كوخ والدي
قصد والدي اليوم التالي مكتب القاضي ثاتشر، وأرهبه وحاول أن يجبره على التخلي عن المال، لكنه لم يفلح في ذلك، عندها أقسم بأنه سيحصل على المال عبر المحاكم.
كان بالبلدة قاضٍ جديد لم يكن على معرفة بوالدي، قال إن على المحاكم ألا تفصل بين أفراد الأسرة الواحدة إن أمكن هذا، وإنه يفضل ألا يُبعد الأطفال عن آبائهم، فاضطر القاضي ثاتشر والأرملة دوجلاس أن يكفا عن إبعاد والدي عني.
لم يمض وقت طويل قبل أن يبدأ والدي في ملاحقة القاضي ثاتشر قضائيًّا في المحاكم ليجبره على التخلي عن المال، وفي مطاردتي أنا أيضًا، لأنني لم أكف عن ارتياد المدرسة، فقد اكتشفني هناك عدة مرات، لكنني ظللت أرتاد المدرسة. كنت أتملص منه أغلب الوقت أو أسبقه. لم ترق لي المدرسة إلى هذا الحد، لكنها عندئذ لم ترق لي إلا لأغيظه.
أخذ والدي أيضًا يحوم حول منزل الأرملة دوجلاس، فهددته الأخيرة في نهاية الأمر أنها ستوقعه في ورطة إن لم يكف عن ذلك، الأمر الذي جعله يجن، من ثم انتظرني متخفيًا يومًا ما، واختطفني على حين غرة، واتجه بي عكس اتجاه النهر إلى كوخ قديم من الأحطاب، في نقطة موغلة جدًّا من الغابة، إلى حد أنك لن تستطيع أن تجد الكوخ إن لم تكن تعرف مكانه.
وأبقاني معه طوال الوقت، فلم تسنح لي قط فرصة الفرار. أمضينا اليوم كله آنذاك في ذلك الكوخ القديم. كان والدي دائمًا يغلق باب الكوخ ليلًا ويضع المفتاح تحت وسادته، وقد حمل معه بندقية سرقها. حيينا باصطياد السمك والبحث عن الطرائد، واحتجزني والدي بين الحين والآخر في الكوخ وقصد المتجر القريب لمقايضة الأسماك والطرائد التي اصطادها بالمؤن.
الاستلقاء بلا عمل طيلة الوقت، دون قراءة الكتب أو الاستذكار كان إلى حد ما ممتعًا، ومريحًا. مر شهران أو أكثر وأصبحت ثيابي رثة وقذرة من جديد. لم أستطع أن أفهم كيف أعجبني العيش في منزل الأرملة دوجلاس إلى هذا الحد، حيث تعين على المرء الاغتسال والأكل من الأطباق، وتمشيط شعره، والخلود إلى النوم والنهوض منه في أوقات محددة، والاهتمام بقراءة كتاب ما. لم أرد أن أعود إلى هناك، إلا أنني من ناحية أخرى لم أرد أيضًا أن أمكث مع والدي.
حاولت أن أخرج من الكوخ عدة مرات، لكن لم أهتد قط إلى طريقة، فالنوافذ كانت شديدة الصغر، وضيق فتحة المدخنة الشديد منعني من تسلقها. فتشت المكان مئات المرات إلى أن عثرت أخيرًا على منشار قديم صدئ، أخذت أصنع ثقبًا بالمنشار في الجزء السفلي من ظهر الكوخ. أردت أن أصنع فتحة تتسع لأن أزحف مارًّا عبرها. استغرقت تلك المهمة وقتًا طويلًا، لكنني كنت قد شارفت على الانتهاء منها عندما سمعت صوت بندقية أبي بالغابة، فأخفيت ما يدل على ما كنت أعمل عليه، ولم يمض وقت طويل قبل أن يصل أبي.
لم يكن في مزاج جيد — كالمعتاد — فقد كان بالبلدة، لم تسر المحاكمة على ما يرام، وسير القضية كان بطيئًا ويستغرق وقتًا طويلًا. قال محاميه إنه قد يخسر القضية، وسيتعين علي عندئذ أن أعود إلى الأرملة، وأنا حقًّا لم أرد هذا. شعر والدي بغضب عارم في لحظة ما وهو يتحدث عن الأمر حتى إنه ركل برميل زيت قديم وآذى قدمه، فأخذ يقفز في أرجاء الغرفة صائحًا باللعنات وقتًا طويلًا. لم تثر ثائرته هكذا من قبل.
أمرني والدي بالذهاب إلى قاربه لإحضار ما أتى به. خطر لي وأنا خارج المنزل أن معاناتي قد انتهت وقررت أن أغادر الكوخ ببندقية والدي وبعض صنارات صيد الأسماك. كنت سأختبئ بالغابات عندما أفر، ولا ألزم مكانًا واحدًا بل أجوب أرجاء البلاد ليلًا في الأغلب، وأصيد الأسماك والحيوانات لأظل على قيد الحياة. كنت سأفر إلى مكان بعيد جدًّا حتى إن والدي والأرملة دوجلاس لن يستطيعا قط العثور علي.
كان مزاج والدي سيئًا للغاية بعد العشاء. حسبت أنه لن يلبث أن ينام؛ عندئذ ستسنح لي سرقة مفتاح الكوخ أو صنع فتحة بالمنشار أخرج منها، إلا أنه لم ينم، بل أخذ يتذمر وينوح ثم بدأ يسير جيئة وذهابًا في المكان وقتًا طويلًا، حتى غلبني النعاس في آخر الأمر ولم أستطع إبقاء عيني مفتوحتين، وما لبثت أن وجدت نفسي مستغرقًا في نوم عميق.
لكنني سمعت فجأة صوت صراخ مريع، فاستيقظت. بدا أن أبي قد جن؛ كان يقفز في أرجاء المكان ويصيح بسبب ثعابين قال إنها تزحف متسلقة ساقيه، ثم أخذ يقفز ويصيح، إلا أنني لم أر أي ثعابين، ولم أر قط رجلًا تقدح عيناه بالشرر هكذا. كان يتوهم أشياء، لذا حسبته مريضًا، بل مجنونًا. لم يلبث أن شعر بالتعب وهوى على الأرض حيث تقلب عدة مرات بسرعة شديدة وهو يركل الأشياء بقدميه ويتشبث بيديه بالهواء ويصيح بأن هناك شياطين في كل مكان، وفي آخر الأمر شعر بالتعب مجددًا وتمدد ساكنًا بعض الوقت يتأوه.
قال: «خطى ثقيلة! الموتى قادمون! طاخ طاخ طاخ. قادمون لملاحقتي، لكنني لن أذهب. إنهم هنا! لا تلمسوني! أيديكم باردة، أفلتوني! آه، اتركوا شيطانًا مسكينًا لحاله.»
ثم زحف مبتعدًا متوسلًا أن يُترك وشأنه، ثم لف غطاء حول نفسه وأخذ يبكي.
لكن قبل أن يمضي وقت طويل هب وأخذ يركض خلفي. لاحقني في أرجاء الكوخ وهو يناديني بملاك الموت. أمسك بي ذات مرة من سترتي من بين كتفي، فظننت أنني هالك لا محالة، لكنني انسللت من السترة بسرعة البرق ونجوت بنفسي، وفي وقت قصير غشيه التعب مجددًا، فسقط على الأرض وهو يولي الباب ظهره.
وسرعان ما غشيه النوم، فتسلقت كرسيًّا متوخيًا الهدوء قدر الإمكان وأخذت البندقية وتأكدت من أنها محشوة بالرصاص، ثم وضعتها على براميل بمواجهة والدي، ثم جلست أنتظر أن يتحرك. بدا الوقت ساكنًا جدًّا ومر ببطء شديد.