خواطر في الموت
لا يكاد يصدق المرء أنه سيموت، أو على الأصح أنه سيفقد إحساسه بنفسه وبما حوله، وهو
معنى الموت، وقد كنت في صدر أيامي أكاد أجن كلما طاف بي خاطر الموت، أو سك سمعي لفظه،
ولكن الأيام كفيلة بتبليد النفس بما تجشمها من معاناة تصاريفها، وبما تشعرها من دبيب
الفناء شيئًا فشيئًا، والآن صرت أفكر في الموت كما أفكر في أكلة شهية: لا فزع ولا جنون،
وكل ما أنقمه من الحياة والموت جميعًا أني سأموت قبل كثيرين غيري، وقبل أجيال عديدة
ستأتي بعدي! وكل ما يحيرني هو استمرار هذه الحياة، التي أعياني طلاب معنًى لها، أو
فائدة أو غرض، وهي ستنتهي على أي حال، فما ضر لو قضت «الحياة» نَحْبها الآن في
عهدي؟
في هذه الحالة النفسية ترجمت بيتين، ونظمت قصيدتين، فليقرأها القارئ في ضوء هذه
الحالة أو في ظلامها!
(١) ليتها …!
بيتان مترجمان عن الألمانية:
أيها الزائر قبري
اتْلُ ماخُطَّ أمامَكْ!
ها هنا — فاعلم — عظامي
ليتها كانت عظامَك!
(٢) الذكر
يملُّ الفتى طول الحياة ولا يُرَى
على الموت إلا ساخطًا جدَّ واجدِ
ويَطلبُ إما مات أن يَنصِبوا له
معالِم تستجدي دُموعَ الخرائد
وتُبدِي جراحاتِ الردى وكلومَه
وتَستَمنِحُ الأحياء ذكر البوائد
وينسج بردَ الشعر مسهر جفنه
ليسبي حريم الذكر حر القصائد
بلى ذاك دأبُ الناس كلٌّ بنفسه
يعرفنا من صادر بعد وارد
وديدنهم حتى تَجفَّ حياتُنا
وتخلع ديباج الربيع المعاود
ويَسكُن نَبض الأرض مثل قطينها
وتعلق أسبابُ الرَّدَى بالفراقِد
(٣) النساجون الثلاثة
ثلاثة نساجين ثمَّ أراهمو
كما راءهم من قبل عهديَ آدم
نعاقبُ أيديهم على النول دهرهم
ولستُ أراه غير أني عالِمُ
وما بي إلى أن تُبصر العينُ حاجة
أليس سوى ما أنت بالعين شائم
هنالك لو تدري تُسدِّي أكفُّهم
وتُلحم بُردًا عهده متقادم
هناك؟ وما قولي هناك؟ كأنما
لحيث أقاموا حده والمعالم؟
وفي مسمعي منهم وإن كنت لا أرى
وجوههمُ؛ أصواتُهم والزمازم
يحوكون ثوبًا ناصعًا فيه تنطوي
— متى عُريت — هذي الدنا والعوالم
من البردِ الخزِّيِّ بعض خيوطه
ومن بلوَرَاتِ القُرِّ فيه نمانمُ
ومن نفس الريح المديد خطوطه
ومن قطع السحب الثقال مراقم
ألا ليتني في الأرض آخر أهلها
فأشهد هذا النَّحبَ يقضيه عالم