرك بذلك؟»
– «الأرملة دوجلاس.»
– «آها … الأرملة دوجلاس؟ ومن طلب منها أن تدس أنفها فيما لا يعنيها؟»
– «لا أحد.»
– «إذن سأعلمها ألا تتدخل فيما لا يعنيها. اسمع، ستترك المدرسة. هل تفهمني؟ سأعلم هؤلاء القوم ألا ينشئوا صبيًّا على أن يحسب نفسه أفضل من أبيه. إياك أن أجدك تعبث بالقرب من هذه المدرسة ثانية. لم تستطع أمك القراءة والكتابة قبل أن تموت، لم يستطع أي من أفراد أسرتك هذا قبل أن يموتوا. أنا لا أستطيع هذا، وها أنا ذا أجدك على هذه الحالة. لن أسمح بهذا. بالمناسبة، دعني أسمعك تقرأ.»
فأخذت كتابًا وبدأت أقرأ فيه عن حرب ما، فلم تكد نصف دقيقة تقريبًا أن تمضي حتى طرح الكتاب من يدي.
ثم قال: «إذن هذا صحيح. بإمكانك أن تقرأ. شككت في هذا. اسمع، كف عن التأنق هكذا كأنك أفضل من أبيك. لن أسمح بهذا.»
ثم جلس يتمتم ويتذمر دقيقة، قال بعدها: «ألا تبدو رائعًا؟ لديك فراش، وغطاء فراش، وبساط على الأرض، أما والدك فعليه أن ينام في الخلاء مع الخنازير. أنا هنا في البلدة منذ يومين وكل ما يصل إلى مسامعي هو الأنباء عن ثرائك الهائل. لم أنفك أسمع هذا طيلة الطريق على طول النهر، لهذا عدت. آتني بهذا المال غدًا؛ أريده.»
فقلت: «لا أملك أي مال.»
فرد علي قائلًا: «أنت تكذب، إنه مع القاضي ثاتشر، ائت به أنت، فأنا أريده.»
– «ليس لدي أي مال، بإمكانك سؤال القاضي ثاتشر عن هذا، سيقول لك الأمر نفسه.»
– «حسنًا، سأسأله. وسأجبره على البوح أيضًا. بالمناسبة، كم معك الآن في جيوبك؟ أعطني ما معك.»
– «لا أملك إلا دولارًا أحتاجه لـ …»
– «لا يهم لم تحتاجه. هاته.»
فأخذ الدولار، وعض على النقود ليتأكد من أنها حقيقية، ثم قال إنه سيذهب إلى البلدة ليمرح قليلًا ويتورط في المشكلات، وفي نهاية الأمر تسلق خارجًا من النافذة، ثم أطل برأسه منها مجددًا واستهزأ مجددًا بحياتي الجديدة وبمحاولتي أن أكون أفضل منه، وعندما حسبته قد غادر بالفعل، أطل برأسه ثانية وأخبرني بأن أبتعد عن المدرسة وبأنه سيرى إن كنت سأذهب إلى هناك.