عام سعيد
بعد أن فرغ الجميع من تناول الطعام وأصبحت جميع الأطباق فارغة، ظهرت فرانشيسكا ساباتيني في منتصف الفناء ومعها ميكروفون، وأمضت عشر دقائق في تقديم الشكر لجميع رعاة الحفل. ثم قدمت الدكتور لويجي باردوليني، موضحةً أن الأساليب التي طوَّرها للتواصل مع الدولفين قد تكون مفيدة للغاية عندما يحاول البشر التواصل مع أي كائن فضائي.
اختفى ريتشارد قبل أن تبدأ فرانشيسكا في التحدث مباشرة، ومن الواضح أنه ذهب ليقضي حاجته ويتناول شرابًا آخر. لمحته نيكول بعد مرور خمس دقائق وبعد أن أنهت فرانشيسكا كلمتها الافتتاحية. وكان محوطًا بممثلتين إيطاليتين جذابتين، كانتا تضحكان على الفكاهات التي يلقيها بابتهاج شديد. فلوَّح بيديه إلى نيكول وغمز لها بعينيه مشيرًا إلى السيدتين وكأنما أفعاله لا تحتاج شرحًا.
ففكرت نيكول، وهي تبتسم: «عظيم يا ريتشارد. فعلى الأقل نجح أحدنا — غير الأكْفاء اجتماعيًّا — في أن يحظى بوقت سعيد.» وعندئذٍ أخذت تشاهد فرانشيسكا تسير برشاقةٍ عبر الجسر، وبدأت في تحريك الجمهور إلى الخلف بعيدًا عن المياه حتى توفر مساحة كبيرة للدكتور باردوليني ودلافينه. كانت فرانشيسكا ترتدي فستانًا أسود ضيقًا، وأحد كتفيه عارٍ، وفي مقدمته يلمع ترتر ذهبي اللون. وتربط حول خصرها وشاحًا ذهبيَّ اللون. وشعرها الأشقر مجدول ومثبَّت بدبابيس في رأسها.
ففكرت نيكول، وهي معجبة حقًّا بتصرف فرانشيسكا المتحرر بين الحشود: «إنكِ حقًّا تنتمين إلى هذا المكان يا فرانشيسكا.» بدأ الدكتور باردوليني الجزء الأول من عرض أسماك الدولفين، وحوَّلت نيكول انتباهها إلى حوض المياه الدائري. كان لويجي باردوليني أحد العلماء المثيرين للجدل الذين يتميز عملهم بالذكاء لكنه لم يكن عالمًا فريدًا بالدرجة التي يريد أن يوهم الناس بها. بالفعل نجح باردوليني في تطوير طريقة فريدة للتواصل مع أسماك الدولفين، ونجح في عزل أصوات ما بين ثلاثين إلى أربعين فعل حركة لديها وحددها في ملف أصواتها. لكن ادعاءه بأن اثنين من أسماك الدولفين لديه يمكنهما اجتياز اختبار القبول بالجامعة لم يكن صحيحًا. ولسوء الحظ، كان المجتمع العلمي الدولي في القرن الثاني والعشرين يسير على نهج يقول إنه في حالة عدم إثبات العالم لأكثر نظرياته خروجًا عن المألوف أو أكثرها تقدمًا، أو في حالة تعرضها للاستهزاء، فغالبًا ما يحط من قدر بقية اكتشافاته بصرف النظر عن مدى صحتها. وقد تسبب ذلك في تكوُّن اتجاه محافظ مستوطن في العلوم لم يكن صحيًّا بالمرة.
أما باردوليني فقد كان ماهرًا في عرض أعماله على عكس أغلب العلماء. ففي الجزء الأخير من عرضه، عقد اختبار ذكاء بين سمكتَي الدولفين المشهورتين لديه، إيميليو وإيميليا، واثنين من المرشدين بالفيلا اختِيرا عشوائيًّا أثناء الأمسية، أحدهما رجل والأخرى امرأة، في منافسة حقيقية. كان نسق الاختبار التنافسي سهلًا جدًّا. فعلى شاشتين من الشاشات الأربعة الإلكترونية الضخمة (كانت شاشتان منها في المياه والأخريان في الفناء)، ظهرت مصفوفة ثلاثة في ثلاثة مع وجود فراغ مكان العنصر الواقع في الزاوية اليمنى السفلى. أما العناصر الثمانية الأخرى، فكانت مليئة بصور وأشكال مختلفة. وكان على المشتركين من البشر وأسماك الدولفين تمييز الأشكال المتغيرة التي تتحرك من اليسار إلى اليمين في المصفوفة ومن أعلى إلى أسفل، ثم يختارون العنصر الصحيح الذي يجب وضعه في الزاوية اليمنى السفلى الفارغة من مجموعة تتكون من ثمانية اختيارات معروضة على الشاشة الأخرى. وكان أمام المتنافسين دقيقة واحدة فقط للاختيار في كل مرة. وأمام سمكتَي الدولفين في المياه، كما أمام البشر في الفناء، لوحة تحكم من ثمانية أزرار يضغطان على أحدها للاختيار (كانت سمكتا الدولفين تستخدم أنفها للضغط على الأزرار).
كانت المجموعة الأولى من الأسئلة سهلة على كلٍّ من البشر وسمكتَي الدولفين على حدٍّ سواء. ففي المصفوفة الأولى توجد كرة بيضاء واحدة في الزاوية اليسرى العليا، وكرتان بيضاوان في العمود الثاني من الصف الأول، وثلاث كرات بيضاء في عنصر المصفوفة الذي يطابق الصف الأول والعمود الثالث. ونظرًا لأن العنصر الأول من الصف الثاني أيضًا كرة واحدة، نصفها أبيض والآخر أسود، ونظرًا لأن العنصر الأول من الصف الثالث كرة واحدة أخرى، سوداء تمامًا؛ فمن السهل قراءة المصفوفة كاملة بسرعة وتحديد أن عنصر الزاوية اليمنى السفلى الفارغ هو ثلاث كرات سوداء.
أما الأسئلة اللاحقة فلم تكن بسهولة سابقاتها. فكان المزيد من التعقيدات يضاف إلى الأسئلة مع الانتقال من سؤال لآخر. ارتكب البشريَّان خطأهما الأول في المصفوفة الثامنة، أما سمكتا الدولفين فارتكبتا أول خطأ لهما في المصفوفة التاسعة. وقد قدم الدكتور باردوليني ست عشرة مصفوفة ككلٍّ، وكانت أُخراهم أشدهم تعقيدًا حتى إنه كان على المتنافسين التعرف على عشرة أشكال متغيرة منفصلة على الأقل لتحديد الشكل الذي يجب أن يوضع مكان العنصر الأخير. أما النتيجة النهائية فكانت التعادل، حيث حقق البشريَّان وسمكتا الدولفين ١٢ نقطة. انحنى كلا الفريقين واستقبل تصفيق الجمهور.
وجدت نيكول التدريب مذهلًا. ولم تكن متأكدة من إصرار الدكتور باردوليني على أن المنافسة كانت عادلة ولم يتدربا عليها، بيد أنها لم تُلقِ لهذا الأمر بالًا. إن الأمر الذي وجدته شيقًا حقًّا هو طبيعة المنافسة في حد ذاتها، إنها فكرة أن الذكاء يمكن أن يُحدَّد عن طريق القدرة على تحديد الأشكال والاتجاهات. فأخذت تفكر: «هل يمكن قياس القدرة الاستنتاجية؟ وهل يمكن فعل ذلك مع الأطفال؟ أو حتى مع البالغين؟»
شاركت نيكول مع المتنافسين من البشر وأسماك الدولفين في حل الاختبار، ونجحت بالفعل في الإجابة عن الثلاثة عشر سؤالًا الأُوَل، لكنها أخطأت في الرابع عشر نتيجةً لافتراضها افتراضًا خاطئًا، ونجحت في الإجابة عن السؤال الخامس عشر بشق الأنفس قبل أن تعلن الصافرة انتهاء الوقت المحدد للاختبار. ولم يتسنَّ لها الوقت للإجابة عن السؤال السادس عشر. وأخذت تتساءل في نفسها، في حين أخذت فرانشيسكا الميكروفون لتقديم نجم جينيفيف المفضل، جوليان لوكليرك «وماذا عنكم يا سكان راما؟ هل كنتم ستجيبون عن جميع الأسئلة الستة عشرة بشكل صحيح في عُشر الوقت المحدد؟ أم واحد على مائة من الوقت المحدد؟» بلعت نيكول ريقها عندما أدركت المدى الشاسع للاحتمالات، وهي تقول في نفسها: «أو ربما واحد على مليون.»
•••
«قبل أن ألقاك، لم أكن عائشًا … قبل أن أراك لم أحب قط …» سبحت الألحان الرقيقة للأغنية القديمة في ذاكرة نيكول، وذكرتها بمشهدٍ حدث منذ خمسة عشر عامًا، وهي في رقصة أخرى مع شخص آخر عندما كانت لا تزال تؤمن بأن الحب يمكنه التغلب على جميع الصعاب. أساء لوكليرك فهم إشارات جسدها، وجذبها بالقرب منه. فقررت نيكول ألا تقاومه. فقد كانت منهَكة، وفي حقيقة الأمر شعرت نيكول بإحساس جميل لأنها الآن بين يدَي رجل للمرة الأولى منذ سنوات طوال.
وبالفعل أوفت نيكول بوعدها لابنتها جينيفيف. فعندما أنهى المطرب الفرنسي لوكليرك مجموعة أغانيه القصيرة، دنت منه نيكول وأبلغته رسالة ابنتها. وكما توقعت، فسَّر لوكليرك تقربها منه بشيء آخر تمامًا. أخذ الاثنان يتحدثان في حين أعلنت فرانشيسكا عن توقف الفقرات الترفيهية الرسمية حتى منتصف الليل، وأنه يمكن للضيوف تناول المشروبات أو الطعام أو الرقص على نغمات الموسيقى حتى ذلك الحين. مد لوكليرك يده إلى نيكول، وسارا معًا إلى الرواق، حيث ظلا يرقصان.
كان جوليان لوكليرك رجلًا وسيمًا، في أوائل الثلاثينيات من عمره، لكنه لم يكن من النوع الذي تُفضِّله نيكول. بادئ ذي بدء، بدا لها لوكليرك مغرورًا جدًّا. فكان يتحدث عن نفسه طوال الوقت ولا ينتبه إذا ما تغير موضوع الحديث. ومع كونه مطربًا موهوبًا، لم يكن يتمتع بأي صفات مميزة. أخذت نيكول تفكر وهي ترى رقصهما المستمر يسترعي انتباه الحضور: «لكنه راقص جيد، وهذا أفضل من أن أقف لا أفعل شيئًا.»
وخلال فترة توقف الموسيقى، أتت فرانشيسكا للتحدث معهما. وقالت لنيكول وقد بدت ابتسامتها العريضة صادقة: «حسنًا صنعتِ يا نيكول. يسعدني أن أراكِ تستمتعين بوقتك.» ومدَّت صينية صغيرة بها نصف دستة من كرات الشوكولاتة عليها القليل من مادة بيضاء، من المحتمل أن تكون حلوى سكر. وقالت: «إنها رائعة. لقد أعددتها خاصة من أجل طاقم نيوتن.»
اختارت نيكول واحدة من كرات الشوكولاتة ووضعتها في فمها. وكانت فعلًا لذيذة. وأكملت فرانشيسكا حديثها بعد ثوانٍ معدودة: «هل من الممكن أن تُسدي لي خدمة؟ نظرًا لأني لم أستطِع قط أن أحدد موعد لقاء خاص معكِ، وتشير معدلات البريد أن الملايين من الجماهير يتطلعون لمعرفة المزيد عنك، هل تعتقدين أنه يمكنك الحضور إلى الاستوديو الموجود هنا ومنحي عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة من وقتك قبل منتصف الليل؟»
حدَّقت نيكول بثبات في فرانشيسكا. كان صوتٌ داخلها يرسل لها رسالة تحذير، لكن عقلها كان يشوش على الرسالة.
قال جوليان لوكليرك في حين كانت السيدتان تنظران إحداهما إلى الأخرى: «أنا أوافق. فالصحافة دائمًا ما تتحدث عن «الرائدة الفضائية الغامضة» أو تشير إليها بعبارة «أميرة الثلج». أريهم ما أريتِني الليلة، أنكِ امرأة طبيعية وسليمة مثل الآخرين.»
فقررت نيكول أخيرًا، كابحةً صوتها الداخلي: «ولمَ لا؟ على الأقل لن يكون عليَّ أن أقحم أبي وجينيفيف في الأمر إذا ما أجريت المقابلة هنا.»
كان الجميع قد بدءوا في السير إلى الاستوديو المؤقت في الجانب الآخر من الرواق عندما رأت نيكول شيجيرو تاكاجيشي عبر الغرفة. كان شيجيرو يستند إلى عمود ويتحدث إلى ثلاثة رجال أعمال يابانيين يرتدون ملابس رسمية. فقالت نيكول لرفقائها: «انتظروني لحظة، سأعود على الفور.»
حيَّته نيكول باليابانية قائلة: «عام سعيد يا سيد تاكاجيشي.» فاستدار العالم الياباني وقد تفاجأ في بادئ الأمر، ثم ابتسم عندما رآها تقترب. وبعد أن قدَّم نيكول إلى رفقته، وانحنوا جميعًا تحيةً لها، بدأ تاكاجيشي الحديث معها بأدب.
سألها: «كيف حالك؟»
أجابته: «بخير، شكرًا لك.» مالت نيكول نحو زميلها الياباني، وهمست في أذنه. «ليس لديَّ من الوقت إلا دقيقة. وأردت أن أخبرك أنني فحصت جميع سِجلاتك الطبية بعناية، وأتفق تمامًا مع طبيبك الخاص. فلا داعي لإخبار اللجنة الطبية بمشكلات قلبك.»
انفرجت أسارير الدكتور تاكاجيشي وبدا كما لو أن أحدًا أخبره للتو بأن زوجته وضعت ولدًا بصحة جيدة. فهَمَّ بإخبار نيكول بأمر شخصي لكنه تذكر أنه وسط رفقة من أبناء وطنه. فقال لنيكول، التي كانت تتراجع للوراء: «شكرًا جزيلًا»، وكانت عيناه الودودتان تعكسان عمق امتنانه.
شعرت نيكول بإحساس رائع وهي تنطلق إلى داخل الاستوديو وبجانبها فرانشيسكا ولوكليرك. ووقفت طواعية للمصورين في حين تأكدت السيدة فرانشيسكا من أن المعدات التلفزيونية جاهزة لإجراء المقابلة الشخصية. رشفت نيكول بعضًا من الشمبانيا ومشروب الكاسيس الكحولي، مع إجراء حديث مقتضب ومتقطع مع جوليان. وأخيرًا، جلست بجانب فرانشيسكا. وأخذت نيكول تفكر بشأن الحوار الذي حدث بينها وبين تاكاجيشي: «ما أروع مساعدة مثل ذلك الرجل العبقري.»
كان السؤال الأول الذي وجهته فرانشيسكا بريئًا للغاية. فقد سألت نيكول عما إذا كانت متحمسة للمهمة القادمة. فأجابت نيكول: «بالطبع.» ثم أعطت ملخصًا عن التدريبات البدنية التي خاضها طاقم رواد الفضاء وهم في انتظار فرصة لقاء مركبة راما الفضائية الثانية. جرت المقابلة الشخصية بالكامل باللغة الإنجليزية. وتدفقت الأسئلة بطريقة منظمة. وطلبت من نيكول أن تصف دورها في المهمة، وماذا تتوقع أن تكتشف («لا أعلم في الحقيقة، لكن أيًّا كان ما سنجده فسيكون شيقًا للغاية»)، وما الذي جعلها تلتحق بأكاديمية الفضاء في المقام الأول. وبعد مرور خمس دقائق، كانت نيكول تشعر بالراحة والطمأنينة، وبدا لها أنه أصبح بينها وبين فرانشيسكا تناغم.
ثم وجَّهت فرانشيسكا لنيكول ثلاثة أسئلة شخصية، أولها عن أبيها، والثاني عن أمها وقبيلة سينوفو بساحل العاج، أما السؤال الثالث فكان عن حياتها مع جينيفيف. ولم يكن أيٌّ من الأسئلة الثلاثة صعبًا. ومن ثَم لم تكن نيكول مستعدة للسؤال الأخير.
قالت فرانشيسكا بنفس النبرة والطريقة التي طرحت بها الأسئلة السابقة: «عند النظر لصور ابنتك، يتضح أن لون بشرتها أفتح من بشرتك. إن ذلك يشير إلى أن والدها كان على الأرجح أبيض البشرة. فمن هو والد ابنتك؟»
شعرت نيكول بضربات قلبها تتسارع وهي تستمع إلى السؤال. وبدا أن الزمن قد توقف عند هذه اللحظة. واجتاحها فيض من المشاعر الجياشة، وشعرت بالخوف من أن تبكي. فوثبت إلى مخيلتها صورة بارزة ونابضة بالحياة لجسمَين متشابكين تعكسهما مرآة كبيرة، وجعلتها تلهث. فنظرت إلى الأرض عند قدميها لحظة، محاولةً إعادة توازنها.
فقالت نيكول لنفسها وهي تكافح من أجل أن تخفف من حدة غضبها وألمها، وتتذكر الحب الذي اجتاح قلبها كالموجة العنيفة: «يا لكِ من امرأة حمقاء. كان يجب أن يكون تصرفك أفضل من ذلك.» ومرة أخرى، أوشكت دموعها أن تسيل، لكنها غالبتها. ونظرت إلى الأضواء وإلى فرانشيسكا. وبدا لنيكول كما لو أن الترتر الذهبي الموجود في مقدمة ثوب الصحفية الإيطالية يمثل شكلًا ما. فقد تمثل لها الترتر كرأس هرة كبيرة، وكانت عيناها تلمعان، وفمها ذو الأسنان الحادَّة يوشك أن ينفتح.
وأخيرًا، وبعد فترة صمت بدت أنها ستستمر أبد الدهر، شعرت نيكول بأنها استعادت السيطرة على مشاعرها. فنظرت إلى فرانشيسكا بغضب، وقالت بهدوء مستخدمةً اللغة الإيطالية: «لا أريد التحدث في هذا الموضوع. لقد انتهينا من هذه المقابلة الشخصية.» نهضت نيكول وجلست مرة أخرى عندما وجدت نفسها ترتجف. كانت الكاميرات لا تزال دائرة. وأخذت تتنفس بعمق لعدة ثوانٍ. وفي النهاية، قامت نيكول وسارت إلى خارج الاستوديو المؤقت.
كانت نيكول تريد أن تلوذ بالفرار، وأن تهرب من كل شيء، وأن تذهب إلى مكان منعزل حيث يمكنها أن تُترك وحيدة مع مشاعرها الخاصة. لكن هذا كان ضربًا من ضروب المستحيل. فقد جذبها جوليان من ذراعها وهي تخرج من المقابلة. وقال مشيرًا بأصابع الاتهام إلى فرانشيسكا: «يا لها من امرأة سافلة!» كان الناس يحيطون بنيكول من كل جانب. وجميعهم يتحدثون في الوقت نفسه. وكانت تواجه مشكلة في تركيز سمعها وبصرها وسط كل هذا التشويش.
ومن بعيد سمعت نيكول موسيقى لأغنية ميَّزت ألحانها قليلًا، لكن مضى أكثر من نصف الأغنية قبل أن تدرك أنها أغنية «نشيد الوداع» (أولد لانج ساين). وضع جوليان ذراعه حول ظهرها وأخذ يغني بقوة. وكان أيضًا يقود مجموعة من حوالي عشرين شخصًا متجمعين حولهما في غناء الكلمات الأخيرة من الأغنية. وشاركت نيكول في غناء المقطوعة الأخيرة بصورة تلقائية محاولةً الحفاظ على توازنها. وفجأةً وجدت شفتين رطبتين تضغطان على شفتيها بقوة، ووجدت لسانًا مفعمًا بالحيوية يحاول فتح فمها واختراقه إلى الداخل. لقد كان جوليان يقبلها بانفعال شديد، وكان المصورون يلتقطون الصور من جميع الجوانب، وكان المكان يعج بالضوضاء. بدأ رأس نيكول في الدوران، وشعرت كما لو أنها ستفقد وعيها. فأخذت تقاوم بقوة، حتى نجحت في تحرير نفسها من قبضة جوليان.
مالت نيكول إلى الخلف فاصطدمت بريجي ويلسون وكان يستعر غضبًا. فدفعها بعيدًا نظرًا لتعجله للإمساك بشخصين يتبادلان قبلة عنيفة احتفالًا بالعام الجديد تحت الأضواء الوامضة. راقبته نيكول بعدم اكتراث، كما لو أنها تشاهد فيلمًا سينمائيًّا، بل كأنها في حلم من أحلامها. جذب ريجي الشخصين وفرَّقهما، ورفع ذراعه اليمنى كما لو كان سيضرب الرجل.
أمسكت فرانشيسكا ساباتيني به لتمنعه في حين تراجع ديفيد براون المرتبك عن حضنها.
صاح ريجي، وهو لا يزال يهدد العالم الأمريكي: «ابعد يدك عنها أيها السافل. ولا تحسب أنني غافل عما تفعل.» لم تستطِع نيكول أن تصدق ما ترى. فلم يكن ما يحدث منطقيًّا. وخلال ثوانٍ معدودة كانت الغرفة مليئة برجال الأمن.
كانت نيكول من ضمن العديد من الناس الذين أبعدوا عن المشاجرة على الفور في حين كان رجال الأمن يعيدون النظام للمكان. وفي طريقها إلى خارج منطقة الاستوديو صادفت إلين براون جالسةً بمفردها في الرواق ومستندة إلى عمود. لقد قابلت نيكول إلين واستمتعت بصحبتها عندما ذهبت إلى دالاس للتحدث إلى طبيب عائلة ديفيد براون عن الحساسية التي يعانيها. في ذلك الوقت كانت إلين ثملة تمامًا وفي حالة لا تسمح لها بالحديث مع أي شخص. فسمعتها نيكول تتذمر: «أيها الحثالة، كان يجب عليَّ ألا أريك النتائج قبل أن أنشرها بنفسي. ووقتها كان الأمر سيختلف.»
•••
ما إن تدبَّرت نيكول أمر وسيلة المواصلات التي ستُقلها إلى روما، حتى غادرت الحفل. ومن الغريب أن فرانشيسكا حاولت مصاحبتها إلى السيارة كأن شيئًا لم يكن. لكن نيكول رفضت عرضها بجفاء وسارت بمفردها.
بدأت قطرات الثلج تتساقط وهي في طريق العودة إلى الفندق. وكانت نيكول تسبح بخيالها في حبات الثلج الرقيقة المتساقطة، وتمكنت تدريجيًّا من تصفية ذهنها بما يكفي لتقييم أحداث الأمسية. ولم تكن متأكدة إلا من أمر واحد. هذا الشيء هو أن كرة الشوكولاتة التي تناولتها كانت تحتوي على شيء غريب وشديد القوة. فلم يحدث من قبلُ أن أوشكت نيكول على فقد السيطرة على مشاعرها بتلك الدرجة. وفكرت نيكول: «ربما تكون قد أعطت ويلسون كرة من تلك الشوكولاتة هو الآخر. وهذا قد يفسر إلى حدٍّ ما شدة انفعاله.» ولكنها عادت تسأل نفسها. «لكن لماذا فعلت ذلك؟ وما الذي تحاول فعله؟»
وعند عودتها إلى الفندق، استعدَّت نيكول سريعًا للخلود إلى النوم. لكن ما إن أوشكت على إطفاء الأنوار، حتى ظنت أنها سمعت نقرًا خفيفًا على الباب. فتوقفت وأخذت تنصت، ومرَّت ثوانٍ دون أن تسمع شيئًا. وقد أوشكت أن تقنع نفسها بأن الأمر قد خُيل لها، لكن صوت الدق على الباب عاد من جديد. ارتدت نيكول ثوبها وأخذت تقترب من الباب المغلق بحذر شديد. فقالت بقوة زائفة: «من الطارق؟ من أنت؟»
سمعت نيكول صوت إلقاء شيء ما، واندفعت ورقة مطوية من أسفل الباب. التقطت نيكول الورقة، وهي لا تزال تتصرف بحذر وخوف، وفتحتها. وكان مكتوبًا بها ثلاث كلمات، بحروف قبيلة أمها سينوفو الأصلية: «روناتا». و«أوميه». و«هنا». وكلمة روناتا هي مقابل اسم نيكول في لغة قبيلة سينوفو.
مزيج من الذعر والإثارة دفع نيكول لفتح الباب دون أن تنظر إلى الشاشة أولًا لترى من بالخارج. فرأت رجلًا مسنًّا تبدو عليه الحكمة، ومرسوم على وجهه خطوط خضراء وبيضاء بشكل أفقي، واقفًا على بعد عشر أقدام وعينه الهرمة العجيبة مثبتة عليها. ويرتدي زيًّا قبليًّا كاملًا ذا لون أخضر فاتح، يشبه الرداء، وبه تموجات ذهبية ومجموعة من الرسومات الخطية التي لا تعطي معنًى واضحًا.
قالت نيكول بلغة سينوفو، وقلبها يكاد يقفز من صدرها «أوميه! ماذا تفعل هنا؟»
لم يتفوه الرجل الأسمر المسن بكلمة. وكان يحمل في يده اليمنى حجرًا وقارورة صغيرة من نوع ما. وبعد ثوانٍ، خطا بخُطًا ثابتة إلى داخل الغرفة. وكانت نيكول تتراجع مع كل خطوة يخطوها. ولم تتزحزح عينه من عليها. وما إن أصبحا في منتصف الغرفة، ولم يكن يفصل بينهما إلا مسافة ثلاث أقدام أو أربع، حتى نظر الرجل المسن إلى سقف الغرفة وبدأ يغني ترنيمة خاصة بقبيلة سينوفو. وكانت مباركة وتعويذة استخدمها الكهنة في القبيلة منذ مئات السنين لطرد الأرواح الشريرة.
وعندما انتهى الرجل المسن أوميه من الغناء، أخذ يحدق مرةً أخرى في نيكول، وهي ابنة أحد أحفاده، وبدأ يتحدث ببطء شديد. فقال: «روناتا، إنني شعرت بخطر كبير في هذه الحياة. إنه مذكور في كتاب تاريخ القبيلة أن الرجل الذي يعيش ثلاثة قرون سوف يطارد الشياطين ليبعدهم عن السيدة التي بلا رفيق. لكن أوميه لا يستطيع أن يحمي روناتا بعد رحيلها عن مملكة ميناو. خذي»، وأخذ يدها ووضع فيها الحجر والقارورة: «يجب أن تبقيهما معكِ دائمًا.»
نظرت نيكول إلى الحجر، ولم يكن إلا حجرًا بيضاوي الشكل وأملس ولامعًا، ويبلغ طوله ما يقرب من ثماني بوصات، ويبلغ بُعداه الآخران أربع بوصات. وهو حجر أبيض بلون القشدة ويتخلل سطحَه خطوطٌ بنية مموجة غريبة الشكل. ولم تكن القارورة الصغيرة الخضراء التي أعطاها إياها أكبر من زجاجة العطر التي يصطحبها المسافر معه.
قال أوميه: «قد تساعد المياه المستخرجة من بحيرة الحكمة. وستعرفين الوقت الذي يجب أن تشربي فيه منها.» أمال أوميه رأسه إلى الخلف وأعاد بحماس ترتيل الأغنية التي سبق وغناها، لكن في هذه المرة كانت عيناه مغمضتين. وقفت نيكول بجانبه وهي صامتة ومرتبكة، وفي يدها اليمنى الحجر والقارورة. وعندما فرغ أوميه من الغناء صاح بثلاث كلمات لم تفهمها نيكول. ثم استدار فجأة وسار بسرعةٍ صوب الباب المفتوح. شعرت نيكول بالفزع، فجرت خارجة إلى الردهة لترى رداءه الأخضر يتلاشى في المصعد.