راما، راما تركض كالنار الملتهبة
كان الهبوط بالقرب من مدخل السفينة راما هادئًا ودون وقوع حوادث. وعلى غرار ما حدث منذ سبعين عامًا مع القائد نورتون، أمر الجنرال بورزوف كلًّا من ياماناكا وتورجينيف بإرشاد سفينة نيوتن لنقطة اتصال خارج القرص الدائري الذي يمتد مائة متر، والمتمركز على المحور الدوار للأسطوانة العملاقة. وكانت مجموعة من هياكل منخفضة على شكل علبة صغيرة تُثبِّت سفينة الفضاء القادمة من الأرض، ومقاومة قوة الطرد المركزية الخفيفة التي أحدثتها السفينة الفضائية الدوَّارة. وفي غضون عشر دقائق كان هناك أدوات تثبيت قوية تربط سفينة الفضاء الخاصة بطاقم نيوتن بهدفها بقوة.
وكما كان متوقعًا، كان القرص الكبير هو القفل الخارجي للسد الهوائي للسفينة راما الذي يسمح بمرور الأشخاص إلى داخلها دون أن يتأثر ضغط الهواء بها. غادر ويكفيلد وتابوري سفينة فضاء نيوتن مرتديين ملابس المهام الخارجية، وبدآ في البحث عن عجلة مثبتة، وهي أداة التحكم اليدوي في السد الهوائي. كانت العجلة المثبتة في المكان المتوقع بالضبط. فدارت العجلة كما كان متوقعًا، وكشفت عن فتحة في الطبقة الخارجية لراما. ونظرًا لأنه لم يبدُ أي اختلاف حتى الآن بين راما ٢ وسابقتها، استمر رائدا الفضاء في اتباع إجراءات الدخول.
وبعد مرور أربع ساعات، وبعد التحرك جيئة وذهابًا في الممرات والأنفاق التي تمتد لمسافة نصف كيلومتر وتربط الجزء الداخلي المجوَّف الضخم لسفينة الفضاء الدخيلة بالسد الهوائي الخارجي، انتهى الرائدان من فتح الأبواب الأسطوانية الثلاثة المخصصة للاستخدام عند الطوارئ. علاوةً على ذلك حرَّكا المركبة التي ستنقل البشر والمعدات من نيوتن إلى داخل راما. لقد صمَّم تلك المركبةَ المهندسون في كوكب الأرض بغرض الانزلاق على طول الأخاديد المتوازية التي حفرها سكان راما في جدران الأنفاق الخارجية من قديم الأزل.
وبعد أن نال ياماناكا فترة راحة قصيرة لتناول الغداء انضم إلى ويكفيلد وتابوري، وأنشأ الثلاثة محطة الاتصالات ألفا المخطط لها في النهاية الداخلية للنفق. وقد صُمِّمت نماذج أجهزة الهوائي المنظمة بعناية كي يكون من الممكن إجراء اتصال متبادل بين رواد الفضاء في أي مكان على السلالم أو في النصف الشمالي من السهل المركزي، إذا كانت سفينة راما الفضائية الثانية مطابقة لسفينة راما الفضائية الأولى. وتقتضي خطة الاتصالات الرئيسية إنشاء محطة رئيسية أخرى، ستُسمى «بيتا»، بالقرب من البحر الأسطواني؛ وستقدم المحطتان روابط اتصال قوية في كل مكان في نصف الأسطوانة الشمالي، بل أيضًا تمتد حتى جزيرة نيويورك.
اتخذ براون وتاكاجيشي مكانيهما في مركز التحكم فور التأكد من تشغيل المحطة ألفا. وبدأ العد التنازلي لعملية نشر طائرات الاستطلاع الداخلية. وعندما أنهى تاكاجيشي إجراء اختبارات ما قبل التحليق على طائرته كان من الواضح عليه أنه يشعر بالتوتر والإثارة في آنٍ واحد. أما براون فقد بدت عليه علامات الاسترخاء، بل اللامبالاة، عندما أنهى استعداداته النهائية. وكانت فرانشيسكا جالسةً أمام الشاشات المتعددة، وجاهزة لاختيار أفضل الصور لتبثَّها إلى الأرض بثًّا فوريًّا.
وقد شرح الجنرال بورزوف بنفسه الأحداث الرئيسية التي ستُنفَّذ بالتسلسل. وصمت قليلًا ليأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يصدر أمر تشغيل طائرتَي الاستطلاع. ثم حلقت الطائرتان في الفضاء المظلم لراما. وبعد مرور ثوانٍ غمر الضوء الشاشة الرئيسية في مركز التحكم، التي بُثَّت صورتها مباشرةً من الطائرة التي يقودها براون، لدى إضاءة أول ضوء. وعندما أصبحت هناك إمكانية للرؤية من خلال الضوء ظهر شكل أول صورة عريضة الزاوية. كان من المخطط دائمًا أن تكون الصورة الأولى مؤلفة من نصف الأسطوانة الشمالي، الذي يغطي جميع المنطقة الممتدة من الطرف المجوف حيث دخلوا إلى البحر الأسطواني في منتصف العالم الاصطناعي. كانت الصورة الواضحة التي تجمدت في النهاية على الشاشة قوية للغاية. فقد كان الأمر يختلف عند القراءة عن راما وإجراء تدريبات محاكاة داخل نموذج مشابه لها، عن الرُّسو على سفينة الفضاء العملاقة بالقرب من مدار عطارد، وعن أن تلقي النظرة الأولى داخل …
وقد حد من هول المشهد بدرجة قليلة كونُه مألوفًا. في نهاية التجويف الذي يأخذ شكل فوهة البركان، بداية من الأنفاق، مجموعة من الأراضي شبه المستوية والمنحدرات الممتدة حتى الجسم الرئيسي للأسطوانة الدوَّارة. قسمت ثلاثة سلالم عريضة هذا التجويف إلى ثلاثة أقسام، لتشبه بذلك قضبان سكك حديدية عريضة، يمتد كلٌّ منها ليصبح سلالم هائلة، يتألف كلٌّ منها مما يزيد عن ثلاثين ألف درجة. إن مجموعة السلالم تشبه ثلاثة أضلاع من مظلة وممتدة على مسافات متساوية، وتوفر طريقًا للصعود (أو النزول) من القاع المسطح للتجويف إلى السهل المركزي الشاسع الملتف حول جدران الأسطوانة الدوارة.
يمتد النصف الشمالي من السهل المركزي ليملأ أغلب الصورة الظاهرة على الشاشة. وانقسمت المنطقة المترامية الأطراف إلى حقولٍ مستطيلة الشكل ذات أبعاد غير منتظمة ما عدا المنطقة المحيطة ﺑ «المدن» مباشرة. وقد تمكَّن أفراد الطاقم من التعرف على المدن الثلاثة الظاهرة على الصورة ذات الزاوية العريضة — التي تحتوي على مجموعات من الهياكل الطويلة والرفيعة، وتشبه المباني التي يشيدها الإنسان، وبعضها مرتبط ببعض بما يشبه الطرق الرئيسية التي تمتد على طول حدود الحقول — على الفور بأنها فرنسا وروما ولندن كما أطلق عليها مستكشفو راما الأوائل. وكان من المدهش أيضًا، في الصورة، الأخاديد أو الأودية الطويلة والمستقيمة الموجودة في السهل المركزي. وكانت تلك الخنادق الثلاثة الطولية، التي تمتد على طول عشرة كيلومترات وعرض مائة متر، ممتدة على مسافات متساوية حول منحنى راما. وفي خلال المواجهة الأولى مع سكان راما كانت تلك الأودية مصدر الضوء الذي ساد «العالم المصغر» بعد فترة قصيرة من ذوبان البحر الأسطواني.
كان البحر الغريب، وهو مجرًى مائي يجري بأكمله حول الأسطوانة الهائلة، يقع على الحد البعيد للصورة. ولا يزال متجمدًا، كما كان متوقعًا، وفي مركزه الجزيرة الغامضة التي تحوي ناطحات سحاب شاهقة أُطلق عليها نيويورك منذ اكتشافها الأول. وكانت ناطحات السحاب تلك تمتد لتتخطى نهاية الصورة، حيث تجذبك البروج المشيدة لزيارتها.
ظل جميع أفراد الطاقم يحدقون في الصورة في صمت لما يقرب من الدقيقة. قطع دكتور ديفيد براون الصمت مستهزئًا. وقال بنبرة متكبرة: «حسنًا، راما!» وأردف يقول بصوت عالٍ بما يكفي ليسمعه الجميع: «هل ترون جميعكم أيها المشككون؟ إنها مثل السفينة راما ١ بالضبط.» أدارت فرانشيسكا كاميرا الفيديو لتسجل لحظة تهلل وجه براون. وكان أغلب أفراد الطاقم لا يزالون صامتين ومفتونين بالتفاصيل الظاهرة على الشاشة.
وفي غضون ذلك كانت طائرة الاستطلاع الخاصة بتاكاجيشي تبث صورًا ذات زاوية ضيقة للمنطقة الواقعة أسفل النفق مباشرة. كانت تلك الصور تظهر على أصغر الشاشات حجمًا المنتشرة حول مركز التحكم. وستستخدم تلك الصورة في إعادة التحقق من تصميمات البنية التحتية للاتصالات ووسائل النقل التي ستؤسس داخل راما. كانت تلك هي «المَهمَّة» الفعلية المقرر القيام بها في هذه المرحلة من المهمة؛ مقارنة آلاف الصور التي ستلتقطها طائرتا الاستطلاع بصور الفُسيفساء من راما. ومع أن أغلب المقارنات كان يمكن إجراؤها بصورة رقمية (ومن ثَم على نحو آلي)، فسيكون هناك دائمًا اختلافات تحتاج إلى التدخل البشري. فحتى إن اتضح أن سفينتَي الفضاء راما متطابقتان، فاختلاف مستوى الضوء في وقت التقاط الصور يتسبب في حدوث مقارنة غير دقيقة.
وبعد مرور ساعتين عادت آخر طائرة استطلاع إلى المحطة وتم إعداد ملخص أولي للمسح الفوتوغرافي. لم تكن هناك اختلافات تركيبية جوهرية بين راما ٢ وراما ١ على مقياس دقة يصل إلى مائة متر. أما المنطقة البارزة الوحيدة التي تعذر إبراز أوجه المقارنة عند تلك الدقة فكانت منطقة البحر الأسطواني ذاته، وكان من المعروف أن انعكاسية الجليد هي ظاهرة يصعب التعامل معها باستخدام خوارزمية مقارنة رقمية بسيطة. لقد كان يومًا طويلًا ومشوقًا. أعلن بورزوف أن مهام الطاقم في الرحلة الأولى سوف تُعلن في غضون ساعة، وأن «عشاءً خاصًّا» سيُقام في مركز التحكم بعد ساعتين.
•••
«لا يمكنك فعل هذا.» هكذا صاح ديفيد براون الغاضب، مندفعًا إلى مكتب القائد دون أن يطرق الباب، ومُلوحًا بنسخة مطبوعة من مهام الرحلة الأولى.
أجابه الجنرال بورزوف: «ما الذي تتحدث عنه؟» كان الجنرال منزعجًا من الطريقة الفظة التي دخل بها براون مكتبه.
أكمل براون حديثه بصوت مرتفع: «لا بد أن هناك خطأً ما. هل حقًّا تتوقع مني أن أجلس هنا في السفينة نيوتن خلال الرحلة الأولى؟» لكن عندما لم يجد العالم الأمريكي استجابة من الجنرال بورزوف بدأ في تغيير أسلوبه. فقال: «لتعلم أنني لن أقبل بهذا. وإدارة وكالة الفضاء العالمية لن تقبله أيضًا.»
نهض بورزوف من وراء مكتبه. وقال بهدوء: «أغلق الباب يا دكتور براون.» صفع براون الباب المنزلق. فأردف الجنرال: «والآن أصغِ إليَّ دقيقة. أنا لا آبه بالأشخاص الذين تعرفهم. فأنا قائد هذه المهمة. وإن استمررت في التصرف بتلك الطريقة المتعجرفة فسوف أحرص على ألا تطأ قدمك أعتاب راما مطلقًا.»
غضَّ براون صوته. وقال بعداء واضح: «لكني أريد تفسيرًا لما يحدث. فأنا كبير العلماء في هذه المهمة. وأنا أيضًا المتحدث الأول لمشروع نيوتن أمام وسائل الإعلام. فكيف ستفسر تركي على متن السفينة نيوتن وترسل بتسعة رواد آخرين إلى راما؟»
فأجابه بورزوف، مستمتعًا بسلطته على الأمريكي المتكبر: «ليس عليَّ تبرير أفعالي.» ثم مال للأمام. وأردف قائلًا: «لكن لمجرد العلم، ولأنني كنت أتوقع أن يصدر عنك ذلك الغضب الصبياني، سأخبرك بسبب استبعادك من الرحلة الأولى. هناك غرضان أساسيان من زيارتنا الأولى؛ أولًا: تأسيس بنية تحتية للاتصالات والنقل، ثانيًا: مسح مفصل للجزء الداخلي للسفينة راما، للتأكد من أن هذه المركبة مطابقة تمامًا للسفينة الأولى …»
قاطعه براون: «لقد تأكدنا من ذلك عن طريق طائرات الاستطلاع.»
رد عليه بورزوف: «لكن تاكاجيشي يرى غير ذلك. ويقول إن …»
«اللعنة يا جنرال، لن يقتنع تاكاجيشي حتى يتأكد أن كل سنتيمتر مربع من راما يطابق المركبة الأولى. لقد رأيت تقرير طائرات الاستطلاع بنفسك. هل يخالجك أي شك …»
توقف براون عن الحديث في منتصف الجملة. كان الجنرال بورزوف ينقر بأصابعه على المكتب محدقًا في دكتور براون بنظرة باردة. قال بورزوف في النهاية: «هل ستدعني أنهي حديثي الآن؟» انتظر عدة ثوانٍ أخرى، ثم أكمل: «أيًّا كان ما تعتقد، فدكتور تاكاجيشي يُعد أكثر علماء العالم خبرة بالأجزاء الداخلية لراما. ولا يمكنك الزعم، ولو لدقيقة، أن معرفتك بتفاصيل المركبة تقترب من معرفته. وأحتاج إلى رواد الفضاء الخمسة جميعًا لتأسيس البنية التحتية. ويجب أن يذهب معهم الصحفيان، ليس فقط لأنه توجد مهمتان منفصلتان، بل لأن انتباه العالم مُوجَّه نحونا في هذا الوقت. وأخيرًا أعتقد أنه من المهم لكي أستطيع قيادة هذه المهمة في المستقبل أن أذهب إلى داخل السفينة بنفسي ولو مرة واحدة على الأقل، وأرى أن أقوم بتلك الزيارة الآن. ونظرًا لأن النظام يقضي صراحةً ببقاء ثلاثة من أعضاء الطاقم خارج راما خلال الغارات الأولى، فليس من الصعب التوصل إلى …»
قاطعه ديفيد براون بخبث، قائلًا: «لن أنخدع بكلامك ولو لحظة واحدة. فأنا أعلم حقيقة الأمر. لقد اختلقت عذرًا يبدو منطقيًّا لتخفي السبب الحقيقي لاستبعادي من فريق الرحلة الأولى. أنت تغار مني يا بورزوف. فأنت لا تستطيع تحمُّل حقيقة أن معظم الناس يعتبرونني القائد الفعلي لهذه المهمة.»
أخذ القائد يحدق في العالم ما يزيد على خمس عشرة ثانية دون أن يتفوه بكلمة. وأخيرًا قال: «هل تعلم يا براون أنني أشعر بالأسف لك. فأنت موهوب بشدة، لكن إيمانك بموهبتك تلك يفوق حجم موهبتك الفعلية. لو لم تكن …» والآن جاء دور بورزوف ليوقف نفسه عن الحديث في منتصف الجملة. فحوَّل نظره بعيدًا. ثم أردف: «وعلى كل حال، بما أنني أعرف أنك ستعود إلى غرفتك وتسارع بالشكوى إلى وكالة الفضاء العالمية، ينبغي على الأرجح أن أخبرك أن تقرير اللياقة الذي قدمته الطبيبة المسئولة يوصي بعدم إشراكك في أيٍّ من واجبات المهمة مع ويلسون؛ نظرًا للعداء الشخصي الظاهر بينكما.»
نظر براون شزرًا. وقال: «هل تقصد أن نيكول دي جاردان رفعت مذكرة رسمية بالفعل تذكرني فيها وويلسون بالاسم؟»
فأومأ بورزوف بالإيجاب.
فغمغم براون: «السافلة.»
فقال الجنرال بورزوف، مبتسمًا لغريمه: «دائمًا ما يقع اللوم على شخص آخر، أليس كذلك يا دكتور براون؟»
استدار ديفيد براون، وخرج من المكتب يمشي الخُيلاء.
•••
أمر الجنرال بورزوف بفتح عدد من زجاجات النبيذ الثمينة من أجل المأدبة. وكان القائد في حالة مزاجية ممتازة. فقد كان اقتراح فرانشيسكا جيدًا حقًّا. كان هناك بالفعل شعور قوي بالزمالة الحقيقية بين الرواد وهم يحضرون الطاولات الصغيرة معًا في مركز التحكم ويثبتونها في الأرضية.
لم يحضر دكتور براون المأدبة. ومكث في غرفته في حين استمتع سائر أفراد الطاقم الأحد عشر بتناول الدجاج والأرز الهندي البري. صرحت فرانشيسكا بسذاجة أن براون «مريض»، لكن عندما تطوع جانوس مازحًا للذهاب للاطمئنان على صحته، أسرعت فرانشيسكا وأضافت أن الدكتور براون يرغب في أن يُترَك بمفرده. كان أمام جانوس وريتشارد ويكفيلد عدد كبير من كئوس الخمر، وكانا يمزحان مع فرانشيسكا عند أحد طرفَي الطاولة، في حين كان ويلسون والجنرال أوتول مشتركين منخرطين في مناقشة حامية حول موسم لعبة البيسبول القادم عند طرف الطاولة الآخر. كانت نيكول تجلس بين الجنرال بورزوف والفريق البحري هيلمان، وأخذت تستمع إلى ذكرياتهما التي تعود إلى أنشطة صنع السلام في الأيام الأولى لمرحلة ما بعد «الفوضى».
وعند الانتهاء من تناول الطعام استأذنت فرانشيسكا للرحيل. واختفت هي والدكتور تاكاجيشي لبضع دقائق. وعندما عادا طلبت فرانشيسكا من الرواد أن يديروا مقاعدهم لمواجهة الشاشة الضخمة. انطفأت الأنوار، وعرضت هي والدكتور تاكاجيشي مشهدًا خارجيًّا لراما على الشاشة. لكن ما ظهر على الشاشة لم يكن الأسطوانة ذات اللون الرمادي القاتم التي رآها الجميع من قبل. بل كانت هذه المرة ملونة بطريقة بارعة، باستخدام النظم الفرعية لمعالجة الصور، وأصبحت الآن أسطوانة سوداء تتخللها شرائط صفراء ذهبية. وكانت مؤخرة السفينة تبدو كالوجه تقريبًا. وساد صمت مؤقت في الغرفة قبل أن تبدأ فرانشيسكا في الإنشاد. تقول:
اقشعرَّ بدن نيكول وهي تستمتع إلى فرانشيسكا تبدأ في المقطع الشعري التالي.
أخذت نيكول تفكر: «هذا هو السؤال الحقيقي في النهاية. من الذي صنع هذه السفينة الفضائية العملاقة؟ فهذا هو أهم سؤال، فيما يتعلق بمصيرنا، من السؤال عن سبب صنعها.»
وعبر الطاولة كان الجنرال أوتول مفتونًا هو الآخر بإنشاد فرانشيسكا. وكان عقله يقاوم مرة أخرى الأسئلة الجوهرية نفسها التي كانت تزعجه منذ أن تقدم للاشتراك في المهمة في بادئ الأمر، فكان يتساءل: «إلهي، كيف يتكيف سكان راما أولئك في كونك؟ هل خلقتهم أولًا قبل أن تخلقنا؟ هل هم أبناء عمومتنا بصورة أو بأخرى؟ ولماذا أرسلتهم في هذا الوقت؟»
عندما أنهت فرانشيسكا القصيدة الصغيرة سادت فترة قصيرة من الصمت، ثم دوى صوت تصفيق تلقائي. وذكرت بتهذيب أن الدكتور تاكاجيشي هو الذي قدم جميع معلومات المعالجة التصويرية، وانحنى الرائد الياباني المحبوب في خجل. ثم نهض جانوس تابوري واقفًا على مقعده، وقال: «شيج وفرانشيسكا، أعتقد أنني أتحدث بلسان الجميع عندما أهنئكما على هذا الأداء المميز والمثير للتفكير. لقد جعلني أوشك، لكن ليس تمامًا، أن أشعر بالجدية إزاء ما سنقوم به غدًا.»
قال الجنرال بورزوف بعد أن نهض على رأس الطاولة ماسكًا زجاجة الفودكا الأوكرانية التي فتحها لتوه، وتناول منها بالفعل رشفتين قويتين: «بالمناسبة، حان الآن وقت إحياء تقليد روسي قديم؛ أن نشرب نخبًا. لم أحضر إلا زجاجتين فقط من هذا الكنز الوطني، وأعتزم مشاركتكم إياهما، رفقائي وزملائي في هذه الأمسية الخاصة جدًّا.»
وضع الزجاجتين في يد جنرال أوتول، واستخدم الأمريكي بمهارةٍ آلة توزيع الشراب لوضع الفودكا في كئوس صغيرة مغطاة ثم تمريرها عبر الطاولة. أكمل القائد: «وكما تعلم إيرينا تورجينيف، هناك دائمًا دودة صغيرة في قاع كل زجاجة فودكا أوكرانية. وهناك أسطورة تقول إن من يأكل هذه الدودة سيُمنح قوًى خاصة لمدة أربع وعشرين ساعة. وضع الفريق البحري هيلمان علامة أسفل كأسين باستخدام الأشعة تحت الحمراء. وسيسمح للشخصين اللذين يشربان من الكأسين اللذين يحملان العلامة أن يتناول كلٌّ منهما إحدى الدودتين الموجودتين في زجاجة الفودكا.»
وبعد لحظة، مرَّر جانوس جهاز الكشف بالأشعة تحت الحمراء إلى نيكول وعبَّر عن اشمئزازه بقول: «يا للقرف!». ذلك بعد أن تأكد أولًا من أن كأسه لا تحتوي على أي علامة. وأردف: «أنا سعيد بالخسارة في هذه المنافسة.»
كانت كأس نيكول تحمل العلامة بالجزء السفلي. فكانت أحد المحظوظين اللذين سيتمكنان من تناول دودة أوكرانية للتحلية. فوجدت نفسها تتساءل: «هل يجب أن أقدم على هذا؟» ثم أجابت نفسَها بالإيجاب لرؤيتها النظرة الجدية التي ارتسمت على وجه قائدها. فقالت في نفسها: «حسنًا، على الأرجح لن تقتلني. وعلى الأرجح سيكون الكحول قد أبطل ضرر أي حيوان طفيلي.»
وقد كان الكأس الثاني الذي يحمل العلامة بالجزء السفلي من نصيب الجنرال بورزوف نفسه. ابتسم الجنرال ووضع إحدى الدودتين الضئيلتين في كأسه والأخرى في كأس نيكول، ورفع كأسه في اتجاه سقف السفينة.
وقال: «لنشرب جميعًا نخب نجاح المَهمة. فالأيام والأسابيع القليلة القادمة ستكون أعظم مغامرة في حياة كلٍّ منا. ففي الحقيقة، نحن الاثنا عشر نُعد سفراء من البشر إلى ثقافة غريبة. فلنعقد العزم على أن يبذل كلٌّ منا ما في وسعه لتمثيل جنسنا البشري على النحو اللائق.»
نزع الجنرال الغطاء عن كأسه، مع حرصه على ألا يتسبب في اهتزازه، ثم شرب الكأس كله في رشفة واحدة. وقد ابتلع الدودة كاملةً. كما تناولت نيكول الدودة بسرعة، قائلةً في نفسها إن الشيء الوحيد الذي تناولته وكان مذاقه أسوأ من الدودة هو الدرنة الكريهة التي تناولتها خلال البورو في ساحل العاج.
وبعد تناول المزيد من الأنخاب بدأت أنوار الغرفة تخفت. فأعلن الجنرال بورزوف بإيماءة عظيمة: «والآن، إليكم من ستراتفورد مباشرة، يفخر طاقم نيوتن بأن يقدم إليكم ريتشارد ويكفيلد ومخلوقاته الآلية النابغة.» ساد الظلام الغرفة ما عدا مترًا مربعًا إلى شمال الطاولة حيث كان الضوء مسلطًا عليه من أعلى. وكان وسط الضوء نموذجًا داخليًّا لقلعة عتيقة. وكانت إنسانة آلية، يبلغ طولها عشرين سنتيمترًا وترتدي معطفًا، تتجول داخل إحدى الغرف. وفي بداية المشهد كانت ممسكة بخطاب تقرؤه. وبعد خطوات معدودة أنزلت يديها إلى جانبها وبدأت في الحديث.
قال جانوس مبتسمًا إلى نيكول: «أنا أعرف هذه السيدة. لقد قابلتها في مكان ما من قبل.»
فأجابت نيكول وهي مفتونة بدقة حركات السيدة ماكبث: «صه!» وأخذت تفكر: «إن ويكفيلد هذا عبقري. كيف يمكنه أن يصمم مثل هذه التفاصيل الفائقة الدقة ويحولها إلى هذه الأشياء الضئيلة؟» وقد ذُهلت نيكول بكمِّ التعبيرات التي ارتسمت على وجه الإنسانة الآلية.
وعندما بدأت نيكول تركز أكثر بدأت خشبة المسرح الصغيرة تسبح في خيالها. وقد نسيت للحظاتٍ أنها تشاهد مخلوقات آلية تؤدي مسرحية مصغَّرة. جاء رسول وأخبر السيدة ماكبث أن زوجها أوشك على الوصول، وأن الملك دانكان سيقضي الليلة في قلعتهما. شاهدت نيكول وجه السيدة ماكبث يتقد بتطلع طموح فور رحيل الرسول:
فكرت نيكول، وهي تطرف بعينيها لتتأكد أنهم لا يخدعونها: «يا إلهي، إنها تتغير!» وبالفعل كانت تتغير. فما إن نطقت بعبارة «جرِّديني هنا من أنوثتي» حتى بدأ شكلها يتغير. فتلاشى شكل النهد البارز في الرداء المعدني، واختفت استدارة الفخذ، وحتى نعومة الوجه اختفت. وأكمل دور السيدة ماكبث إنسانٌ آلي خنثى.
كانت نيكول مفتونة وتسبح في خيالٍ نتج عن خيالها الجامح وتأثير الكحول السريع. وكانت ملامح الوجه الجديد للإنسان الآلي تذكرها بصورة مبهَمة بشخص تعرفه. سمعت نيكول بلبلةً على يمينها، فاستدارت لتجد ريجي ويلسون يتحدث إلى فرانشيسكا بلهفة. أخذت نيكول تشطر نظرها بين فرانشيسكا والسيدة ماكبث، وقالت في نفسها: «وجدتها، إن الوجه الجديد للسيدة ماكبث يشبه فرانشيسكا.»
اجتاحت نيكول موجة من الخوف، وهو إحساس داخلي مُنذِر بوقوع مأساة؛ مما أدى إلى شعورها بالفزع. كان عقلها يحدثها: «إن شيئًا مفزعًا سيحدث.» تنفَّست بعمقٍ عدة مرات وحاولت تهدئة نفسها، لكن الإحساس الغريب الذي راودها لم يتركها. وعلى خشبة المسرح الصغيرة كانت المضيفة الكريمة ترحب بضيفها لتلك الليلة، الملك دانكان. وعلى يسار نيكول كانت فرانشيسكا تعرض على الجنرال بورزوف آخر جرعات النبيذ. فلم تستطِع نيكول أن تخفي رعبها.
فسألها جانوس: «ما الخَطب، يا نيكول؟» وكان يبدو عليها القلق.
فأجابته: «لا شيء» واستجمعت كل قُواها ونهضت واقفةً على قدميها. «لا بد أنني أكلت شيئًا ما أتعبني. سأذهب إلى غرفتي.»
فقال جانوس مازحًا: «لكنك ستُفوتين الفيلم الذي سيُعرَض بعد تناول العشاء.» افتعلت نيكول ابتسامة على وجهها. وساعدها جانوس على الوقوف على قدميها. استمعت نيكول إلى السيدة ماكبث وهي تعنف زوجها لجبنه، فانتابتها موجة أخرى من الخوف الذي ينذر بوقوع خَطب ما. فانتظرت حتى تراجعت موجة الارتفاع المفاجئ في نسبة الأدرينالين، ثم انسحبت بهدوء من المجموعة. وسارت ببطء إلى غرفتها.