الغسق
«… عند الأخذ بعين الاعتبار الإيذاء الجسدي المستمر الذي تلقَّاه الرائد ويكفيلد من والده المصاب بالعصاب، والجروح العاطفية التي حتمًا خلَّفها زواجه وهو شاب من الممثلة البريطانية سارة تايدنجس، فإنه يُعتبر متزنًا بدرجة ملحوظة. لقد خضع بعد طلاقه الشهير لعلاج متخصص استمر عامين وانتهى قبل التحاقه بأكاديمية الفضاء بعام واحد؛ أي عام ٢١٩٢. أما إنجازاته الدراسية في الأكاديمية فلا تزال منقطعة النظير حتى يومنا هذا، فقد أكد جميع أساتذته في قسمَي الهندسة الكهربائية وعلوم الكمبيوتر أنه بحلول وقت تخرجه، كانت معرفة ويكفيلد تفوق معرفة أي عضو من أعضاء هيئة التدريس …
… باستثناء حذره فيما يتعلق بالعلاقات الحميمة (ولا سيما مع النساء، فهو على ما يبدو لم يتورط في أي علاقات عاطفية قوية منذ انفصام عروة زواجه)، لا يُظهر ويكفيلد أيًّا من السلوك المُعادي للمجتمع الذي عادةً ما يظهره أولئك الذين تعرَّضوا لانتهاكات جسدية عندما كانوا أطفالًا. ومع أن معامل التكيف الاجتماعي كان منخفضًا لديه أثناء شبابه، فقد أخذت سمة العجرفة تضمحل بالتدريج عندما وصل إلى سن النضج، وهو لا يميل الآن إلى أن يفرض ذكاءه على الآخرين. ولا يمكن التشكيك في أمانته وشخصيته. والهدف الذي يسعى إليه هو تحصيل المعرفة، لا اكتساب السلطة أو جمع المال …»
انتهت نيكول من قراءة التقييم النفسي الخاص بريتشارد ويكفيلد وفركت عينيها. كان الوقت متأخرًا جدًّا. وكانت نيكول تفحص الملفات منذ أن استقر الطاقم داخل راما ليخلد إلى النوم. ومن المفترض أن يستيقظوا ليومهم الثاني في هذا العالم الغريب في غضون أقل من ساعتين. وكانت نوبة عملها التي تمتد لستِّ ساعات كضابط اتصالات ستبدأ في أثناء ثلاثين دقيقة. أخذت نيكول تفكر: «إذن، فمن بين هذه الزمرة، لا يوجد إلا ثلاثة بعيدون عن كل الشبهات. أما أولئك الأربعة فقد فضحوا أنفسهم بالفعل بعقدهم الإعلامي غير القانوني. أما ياماناكا وتورجينيف فهما مجهولان. ويلسون مستقر إلى حدٍّ ما ولديه جدول أعمال خاص به على كل حال. وهكذا لا يتبقى سوى أوتول وتاكاجيشي وويكفيلد.»
غسلت نيكول وجهها ويديها وجلست مرةً أخرى أمام جهاز الكمبيوتر الخاص بها. وأغلقت الملف الخاص بويكفيلد، ورجعت إلى القائمة الرئيسية لمكعب البيانات. وقد فحصت بدقةٍ إحصاءات المقارنات المتاحة، ثم ضغطت على زر العرض المزدوج لكي تظهر الإحصاءات جنبًا إلى جنب على الشاشة. وكانت مجموعة إحصاءات تقييم الذكاء لكل أفراد الطاقم تظهر في الجهة اليمنى من الشاشة مرتبة من الأعلى إلى الأدنى، وفي الجهة المقابلة عرضت نيكول مؤشرات معامل التكيف الاجتماعي لطاقم نيوتن:
تقييم الذكاء | معامل التكيف الاجتماعي | ||
---|---|---|---|
ويكفيلد | +٥٫٥٨ | أوتول | ٨٦ |
فرانشيسكا | +٤٫٢٢ | بورزوف | ٨٤ |
براون | +٤٫١٧ | تاكاجيشي | ٨٢ |
تاكاجيشي | +٤٫٠٢ | ويلسون | ٧٨ |
تابوري | +٣٫٣٧ | نيكول | ٧١ |
بورزوف | +٣٫٢٨ | هيلمان | ٦٨ |
نيكول | +٣٫٠٤ | تابوري | ٦٤ |
أوتول | +٢٫٩٢ | ياماناكا | ٦٢ |
تورجينيف | +٢٫٨٧ | تورجينيف | ٦٠ |
ياماناكا | +٢٫٦٦ | ويكفيلد | ٥٨ |
ويلسون | +٢٫٤٨ | ساباتيني | ٥٦ |
هيلمان | +٢٫٢٤ | براون | ٤٩ |
ومع أن نيكول ألقت نظرة خاطفة على معظم المعلومات الموجودة في الملفات سابقًا، فإنها لم تقرأ كل القراءات البيانية الخاصة بكل أفراد الطاقم. وبعض المؤشرات تشاهدها الآن للمرة الأولى. ولقد ذُهلت أيَّما ذهول بتقييم الذكاء المرتفع جدًّا لفرانشيسكا ساباتيني. قالت نيكول في سرها: «يا للخسارة! كل هذه الإمكانيات تضيع في مثل هذه المهنة العادية.»
وكان مستوى الذكاء الإجمالي للطاقم لافتًا جدًّا للنظر. فكل رائد فضاء يأتي في طليعة المستوى الذي يضم ١٪ من السكان. أما نيكول فكانت في المستوى الذي يمثل نسبة «الواحد في الألف»، كما جاء ترتيبها في منتصف أفراد الطاقم الاثني عشر. أما عن تقييم ذكاء ويكفيلد فقد كان متفردًا بحق، وقد وضعه في فئة «العباقرة»؛ لم تعرف نيكول بصورة شخصية أحدًا في حياتها قط أحرز مثل هذه الدرجات المرتفعة في الاختبارات القياسية.
ومع أن تدربها في الطب النفسي قد علَّمها ألا تعول على محاولات قياس الخصال الشخصية، فإن مؤشرات معامل التكيف الاجتماعي قد أسَرَتها بالمثل. لقد وضعت نيكول بحدسها الخاص أوتول وبورزوف وتاكاجيشي على رأس القائمة. فالثلاثة يبدون واثقين بأنفسهم، ومتزنين، وذوي حساسية نحو الآخرين. غير أنها ذُهلت من معدل تكيف ويلسون الاجتماعي المرتفع. قالت نيكول في نفسها: «حتمًا كان شخصًا مختلفًا تمامًا قبل أن يرتبط عاطفيًّا بفرانشيسكا.» وتعجَّبت نيكول لبرهة من أن مؤشر معدل تكيفها الاجتماعي لم يتجاوز ٧١، وعندئذٍ تذكرت أنها كانت أكثر انطوائية وتمركزًا حول الذات عندما كانت شابة.
«إذَن، ماذا عن ويكفيلد؟» هكذا سألت نيكول نفسها إذ أدركت أنه الشخص الوحيد الذي يمكن التعويل عليه بشأن مساعدتها على فهم ماذا حدث ببرمجة روسور في أثناء عملية بورزوف. أيمكنها الوثوق به؟ وهل يمكنها أن تستعين به دون أن يفشي بعضًا من شكوكها بعيدة الاحتمال؟ ومرةً أخرى بدت لها فكرة الإقلاع عن التحقيق تمامًا فكرة جذابة. فقالت لنفسها: «نيكول، إذا اتضح أن فكرتك بشأن المؤامرة هي مجرد مضيعة للوقت …»
٣-٣-٠٠ لقد خلصت يقينًا إلى أن قصور روسور أثناء إجراء العملية الجراحية لبورزوف يُعزى إلى أمر يدوي خارجي بعد القيام بتحميل أولي وتثبيت. سأستعين بويكفيلد.
سحبت نيكول مكعب بيانات فارغًا من الدرج المجاور لجهاز الكمبيوتر الخاص بها. ونسخت عليه مذكراتها وكل البيانات المخزنة على المكعب الذي أعطاها إياه الملك هنري. وعندما ارتدت نيكول بذلة الطيران لكي تمارس نوبة عملها، وضعت المكعب المنسوخ في جيبها.
•••
كان النعاس قد غلب الجنرال أوتول في مركز القيادة والتحكم للمركبة الفضائية العسكرية عندما وصلت نيكول كي تمنحه قسطًا من الراحة. ومع أن شاشات العرض في المركبة العسكرية الأصغر حجمًا لم تكن أخاذة بالدرجة كما هو الحال في المركبة العلمية، فإن التصميم الخاص بدائرة التحكم الأساسية العسكرية باعتبارها مركز اتصالات كان متفوقًا للغاية، ولا سيما من وجهة النظر البشرية الهندسية. فكل نظم التحكم يمكن أن يتعامل معها رائد واحد بسهولة ويسر.
اعتذر أوتول لعدم كونه متيقظًا. وأشار إلى الشاشات الثلاثة التي تظهر ثلاثة مشاهد لمنظر واحد، وهو مشهد سائر أفراد الطاقم الذين راحوا سريعًا في سُبات عميق داخل المخيم البسيط أسفل سلم ألفا. قال أوتول: «لم يكن هناك شيء جدير بالاعتبار في غضون الساعات الخمسة المنصرمة.»
ابتسمت نيكول. وقالت: «جنرال أوتول، ليس عليك أن تعتذر لي. أعلم أنك كنت تعمل مدة أربع وعشرين ساعة تقريبًا.»
نهض الجنرال أوتول من مكانه. وأخبرها باختصار وهو يتفقد تسجيله للدخول الإلكتروني على واحدة من الشاشات الستة أمامه: «بعدما غادرتِ انتهَوا من العشاء ثم بدءوا في تجميع الطوافة الأولي. لقد أخفق برنامج الملاح الآلي في الاختبار الذاتي، غير أن ويكفيلد عثر على المشكلة — التي كانت فيروسًا برمجيًّا في أحد البرامج الفرعية التي تغيرت في أثناء عملية التسليم الأخيرة — وعالجها. أخذ تابوري الطوافة لإجراء اختبار قيادة قبل أن يستعد الطاقم للنوم. وبنهاية اليوم قدمت فرانشيسكا جزءًا صغيرًا مثيرًا لبثه إلى الأرض.» توقف أوتول لبرهة. ثم تابع: «أتريدين أن تريه؟»
أومأت نيكول بالإيجاب. أدار أوتول شاشة التلفزيون التي تقع في أقصى اليمين، وظهرت فرانشيسكا في لقطة قريبة خارج المخيم المغلق. وقد ظهر في إطار الصورة جزء من قاع السلم ومعدات التلفريك أيضًا. كانت فرانشيسكا تقول: «لقد حان وقت النوم في راما.» ونظرت لأعلى وحولها. ثم أضافت: «لقد بزغ النور في هذا العالم المذهل بغتةً منذ ما يقرب من تسع ساعات، معلنًا لنا بصورة مفصلة الأعمالَ اليدوية المتقَنة لأقاربنا الأذكياء الذين جاءوا من وراء النجوم.» وقد توج مونتاج بعض الصور الثابتة وأفلام الفيديو القصيرة التي التقطتها طائرات الاستطلاع والبعض الآخر الذي التقطته فرانشيسكا في هذا اليوم، جولة فرانشيسكا ﻟ «العالم الصناعي الصغير» الذي كان أفراد الطاقم «على وشك اكتشافه». وفي نهاية الجزء المختصر ثبتت الكاميرا على فرانشيسكا.
لتقول: «لا أحد يعلم لماذا غزت هذه المركبة الفضائية الثانية مملكتنا الصغيرة عند حافة المجرة في فترة لا تتجاوز القرن الواحد. ولعل هذا الكيان العظيم ليس له أدنى تفسير حتى لو كان تفسيرًا عصيًّا على فهمنا نحن البشر. لكن ربما نجد في مكان ما، من هذا العالم المعدني الشاسع والدقيق، بعض المفاتيح التي قد تفك مغاليق الغموض الذي يكتنف المخلوقات التي صنعت هذه المركبة.» ابتسمت فرانشيسكا وانفرجت أساريرها. ثم أكملت: «وإذا ما فعلنا هذا، لعلنا عندئذٍ نكون قد خطونا خطوةً نحو فهم أنفسنا … وربما نحو فهم آلهتنا أيضًا.»
واستشفت نيكول أن الجنرال أوتول قد تأثَّر ببلاغة فرانشيسكا. وبالرغم من كره نيكول الشخصي لهذه المرأة فإنها اعترفت على مضض مجددًا أن فرانشيسكا موهوبة. قال أوتول في حماسة: «إنها تأسر مشاعري بشأن هذه المغامرة كثيرًا. ليتني بليغ فصيح مثلها.»
جلست نيكول أمام لوحة التحكم وأدخلت كود البث. واتبعت التعليمات المدرجة على الشاشة، وتفقدت كل المعدات. قالت نيكول وهي تستدير على مقعدها: «حسنًا أيها الجنرال، أعتقد أنه بمقدوري التعامل مع كل شيء من هنا.»
ظل أوتول مترددًا خلف نيكول. وقد بدا أنه يود التحدث. قال أوتول: «لقد جرى نقاش طويل بيني وبين السيدة فرانشيسكا منذ ثلاث ليالٍ مضت. نقاش في مسألة الدين. وقد أخبرتني أنها أصبحت ملحدةً قبل أن تعود أخيرًا مرة أخرى إلى الكنيسة. لقد أخبرتني أن التفكير في راما جعلها تعود كاثوليكية مرةً أخرى.»
ساد صمتٌ طويل بينهما. ولسببٍ ما خطرت ببال نيكول تلك الكنيسة التي تقع في قرية سانت إتيين دي تشيني التي ترجع إلى القرن الخامس عشر، وتبعد ثمانمائة متر جنوبًا على طريق بوفوا. وتذكرت الجلوس داخل الكنيسة مع والدها في أحد أيام الربيع الخلابة، وافتتانها بالضوء الذي ينتشر عبر الزجاج الملون للنوافذ.
سألت نيكول والدها حينذاك: «هل الله هو الذي خلق هذه الألوان؟»
أجابها والدها باقتضاب: «البعض يقول هذا.»
عندئذٍ سألته: «وماذا تقول أنت يا والدي؟»
كان الجنرال أوتول يقول بينما كانت نيكول تجبر نفسها على العودة إلى الوقت الحاضر: «يتعين عليَّ أن أعترف بأن هذه الرحلة في مجملها قد أنعشتني روحيًّا. أشعر بأنني أقرب إلى الله الآن أكثر من أي وقت مضى على الإطلاق. فهناك شيء ما عند التأمل في ضخامة الكون يجعل المرء يتواضع و…» توقف أوتول عن الحديث. وبدأ في الاعتذار: «آسف، لقد أثقلت عليك …»
أجابته نيكول: «لا. لا، لم تفعل هذا. أجد قناعتك الدينية محفزة جدًّا.»
ابتسم. وقال لها: «أرجو ألا أكون قد أزعجتك بأي حال من الأحوال. فالديانة مسألة شخصية للغاية. لكن في بعض الأحيان يصعب عليك أن تكتمي مشاعرك، ولا سيما أنك أنت والسيدة فرانشيسكا كاثوليكيتان.»
رفع أوتول مجموعة التحكم، وتمنَّت له نيكول نومًا هانئًا. وعندما ذهب أوتول، أخرجت نيكول من جيبها مكعب البيانات المنسوخ ووضعته في قارئ بيانات المكعب. قالت نيكول لنفسها: «على الأقل بهذه الطريقة سأتمكن من الاحتفاظ بنسخة احتياطية من مصادر معلوماتي.» وجال بذهنها صورة فرانشيسكا ساباتيني وهي تنصت بانتباه إلى الجنرال أوتول وهو يتحدث بحماسة عن رأيه الخاص حول المغزى الديني من راما. وقالت في سرها: «إنك لامرأة داهية. أنت تفعلين أي شيء مهما كلَّفكِ الأمر. حتى الفجور والنفاق سهلان عليكِ.»
•••
حدق دكتور شجيرو تاكاجيشي في صمت رهيب في البروج والمباني الكروية الشكل في نيويورك التي تبعد عنه أربعة كيلومترات. وكان بين الفينة والفينة يذهب إلى التليسكوب الذي نصبه مؤقتًا على الحافة المطلة على البحر الأسطواني ممعنًا النظر في ملمح معين من ملامح هذا المنظر الغريب.
ثم نطق أخيرًا وقال للرائدين ويكفيلد وفرانشيسكا: «لا أعتقد أن التقارير التي أعدها الطاقم الأول حول نيويورك بالغة الدقة. وإلا فستكون هذه مركبة فضائية مختلفة.» لم يجبه ويكفيلد أو فرانشيسكا. فقد كان ويكفيلد منهمكًا في المراحل الأخيرة من تجميع ناقلة الطوارئ، وكانت فرانشيسكا كعادتها مشغولة في تسجيل الأعمال التي يقوم بها ويكفيلد.
استرسل دكتور تاكاجيشي، متحدثًا إلى نفسه في المقام الأول: «إنها تبدو كما لو كان هناك ثلاثة أجزاء متطابقة من المدينة، وكل جزء منها ينقسم إلى ثلاثة أجزاء فرعية. غير أن أولئك الأجزاء التسعة غير متطابقة «تطابقًا مطلقًا». فيبدو أن هناك بعض الاختلافات الطفيفة.»
قال ويكفيلد وهو ينتصب وعلى وجهه ابتسامة تُعرِب عن شعوره بالرضا: «حسنًا، لقد أحسنت صنعًا. فلا يزال أمامنا يوم كامل قبل التاريخ المحدد. سوف أفحص في عجالةٍ كافة الوظائف الهندسية المهمة.»
نظرت فرانشيسكا في ساعتها. ثم قالت: «نحن متأخرون لما يقرب من نصف ساعة وفقًا للجدول المعدل. ألا يزال بمقدورنا أن نلقي نظرة خاطفة على نيويورك قبيل العشاء؟»
هز ويكفيلد كتفيه بلامبالاة ونظر إلى تاكاجيشي. خطَت فرانشيسكا نحو العالم الياباني. وقالت: «ما قولك، شجيرو؟ ألنا أن نأخذ جولةً سريعة عبر الجليد ونقدم للبشر على الأرض لقطة قريبة من نيويورك راما؟»
أجابها تاكاجيشي: «حتمًا. لا يمكنني الانتظار …»
عندئذٍ قاطعهم ديفيد براون قائلًا: «يمكنك ذلك بشرط أن تعودي إلى المخيم في موعدٍ أقصاه الساعة ١٩:٣٠.» كان ديفيد براون مستقلًّا الطائرة الهليكوبتر ومعه الفريق البحري هيلمان وريجي ويلسون. واستطرد قائلًا: «ينبغي لنا أن نقوم ببعض التخطيط الجدي الليلة. وقد نحتاج لأن نراجع توزيع مهام الغد.»
قال ويكفيلد: «حسنًا، إذا تغاضينا عن أمر نظام عمل البكرات الآن، ولم يكن لدينا أدنى مشكلة في حمل ناقل الطوارئ إلى أسفل، فسنكون قادرين على عبور البحر في غضون عشر دقائق في الاتجاه الواحد. وهذا سيعطينا متسعًا من الوقت للرجوع إلى المعسكر.»
قال براون: «لقد درسنا باستفاضة كثيرًا من معالم نصف الأسطوانة الشمالي في أثناء فترة ما بعد الظهيرة. ولا يوجد أي كائن في أي مكان. وتبدو المدن وكأنها صور طبق الأصل بعضها من بعض. ولا يوجد أي شيء جدير بالذكر في كل أرجاء السهل المركزي. أنا شخصيًّا أعتقد أنه قد ينبغي لنا أن نقوم بحملتنا الاستطلاعية على الجنوب الغامض غدًا.»
صاح تاكاجيشي: «نيويورك. بل ينبغي أن يكون هدفنا غدًا هو استطلاع مفصَّل ودقيق لنيويورك.» لم يجب براون. انسحب تاكاجيشي نحو حافة الجرف، ونظر إلى خمسين مترًا من الجليد أسفله. على شماله كانت توجد درجات السلم الضيقة غير الجذابة تعترض الجرف وتتدلى في درجات قصيرة. سأل تاكاجيشي: «ما وزن ناقلة الطوارئ؟»
أجابه ويكفيلد: «ليست ثقيلة بالدرجة. ولكنها ضخمة. أمتأكد من أنك لا تريد الانتظار حتى أثبت البكرات؟ يمكننا تأجيل ذلك للغد.»
قاطعته فرانشيسكا: «يمكنني المساعدة في حملها. فإذا لم نتمكن من رؤية نيويورك على الأقل، فلن نكون قادرين على إعطاء معلومات دقيقة في اجتماع التخطيط هذه الليلة.»
رد ريتشارد ويكفيلد وهو يهز رأسه لفرانشيسكا في مزاح: «حسنًا. إنني في خدمة الصحافة. سأتقدم أنا أولًا؛ من ثَم سيقع معظم الحمل على عاتقي. وتكون فرانشيسكا في المنتصف ودكتور تاكاجيشي في القمة. واحترزوا من ألواح التزلج. فهي حادَّة من عند الحواف.»
ولم يكن المنحدر المتجه نحو سطح البحر الأسطواني خطيرًا. قالت فرانشيسكا وهم يستعدون لعبور الجليد: «يا إلهي، إنه سهل للغاية. لمَ الحاجة إلى البكرات إذن؟»
«لأننا قد نحمل في بعض الأوقات شيئًا آخر أو، لا قدر الله، قد نحتاج لأن نحمي أنفسنا أثناء الصعود أو الهبوط.»
جلس كلٌّ من ويكفيلد وتاكاجيشي أمام ناقلة الطوارئ. وكانت فرانشيسكا بالخلف ومعها كاميراتها. وكلما اقتربوا من نيويورك ازدادت حيوية تاكاجيشي ونشاطه. وقال تاكاجيشي عندما أصبح ناقل الطوارئ على بعد خمسمائة متر من الشاطئ المقابل: «انظروا إلى ذاك المكان. أيُخالجكم أدنى شك في أن هذه هي عاصمة راما؟»
وبينما وصل ثلاثتهم الشاطئ، انبسط أمام أعينهم المشهد الخلاب للمدينة الغريبة تاركًا إياهم مشدوهين من هول المشهد. فقد كان كل شيء يتعلق بتركيبها المعقد يعكس النظام والخلق الهادف الذي قامت به الكائنات الذكية؛ وحتى مجموعة الرواد الأوائل الذين جاءوا منذ سبعين سنة مضت، وجدوها خالية من الحياة مثل باقي أجزاء راما. هل كانت هذه المجموعة الضخمة التي انكسرت إلى تسعة أجزاء هي بحقٍّ مجرد آلة معقدة تعقيدًا شديدًا كما رجح الرواد الأوائل، أو هل الجزيرة الطويلة الضيقة (التي يبلغ طولها عشرة كيلومترات وعرضها ثلاثة كيلومترات) هي بالفعل المدينة التي اختفى قاطنوها منذ زمن طويل؟
لقد وضعوا ناقل الطوارئ على حافة البحر المتجمد وساروا عبر درب حتى عثروا على سلالم تقود إلى أسوار الجدران التي تحيط بالمدينة. قفز تاكاجيشي المتحمس نحو عشرين مترًا أمام ويكفيلد وفرانشيسكا. وبينما هم يرتقون السلالم، بدأ ينكشف أمامهم المزيد والمزيد من تفاصيل المدينة.
على الفور افتتن ريتشارد بالأشكال الهندسية للمباني. وعلاوةً على ناطحات السحاب المألوفة الطول المتفرقة، كان هناك أجسام كروية ومستطيلات ثلاثية الأبعاد متفرقة وحتى أشكال متعددة السطوح غير منتظمة. وقطعًا كانت مرتبة وفقًا لنمط معين. وجال بخاطر ويكفيلد وهو يُنعم النظر في التركيبات الخلابة والمعقدة: «نعم، هناك المجسم ذو الاثني عشر سطحًا، والمجسم الخماسي …»
فجأةً اعترض تأمُّلَه الهندسي انقطاعُ كافة الأنوار، وغرق باطن راما كله في ظلام حالك.