شكري وحافظ
قد أثرنا أن ننشر النقد كما هو ولم نرَ ضرورة للتبديل فيه لأن رأينا لم يتغير ولكنا زدنا عليه أشياء خطرت لنا فيما بعد.
١
لا نجد أبلغ في إظهار فضل شكري والدلالة عليه، وبيان ما للمذهب الجديد على القديم من المزية والحسن، من الموازنة بين شاعر مطبوع مثل شكري، وآخر ممن ينظمون بالصنعة مثل حافظ بك إبراهيم، فإن الله لم يخلق اثنين هما أشد تناقضًا في المذهب وتباينًا في المنزع، من هذين، والضد كما قيل يظهر حسنه الضد.
حافظ رجل نشأ أول ما نشأ بين السيف والمدفع، ومن أجل ذلك ترى في شعره شيئًا من خشونة الجندي وانتظام حركاته واجتهاده، وضعف حياله وعجزه عن الابتكار والاختراع والتفنن، ولعل هذا هو السبب أيضًا في أن حافظًا لا يقول الشعر إلا فيما يسأل القول فيه من الأغراض، بيد أنه على ما به من ضيق في المضطرب، وتخلف في الخيال، كان أفصح لسان تنطق به الصحف وأقدر الناس على نظم معانيها، وتنضيد أخبارها، وتنسيق فقرها لو أن هذا مما يحمد عليه الشاعر أو أن في هذا فخرًا لأحد شاعرًا كان أو غير شاعر.
أما شكري فشاعر لا يصعد طرفه إلى أرفع من آمال النفس البشرية ولا يصوبه إلى أعمق من قلبها — ذلك دأبه ووكده — وهو لا يبالغ كحافظ في تحبير شعره وتدبيجه بل حسبه من الوشي والتطريز أن يسمعك صوت تدفق الدماء من جراح الفؤاد، وأن يفضي إليك بنجوى القلوب والضمائر، وأن يربك عيون الندى على خدود الزهر، وافترار ضوء القمر على مكفهر القبور، ووميض الابتسامات في ظلام الصدور، وأن ينشقك نسيم الرياض، وأنفاس السحر، وأن يشعرك هزة الحنين ودفعة اليأس والأمل، وأن يغوص بك في لجج الفكر ليكشف لك:
يتناول أبسط معاني الطبيعة والعقل وأشدها ارتباطًا بالحياة واتصالًا بالنفس ثم يصوغ لك منها شعرًا نقي المستشف، كثير الماء، جم المحاسن:
وعلى الجملة فإن شعره وحي الطبيعة ورسالة النفس.
وليس شعر شكري ببدعة في هذا العصر، ولكنه نتيجة طبيعية لتمادي الشعراء في المنهج القديم، ولجاجتهم في احتذاء المثال العتيق، والضرب على قالب المتقدمين من شعراء العرب، ولو لم يكن شكري لنبغ من غيره هذا الشعر الذي نقرأه له اليوم.
وكذلك يختلف أسلوبه الكتابي عن أسلوب حافظ كما تختلف أغراضهما الشعرية ومناهجهما في استفتاح أغلاق المعاني وذلك أن حافظًا شديد التعمل، مفرط التكلف، كثير التأنق وشكري يسح بالشعر سحًّا لا يسهر عليه جفنًا، ولا يكد فيه خاطرًا، ولا يتعهد كلامه بتهذيب أو تنقيح، وحافظ يكسو المعاني المطروقة الأسمال البالية، وشكري لا يبالي أي ثوب ألبس معانيه مادامت هذه صحيحة لا يقوم بينها وبين النفوس حجاز.
وبعد فإن حافظًا إذا قيس إلى شكري لكالبركة الآجنة إلى جانب البحر العميق الزاخر، وحسب القارئ أن يتأمل ديوانيهما ليعلم ما بينهما من البعد وليعرف كيف يقعد الخيال بحافظ ويسمو بشكري في سماء الفكر، وكيف يجني التقليد على الرجل ويغلق في وجهه أبواب التصرف والتفنن، فإن حافظًا قد حذا في شعره حذو العرب وقلدهم في أغراضهم وفرط عنايتهم بصلاح اللفظ وإن فسد المعنى، وشكري قد صدع هذه القيود وفكها عن نفسه، لعلمه أن المقلد لا يبلق شأو المبتكر وإنك مهما قلدت العرب فلن تأتي بخير مما جاؤوا به، ولأن له من سلامة الذوق وصدق النظر ما يريه غثاثة هذه الأغراض القديمة الدراسة وفسادها، ولأنه وجد من سخاء خياله، وخصب قريحته، وسعة روحه خير معين له على افتراع طريقة بكر لم يبتذلها كثرة الطراق ولا عفى على رسمها القدم.
٢
كتبنا عن شكري في العدد الماضي كلمة وجيزة أحفظت بعض أنصار حافظ وأشياعه، ولقد عابونا بها على ما بلغنا، وقالوا: أجملت ذكر شكري، ومدحته أحسن مدح، وغمطت حافظًا واستهنت به، وسخرت منه. فكأن أصحابنا لم يلوموا أنَّا نقدنا شعر حافظ، ولكن لاموا أنَّا لم نتفخمه، ولم ينكروا رأينا، ولكن أنكروا استضعافنا للرجل واستصغارنا لشأنه، وهو الذي سار اسمه كل مسير، وتجاوبت بصدى ذكره المحافل، ولعمري كيف أجله ولا قدر لشعره في نفسي، وكيف أعظمه وليس عندي بالعظيم، أو أكبر شعره ولست على يقين من أنه سيبقى على الزمن الآتي.
ولقد بلغنا أن حافظًا بسط لسانه فينا وندد بنا، وتناولنا بالذم والتنقص، وهذا مظهر عجيب من مظاهر الأنانية وجنونها وشاهد صادق على ضيق الروح، وعامية النفس، لأن العظيم لا يحب المدح لذاته، ولكن لأن فيه اعترافًا بالحق الخالد والجمال الأبدي وهو لا يحب نفسه أكثر من حبه لمظاهر هذا الحق لأن فطنته لمعاني الحق والجمال تكسر من غلواء أنانيته، وليس أدل على العظمة، وسعة الروح من أن الرجل يستطيع أن يصبر على مطل الأيام وتواني الشهرة عنه وأنه لا يقبل على الناس باللوم من أجل أنهم لم يشكروا له عملًا ولم يشعروا بفائدته ولا أحسوا بالحاجة إليه، وأخلق بمن طال ذكره لنفسه أن ينساه الناس وبمن يستعجل الشهرة أن لا يظفر منها إلا بنصيب وشيك الزوال، وإذا كان طالب الشهرة لا يستلذ عمله إلا بقدر تمداح الناس له فما أخلقهم أن لا يجدوا فيه شيئًا حقيقًا بالمدح والثناء وجهل بيِّن، وغرور كبير في الرجل أن يتوقع الثناء على عمله من أجل أنه عمله، لا على قدر ما فيه من الحق والجمال.
أرى طول عهد الناس بالملق والمغالطة والمصانعة قد أنساهم حلاوة الصدق، ولكنهم خليقون أن يروضوا أنفسهم على تذوقه، فإن ذلك أجدى عليهم، وأدل على كرم الشيمة، وشرف المنزع، ونحن فلا نرى بأسًا من إرضائهم بمجاوزة الإجمال إلى التفصيل وإن كلفنا ذلك إغضاب حافظ وهو ما لا نحب؛ فإن الرجل ليس من أعدائنا وإن لم يكن على ذلك من أصدقائنا.
قلنا إن شكري أسمح خاطرًا، وأخصب ذهنًا وأوسع خيالًا، وإن سبيله غير سبيل حافظ، فهل يرى القارئ أنَّا بعدنا عن مرمى السداد، أليس شعر حافظ قاصرًا على المدح والرثاء ونظم منثور الأخبار، وصوغ مقالات الجرائد، وهل خرج حافظ عن الطريق القديم الدارس أو قال في غير ما قالت فيه العرب: هذا ديوانه في «مكتبة الإصلاح» فليبتعه من له به عهدان كان في شك مما نقول، وهل أدل من ذلك على التقليد ووهن السليقة وقصور الباع؟ وإذا لم يكن التقليد عنوانًا على العجز عن الابتكار فأي شيء أدل منه وأبلغ في إظهار العجز والقصور؟ على أنهم يقولون إن التقليد ليس بعيب ونحن نقول مهما يكن من الأمر فإنه في كل حال دليل على ضعف الخيال، وعدم القدرة على الابتداع، وفقدان الشخصية، وفنائها في غيرها … ولعلك واحد من يقول لك: إن حافظًا طرق أبوابًا من الشعر لم يُسبق إليها فقال في زلزال «مسينا» وحرب «اليابان» والحرب الطرابلسية وغيرها وفي الحوادث الجسيمة مثل قضية الزوجية! وحريق ميت غمر و«دنشواي» وغلاء الأسعار وزاد في الأوصاف وصف الجرائد ونعت البورصة والفونغراف كأنه لم يُسبق إلى ذلك أو كأن العرب لم تجعل شعرها ديوانًا لأخبارها وأيامها ووقائعها؟ هاتوا قصيدة لحافظ حقيقة بهذا الاسم نأتكم ببيت واحد من ديوان شكري يفضل كل ما قاله حافظ وأضرابه، وبعد فبماذا يفضل حافظ شكري؟ أبسرقاته التي لا تُحصى وإغاراته التي يكاد يخطتها العدم؟ أم بتشببه بصفراء مسلولة؟ تنسي اليهود الذهبا، أم بسقم خياله الذي رين له أن يقذف بالوابور من فوق الجسور ليحض الناس على البذل لجمعية رعاية الأطفال ومؤاساتها بالمال، أم بقوله يصف الجرائد:
وفيها من ثقل الروح، وبرود الفكاهة، وجمود الخيال، ما لا يخفى على العامي، فضلًا عن الأديب، أم بقوله ينعت الفونوغراف:
وفيهما من السخافة والبُعد عن الغرض ما فيها، وأين يقع هذان البيتان من قول شكري في الفونوغراف:
وأنت أيها القارئ فقل أيهما أبعد غاية، وأرشق معنى، وأرق فكرًا، وألطف تخيلًا، ولكنا نقول مع شكري:
٣
قال لي صديق: «لقد تاب حافظ عن قول الشعر، وزجر غراب غروره، فهلا أقصرت أنت أيضًا عن نقده؟» فقلت: «لئن كان حافظ قد تاب فإن الناس لم يتوبوا، وما زال فيهم من يعده في الشعراء، ويسميه شاعر النيل وشاعر الشرق، ولن أكف عنه حتى يثوب الناس إلى رشدهم ويعلموا أنه لا يعد إلا في رجال المكتبة الخديوية».
ولو كان للأدب حكومة تنتصف له من المسيء، وتكافئ المحسن لكان أقل جزاء حافظ على ما ارتُكب من الشعر أن يبتاع ما اشتراه الناس من كتبه ثم يحرقها بيده لأن شعره جناية على الأدب، وأنت فقد تعلم أن من الشعر ما يكون آثمًا، ومنه ما هو برئ صالح، أما الآثم فذلك الذي يفسد الذوق، ويعوِّد الناس الكذب، ويضلل النفوس، وشعر حافظ من هذا النوع.
وذلك لأن حافظًا ليس صادقًا في شعره، فهو يذم اليوم ما امتدحه بالأمس، وإنما نراه يفعل ذلك لأنه ضعيف الذهن لا أرى له في شيء ما، وسبيله إذا أراد أن يقول شعرًا في (حادثة) أن يغشى مجالس أهل الحصافة ويذاكرهم الحديث، ليعرف ما ينبغي أن يكون رأيه، رغبة فيما يتبع ذلك من طيب الثناء، وجميل الذكر، ومن كان هذا شأنه فليت شعري كيف يعد في الشعراء، ألا ترى كيف أنه مدح السلطان عبد الحميد قبل الدستور ثم صرف بعده الثناء إلى رجال تركيا الفتاة وجعله وقفًا عليهم؟ وهل أدل من ذلك على أنه ليس بصاحب رأي وأنه إنما يتابع الجمهور ويجاريهم في آرائهم وأميالهم، لا لرياء في طبعه، ولكن لعجز وضعف في ذهنه، وهل أشنع من هذا الصنيع، وأفسد للنفوس، وأقتل للعقول، أو أسوأ منه في رياضة الناس على الملق والنفاق والإفك، وصدهم عن توخي الحق؟
وعلى ذكر عبد الحميد نقول إنَّا ما رأينا أفحش من غلو حافظ ومبالغته ولكن مبالغة حافظ تشف عن قصر في النظر، وعجز في الخيال، ومبالغة غيره تشف عن قوة في الذهن، وبُعد في مرمى النظر فإني ما قرأت قصيدته في تهنئة عبد الحميد بعيد الجلوس إلا استغرب عليَّ الضحك حتى خشيت على نفسي منه وأي شيء أسخف من قوله:
فقد لاحت الكواكب على خير من هذا العرش وطلعت الشمس على أبدع من ساحة ذلك البيت، وقرت ملوك لا يُقاس بهم عبد الحميد، كما لا تقاس أنت يا حافظ بشكري.
ثم تأمل بالله قوله من قصيدة يرثي بها الأستاذ الشيخ محمد عبده:
من هو الشيخ عبده أو غيره حتى تميل لموته الأجرام، وتشيع من أجله تعازى الشهب، وترتج لحينه الأرض، وتضيق لمصرعه عيون الكون بالدموع؟ لقد مات النبيون والمصلحون ومات العظماء وأودى رجال السيف والقلم، والكون ما زال على عهدهم به أيام كانوا أحياء يُرزقون، ولو في الكون كله أتضن أن مبدعه يعبأ بذلك شيئًا؟ أليس من غرور الإنسان أن يحسب أن الكون يكترث لما يصيبه وأن يتوهم أنه أكبر شأنًا من النبات والجماد وسائر الظواهر الطبيعية؟ ألا ترى أيها القارئ أن في مثل قول حافظ هذا تضليلًا للنفوس، وتدليسًا عليها وتغريرًا بها، وزجرًا لها عن أبصار الحق، وعن عرفان قدرها.
أما فساد ذوق حافظ فحدث عنه وكفى بقوله:
دليلًا على سقم ذوقه وخشونة نفسه التي أرته في منظر الدماء ما يغار منه الدر والجوهر، ولو إني كنت أجهل نشأة حافظ الأولى لكان هذا البيت وحده كفيلًا بالدلالة عليها.
وعلى ذكر هذا البيت أقول إني لا أعرف قولًا أدل على الخمول والضالة، ولا أغرى للناس بالقعود والتكلئ والإحجام عن خطيرات الأمور من قول حافظ:
لأنه ليس في انتصار اليابان ما يفخر به الهندي أو الصيني أو المصري، لأن فخر الرجل بجاره دليل على عجز همته ووهن عزيمته، وفي هذا الفخر باعث على التواكل والتخلف، وأنت أفتظن أن الفرنسي يباهي باستظهار الألماني على الإنجليزي أو الإنجليزي على الألماني، كلا! وإنما كان هذا كذلك لأن الأحوذي صاحب الهمة القصية لا يعتني إلا بما يدرك هو من الغايات على أن البيت الثاني مكرر للبيت الأول فهو حشو.
حسبنا اليوم ما أخذناه على حافظ وإنما ترنا أيها القارئ نعنى بنقد شعره لأن جناية الأديب أشنع من جناية القاتل، وليس لنا عنده كما توهم بعضهم ثأر نجزيه به فإن الرجل كما أسلفنا في كلمتنا الثانية ليس لنا بصديق ولا عدو، ولسنا نحتقره كما توهم آخرون ولكنا نحتقر شعره ونزدري مظاهر نفسه، فإن الرجل ظريف المحاضرة، مليح النكتة، عذب المحادثة، ولا عيب فيه إلا أنه يحاول أن يقول شعرًا، ويعالج ما ليس في طبعه، ورحم الله الأستاذ الإمام فإنه هو الذي ورطه وزين له هذا المحال.
٤
وهؤلاء بعد خير مثال يضرب لنضوب القريحة، وتخلف الطبع، وجمود الخيال، وسقم الخاطر، إن كنت إلى هذا قصدت، أما حافظ فإن له براعات مأثورة، وأبيات سائرة، أراك تؤثر الإغضاء عنها، وتتحامى ذكرها.
إلى آخر ما ورد في كتابه.
فأما أن الشهرة ليست دليلًا على الفضل، فهذا ما لا ريب فيه، وأما غرضنا الذي قصدنا إليه من النقد فهو تصحيح خطأ الناس في أمر حافظ والناس لم يختلفوا في أن الكاشف ليس في العير ولا في النفير، وأما أن لحافظ إجادات معروفة فهذا ما نحب اليوم أن نظهر بطلانه.
قلنا إن حافظًا نكد القريحة، ونقول اليوم إنه لزمانة سليقته يلجأ إلى السرقة، وانتحال شعر الأوائل، وليس أدل من كثرة السرقات على جمود الخاطر، على أنه لا يحسن السرقة لأنه لا يعمد إلا إلى المعاني الصغيرة فيطلق يده فيها إذ كانت روحه لا تسع المعاني الجليلة، فهو كثير الإسفاف، قليل السمو، حتى في سرقاته، ويذكرني حافظ بحكاية قديمة، قالوا إن «كانوفا» كان من عادته إذا أراد أن يصنع دمية أن يعمد إلى ما حوله من التماثيل فيأخذ من واحد أنفه، ومن ثانٍ رجله، ومن ثالث يده حتى تتم له الصورة التي يريد أن يصنعها، قال حافظ:
وهو مأخوذ من قول المعرى:
وقال:
أخذه من قول بشار:
وقال:
نظر فيه إلى قول المعري:
ولا يفوت القارئ تأمل ما في قوله بتلك القلوب والأكباد من القلق والركاكة.
وقال:
أخذه من قول الخوارزمي:
وقال:
أخذه من قول ابن المعتز:
وقال:
أخذه من قول جميل:
وقال:
أخذه من قول الشاعر:
وقال:
أخذه من قول صردر:
وقال:
ألم فيه بقول امرئ القيس:
وقال:
أخذه من قول مسلم بن الوليد:
وقال في وصف الأرض في حرب اليابان:
أخذه بلفظه ومعناه من قول المعري:
وقال من قصيدة يمدح بها البارودي:
أخذ معنى الشطر الثاني من قول المتنبي:
وقال منها أيضًا:
أخذه من قول ابن المعتز:
وقال:
أخذه من قول مهيار الديلمي:
هذه طائفة من سرقاته ولو كان في الصحيفة متسع لأتينا عليها جميعًا، ولكنا نرجئ البقية للأعداد الآتية، ونرجو أن يكون القراء قد آمنوا بقولنا واتفقوا معنا على أن حافظًا من ساقة أهل الشعر ومتلصصيهم وأنه لولا مؤازرة الأستاذ الإمام له وتنويهه به، وحث الناس على اقتناء ديوانه، لكان اليوم نكرة من النكرات، وغفلًا من الإغفال.
٥
ما لقيت أحدًا إلا رأيت على وجهه سمات العجب والدهشة من نقدي لشعر حافظ وإلا أخذ على قولي إن حافظًا ليس بشاعر، وأنا فلست أرى أن في قولي إن حافظًا ليس بشاعر وأنه كبعض الطيور يأوي إلى عش غيره تنقصًا له ولا زراية عليه وإلا اضطررنا أن نعد كل امرئ شاعرًا وإن لم يكن في أرث الشعر لئلا يرى في سلبه هذه الفضيلة «المشاعة على ما أرى» ذمًّا له وثلبًا! أوليس بحسب حافظ أن يكون رجلًا من أهل الوجاهة والرفعة؟، وهل من الذم في شيء أن أقول لك: أيها القارئ إنك لست بالطويل أو القصير أو إنك لا تحسن الغناء أو إنك لا تحفظ حرفًا من اللغة السريانية — وإن كانت في ظن العوام لغة الملائكة — أو أن أقول: إن راحتك أيها القارئ ليست غضة بضة كراحة هذه السيدة المترفة أو تلك، وإن عليها أثرًا من خشونة ما تزاول من عملك! وهل تحسب أيها القارئ أن الثور الذي يجر المحراث تحت عين الشمس يعز عليه أن الكلب يرتع في القصور ويجلس على حجور السيدات أو يكون أن يكون من أجل ذلك كلبًا؟
إني ليضحكني جدًّا رغبة حافظ في أن يُعد شاعرًا وليس له ما يجعله حقيقًا بهذا الاسم، ولجاجة الناس في التغرير به وتشجيعه على الاحتفاظ بهذا اللقب، والغيرة عليه، والذب عنه، ويذكرني ذلك بحكاية رواها «هايتي» الشاعر الألماني قال: إن ملكًا من ملوك إفريقيا السود رغب إلى مصور أن يرسمه فامتثل أمره ثم أنه أمسك الريشة وأخذ يصوره غير أنه رأى وجه الملك من دلائل القلق والاضطراب ما حمله على الاستفسار منه عما يقلقه وألح عليه في الإعراب عن رغبته، فقال الملك: ليتك تستطيع أن تجعلني في الصور أبيض الوجه، فما أشبه حافظ بهذا الملك. ولنعد إلى سرقات حافظ. قال من قصيدة يرثي بها الأستاذ الإمام:
أخذه من قول الشاعر بلفظه ومعناه:
وقال:
أخذه من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ.
وقال:
أخذه من قول بشار:
وقال:
أخذه من قول المعري:
وقال في مطلع قصيدة يرثي بها بنت البارودي:
أخذه من قول أبي تمام يرثي امرأة محمد بن سهل:
وقال في رثاء الأستاذ الإمام أيضًا:
أخذه من قول الشاعر:
أو قول أبي تمام يرثي عمير بن الوليد:
وقال أيضًا من قصيدته هذه:
أخذه من قول أبي تمام:
وقال يرثي البارودي:
أخذه من قول أبى تمام:
وقال يذكر منزل الإمام:
أخذه من قول محمد أبي عطاء السندي:
وقال أيضًا يرثي الأستاذ الإمام:
أخذه من قول محمد بن بشير الخارجي:
وقال يرثي البارودي:
نظر فيه إلى قول مويلك المزموم يرثي امرأته:
٦
ونما إليَّ من العجائب أن حافظًا يحرش بنا نظارة المعارف ويرمينا عندها بأنَّا كاتبو مقالة «حسن الاختيار» التي نشرها «عكاظ» في بعض أعداده الماضية عسى أن يصيبنا ما يكفنا عن نقد، وقد علم الناس أنَّا لا نكتب شيئًا إلا ذيلناه بتوقيعنا الصريح، فليرح نفسه حافظ فإن تعبه ضائع، وسهمه طائش، وليعلم أن ذلك لا يرجعنا عن رأينا فيه، ولا يحملنا على القول بأنه شاعر:
إن لك أن تشعر بأنك شاعر، وأن تغش نفسك إذا شئت، وأن توهمها أنك أطبع الناس، وأن الشعر راجع منك إليك، وأن أبا تمام كان يصف قلمك حين قال:
وينعت شعرك بقوله:
وأن البحتري كان يقصدك بقوله:
وأن المتنبي كان يعني قلمك حين قال:
وأن الشريف الرضي كان يتنبأ بك حين قال:
وأن السري الرفاء كان يفكر فيك لا في نفسه حين قال يصف قصيدة:
وأن مهيارًا لم يصف إلا قلمك حين قال:
وإلا دواتك بقوله:
وأن صردر كان يتصور دواتك حين قال:
وأن الأبيوردي كان ينطق بلسانك حين قال:
وأنك أنت حامل لواء الشعراء … لا امرؤ القيس، لك أن تتصور كل ذلك إذا خلوت إلى نفسك في المكتبة الخديوية وأحاطت بك دواوين الشعراء وأقبلت جماجمهم تمسح رأسك وتفتل منك في الذروة والغارب رجاء أن تأمر باستنساخ شعرها وصيانته من أيدي البلى، ولكنا لا نرى لك علينا سلطانا يضطرنا إلى مصانعتك كما اضطرت هذه الجماجم أن تحمل نفسها على مكروهها.
على أني أيها القارئ أحب أن أقر لحافظ بشيء من الشاعرية ولكني كلما حاولت ذلك طلع عليَّ مثل هذا البيت:
فأخرس؛ لأن أطفال هذه الكتاتيب تعلم أن المصابيح تغني عن الشهب، ولكن الشهب لا تغني عن المصابيح، وليت اختراع حافظ يصح، إذًا لكافأته الحكومة ببعض ما تنفقه على إنارة الطرق وكافأة الناس بنصف ما يبتاعون به صفائح الغاز أو ربعه؛ لأن في البيوت زوايا لا يصل إليها نور الشهب.
وليت حافظًا كان حاضري وقد التَفَّتْ بي أرواح شعراء العرب وانتبرت كل روح ديوانها وأخذت تخطب محتجة على ما سلبه حافظ من معانيها، وانتحله من أفكارها، ومسخه من شعرها، إذًا لسمع روح الشريف تقول بعد ديباجة طويلة أبانت فيها فضلها وسبقها ومكانتها:
فقد أخذ حافظ بيتي:
فقال:
وقلت:
وكررته في موضع آخر فقلت:
فأخذ المعنى وقال:
وهنا قاطعتها روح مهيار وقالت إنه أخذ هذا المعنى من قولي:
وقلت أيضًا:
فسرقة وقال:
فقامت على أثر ذلك ضجة شديدة وصارت كل روح تدعي المعنى، فقلت إنه سرق منكما فسكنتا واستأنفت روح الشريف الكلام فقالت، وقلت:
فأخذه وقال:
وقلت:
فأخذه وقال:
فعادت روح مهيار إلى مقاطعتها وقالت بل إنه أخذه مني أنا فقد قلت:
ولكني حكمت للشريف في هذه المرة ثم قام التميمي فقال وأنا أيضًا قلت:
فأخذ المعنى وقال:
فنهض أبو تمام فقال إنه أخذ الشطر الثاني من قولي:
وقلت أيضًا:
فأخذ المعنى وقال:
وقلت:
فأخذه وقال:
ثم تلاه الهمذاني فقال وأنا أيضًا قلت:
فأخذه وقال:
ثم قام آخر وقال وقد سرق مني قولي:
فقال:
وكرره في موضع آخر فقال:
وتلاه آخر فقال إني قلت:
فأخذه وقال:
وتلاه الجرمي فقال، وأنا قلت:
فأغار علي وقال:
ثم انفضت الجلسة.
٧
الحمد لله الذي هداني إلى الحق، وبصَّرني وجوه الرشد وأوضح لي معالم القصد، والصلاة والسلام على خير بريته، والمصطفى من أمته، محمد سيد المرسلين، وعلى أصحابه الخلفاء الراشدين، وآله الأخيار أجمعين، وبعد فكفى بالجهل داء، وبالغباوة محنة وبلاء، وبخلوص النية شفيعًا، وبالاعتذار من فارط الذنب …
وهنا أعيتني السجعة، فوضعت القلم وجعلت أفكر في كلمة صالحة، فمرت بالخاطر ألفاظ كثيرة أذكر من بينها «رجوعًا» و«نزوعًا» و«تقريعًا» ولكني لم أستملح واحدة منها، ففتحت ديوان بعض الشعراء المكثرين عند قافية العين كما يفعل حافظ وأشباهه إذا نظموا لعلي أظفر بطلبتي ولكن رائد التوفيق اخطأني في هذه المرة أيضًا، فيئست من كتابة الاعتذار ومما كنت أرجوه من الصفح، وأتوقعه من الغفران، وإني لفي هذه الحيرة الشديدة وإذا بعدة رسائل قد جاءتني ففتحت الأولى وبي من الكسل والملل ما لا يخفى عن القارئ فإذا كاتبها يقول بعد الديباجة:
أراك قد أطلت في إيراد سرقاته (يعني صاحبنا بالطبع) حتى ضايقتنا وأمللتنا، حسبك ما أخذت عليه من ذلك، لأنه ليس بالشاعر المكثر حتى تغفر له كثرة سرقاته من أجل كثرة حسناته … وعلى أنه حتى في اعتذاره من إقلاله لم يأنف من السرقة والانتحال ألا ترى كيف أخذ قوله:
من قول البحتري يرد على عبيد الله بن طاهر:
وأخذ البيت الذي بعده وهو:
من قول الشريف الرضي يمدح الطائع:
أقول كفى ما أظهرت من سرقاته وإنما ينبغي أن تكشف للناس عن فساد معانيه وقلق أسلوبه وركاكة تعابيره فإن الناس «يتهمونه» بحسن الديباجة، وانسجام التراكيب، وسلامة الذوق في الصناعة، ولا يصدقون أنه قائل هذا البيت:
وليت شعري أين كانت فصاحته وبيانه وذوقه حين قال «سمو خديوينا» وأين كانت يقظته وفطنته وذكاؤه وعلمه حين قال:
فإنَّا ما علمنا أن في العالم نصف مخترع ولا ربع محتسب وما يدرينا لعله يقول بعد ذلك ثلث فيلسوف وسدس وطني وسبع شاعر وعُشر كاتب وخُمس رجل، وما الذي منعه أن يكتب البيت هكذا:
وعلى أن البيت بعد لا يساوي واحدًا «صحيحًا»!
وما عساك تقول إذا سمعت قوله في مطلع قصيدة يمدح بها الجناب العالي ويهنئه بعيد الفطر:
فإن في قوله (أم تلك أشعاري) من السماجة وسقم الذوق والغرور مالا يُطاق، وليت شعري أكان حافظ يمدح الجناب العالي أم يفاخره ويتبجح عليه بقوله من هذه القصيدة بعينها:
إلى آخر ما كتب هذا الناقد الثرثار، غير إني لا أكتمك أيها القارئ أن هذه الرسالة أعادت إليَّ ثقتي بنفسي، وأذهبت عني القلق والاضطراب فقلت أطوي كتاب الاعتذار الذي كان العزم أن أرسله لحافظ وأنشر هذه الرسالة.
تم فضضت الرسالة الثانية فإذا فيها سؤال هذا نصه:
«ماذا يعني حافظ بقوله:
والجواب على هذا — بعد مراجعة البيتين — هو إني لا أظن حافظًا يعني شيئًا، وإنما هي ألفاظ مرصوفة لا يعلم إلا شيطانه البليد الذي وكله به إبليس كيف وفق بينها، أما الذي أعلمه أنا فهو أنه أراد أن يمدح الأستاذ الإمام ويصف حضرته كما يزعم شارح الديوان، وإن كنت لا أفهم من البيتين إلا أنه قصد إلى هجائه، والتهكم به، والسخرية منه، لأنه يقول إنه رأى في دار الأستاذ بساطًا جل ناسجه (اعتذر للسائل من عجزي عن تفسير قوله جل ناسجه!) وأنه رأى الأستاذ الذي هو عمر هذا العصر يتبختر على هذا البساط ويرفع يديه ويضعهما في المشي اختيالًا (وهو المفهوم من قوله يختال) وأنه كان يمشي بين صفين صف حكمة، وصف تقى، كما يمشي الضابط بين صفوف الجنود، وأن الله يحب هذه المشية التي ليس فيها لا تيه ولا خيلاء (مع أنه قال إنه رآه يختال) هذا ما أفهمه وهي صورة مضحكة جدًّا إذا كان الغرض منها المدح، ومن لي بمن يعلمني هذه المشية التي يحبها الله؟!
٨
أيها القارئ: ألم تشهد مرة ليلة عرس وقد ارتقى بعضهم كرسيًّا وجعل يتنطع بفضول الكلام، ويتكثر بلغو المقال، ويرسل على الناس طوفانًا من الهذر والهراء ويقرع آذانهم بمثل هذا الشعر:
ولمن تظن هذا الشعر الذي أوردته بكرهي؟ أخشى أن أقول لحافظ فتقول إني أقوله مالم يقل، ولكني أقسم لك بكل محرجة من الإيمان، مؤكدة من الأقسام، وبكل ما يحلف به البر والفاجر أنه له.
سيقول بعض أنصاره إنه قال هذا الشعر في أول نشأته فليس بمستغرب أن يكون تافهًا بشعًا في الذوق، ولكن انظر ما قال بعد أن بلغ كمال البنية والعقل، فليكن ما تريدون، قال حافظ في الصفحة الثامنة والتسعين من الجزء الثاني من ديوانه بعد أن بلغ كمال البنية والعقل، وارتفع عن سن الحداثة، وصار عليما بأسرار اللفظ واشتقاقه عارفًا بفصيحه وركيكه، ومأنوسه وغريبه، وبعد أن «أغرى أقلامه بالغوص على المعاني» حتى:
يمدح الجناب العالي:
بحقي عليك يا حافظ، وبما لي عندك من حرمة، لتريني هذا الميزان الذي أصبحت الأرض تُشرى به. إنه لم يبقَ عليك إلا أن تقول إنها تُباع بالرطل كاللبن والجبن؟ ولتقولن لي هل كنت تمدح الجناب العالي أم تمازحه وتضاحكه، وهل من أدب المديح أن تذهب مذهب الهزل، في موقف الجد، وأن تجعل ختام قصيدتك هذا البيت:
كأنك تجاذبه حبل الفخر وبينك وبينه على ما أعلم.
أخلق بمن كثر ذكره لنفسه أن ينساه الناس، وأنت أيها القارئ أتظن أن روفائيل كان يفكر في نفسه حين صور العذراء وولدها، أو أن شكسبير حين كتب هملت وعطيل كان يفكر في سواهما أو أن ممثليهما يكترثان لجمهور النُّظَار والمتفرجين؟ كلا، فإنه ينبغي لمن يريد أن يكبر في عيون الناس أن يتضاءل أمام نفسه.
سيقول البعض إنه يسمت سمت العرب ويجري على أسلوبهم، ولكن العرب قد ذهبوا في سبيل العصور الخالية ونحن اليوم في عصر له آدابه ومطالبه وليس ينبغي لنا أن نقلدهم، وإن كنا نجلهم ونعظمهم وإنما مَثل من يقلدهم مَثل الساجد أمام دمية خُفيت معارفها، وطُمست محاسرها، ولم يبقَ منها إلا الحجر الذي نُحتت منه، وإلا المصباح المعلق فوقها، أو مَثل من يهب قلبه لامرأة حطمتها السن حتى أصبحت لا يحمل بعضها بعضًا.
وقال حافظ:
فأخطأ في قوله ازدريت بها لأن الفعل يتعدى وليست به حاجة إلى حروف الجر فهل لا يعرف حافظ الفرق بين اللازم والمتعدي وأي فائدة في قوله «قبل الممات» فهل رأى حافظ أحدًا من الناس يحفل بعد موته بشيء حتى خاف اللبس وأراد أن يجتنبنه بقوله قبل الممات؟ ما أكثر غرائب حافظ لكأني به لا يفهم الموت ولا يعرف الفرق بينه وبين الحياة، لولا إني أحب له طول العمر ليقف على حقيقة أمره وليعلم أنه ليس من الشعر ولا قلامة ظفر لدعوت الله أن يذيقه الموت حتى يجربه ويعلم أنه كان مخطئًا حين قال: «قبل الممات» فلا يعود إلى أمثال هذه السخافات! نعود إلى ما كنا فيه فنقول: إن حافظًا كثير الخلط بين الأضداد وإني ما قرأت له قصيدة إلا رأيت فيها مثلًا لذلك كقوله:
فإن قوله: قد بلغا من مستغربات الزمان، وذلك أنه جعل «أو» بين الأجير والحراث فكان ينبغي أن يقول: (بلغ) وقد كان يجوز له أن يقول: بلغا لو أنه عطف بالواو لا بأو ولكن حافظًا كما قلنا: لا يعرف فرق ما بين الواو وأو.
ومن أمثلة هذا الخلط قوله يهنئ شوقي بك للإنعام عليه برتبة:
ما ترى في رجل يريد أن يمدحك فيقول لك: إن قدرك ونباهتك وشرفك وسعادتك لم يكن لها حد تقف عنده ولكنها الآن أصبحت محدودة لا تجاوز حدًّا بعينه؟ أليس هذا أشبه بالذم منه بالمدح، وأقرب إلى الهجاء والطعن؟ أليس هذا دليلًا على أن حافظًا يحسد شوقي على منزلته وينفس عليه أدبه وعبقريته ويتمنى لو كان له مثل طبعه وسليقته وهل الحسد دليل على سعة الروح وعظم الثقة بالنفس واحتقار المظاهر اللذين هما نتيجة لعظم الروح وجلال النفس.
٩
أنا كما تعلم صديق حافظ، ولست أحب أن أوغر صدره عليَّ فإنه على سخافة شعره، لطيف ظريف، وليت شعره كحديثه، ولكنه يتكلف في شعره ولا يتكلف في حديثه، ولعل هذا هو السبب في ثقل ظل الأول وخفة روح الثاني.
كأن بحافظ قد أدرك أنه شعرور متكلف ينظم بالصنعة (ليت شعري ماذا يقول حافظ عني إذا قرأ قولي إنه شعرور وعلم أن صديقه الذي لا يستريب به أول من وصفه بذلك وأطلق عليه هذا اللفظ، لا أدري ولكني أرجوك مرة ثانية أن لا تذيع اسمي إذا أذعت رأيي؟) أقول كأني به قد عرف أنه ليس من الشعر في شيء فهو لاينفك يتنازل لكل شاعر يظهر عن ملكه الذي اغتصبه، فقد قال لما صدر الجزء الأول من ديوان شكري:
وقال يقرظ ديوان الرافعي:
كأن هذا المسكين لا عمل له إلا أن يبايع الشعراء ويشهد لهم بالسبق والمزية، أو كأنه فطن إلى أن ملكه هذا أسمى «فتنازل عنه في حياته قبل أن يُنزله عنه الموت بكرهه».
وعلى ذكر الموت والحياة أرجوك (لأني كما أسلفت صديق حافظ) أن تهبه ثلثمائة عام من خلودك — كما فعل فولتير — فإن حاجته والله إلى يوم واحد لشديدة على أن يفسر لك هذا البيت:
فهل حسب جنابه أن الرماد المذرور في عين الحاذق الأرب لا بد أن يكون أكثر من الرماد المذرور في عين الأبله السخيف حتى تَمثل به أو أن عين الحاذق أوسع من عين الغبي، وهذا البيت أيضًا:
ليس في العالم طفل لا يعلم أن علماء الأفلاك لا يرصدونها إلا عن بُعد فهل رأى جنابه أحدًا صعد في طيارة ورصد الأفلاك عن قرب، إن الوقت الذي تطير فيه الناس بين الكواكب لم يأتِ بعد … وهذا البيت أيضًا:
تضحكني جدًّا هذه الغفلة من حافظ فقد أراد أن يغني بلدنا فأفقره، وذلك لأنه تمنى أن يرى خزائنه ملأى من العلم فارغة من الذهب، وليت شعر حافظ أي خير في العلم إذا لم يكن لدينا إلى جانبه مال نستدر به منافعه ومرافقه! لا خير مطلقًا كما أنه لا خير في ما يعرف حافظ من مفردات العربية ما دامت خزانة معانية فارغة، ومن غفلة حافظ قوله:
أراد أن يقول لا نحن موتى ولا نحن نشبه الأحياء فقال ولا الأحياء تشبهنا وهذا يشبه قول القائل «أما في عقلهم رأس» أو قول القائل «مطلي به القار»، يريد «مطليًا بالقار» أو قول الآخر:
أقول هب حافظًا ثلثمائة عام من خلودك فإن حاجته اليوم إلى الخلود أشد من حاجته إلى غيره، فإن أدركك الحرص فأعطه مائة، واجمع من العقاد وشكري مائتين، وفي مَرْجُوِّي أن لا تضن عليه بهذا الرفد الضئيل والسلام.
أشكر لصديقي ظنه بي وثقته بكرمي ولكني لا أستطيع أن أصل رجلًا
يقول:
فإن طلاب الجزء الثالث من كتاب النحو يعلمون أن الصواب أن يقول (إلا إياك) أو (إلاك) لا إلا أنت (راجع باب الاستثناء) ولا يأنف أن يقول:
فإن قوله في البيت الأول (عند الغروب) لا معنى له فهل كان في بعض أيامه بومة أو غرابًا فعلمته التجربة أن الوقوع في الشرك عند الغروب أصعب منه في العصر، أو في الظهر، أو في منتصف الليل، هذا إلى أنه أخطأ في قوله لرجوع الأم ينتظر والصواب حذف اللام وإسقاطها من رجوع لأن الفعل متعدٍ.
ولكنه كما قلنا في المقال السابق لا يعرف الفرق بين اللازم والمتعدي ثم إن الفزع والمروع بمعنى واحد فكيف أمنحه يومًا واحدًا! على أن الأبيات مسروقة من قول المجنون:
١٠
أليس من التطفل أن يكتب حافظ في مسألة الزوجية أن يتدخل فيما لا يعنيه لأن المسألة شخصية لا يجوز لأحد أن يتناولها بقلمه، ثم هي بعد ليست مما يقال فيه الشعر وأي شأن لحافظ في جنون صاحب المؤيد ببنت النبي أو ببنت غيره من الناس، وهل حرم الله على الناس أن يعشقوا بنات النبي ﷺ؟ ولماذا «يضج العرش وحاملوه ويضج قبر النبي ﷺ» من أجل ذلك؟ وماذا على حافظ من كل ذلك، وماذا يعنيه إن كان المؤيد لصيقًا ببيت الرسول ﷺ أو غير لصيق به؟ هل هو موكل بحراسته وهل ورد في الحديث الشريف عن النبي ﷺ أنه قال «آتينا حافظًا حراسة بيتنا؟» أليست هذه القصيدة أدخل في باب الرقاعة منها في باب الشعر؟
سيدي
كن عذيري إذا أنا أخذت عليك واحدة في نقدك شاعر النيل — حافظ — فليس من شروط النقد الصحيح لا ولا من العدل أن تعدد سقاط الرجل وسرقاته وتغفل حسناته … فإنه مهما جردنا الرجل من الشاعرية فإن له على الرغم من ذلك شعرًا جيدًا عذبًا وخواطر مستحدثة رائعة … وأين أنت من قصيدته التي بعث بها إلى «البابلي» يعاتبه بها ويتودد إليه فيها والتى لو قرأها ابن الرومي لخجل من همزيته التي يقول فيها:
أعني قصيدته التي يقول في مطلعها:
والتى يقول في ختامها:
فما عساك قائل بعد (يا بطل)؟ أو لم يبرز الرجل في النكتة على «الفار» والسيد قشطة وكامل الأصلي؟
أقول إن شرًّا من قوله يا بطل وأفظع وصفه لصديقه (بالخول) وإن كان قد حذف الخاء والواو ولم يبقِ من الكلمة إلا اللام، ولكن القارئ لا يعيبه أن يفهم المراد؟ وشر من كل ذلك أن ينشر هذه القصيدة مع سائر شعره، ولكن الآداب في مصر غير مرعية! وإلا فأي شيء أهتك لستر لحياة وأخدش لوجه الأدب من قوله يا خول؟
على أنَّا لا نريد أن نحاسب حافظًا على نكاته العامية، وإنما نريد أن نظهِر للناس أن جَده ليس خيرًا من هزله، قال حافظ:
فإن قوله يزدري بالدر خطأ والصواب يزدريه وقد وقع في هذا الخطأ في موضع آخر ونبهنا عليه:
وقال حفظه الله:
فإن قوله دقت عن الفطن من المضحكات وذلك لأن الهمة التي تدق عن الفطن لا بد أن تكون ضئيلة جدًّا لا تبين للمتوسم وهو يريد أن يصفها بالعظم، ولكن حافظًا كما قلنا غير مرة شديد الغفلة إذا أراد الذم مَدَح، وإن أراد المدح ذم. انظر قوله للإمبراطورة يوجيني:
فقد أخطأ في قوله غاب عن جبينك لأن التاج لا يكون على الجبين، ولكن فوق الرأس وبين الرأس والجبين بون، وأخطأ في ظنه أن في المشيب عوضًا من التاج وإنما المشيب يريد الفناء ورسول الموت وأي شيء أبغض عند النساء من المشيب، ولكني لا أظنه يفهم شيئًا من ذلك، وقال أيضًا:
والصواب أن يستبدل (في) بالباء لأنه يقال مغرم بكذا ولا يقال مغرم فيه وقال أيضًا:
أخطأ في قوله بنظرة واجد والصواب حذف الباء، وبعد فمن لي بمن يسأل حافظًا عن هذه العين التي استعارها للبحر؟ ومتى كان للبحر عيون كعيون السماء مثلًا؟ ومن لي بمن يقول لي لماذا ينظر اليم إلى البخار نظرة واجد قلق الرجاء؟ إلا أن حافظًا لا يزال يأتينا في كل يوم بما لم يُسبق إليه من السخافات، وقال:
ليس أثقل على النفس من قوله اكتتبنا ولكن حافظًا لا يعرف الفرق بين همزة الوصل وهمزة القطع، ألم يكن خيرًا من ذلك أن يقول (أنَّا) اكتتبنا.
وقال يمدح المويلحي:
فهل للمويلحي عنده ثأر؟ وإلا فماذا يعني بقوله في دمي؟ لست أدري ولا المنجم يدري؟ ولا حافظ نفسه فيما أظن؟ لقد كان الصواب أن يقول في ذمتي وقال أيضًا:
من أعلم حافظًا أن المدبر لا بد أن يقبل؟ هل يقبل الشباب بعد ذهابه، وهل يعود الأمس، وهل يحيا الميت وهل وهل؟ أم تراه أخذ ذلك من حركات الطابور.
١١
بلغنا أن حافظ بك إبراهيم يتوعَّدنا ويزعم أن كلمة تخرج من فيه تكفي لطردنا من النظارة، أو إحراجنا فيها على القليل، ونحن لا يعنينا هذا القول، ولا يفزعنا هذا الوعيد، وما كان يميلنا تهديده عن رأينا فيه أو يمنعنا من إعلان سخافاته وإظهار المخزيات المنديات التي جاء بها في شعره، وإلا فإنَّا نعلم مكانته من صاحب العطوفة ناظر المعارف ولا نجهل جاهه العظيم جدًّا جدًّا، ولو كنا نتخشى شيئًا لما أقدمنا على نقد شعره، وهبه استطاع أن يلحق بنا ضررًا فهل ينفي ذلك أنه ليس بشاعر، ولكن وزَّان تفاعيل، ومقطع أبيات، وأنه أخطأ أفحش الخطأ في قوله من قصيدته في حريق ميت غمر:
وذلك أنه كان ينبغي أن يجعل «الأقدار» موضع «القضاء» والقضاء موضع الأقدار، لأن الأقدار هي التي تقدر القضاء، فإذا انحى القضاء على قوم لم يغنِ حجب الأقدار شيئًا وإنما يجدي حجب القضاء لو كان إلى ذلك سبيل، وفي قوله من القصيدة بعينها:
لأن الصورة المودعة في البيت مضحكة وأغلب الظن أنه أخذها من حركات «الطابور» وأوامر اليوزباشية وأي شيء أسخف من قوله النحس يجري يمينًا والبؤس يجري يسارًا؟ ولماذا كان هذا كذلك؟ أليس هذا أشبه بالجنود الفارة الهاربة من وجه أعدائها؟ على أن الشطر الثاني في معنى الأول فهو إذًا حشو وتكرار، وفي قوله:
لست أدري لماذا كان هذا الترتيب؟ هل حسب حافظ أن كل شيء يشبه نظام الجيوش.
فإنه إذا صح ما يقول فقد كان ينبغي أن تأكل النار الناس ثم تأكل بعد ذلك دورهم، وإلا فإنه لا يعقل أن يكون الناس قد انتظروا في دورهم حتى أكلتهم النار، على أنه ليس من الضروري إذا احترقت البيوت أن يحترق سكانها وأيضًا، وفي قوله:
فإني لا أفهم لماذا أخرجهم من دارهم عراة لا ثياب على أجسامهم، هل حرقتها النار أيضًا؟ وهل ظن أن احتراق الدور يستلزم احتراق ثيابهم، على أن في البيت خطأ آخر وذلك أن خروجهم من الديار هو فرار فلا معنى لقوله بعد ذلك إنهم يطلبون الفرار، ثم كيف يوفق بين قوله إنهم خرجوا يطلبون الفرار حذر الموت (أي إنهم أحياء) وقوله في البيت الذي قبله إن النار لم تغادر صغارهم والكبارًا (أي إنهم ماتوا جميعًا)، وفي قوله أيضًا:
فقد أخطأ في قوله يجرون للذيول، والصواب إسقاط اللام لأن الفعل متعدٍ ولكن حافظًا كما أسلفنا غير مرة لا يعرف فرق ما بين اللازم والمتعدي، هذا إلى أنه أخطأ في قوله افتخارًا وأحسبه أراد اختيالًا، والافتخار والاختيال كما يعلم كل واحد ليسا شيئًا واحدًا، وفي قوله:
فإنه لا معنى لهذا التحديد، ولماذا لم يخله وشأنه، فإن شاء وهبهم ألفًا وإن شاء زادها؟ ألا ترى أن قوله مُر بألف هو غاية ما وصل إليه الإنسان من التحكم البارد.
وفي قوله:
لأن معنى البيت: (سال) فيه النضار حتى حسبنا أن ذلك الفناء (يسيل) نضارًا؛ وأي شيء بالله أسخف من قوله إن الذهب سال حتى حسبناه سال؟ وفي قوله:
من لي أن أراه لابسًا «رد نجوت» منسوجة من خيوط السرور، ومن لي بمن يفسر لي قوله في يد الكاس؟ فهل يعني أن الناس كانوا في يد الكاس! أم يعني أنهم خلعوا الوقار في يد الكاس! وكلاهما لا معنى له، الحقيقة أن حافظًا لم يعنِ شيئًا ولم ينظر إلا إلى المطابقة بين اكتسى وخلع، وفي قوله:
فهل يعٍرف ليلًا في غير الدهر حتى قال (في الدهر) وهل رأى ليلًا لا يضم سعدًا ونحسًا وعسرًا ويسرًا حتى قال (رُب) أم تراه لا يعرف معنى رُب؟ وهل تعد من الدهر ليلة لا تضم السعد والنحس!
وبعد فأي شيطان غير أملى عليه هذه القصيدة التي لا يخلو فيها عيب من خطأ ولا يقع فيها القارئ إلا على مترقع ولكنا ندعها إلى سواها، قال:
الصواب أن يقول(فما) بدل (فلا) وقال:
أخذه من قول الشاعر:
أو من قول ابن الرومي:
أو من قول العاري:
وقال:
فأخطأ لأن حبيبه لا حيلة له في نفور طيفه كما يعلم الناس وكما لا يعلم حافظ على ما يظهر وهو لا يمنع طيفه أن يزوره في المنام فبيته لا يدل إلا على السخف والغفلة وماذا يصنع حبيبه إذا كان طيفه لا يحب حافظًا ولا يأنس به وأي ذنب لحبيبه حتى يعاتبه على جفوة طيفه! وهل يلام حبيبه من أجل ذلك؟! أم هل حبيبه عذوله في طيفه؟!
وقال:
فأخطأ في ثلاثة مواضع في بيت واحد الأول: أن القصور كما يعلم الأطفال والصغار لا تكون في البيوت، والثاني: أنه لا يقال بيت خلد ولكن جنة خلد، والثالث: أنَّا سمعنا بثوب الحداد ولكنا لم نسمع ببيت الحداد! لأن الناس لم يرَوه أبدًا.
١٢
علم الله أنَّا لا نحتقر من حافظ إلا شعره، ولا نناكر إلا مذهبه ولا نناصب إلا قريحته، وإلا ألفاظه الرثة، وأساليبه القلقة ومعانيه السقيمة، وذوقه الفاسد، وأغراضه المبتذلة المطروقة، وقوالبه المشوشة، وتكلفه الشديد، ومن ذا الذي يحق له أن ينكر علينا ذلك وأن يعيبنا به أو يذمه إلينا! أو ينعي علينا مقتنا لما يستحق المقت، وأنت فقد تعلم أن الطبيعة البشرية مبنية على التعادي، وأن الفكر والعمل يبطلان إذا لم يجد الإنسان ما يبغض وأن الحياة — لولا تناطح العواصف، وتزاحم الأضداد — ماء آجن آسن، وأن بياض النهار لا يوضحه إلا سواد الليل، وإنك إن لم تجد ما تكره، فأنت حقيق أن لا تجد ما تحب، لأن حسن الجميل لا يظهره مثل قياسه إلى قبح القبيح، وكذلك عبقريات الفحول من الشعراء وبراعاتهم وعقائلهم لا تكشف لك عن حسنها ونباهتها مثل سخافات المقصرين والمتخلفين أمثال حافظ الذي اتخذت من شعره «توابل» أشحذ بها شهوة الذهن إلى ما يعرضه علينا الفحول من شهي الألوان وكريم الطعام ومستطرفه: هذا هو ما دفعني إلى تذوق شعر حافظ لا ما ذهب الناس إليه وتوهموه بيننا من العداء، غير أني لا أرى بدًّا من الاعتراف بأن حلقي لم يسِغ هذه التوابل البشعة الخبيثة فلفظتها، وخفت أن يصيب الناس منها ما أصابني، فأعلنت حربي عليها، وأوضحت لهم ما عساه يحل بهم من المكروه إذا هم تطعموها، وهذا هو الحامل لي على نقد شعر حافظ ولقد كان بودي أن أجد لحافظ شيئًا لا تنقبض منه النفس ولا ينبو عنه الذوق، ولكن البحث قد أعياني حتى يئست مما أطلب، فإن كان لحافظ شيء من الحسنات فليبعث بها من يعرفها إليها وسأمضي في إيراد إساءآته حتى يوافيني الناس بإحساناته، فمن ذلك عدا ما ذكرنا في مقالاتنا السالفة قصيدته التي يصف فيها «هيجو» الشاعر الفرنسي الذي مسخ حافظ من كتبه «البؤساء» والتي يقول في مطلعها:
هذا البيت شر ما تفتتح به قصيدة يراد بها المدح وذلك لأن قوله أعجمي يُشعر بشيء من الاستصغار بشأن الممدوح، واستضآله وقد مضى الزمن الذي كان العرب يتوهمون فيه أنهم خير الأمم وأن ما خلاهم همج وأعاجم لا قيمة لهم ولا وزن ولكن ذلك دأب حافظ فإنه — كما أسلفنا — كثيرًا ما يذم من يريد مدحه، ويطري من قصد إلى تنقصه، وعلى أني لا أظنه أراد المدح أو الذم بل الأغلب في الظن أنه إنما جعل باله إلى المطابقة بين الأعجمي والعربي، فالبيت على ذلك لا ينطوي على شيء من المعنى.
بيد أنه ليس أدل على جهل حافظ بشعر هيجو وبشعر المعري أيضًا — وإن كان من المعجبين به والمدمنين قراءة شعره — من قوله في البيت الذي بعد هذا:
وذلك أن القارئ خليق أن يفهم من هذا البيت أن المعري وهيجو سواء في المذهب والرأي؛ وإلا فلماذا جعلهما يلتقيان فوق هام الشهب! على أن الحال على خلاف ما وصف والأمر على عكس ما خيل إليه لأنه ليس ثم أشد اختلافًا في المنهج وتباينًا في المنزع من هذين الشاعرين كما يعلم كل من اطلع على شعرهما، ولكني لا أظن حافظًا يرى فرق ما بينهما أو يعبأ بشيء من ذلك، وقال من القصيدة نفسها:
أليس هذا غاية السخف، وضعف الخيال، وسقم الذوق وجمود الخاطر، ومن أين علم حافظ أن الطير كانت تتغنى وترن بشعر العرب حتى ظهر هوجو فعدلت عنه وجعلت بعد ذلك تتغنى وتتصادح بشعره؟ وأنت أيها القارئ هل سمعت حمامتين تتناشدان المجنون أو كُثير أو المتنبي أو المعري؟ وهل رأيت مرة في بعض الأوكار حمامة «عالمة» تقلب بأظافيرها صفحات ديوان واحدٍ من الشعراء وتقرأ فيها ثم تنقل ما فيها إلى لغتها التي لا يعرفها من البشر غير حافظ وتكتب الترجمة بمنقارها على أوراق الشجر! وقال حافظ:
الشطران معناهما واحد فلا ضرورة إذًا إلى أحدهما، ولست أدري علة هذا الشغف بالحشو والتكرار، تأمل قوله من قصيدته بعينها:
فإن قوله: لم تشبه شائبات الكذب لا ضرورة إليه بعد قوله: صادقًا في البيت ولكني أظن حافظًا يحسب التكرار أبلغ في التأكيد لاسيما إذا أعيا الشاعر أن يتم البيت وأنه خير في الجملة أن يكرر الشاعر المعنى من أن يختصر البيت هكذا:
أو هكذا:
ومن أمثلة هذا الحشو قوله:
فإن معنى البيت نام المحزون والمحزون ونام المحزون:
فقد كانت هذه الحجة تصح لو سبق للعرب بهذه المخترعات عد أو لو وردت أسماؤها في كتاب الله فأما وذلك لم يكن فلا غرابة أن ضاقت اللغة عن هذه الأسماء الجديدة والمخترعات الحديثة، على أنه ليس ثم لغة تضيق عن العظات ولا تسعها وإنما تضيق اللغة عن أسماء المستحدثات إذا جمد أهلها.
١٣
ليس من فضل ومزية لقصيدة من القصائد إلا بحسب المعاني التي يريد الشاعر، والغرض الذي يؤمُّ، وعلى قدر روعة الموضوع وفخامته، أو رقته ولطافته، ينبغي أن تكون روعة المعاني وفخامتها، أو رقتها وظرفها، فإنه ليس أدل على سقم الذوق وتخلف الملكة من تباعد ما بين الغرض وطريقة العبارة منه وتعادي ما بين المعنى ولفظه، وما ظنك بفتاة على رأسها عمامة وفتى يلبس أساور وحلقانًا … وإنما سبيل الشاعر في ذلك سبيل المصور فكما أن الثاني يلزمه أن يتهدى إلى ضرب من التخير والتدبر في انتقاء الأصباغ وتأليف الألوان وفي مواقعها ومقاديرها وفي كيفية مزجه لها، وترتيبه إياها، كذلك يقتضي النظر شيئًا من الحذق والأستاذية وسعة الذرع حتى تستوفى المعاني حظها وتستكمل زينتها، ولا يتوهمن أحد أنَّا نقول إن الشاعر والمصور سواء في كل شيء فإن ذلك ما لا نذهب إليه ولا نجرأ أن ندعيه فقد يستطيع المصور أن يرسم لك الصورة كما تأخذها عينه، ولكن الشاعر لا قبل له بذلك، إذ ليس في طاقة اللفظ أن يغني غناء الريشة، ولا في وسع الريشة أن تغني غناء اللفظ، وإنما غاية ما تصل إليه مقدرة اللفظ وأقصى ما يقع في إمكانه أن ينقل إليك أثر الشيء في النفس ووقعه في القلب، وما ذلك باليسير لو ظفرت به جيله، أو بلغت إليه وسيلة وهذا سبب خيبة من يحاول أن يتخذ من قلمه ريشة وأن يكون في شعره مصورًا.
قدمنا هذه الكلمة الموجزة لنقول إن «حافظًا» لم يوفَّق في قصيدته التي حاول أن يصف بها زلزال مسيني، وينعت حال أهلها، ولست أجهل أن جمهور الناس على غير هذا الرأي وأن السواد الأعظم يعدها في المنزلة الأولى بين شعره ويضعها في أخص موضع بين مثيلاتها، ولكنهم خليقون أن لا يتعجلوا، فإما إقناعهم بصحة ما نرى، وإما صرنا إلى ما يرون. حافظ أشبه بالنوائح اللواتي يجتمعن في المآتم يستبكين النساء، ويستدرون شئونهن، ويصفقن بالأيدي وينقرن على الدفوف، وحولهن معولات يلطمن حر الخدود، وهن ما بيض لهن جفن ولا تُراق لهن عبرة.
وأنت فقد تعلم أن كلام النادبات ليس فيه ما يشجي فيبكي، ولكن المفؤود يحب أن يسك سمعه صدى حزنه وشجوه، وأن يتوهم أن غيره يشاركه وجده وترحته، ويقاسمه كمده وفجعته، وربما جاوز ذلك فظن الطبيعة تساهمه أساه، وخال أن الظلام حداد الكون عليه، وأن الغمائم تبكي لبكائه وأن البرق يومض لناره، وأن الرعد صدى تهزُّم الوجد في فؤاده، وإلا فكيف تؤول قول الشاعر:
وما زالت الطبيعة منذ القدم وحي الشاعر، ترفع مرآتها لعينه فيجتلي في صقالها أعمق أعماق نفسه، وذلك أن قلب الإنسان لا يحاول البث والإفضاء بنجواه مادام لا يدري غير شجوه وألمه، وربما كان في مثل هذا الألم الذي لا يعرف له شبيها شعرًا صامتًا، ولكنه ما حرك النفس ودفعها إلى العبارة عما تجد والكشف عما تجنُّ، ولا أطلق الألم وفتح فم اليأس الصامت مثل مشاركة المرء آلام غيره والاطلاع عليها والعلم بها، غير أنه إذا أحس أن همومه أكبر من أن تقاس إليها هموم غيره من البشر، عاذ بالطبيعة وناجاها واجدًا في شجوها الصامت مثالًا جليلًا لما يجده في نفسه، ويحسه في قلبه … يزحف الليل فيقيء ظلام صدره في ظلامه الشامل وسواده المحيط، وتعود الشمس إلى الطلوع فيذكر أيامه العذاب السوالف من أحسن عهد مضى وأحلى وأندى ويتبعها قلبه «في حيثما سقطت من الدهر» ويرى الشمس تلم الفجر فيحلم بما اختلسه من ساعات الوصل في غفلة من الرقباء وأمان من الزمان، وتجنح الشمس إلى الأصيل فيتبعها رسل النظر حتى يخبو ضرامها ويعلو رماد الطفل وهيجها فيشيم مخايل الرجاء في حياة ثانية يعقد بها حبل أمانيه ويصل أسبابه بأسبابها.
إن في مطلع الفجر للهيبًا متوهجًا قصير العمر يشب للشعراء، ولكم اضطرم قلبي له حين أطلقت نفسي من عقال النوم.
أما حافظ فليس من هؤلاء الشعراء الذين عناهم وردزورث ولا قلامة ظفر، غير أنه إن فاته ذاك فلم يفته أن يكون نائحة البلد ونادبة القوم، يقولون له نح فينوح، وابك هذا الراحل فيبكيه، واندب هذا الحظ فيندبه، وما أظن حافظًا ينكر علينا هذا الرأي وهو القائل في ختام قصيدة وداع اللورد كرومر بعد أن سرد آراء الناس فيه:
ولكن دموعه أجف من أشعة الشمس لا يستبرد قلب ولا يستروح لسكبها فؤاد، كأنها قطع البرد المتساقطة، وإنما كان هذا كذلك لأنه لا يفضي إلى القارئ بعاطفة يجيش لها صدره، ويضطرب بها جنانه، ولكن بما يظن أنه أبلغ في التأثير، وأوقع في تحريك النفوس، ومن أجل هذا ترى ابتسامته في شعره جامدة كابتسامة الموتى ينتفض لها البدن، ودمعته فاترة لا يتحرك لها شجن، وزفرته باردة كأنفاس ليلة ذات شبم وأنَّاته كصرير الباب طال عليه القدم.
١٤
ترى ما عسى قول حافظ يكون لو سأله سائل: ماذا ذهبت إليه في هذه القصيدة، وإلى أي غاية نزعت، وأي صورة قصدت تصويرها، وأي حقيقة أردت تقريرها؟
لا أدري بأي شيء كان يجيب، على أنه مهما يكن جوابه فإني لا أحب أن أجشمه ما لا يطيق، ولا أن أطلب المحال أو أحدث النفس بما لا يكون ذلك لأن القصيدة من أولها إلى آخرها لا غرض لها ولا مرمى، وما أرى «حافظًا» فيها إلا كمن أراد أن يصف البحر فجعل يحث الحكومة على بناء الأرصفة على ساحله لئلا يغرق فيه الأطفال، وليست هي بحيث إذا حذفت عنوانها ثم أردت أن تتبين غرضها من فحوى بيوتها، وتتوسم موضوعها من معاريض لفظها، وجدت ذلك ممكنًا، وألفيته مرامًا هنيًّا ومطلبًا لينًا.
ألا ترى كيف أني لو أنشدتك هذين البيتين:
ولم أقل لك إنهما من قصيدة له في زلزال مسيني، لما جرى ببالك أنه يعني بلدًا لأن ذلك بعيد عن العقول، ولكان أسبق الخواطر إلى ظنك، وأوقعها في خلدك، وأشدها تمثلًا في نفسك، وأرجحها في رأيك، أنه بذكر فتاة عجلت بها حمة الفراق وأسرع بها قدر النوى.
ولو أسمعتك هذه الأبيات على غير معرفة بما يحاول الشاعر:
«يريد النسور والحيتان» أكان يتراءى لك أنه يصف الزلزال؟ كلا، وإنما كان هذا هكذا لأن ما أوردت من أبياته يصلح أن يكون لهذا كما يصلح أن يكون لغيره، ويصح أن يقال بمناسبة الزلزال، أو بمناسبة الحرب، وفي هذا دلالة على أنه حاد عن القصد، وخرج عن الغرض، وملأ القصيدة بالحشو وكظها بما هو أجنبي منها، وما هو مستكره على مواضعه فيها وإلا فما ذنب النسور والحيتان وأي جريرة اقترفت حي يلعنها وينحي عليها بالذم ويجعل لسانه عليها مبردًا، أتراه ظن أن الخطب كان أسير والمصاب أهون لو أن هذه الضواري رحمت ما انتشر على وجه الأرض وانطوى في جوف البحر من الجثث الهامدة فلم تسرف في جسومها «نقرًا ونهشًا» وهل «لجرح بميت إيلام». وما هذا السخف الغريب الذي يذهل المرء عما هو معلوم في بدائه العقول؟ وينسى شاعر النيل والشرق جميعًا أنه سواء أسرفت النسور والحيتان في «النقر والنهش» أو لم تسرف فإن ما كان كان، ولا حول له ولا قوة ولا ذنب للنسور والحيتان.
وما هذه الغفلة الشديدة التي جعلته يحسب أنه لما كانت مسيني تابعة لإيطاليا سياسيًّا ومن بعض أملاكها اليوم فلا بد أن يكون قطانها كأهل إيطاليا حذقًا في التصوير، وبراعة في النقش ونحت الدمى والتماثيل، ومهارة في تشييد «روائع البنيان» ونبوغًا في «نصب حبائل الألوان».
أليست هذه غفلة شديدة منه تدل على أنه لا يتدبر ما يقول، ولا يتبصر ما ينظم، وإلا فمن أنبأه:
حتى قال إن بنان المسينيين:
وما لحافظ واعتناف الأمور وإتيانها على جهل والخوض فيما لم يدخل له في علم، ومن علَّم حافظًا أن الجغرافيا أعذب ما تكون منظومة، وأحلى ما تقرأ مقروضة، حتى داهم الناس من حيث لا يتوقعون بهذا البيت في أول القصيدة:
على أنه لو سلمنا جدلًا مع حافظ وأستاتذته الذين أخذ عنهم أن «الجغرافيا» في الشعر أحلى:
وأنه لا ثقل لها على النفس ولا تنغيص ولا تكدير، لكان خليعًا بالشاعر الذي يريد أن ينظمها أن يأتي بها صحيحة على وجوهها لا مقلوبة معكوسة النظريات كما فعل «حافظ» في نظرية ثوران البراكين فقد خلط فيما شاء حتى صار أمرها ملتبسًا، وذلك أن ثوران البحر لا دخل له في التنفيس عن غليان الأرض وهو ليس دليلًا من دلائل هذا الثوران، فقد يثور البركان والبحر ساكن ولكن خيال حافظ مضطرب لا يرى الأشياء إلا كذلك.
لو كان لحافظ شيء من سلامة الذوق لفطن إلى أنه لا حاجة به إلى هذا البيت الجغرافي بعد قوله قبله:
وأنت أيها القارئ، فإذا أضفت إلى ما ذكرنا من المآخذ أغلاطه اللغوية والنحوية كقوله:
أخطأ في قوله غادران خطأ لا يغتفر، وذلك لأنه لا يصح أن تقول محمد وعلي كلاهما مصيبان أو غادران، بل الصواب أن تقول مصيب أو غادر، كقول الشاعر:
وقول ابن الرومي يهجو:
وقوله:
هذه الألفاظ كلها تؤدي معنى الفناء فهي حشو.
وقوله:
لفظة اغتيال لا ضرورة لها بعد غالها، وقوله:
الشطر الثاني في معنى الأول فلا ضرورة لأحدهما، وقوله:
فإنه على وفرة علامات (النداء) لا يعقل السائخ في باطن الأرض يستطيع شيئًا من ذلك.
أقول: إذا أضفت هذا إلى ذاك علمت أن هذه القصيدة ليست من الشعر الجيد في شيء لما فيها من الأغلاط اللغوية والنحوية والمعاني الفاسدة والخطأ الجغرافي والتاريخي والشطط عن الموضوع:
هذا ما كتبنا نقدًا لشعر حافظ ولا ندعي أننا أحطنا بكل صغيرة وكبيرة، فإن ذلك ما لم نقصد إليه عما فيه من التطويل الممل وإنما أردنا أن نقدم للقارئ «أمثلة» مما نأخذه عليه ونعيبه به من تقليده ونظمه مقالات الصحف وسرقاته وفساد معانيه.
واضطراب مبانيه وخطئه اللغوي والنحوي ولو كان له محسنات لاغتفرنا له ما في شعره من السيئات فإن للمتنبي سرقات كثيرة ولكن حسناته أكثر، فليقس القارئ على ما أوردنا ما لم نورد وهو بعد ذلك قمين أن يصل إلى ما وصلنا إليه.
أما شعره الذي نظمه أخيرًا فلا نتعرض له الآن ولكنا نقول له يا حافظ: إن الصدق في العبارة عن الإحساس أو الرأي أول ما ينبغي على الشاعر ولو كان في ذلك عدو الناس جميعًا فإنه يجب أن يكون المرء مقتنعًا بالرأي إذا أراد أن يقنع غيره به وأن يكون الأستاذ تلميذ نفسه وإلا لم يأخذ عنه أحد، ولتعلم بعد أن حاجتنا إلى الأصوات أشد من حاجتنا إلى الأصداء فإن كنت تستعجل الشهرة فإن الشهرة ليست للأحياء منها ولكن لمن مات وفات وهي في ذاتها خالدة لا يؤتاها الفتى حتى تنقضي أيامه ويستوفى أنفاسه فيحيا في عقول الناس وفي قلوبهم، وتعلم أن الرغبة في الشهرة تختلف عن الزهو في أنها خيال تصوري في التمني والزهو شخصي لأن الراغب في الشهرة لا يطلب أن تتطامن لديه المفارق أو تخشع أمامه العيون وإنما يرجو أن يعرف الناس لعبقرياته حقها وحب الحق عند الشاعر قبل حبه لنفسه هي أول وله المحل الثاني لأن لديه من الشواغل ما يذهله عن نفسه ويسليه عن حبها والافتتان بها، والرجل العظيم خليق أن لا تستسر عليه معرفة نفسه أو يغيب عنه قدرها، وهو لا يتهالك على الإطراء ولا يتشوف إلى حلة يخلعها عليه كاتب أو صديق بخلاف المزهو المنخو، فإن الإطراء منتجع خواطره ومهوى فؤاده ومطمح بصره ومن كثر ذكره لنفسه خيف عليه أن ينساه الناس، والشهرة لا تنال بقوة الساعد وإذا كان طالب المدح لا يلذ ما يكتب إلا إذا أثنى عليه الناس وامتدحوه فأخلق بهم أن لا يجدوا فيه ما يلذ لأن الناس لا يستحسنون إلا ما يمتزج بأجزاء نفوسهم ويتصل بقلوبهم.
فمن أراد أن يكون عظيمًا فليتضاءل في مرأى عينه لأن حب الشهرة عبارة عن حب الإتقان فمن كان حقيقًا بها فلا بأس عليه من إبطائها وتؤدتها فإن الحق لا يبلى والطبيعة لا تخلق والزمن يجرد المرء من كل شيء ما خلا العبقرية والفضيلة. فأما صجة الثناء الكاذب فإنها لا تغني من الخلود شيئًا إذا لم تكن في الشعر بذرته وما أضأل الشهرة الكاذبة إذا قيست بشهرة تراخت عليها الحقب فأكسبتها وقار السن ومهابته ولا ييئس شعراؤنا بذلك فسوف يصبحون الأيام الخالية ويخبر الدهر ما عندهم، فإما أشاد بذكرهم فنظم حاشيتي البر والبحر وإما حباهم ببرد الغموض فصاروا غفلًا من الإغفال.