الاختبار والتدريب
سار المخلوق المعدني الغريب بطول الجدار بحذر وببطء شديد، زاحفًا إلى أعلى متجهًا إلى الجزء المتدلي من السقف. لقد كان يشبه حيوان المُدرَّع لكنه نحيل، فجسده الحلزوني ذو المفاصل مغطًّى بصدفة رقيقة ملتفَّة حول مجموعة مضغوطة من الأدوات الإلكترونية على كلا الجانبين في منتصف أجزائه الثلاثة. وكانت هناك طائرة مروحية تُحلق على مسافة مترين من الجدار. ويخرج من مقدمتها ذراعٌ طويلة ومرنة تنتهي بكماشة تحاول إطباق مخلبَيها على ذلك المخلوق الغريب، إلا أنه أفلت عندما أوشكت أن تمسك به.
صاح جانوس تابوري متذمرًا: «اللعنة، إن الأمر شبه مستحيل مع استمرار تحرُّك الطائرة. وحتى في أفضل الأحوال لا يمكن العمل بدقة مع امتداد هذين المخلبين بكامل طولهما.» وألقى نظرة خاطفة على الطيار. ثم قال: «ولماذا لا يمكن لهذه الطائرة الرائعة أن تحافظ على ارتفاعها وثباتها؟»
فأمره الدكتور ديفيد براون، قائلًا: «تحرك بالطائرة لتصبح أكثر قربًا من الجدار!»
نظر هيرو ياماناكا إلى براون دون أن ينطق بكلمة، وأدخل أمرًا إلى لوحة التحكم. فأومضت الشاشة التي أمامه باللون الأحمر، وظهرت رسالة تقول: «الأمر مرفوض. قدرة تحمُّل غير كافية.» لم ينبس ياماناكا ببنت شفة. وظلت الطائرة تُحلق في مكانها نفسه.
فكر براون بصوت عالٍ، قائلًا: «هناك مسافة خمسين سنتيمترًا أو ربما خمسة وسبعين بين مروحة الطائرة والجدار. وسيصبح ذلك الكائن الآلي آمنًا عندما يستقر تحت ذلك الجزء المتدلي بعد دقيقتين أو ثلاث. فلننتقل إلى التحكم اليدوي ونحاول الإمساك به. افعل ذلك الآن. ولا ترتكب أي خطأ هذه المرة يا تابوري.»
حدَّق هيرو ياماناكا لحظة برِيبة في العالم الأصلع الذي يرتدي نظارةً طبية، والجالس على مقعدٍ خلفه. ثم التفت الطيار وأدخل أمرًا آخر إلى لوحة التحكم، وحوَّل المقبض الأسود الكبير إلى اليسار. فأومضت الشاشة برسالة تقول: «الطائرة الآن في وضع التحكم اليدوي. لا توجد حماية آلية.» فأخذ ياماناكا يقترب بالطائرة من الجدار بحذر.
كان المهندس تابوري مستعدًّا. فأدخل يديه في القفازات المزوَّدة بأدوات تحكم، واختبر فتح وإغلاق المخالب الموجودة في نهاية الذراع المرن. ومرةً أخرى امتدَّت الذراع وأطبقت المخالب الآلية بخفة على الحيوان الحلزوني ذي المفاصل وعلى صَدفته. أدرك تابوري أنه نجح في الإمساك بفريسته عن طريق رد الفعل الصادر عن أجهزة الاستشعار المزوَّد بها القفازان. فصاح مُهللًا «لقد نجحت!» ثم بدأ عملية نقل الفريسة إلى الطائرة المروحية ببطء.
وهنا هبَّت رياح مفاجئة جعلت الطائرة تميل يسارًا، فاصطدمت الذراع والكائن الآلي بالجدار. شعر تابوري بأنه يفقد السيطرة على قبضته. فصرخ قائلًا: «ثبت الطائرة!» واستمر في عملية جذب الذراع. وبينما كان ياماناكا يكافح كي يوقف ترنُّح الطائرة، أمال المقدمة قليلًا عن غير عمد. فسمع أفراد الطاقم الثلاثة الصوت المزعج لاصطدام المروحة المعدنية الدوَّارة بالجدار.
أسرع الطيار الياباني بالضغط على زر الطوارئ، فعادت الطائرة إلى وضع التحكم الآلي. وفي أقل من ثانية دوَّى صوت إنذار حاد وأومضت الشاشة باللون الأحمر. «تعرَّضت الطائرة لأضرار بالغة. هناك احتمال كبير لوقوع عطل، أخْلِ الطائرة.» لم يتردد ياماناكا. وفي لحظات معدودة انطلق من كابينة القيادة وفتح مظلة الهبوط. ثم تبعه تابوري وبراون. وما إن أخرج المهندس المجري يده من القفازات المجهزة حتى تراخت قبضة المخالب الواقعة في نهاية الذراع الآلية، وسقط الكائن الشبيه بحيوان المُدرَّع من مسافة مائة متر مصطدمًا بالسهل المنبسط أسفل، وتهشَّم إلى أشلاء متناثرة.
هوَت الطائرة، التي أصبحت دون طيار، بعنف نحو السهل. ومع أن خوارزميات الهبوط الآلي كانت قيد العمل والتحكم الكامل، فقد قفزت الطائرة بشدة على قوائمها عندما ارتطمت بالأرض، وانقلبت على جانبها. وعلى مسافة ليست ببعيدة من مكان هبوط الطائرة، ومن مصعد مفتوح قفز رجلٌ سمين يرتدي بذلة عسكرية بُنية اللون ومغطاة بالأشرطة. كان قد نزل لتوِّه من مركز تحكم المهمة، وكان يبدو عليه الغضب وهو يتجه مسرعًا نحو طوافة كانت في انتظاره. وتبعته سيدة شقراء مسرعة ورشيقة ترتدي زي طياري وكالة الفضاء العالمية، وتُعلق معدات تصوير على كتفَيها. كان الرجل الذي يرتدي الزي العسكري هو الجنرال فاليري بورزوف، القائد الأعلى ﻟ «مشروع نيوتن». فسأل مهندس الكهرباء، ريتشارد ويكفيلد، الذي كان موجودًا في الطوافة: «هل وقعت أي إصابات؟»
«يبدو أن كتف جانوس قد اصطدم بشدة أثناء قفزه من الطائرة. بيد أن نيكول بعثت لتوها رسالةً لا سلكية تخبرنا فيها بأنه لم يُصَب بأي كسور في العظام أو خلع، لكن به عددًا كبيرًا من الكدمات.»
صعد الجنرال بورزوف إلى المقعد الأمامي بالمركبة بجانب ويكفيلد، الذي كان يجلس أمام لوحة التحكم. وتوقفت السيدة الشقراء — المراسلة الصحفية فرانشيسكا ساباتيني — عن تصوير المشهد، وبدأت في فتح الباب الخلفي للطوافة. لكن الجنرال بورزوف منعها بحزم، وقال لها وهو يشير عبر السهل المنبسط: «اذهبي للاطمئنان على نيكول دي جاردان وتابوري. وعلى الأرجح سيكون ويلسون قد ذهب إلى هناك بالفعل.»
استقل بورزوف وويكفيلد المركبة وذهبا في الاتجاه المعاكس. وقد سارا لمسافة تقترب من الأربعمائة متر قبل أن يتوقفا بجانب ديفيد براون، وهو رجل نحيل يناهز الخمسين عامًا ويرتدي بذلة طيار جديدة. لقد كان مشغولًا بطيِّ مظلة الهبوط ووضعها في حقيبة صغيرة. فترجَّل الجنرال بورزوف عن الطوافة واقترب من العالم الأمريكي.
وسأله الجنرال، وكان من الواضح أنه لا يطيق الخوض في أي مقدمات: «هل أنت بخير يا دكتور براون؟»
فأومأ براون برأسه موافقًا ولكنه لم يرد. فأكمل الجنرال بورزوف بلهجة حازمة: «إذَن، ربما يمكنك أن توضح لي ما كان يجول في خاطرك عندما أمرت ياماناكا باستخدام التحكم اليدوي؟ فقد يكون من الأفضل أن نناقش الأمر هنا، بمنأًى عن سائر الطاقم.»
ظل الدكتور ديفيد براون صامتًا، فاستكمل بورزوف بعد لحظة صمت قصيرة: «ألم ترَ إشارات الإنذار؟ ألم تفكر، ولو لحظة، في أن سلامة باقي الرواد قد تتعرض للخطر بسبب تلك المناورة؟»
في النهاية حدق براون في بورزوف بنظرة عابسة وساخطة. وعندما تحدث أخيرًا كانت كلماته مقتضبة ومصطنعة، وتتناقض مع المشاعر التي يكتمها داخله. فقال: «بدا لي أن الحكمة تقتضي تحريك الطائرة المروحية لتصبح أقرب إلى الهدف. كان أمامنا مساحة فارغة متبقية، وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي تمكننا من الإمساك بالكائن الآلي. فمهمتنا في النهاية هي إعادة …»
قاطعه بورزوف منفعلًا: «لست في حاجة لأن تخبرني بماهية مهمتنا. تذكر أنني اشتركت في كتابة هذه المهمة بنفسي. وسأذكرك مرةً أخرى أن أهم أولوية هي دائمًا سلامة الطاقم. ولا سيما في عمليات المحاكاة هذه … يجب أن أخبرك أنني مصدوم تمامًا بسبب العمل الجنوني الذي قمت به. فلقد تحطمت المروحية، وأصيب تابوري، ومن حسن حظك أن أحدًا لم يلقَ حتفه.»
لم يعد ديفيد براون يعير انتباهه إلى ما يقوله الجنرال بورزوف. لقد استدار لينتهي من وضع مظلة الهبوط في حقيبتها الشفافة. وكان واضحًا من وضع أكتافه والقوة التي يؤدي بها تلك المهمة البسيطة، أنه كان يستشيط غضبًا.
عاد بورزوف إلى الطوافة. وبعد أن انتظر ثواني معدودة عرض على الدكتور براون أن يوصله إلى القاعدة. فهزَّ الطبيب الأمريكي رأسه دون أن ينطق بكلمة، ووضع الحقيبة على ظهره، ومضى في اتجاه المروحية والمصعد.