نار من مخيم
تكاسلت صباح اليوم التالي ولم أرد أن أنهض لطهو الإفطار، فغفوت ثانية لكنني عندئذ سمعت صوت دوي مدفع مكتوم قادم من أعلى النهر. نظرت من فتحة بين الأشجار فرأيت الكثير من الدخان فوق الماء، ينبعث من نقطة بعيدة بأعلى النهر بالقرب من العبارة الراسية التي امتلأت بحشد من الناس، فأدركت ما يجري. دوى صوت «بوم!» مجددًا، ثم رأيت الدخان الأبيض ينبعث من جانب العبارة؛ كان هؤلاء القوم يطلقون النار من مدفع فوق الماء محاولين أن يجعلوا جثتي تطفو فوق سطح الماء.
طفت العبارة مع تيار الماء ولم يمض وقت طويل قبل أن أرى من على متنها: والدي، والقاضي ثاتشر، وجو هاربر وتوم سوير، وعمته العجوز بولي، وسيد وآخرون كثيرون. كان الجميع يتحدثون عن جريمة القتل.
سرعان ما مرتْ عبارتهم بي وابتعدتْ عن مرمى بصري وهي تدور حول الجزيرة. أمكنني بين الحين والآخر سماع دوي المدفع الذي أخذ صوته يبتعد أكثر فأكثر إلى أن صرت عاجزًا عن سماعه. ساءني أنني كذبت عليهم هكذا، لكنني لم أدر ما الذي كان بوسعي فعله غير هذا؛ لم أرد أن يعثر علي أبي، ولم أرد أن أعود إلى حياتي القديمة مع الأرملة دوجلاس.
تأكدت من أن أموري تسير على ما يرام لما لم يأت أحد آخر للبحث عني، فأخرجت أغراضي من القارب ونصبت مخيمًا جميلًا في الغابة كثيفة الأشجار؛ فصنعت ما يشبه الخيمة من بطانياتي لأضع تحتها أغراضي لئلا يصل إليها المطر، وصدت سمكة سلور، وقرابة مغرب الشمس أشعلت نار مخيمي وتناولت العشاء.
عندما حل الظلام، جلست بالقرب من النار شاعرًا بالسعادة، لكن قبل أن يمضي وقت طويل شعرت بالوحدة نوعًا ما، فجلست على ضفة النهر وأصغيت إلى صوت جريان الماء، وعددت النجوم وقطع الخشب الطافية على الماء، ثم خلدت إلى النوم، فليس هناك طريقة أسهل منه لتشعر بأنك أفضل حالًا عندما ينتابك الشعور بالوحدة؛ فسرعان ما تنسى هذا الشعور.
ظلت تلك حالي ثلاثة أيام وليال، كان كل يوم فيها كسابقه، بعدها ذهبت لتقصي الجزيرة. شعرت بأنها بأسرها ملكي، وأردت أن أعرف كل شيء عنها. فعثرت على الكثير من الفراولة، وعنب الصيف الأخضر، والتوت الأخضر، وثمر العليق الذي كان قد بدأ لتوه في الإزهار، وظننت أن هذه الثمار ستفيدني.
كدت أيضًا أن أصطاد ثعبانًا؛ ركضت خلفه عندما وطئت قدمي فجأة رماد نيران كان الدخان لا يزال ينبعث منه. شخص آخر كان على جزيرتي!
قفز قلبي بين ضلوعه. ولم أرد المكوث أكثر في تلك النقطة لتفقدها، بل عدت خلسة على أطراف أصابعي بأقصى سرعة ممكنة، وتوقفت من حين لآخر وأرهفت السمع، إلا أنني كنت ألهث بشدة حتى إنني لم أستطع سماع أي صوت آخر سوى صوت لهاثي.
عندما عدت إلى مخيمي، لم أجد في نفسي الكثير من الشجاعة، وحدثتني نفسي بأنني لا أملك وقتًا للعبث، فجمعت كل أغراضي وأطفأت نار مخيمي، ونثرت رمادها في أرجاء المكان ليبدو وكأنه رماد لمخيم قديم من العام الماضي، ثم تسلقت شجرة.
ظللت فوق الشجرة ساعتين تقريبًا، لكنني لم أر أو أسمع خلالهما شيئًا. هُيأ لي بضع مرات أنني أسمع وأرى شيئًا قادمًا، ولما لم يكن بإمكاني أن أظل على الشجرة إلى الأبد، هبطتها آخر الأمر ومكثت في الغابة كثيفة الأشجار، وظللت يقظًا طوال الوقت. لم يسعني عندئذ إلا أكل ثمار العليق وما تبقى من إفطاري.
بحلول المساء شعرت بالجوع الشديد، فلما حل الظلام وأصبح الوقت مناسبًا، نقلت قاربي وجدفت به عبر النهر وقصدت الغابة وطهوت عشائي وكدت أن أقرر أن أمكث هناك طوال الليل لولا أنني سمعت صوت جياد قادمة، ثم أصوات أشخاص، فأعدت كل شيء إلى القارب بأقصى سرعة، ثم تسللت بين أشجار الغابة لأرى ما يمكنني اكتشافه، وقبل أن أوغل سمعت رجلًا يتحدث قائلًا: «علينا أن نخيم هنا الليلة إن أمكننا أن نجد مكانًا لذلك، فالجياد متعبة.»
فلم أمكث لحظة، دفعت القارب إلى النهر وجدفت مبتعدًا واختبأت مجددًا على الجزيرة حيث اختبأت من قبل، وقررت أن أنام في القارب.
لم أنم كثيرًا، فلم يكن باستطاعتي هذا. حسبت في كل مرة استيقظت فيها أن شخصًا ما قد اكتشفني. في نهاية الأمر حدثت نفسي بأنني لا أستطيع أن أحيا على هذا النحو، فعزمت على اكتشاف من معي على هذه الجزيرة بطريقة أو بأخرى، بعدها شعرت على الفور بأنني أفضل حالًا.
تفقدت صباحًا الجزيرة أكثر، فلمحت نيرانًا بين بعض الأشجار، فاتجهت إليها ببطء وحذر، وفي وقت قصير وجدت نفسي على مسافة كافية لأن أرى رجلًا ممددًا على الأرض تغطيه بطانية، تثاءب وتمطط، وهو يزيل عنه البطانية.
كان هذا جيم! كنت سعيدًا لرؤيته بلا شك، فقلت: «مرحبًا يا جيم.» وغادرت مخبأي.
فقفز وحدق بي والخوف يطل من عينيه، ثم جثا على ركبتيه وضم كلتا يديه وقال: «لا تؤذني! لم أؤذ شبحًا قط. لطالما أعجبني الموتى وفعلت كل ما بوسعي من أجلهم. عليك أن تعود إلى النهر، إلى حيث تنتمي. لا تؤذ جيم العجوز، فلطالما كنت صديقك.»
لم يستغرق إفهامه أنني لست ميتًا ولا شبحًا وقتًا طويلًا. شعرت بسعادة شديدة لرؤيته، إذ لم أعد وحيدًا، وكنت متأكدًا من أنه لن يخبر أحدًا بمكاني.
سألته: «كم مضى عليك هنا؟»
فقال: «أتيت إلى هنا في الليلة التالية لمقتلك، أو الليلة التي حسب فيها الناس أنك قد قتلت.»
قصدنا المكان الذي خبأت فيه القارب، فأحضرت منه بعض الطعام فيما أوقد هو النار، ولما صار الإفطار جاهزًا، تمددنا على العشب وأكلنا. كان جيم يتضور جوعًا، وبعدما أتخمنا الطعام تمدد كل منا على ظهره وشعرنا بالخمول. لم يمض وقت طويل قبل أن يسأل جيم: «لكن مهلًا، من الذي قُتل في الكوخ إن لم يكن هذا أنت؟»
فأخبرته القصة بأسرها؛ عن دم الخنزير والآثار المصطنعة وكل شيء، فقال إنها حيلة ذكية، وإن توم سوير لا يستطيع أن يبتكر خطة أفضل، ثم سألته أنا: «كيف أتيت إلى هنا يا جيم؟»
فبدا عليه الارتباك الشديد، ولوهلة لم يقل أي شيء، ثم قال: «حسنًا، إليك الأمر: السيدة العجوز واتسن تسيء معاملتي أحيانًا، لكنها كانت على الدوام تقول إنها لن تبيعني لولاية نيو أورليانز، بعدئذ لاحظت في الآونة الأخيرة أن تاجر رقيق كان يأتي كثيرًا، فبدأت أشعر بالقلق، وفي وقت متأخر من ليلة ما تسللت إلى باب المنزل فسمعت السيدة واتسن تخبر الأرملة دوجلاس بأنها تنوي بيعي في ولاية نيو أورليانز؛ قالت إنها لا تود ذلك، لكن بإمكانها أن تحصل على ثمانمائة دولار مقابل هذا، وهو مبلغ كبير لا تستطيع مقاومته. حاولت الأرملة دوجلاس إقناعها بالعدول عن هذا، لكنني لم أنتظر سماع الباقي، وفررت بسرعة شديدة.»