مصير الحطام
احتبست أنفاسي وكاد أن يغشى علي. كنت محتجزًا على حطام سفينة مع هذه العصابة! لكن لم يكن هناك وقت للشعور بالخوف. اضطررنا إلى البحث عن قاربهم من أجلنا نحن، فبحثنا كثيرًا إلى أن عثرنا عليه آخر الأمر. كدنا نصعد على متنه لكن عندئذ انفتح باب الغرفة التي حوت الرجلين، وتطلع أحدهما إلى الخارج. كان يقف على بعد قدمين فقط مني، لكنه لم يبصرني، بعدها عاد إلى الغرفة ليتحدث مع الرجل الآخر، فصعدت إلى متن القارب وجيم خلفي مباشرة وقطعت بسكيني الحبل الذي يصل القارب بالسفينة وابتعدنا.
لم نلمس المجاديف ولم ننبس بكلمة، بل بالكاد تنفسنا. حملنا الماء في صمت بعيدًا عن الحطام، وفي غضون وقت قصير صرنا على مسافة بعيدة جدًّا عنه، إلى حد أن الظلام غمرها تمامًا وصرنا في مأمن وتأكدنا من ذلك.
عندما ابتعدنا رأينا مصباح الباخرة يومض كشعلة صغيرة عند باب غرفة الرجلين، فعلمنا أن الوغدين قد فطنا إلى أنهما يفتقدان قاربهما، وأنهما بدءا يدركان أنهما في مأزق كشريكهما بالضبط.
بدأت أشعر بالقلق حيال الرجلين، فقلت لجيم: «سأفكر في قصة أقنع بها شخصًا ما بأن يعود من أجل تلك العصابة لينتشلها من حطام الباخرة.»
لم يمض وقت طويل قبل أن نجد طوفنا. شعرنا بالسعادة الغامرة لأننا كنا على متنه من جديد. جمعنا كل الأشياء التي كانت على قارب العصابة وحملناها إليه، وطفا جيم به على بعد مسافة قصيرة، وأضاء مصباحًا لأتمكن لاحقًا من العثور عليه.
أخذت القارب وجدفت به إلى الشاطئ، فلما بلغته وجدت حارسًا نائمًا إلى جانب قارب عبور، فأخبرته عن العصابة التي على متن الحطام، لكن كان الأوان قد فات، فبعد أن تركني عثرت على جيم مجددًا ورأينا الحطام نفسه وقد انطفأ الضوء به وغشيه الظلام، وهو ينجرف مع مياه النهر! فسرت قشعريرة باردة في جسدي. كان قد غاص إلى عمق كبير في الماء، ولم أستطع رؤية أي شخص على متنه.
خبأت أنا وجيم الطوف والقارب قبل طلوع الفجر ثم تمددنا واستغرقنا في نوم عميق كالموتى.
عندما نهضنا تفحصنا الأشياء التي سرقتها العصابة، فعثرنا على الكثير من الملابس والكتب وأشياء أخرى؛ لم نكن قط بهذا الثراء. أمضينا عصر هذا اليوم في تبادل أطراف الحديث، وقرأت أنا من الكتب، وقصصت على جيم ما وقع على حطام السفينة، وأخبرته بأن هذه القصص تعد مغامرات، فقال إنه لا يريد المزيد من هذه المغامرات.
قرأت له عن الملوك والنبلاء والإيرلات الذين وصف الكتاب ملبسهم وحديثهم ومناداة بعضهم بعضًا بجلالتك وسموك وعظمتك بدلًا من سيدي، بعضهم تحدث أيضًا بالفرنسية.
خمننا أن الوصول إلى مدينة كايرو التي تقع جنوب مدينة إلينوي حيث يقطع نهر أوهايو المسار سيستغرق ثلاث ليال. نستطيع من هناك أن نبلغ الولايات التي انتفت منها العبودية، حيث سننأى بأنفسنا عن المشكلات. كان جيم قد افتقد بشدة أطفاله وقال إنه سيطلب من شخص ما إحضارهم ما إن يصل إلى هناك. كنت أعلم أن كلًا منا سيقع في ورطة إن ألقي القبض علينا قبل أن نصل إلى هناك؛ سيعاقب جيم على فراره، وأنا قد أقع في مأزق لمساعدته.
في الليلة التالية ضللنا الطريق وسط بعض الضباب وانفصل كل منا عن الآخر. كنت في القارب، فيما كان جيم على الطوف. استغرقنا وقتًا طويلًا في عثور كل منا على الآخر مجددًا، بعدها اكتشفنا أن الماء ساقنا لنجاوز مدينة كايرو، فما كان أمامنا إلا أن نعود بالقارب.
نمنا طيلة النهار بين شجيرات القطن كي نعاود التجديف ليلًا، لكننا لما عدنا إلى الطوف بعد حلول الظلام، كان القارب قد اختفى! كنا بحلول هذا الوقت قد واجهنا حظًّا عاثرًا العديد من المرات، مما أشعرنا بالاستياء الشديد.
مر بعض الوقت ولم ننبس بكلمة؛ فلم يكن لدينا ما نقوله، بعدها قررنا أن نسير بالطوف مع ماء النهر إلى أن تسنح لنا فرصة شراء قارب، عندها سنحاول أن نجدف عائدين. لم نرد أن نأخذ قاربًا دون أن نعيده، كما كان يفعل والدي، فقد يؤدي هذا إلى مطاردتنا.
من ثم انطلقنا بعد حلول الظلام بطوفنا، لكننا واجهنا المزيد من الحظ العاثر. اشتدت ظلمة الليل وتلبدت السماء بالغيوم، وهذا أسوأ طقس قد يجابهه المرء بعد الضباب؛ إذ لا يسعك أن تتبين شكل النهر أو الرؤية لمسافة بعيدة. تأخر الوقت وساد الهدوء، لكن عندئذ قدمت باخرة، فأشعلنا مصباحنا وبدا لنا أن من عليها سيبصروننا.
أمكننا سماعها وهي تشق الماء بثقل، لكننا لم نستطع رؤيتها جيدًا إلا عندما اقتربت. اتجهت نحونا مباشرة، فكثيرًا ما يفعل طاقم السفن هذا، ويحاول أن يرى إلى أي مدى يستطيع الاقتراب دون ملامسة المركبات الأخرى، بعدها يطل قبطان السفينة برأسه ويضحك ويحسب أنه شديد الذكاء. حسنًا، إنها آتية، ويبدو أنها تنحرف عن مسارها قليلًا. كانت هائلة الحجم، تسير على عجل، بدت وكأنها سحابة سوداء ضخمة حولها صفوف من حشرات سراج الليل المضيئة. سمعنا شخصًا ينادينا وبعض الأجراس التي تدق لإيقاف المحركات، والكثير من السباب وصفير البخار. قفز جيم من على متن القارب من ناحية وسقطت أنا من الناحية الأخرى، وأتت السفينة على القارب محطمة إياه.
غصت وحاولت العثور على قاع النهر. كانت سفينة ارتفاعها ثلاثون قدمًا ستمر من فوقي! وقد أردت أن تفصلني عنها مسافة كافية. اعتدت أن أمكث تحت الماء دقيقة، لكنني أعتقد أنني هذه المرة مكثت مدة تناهز الدقيقة ونصف الدقيقة، بعدها صعدت بسرعة إلى السطح حتى بلغ الماء إبطي إذ كادت رئتاي تنفجران، وأخرجت الماء من أنفي ولهثت قليلًا. كان صوت الموج بالطبع هادرًا، وقد أوقدت الباخرة محركاتها بعد عشر ثوان من إيقافها — فمن على متن هذه البواخر لا يعبئون كثيرًا بمن يركبون طوفًا — وأخذت تشق الماء محدثة اضطرابًا به حتى غابت عن مرمى البصر في الجو الملبد بالغيوم، مع أنني استطعت سماعها.
ناديت جيم عشرات المرات، لكنني لم أجد جوابًا، فجذبت في آخر الأمر لوحًا خشبيًّا لامسني وأنا أحرك ساقي لأطفو على وجه الماء، وسبحت بعزم نحو الشاطئ دافعًا إياه أمامي.
استغرق هذا وقتًا طويلًا، لكنني بلغت آخر الأمر الشاطئ آمنا. لم أستطع الرؤية لمسافة بعيدة، فأخذت أسير ببطء على أرض وعرة وقتًا طويلًا حتى عثرت على بيت عتيق الطراز من أحطاب الأشجار، كنت سأمر به، لكن قبل أن أفعل قفز الكثير من الكلاب منه وأخذوا يعوون وينبحون في وجهي.
بعد دقيقة صاح شخص ما من نافذة المنزل وسألني عن اسمي.
فقلت: «جورج جاكسون يا سيدي. لست إلا صبيًّا.»
فقال الرجل: «اسمع. ليس عليك أن تخاف إن كنت تقول الحقيقة. لن يؤذيك أحد، لكن لا تحاول أن تتحرك من مكانك، قف حيث أنت، ليذهب بعضكم لإحضار بوب وتوم. هل معك أحد يا جورج جاكسون؟»
– «لا يا سيدي.»
– «حسنًا يا جورج جاكسون هل تعرف آل شيبردسون.»
– «لا يا سيدي، لم أسمع بهم قط.»
– «ربما، تقدم يا جورج جاكسون، واحرص على ألا تفعل هذا بسرعة. تقدم ببطء شديد. افتح الباب بنفسك لكن بالقدر الذي يسمح لك بالدخول وحسب. أتفهمني؟»
لم أسرع، إذ لم يكن باستطاعتي هذا حتى لو وددت. سمعتهم يحررون قفل الباب ويزيلون عنه القضبان ويفتحون رتاجه، فدفعته قليلًا وتطلعت إلى المكان من الداخل.
كانت هناك شمعة على أرض الغرفة وقد وقف الجميع يتطلعون إلي، فتطلعت بدوري إليهم. أؤكد لكم أن الرجال ضخام الجثة الذين حدقوا بي أشعروني بالتوتر. أكبرهم كان رجلًا أشيب الشعر في الستين تقريبًا من العمر، أما الاثنان الآخران فكانا في الثلاثين من العمر أو أكثر. بدوا جميعًا حسني المظهر وجميلي الطلعة، وخلفهم وقفت سيدة لطيفة شمطاء، وخلفها شابتان.
ما إن دخلت حتى أغلق السيد العجوز الباب ووضع عليه القضبان وأغلق رتاجه وأمر فتيته بالدخول، فتأملوني جيدًا ثم قالوا: «إنه ليس من آل شيبردسون. إنه لا يبدو كذلك على الإطلاق.»
فقال العجوز إنه يأمل ألا أمانع تفتيشي بحثًا عن أسلحة، لكنه لم يقصد أذيتي. كان هذا للتأكد وحسب، وطلب مني أن أطمئن وأشعر وكأنني في منزلي، وقال إن علي أن أخبره بكل شيء عن نفسي، لكن السيدة العجوز قالت: «بوركت يا سول، المسكين مبلل تمامًا، ألا تعتقد أنه جائع؟»
فأجابها العجوز: «أنت محقة يا رايتشل. نسيت هذا.»
فقالت العجوز: «بيتسي أحضري له ما يأكله بأقصى سرعة. المسكين! باك اصعد الدرج الأعلى واحضر بعض الملابس لإعطائها له.»
بدا باك في عمري — في الثالثة أو الرابعة عشرة من العمر أو نحو ذلك — مع أنه كان أكبر حجمًا قليلًا مني.
اختلقت قصة وأخبرتهم بأنني وقعت من على ظهر باخرة وأنني يتيم، فأخبروني أن بإمكاني أن أسكن في منزلهم بقدر ما أريد، ثم خلد الجميع إلى النوم حتى قرابة طلوع النهار. عندما استيقظت صباحًا نسيت الاسم الذي أخبرتهم بأنه اسمي — تبًّا لكل هذا! فتمددت في مكاني قرابة ساعة محاولًا تذكره ثم سألت باك عندما استيقظ إن كان يستطيع التهجي.
فقلت: «أراهن أنك لا تستطيع هجاء اسمي.»
فقال: «ج، و، ر، ج، ج، ا، ك، س، و، ن. هاك.»
فقلت له: «لقد نجحت. لم أحسب أنك تستطيع هذا.»
وحرصت على أن أتذكر هجاء اسمي تحسبًا لأن يسألني عنه أحد. علمت فيما بعد أن هذه العائلة اسمها عائلة جرينجرفورد.
كان هناك الكولونيل جرينجرفورد وهو رجل بالغ الطول والرشاقة، عيناه شديدتا السواد، غائرتان حتى إنهما تبدوان وكأنهما تطلان من كهف، أما شعره فكان أسود منسدلًا يتدلى إلى كتفيه.
حمل بيده عصا خشبية ذات رأس فضي، وقد كان طيبًا للغاية؛ بإمكانك أن تشعر بهذا. ابتسمَ في بعض الأحيان، وكان هذا مشهدًا جميلًا، لكن إن بدا عليه الغضب، فستشعر بأنك تود أن تفر أولًا ثم تعرف ما الأمر فيما بعد. لم يكن عليه حتى أن يخبر أي شخص بأن يحسن السلوك، كان الجميع يحسنون التصرف في حضرته.
بوب كان الابن الأكبر، يليه توم، وكلاهما كان طويلًا جميل الطلعة، عريض المنكبين جدًّا، أسمر الوجه، ذا شعر أسود طويل وعينين سوداوين، ارتديا من رأسيهما إلى قدميهما ملابس من الكتان الأبيض — شأنهما شأن الكولونيل العجوز — وقبعة بنما خفيفة من القش.
هناك أيضًا الآنسة تشارلوت التي كانت في الخامسة والعشرين من العمر، واتسمت بالطول والأنفة. كانت جميلة، طيبة القلب، لكن قد يعتريها الغضب كأبيها بالضبط، أختها الآنسة صوفيا اتسمت بدورها بالجمال، لكن جمالها كان من طراز مختلف؛ كانت شديدة الرقة واللطف، ولم تكن إلا في العشرين من العمر.
أقامت عائلة أخرى بالجوار تعرف بعائلة شيبردسون، وهي عائلة تتمتع بثراء وعظمة عائلة جرينجرفورد. علمت من باك أن العائلتين تتنازعان منذ سنوات، ولم يذكر أحد كيف بدأ النزاع، لكن أفراد العائلتين كانوا يبدءون في إطلاق الرصاص حالما يلتقيان.