الرحلة الثانية
بسط ديفيد براون لوحة ورقية عريضة على الطاولة التي تتوسط مركز التحكم. وقد قسمتها فرانشيسكا إلى أجزاء تمثل ساعات، وكانت منهمكة آنذاك في تدوين كل ما يمليه عليها براون. كان دكتور براون يقول لجانوس تابوري وريتشارد ويكفيلد: «إن البرمجيات الملعونة لتخطيط البعثة غير مرنة حتى تكون نافعة في موقف مثل هذا. فهي لا تجدي إلا عندما يُساير تتابع الأنشطة المخطط لها إحدى الاستراتيجيات المُعدَّة قبل الإقلاع.»
خطا جانوس باتجاه إحدى الشاشات. واسترسل دكتور براون قائلًا: «لعلك تكون قادرًا على استخدامها أفضل مني، لكنني وجدت هذا الصباح أنه من الأيسر جدًّا أن نعتمد على القلم والورقة.» استدعى جانوس برمجيات تسلسل البعثة، وبدأ يُدخل بعض البيانات.
اعترضه ريتشارد ويكفيلد قائلًا: «انتظر لحظة.» توقف جانوس عن الكتابة على لوحة المفاتيح والتفت كي يصغي إلى زميله. قال ريتشارد: «لقد أنجزنا كل شيء دون جدوى. لسنا في حاجة لتخطيط كل الأمور الخاصة بالرحلة التالية الآن. على أي حال، نحن نعرف أن أول مهمة أساسية يتعين علينا القيام بها هي إتمام البنية التحتية. وهذا سوف يستغرق عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة أخرى. أما عن باقي أنشطة الرحلة فيمكن التخطيط لها بالتوازي.»
أضافت فرانشيسكا: «ريتشارد محق.» ثم تابعت: «نحن نحاول القيام بكل شيء على جناح السرعة. لنرسل الرواد المبتدئين إلى راما لإنهاء التركيبات. وبينما هم هناك، نقوم نحن بإعداد تفاصيل الرحلة.»
رد دكتور براون: «هذا لا يبدو عمليًّا. إن خريجي الأكاديمية وحدهم يعرفون طول المدة التي تستغرقها الأنشطة الهندسية المتنوعة. ولا يمكننا تصميم جدول زمني صحيح دونهم.»
عندئذٍ قال جانوس تابوري: «إذن، سيمكث أحدنا معك هنا.» ثم ابتسم ابتسامة عريضة. وتابع قائلًا: «ويمكننا أن نستغل هيلمان أو أوتول بالداخل، باعتبارهما عمالة إضافية. ولا ينبغي أن يعوقنا ذلك كثيرًا.»
وفي غضون نصف ساعة وصلوا إلى قرار بإجماع الآراء. ستبقى نيكول على متن نيوتن مرة أخرى، على الأقل حتى إتمام البنية التحتية، وسوف تمثل الرواد المبتدئين في عملية تخطيط البعثة، أما الفريق البحري هيلمان فسوف يذهب إلى راما مع الرواد الأربعة المحترفين. ومن المفترَض أن ينتهوا من مهام البنية التحتية الثلاثة المتبقية، وهي: تجميع بقية المركبات، ونشر اثنتي عشرة محطة مراقبة متنقلة في نصف الأسطوانة الشمالي، ثم أخيرًا إنشاء مخيم بيتا/معقد الاتصالات على الجانب الشمالي من البحر الأسطواني.
كان ريتشارد ويكفيلد منهمكًا في مراجعة تفاصيل المهام الفرعية كافة مع فريقه الصغير عندما وثب ريجي ويلسون، الذي كان صامتًا تمامًا طوال فترة الصباح بأكملها، بغتة من على مقعده. وصاح قائلًا: «هذا هراء. لا يمكنني أن أصدق كل هذا الهراء الذي أسمعه.»
توقف ريتشارد عن مراجعته. وصمت فجأةً كلٌّ من براون وتاكاجيشي اللذين كانا قد بدآ بالفعل مناقشة تصميم الرحلة. واتجهت كل الأنظار إلى ريجي ويلسون.
قال ويلسون: «لقد مات هنا رجل منذ أربعة أيام. بل قتله على الأرجح الشخص أو الشيء الذي يدير هذه السفينة الضخمة. ومع ذلك ذهبنا داخلها لاستطلاعها. ثم تُضاء الأضواء فجأة وتنقطع فجأة.» نظر ويلسون في كل أنحاء الغرفة إلى باقي الطاقم. وكانت هناك نظرة وحشية في عينيه. وكانت جبهته تتصبب عرقًا. ثم تابع: «وماذا فعلنا جميعنا؟ هه؟ وماذا كان رد فعلنا تجاه هذا التحذير الذي بعثته إلينا مخلوقات غريبة تفوقنا بكثير؟ جلسنا بهدوء وأخذنا نخطط لباقي حملات استطلاعاتنا لمركبتهم. ألم يفهم أحدكم قط؟! إنهم لا يريدوننا أن نكون هناك. بل يريدوننا أن «نرحل» ونعود أدراجنا إلى الأرض.»
قُوبلت ثورة ويلسون بصمت غير مريح. وأخيرًا قام الجنرال أوتول واقترب من ريجي ويلسون. وقال بهدوء: «ريجي، كلنا مستاءون لموت الجنرال بورزوف. لكن لا أحد منا يرى أي ارتباط …»
قاطعه ويلسون: «إذن أنت رجل أعمى، أنت أعمى. لقد كنت موجودًا في تلك الهليكوبتر الملعونة عندما انطفأت الأنوار. في دقيقة واحدة كانت الأنوار ساطعة وكأننا في نهار صيفي مشمس، وفجأة، في الدقيقة التالية أصبحت ظلمة حالكة. لقد كان الأمر غريبًا، يا رجل. لقد أطفأ أحدهم «كل» الأنوار. وفي هذه المناقشة لم أسمع أحدًا قط يسأل «لماذا» انطفأت الأنوار. ماذا دهاكم؟ هل أنتم أذكياء بالقدر الذي يجعلكم لا تخشون شيئًا؟»
أخذ ويلسون يتحدث بصخب لعدة دقائق. وكان يكرر الموضوع نفسه. لقد خطط سكان راما لموت بورزوف، وكانوا يبعثون بتحذيراتهم عن طريق تشغيل الأنوار وإطفائها، وسيكون هناك المزيد من الكوارث إن أصر الطاقم على المضي قدمًا في استطلاعاته.
وقف الجنرال أوتول بجانب ريجي في أثناء الحديث بأكمله. وأجرى دكتور براون وفرانشيسكا ونيكول حديثًا جانبيًّا سريعًا، وعندئذٍ دنَت نيكول من ويلسون. وقالت بطريقة ودية، مُقاطِعةً خطبته اللاذعة: «ريجي، لماذا لا تأتين معي أنت والجنرال أوتول؟ يمكننا أن نكمل هذا الحديث دون أن نعطل باقي أفراد الطاقم.»
نظر إليها بريبة. وقال: «أذهب معك أنتِ يا دكتورة؟ لماذا ينبغي لي أن آتي معك؟ فأنت لم تذهبي إلى هناك. ولم تشاهدي بما يكفي لتعرفي أي شيء.» تحرك ويلسون واقترب من ويكفيلد ووقف أمامه. وقال: «أنت كنت هناك يا ريتشارد. لقد رأيت ذلك المكان، وتعرف نوعية الذكاء والقوة المطلوبين كي تصنع مركبة فضائية بهذا الحجم ثم تطلقها في رحلة بين النجوم. نحن نكرة بالنسبة لهم يا رجل. نحن أقل من النمل. ليس أمامنا فرصة.»
أجاب ريتشارد ويكفيلد بهدوء بعد لحظة تردد: «أتفق معك، يا ريجي.» وأردف: «على الأقل فيما يتعلق بقدراتنا مقارنة بقدراتهم الهائلة. بيد أنه ليس لدينا دليل واحد على أنهم عدوانيون. أو حتى ما إذا كانوا يبالون باستطلاعنا أو عدمه لمركبتهم. بل على العكس تمامًا، إن حقيقة كوننا لا نزال أحياءً …»
فجأة صاحت إيرينا تورجينيف: «انظروا. انظروا إلى الشاشة.» كان هنالك صورة مستقلة ثابتة على الشاشة العملاقة الموجودة في مركز التحكم. ملأت صورة لمخلوق أشبه بالسرطان الشاشة بأكملها. وقد كان له جسم مسطح قصير، وطوله يعادل عرضه مرتين. وكان ثقله يرتكز على ستة أرجل ثلاثية المفاصل. وكان يمتد أمام الجسم مخلبان أشبه بالمقصات، وصفٌّ كامل من الأذرع التي تشبه للوهلة الأولى بدرجة مذهلة أذرعًا بشرية بالغة الصغر بالقرب من فتحات في الدرع القرني. وبالمعاينة من كثبٍ أكثر، كانت الأذرع مستودَعًا فعليًّا للأدوات المعدنية؛ إنها كماشات ومسابير ومبارد وشيء يشبه الحفار.
وكانت عيناه، إذا كانت هذه عيونًا حقيقية، مجوفة بعمق داخل غطاء واقٍ، ومرفوعة، مثل منظار الأفق، فوق قمة الصدفة. وكانت مقلة العين نفسها من الكريستال أو الهلام ذات لون أزرق زاهٍ وتخلو تمامًا من التعبيرات.
وكان يتضح من الكلمات المكتوبة بجانب الصورة أن إحدى طائرات الاستطلاع الخارجية الطويلة المدى قد التقطت الصورة منذ لحظات فحسب، في بقعة تبعد تقريبًا نحو خمسة كيلومترات جنوب البحر الأسطواني. وقد التُقطت الصورة باستخدام عدسات تلسكوبية تغطي منطقة تبلغ نحو ستة أمتار مربعة.
قال جانوس تابوري: «إذن، لدينا صحبة في راما.» حملق باقي أفراد الطاقم في الشاشة في ذهول.
•••
أجمع باقي أفراد الطاقم فيما بعدُ أن صورة السرطان الآلي الموجودة على الشاشة العملاقة ما كانت لتبدو مرعبة لولا ظهورها في هذه اللحظة بعينها. فمع أن سلوك ريجي كان سلوكًا شاذًّا بلا ريب فإن أقواله كانت تحوي منطقًا يكفي أن يُذكر كلًّا منهم بالمخاطر التي تكتنف بعثتهم. ولم يخلُ أحد أفراد الطاقم من الخوف تمامًا. إذا تقابل كلٌّ منهم، في لحظة خاصة، مع الحقيقة المزعجة التي تقر بأن سكان راما الخارقين للطبيعة قد لا يكونون مسالمين.
لكنهم كانوا يحاولون معظم الوقت أن يُنحوا مخاوفهم جانبًا. فالمخاوف جزء من مهنتهم. فقد قبل رواد نيوتن — شأنهم في ذلك شأن رواد فضاء المكوك الفضائي السابق في أمريكا، الذين كانوا يعلمون أن المركبة قد تتحطم أو تنفجر بين لحظة وأخرى — أنه قد يكون هناك بعض المخاطر التي لا يمكن السيطرة عليها تقترن ببعثتهم. وقد حدا إنكار المجموعة الإيجابي لهذه المخاوف أن تتحاشى مناقشة الأمور المزعجة، وأن تركز معظم الوقت على أكثر البنود طواعية (ومن ثَم القابلة للتحكم فيها)، مثل ترتيب أحداث اليوم التالي.
وقد أطلقت ثورة ريجي وتزامنها مع ظهور السرطان الآلي على الشاشة موجة من المناقشات الجماعية الجادَّة لم يُشهد مثلها منذ بدء المشروع. رجع أوتول إلى موقعه في المراقبة أولًا. لقد انبهر بسكان راما ولم يَهَبْهم. ولقد رأى الله أنه من المناسب أن يكون ضمن أفراد هذه البعثة، وإذا كان هذا اختيار الله، فيمكنه أن يقرر أن هذه المغامرة غير العادية سوف تكون نهاية أوتول. وعلى أي حال، أيًّا كان ما سيحدث، فإنه سيكون مشيئة الله.
أما ريتشارد ويكفيلد فقد أعرب بوضوح عن وجهة نظره التي كان يشاركه فيها العديد من أفراد الطاقم. إذ كان ينظر إلى المشروع بأكمله على أنه رحلة استكشافية مثيرة للتحدي، وكذلك مقياس لمدى القدرة الفردية على التحمل. أما الأشياء التي يكتنفها الغموض والشك فقد وُجدت للتيقن منها، علاوة على أنها تولد إثارة مثلما تولد الخطر. أما عن مدى الإثارة الناتجة عن الاكتشاف الجديد، إلى جانب الأهمية البارزة المحتملة لهذه المواجهة مع الكائنات الفضائية، فإنه يفوق كثيرًا مدى المخاطر. ولم يكن لدى ريتشارد أي مشكلة بشأن هذه البعثة. لقد كان يرى أنها تعظيم لحياته، وإذا تُوفي قبل نهاية المشروع، فالأمر لا يزال يستحق كل هذا العناء. وسيكون قد أنجز شيئًا ذا مغزًى في غضون مدة وجوده الوجيزة على الأرض.
أصغت نيكول بانتباه إلى المناقشة. ولم تقل هي نفسها الكثير، غير أنها كانت تجد آراءها الخاصة تتبلور كلما تابعت تدفق الحوار. وقد استمتعت بمشاهدة ردود الأفعال اللفظية وغير اللفظية للرواد الآخرين. كان ينجلي بوضوحٍ اتفاق شجيرو تاكاجيشي مع آراء ويكفيلد. إذ كان يومئ برأسه بهمة وحماسة طوال الوقت الذي كان يتحدث فيه ريتشارد عن إثارة المشاركة في مثل هذا العمل الرائع. أما ريجي ويلسون، الذي خنع، وخجل غالبًا من نفسه بسبب خطبته اللاذعة السابقة، فلم يتفوه بالكثير. فهو لم يكن يعلق إلا عندما يُسأل سؤالًا مباشرًا. أما الفريق البحري هيلمان، فقد بدا منزعجًا من البداية وحتى النهاية. واقتصرت كل مشاركته على تذكير الجميع بانقضاء الوقت.
والمثير أن دكتور ديفيد براون لم يضف الكثير إلى المناقشة الفلسفية. لقد ذكر العديد من التعليقات القصيرة، وقد بدا مرة أو مرتين أنه مشرف على الخوض في تفسير طويل ومسهب. ولكنه لم يفعلها قط. ولم تُعلن معتقداته الحقيقية حول طبيعة راما.
أما فرانشيسكا ساباتيني فقد بدت في البداية أنها تقوم بدور الوسيط أو المُحاور، تسأل أسئلة إيضاحية وتحفظ الحوار متوازنًا. بيد أنها قدمت بالقرب من نهاية الحوار العديد من التعليقات الشخصية الصريحة. وكانت وجهة نظرها الفلسفية حول بعثة نيوتن تختلف اختلافًا جذريًّا عن تلك التي لأوتول وويكفيلد.
فقد قالت بعد أن قدم ريتشارد إطراءً طويلًا حول مباهج المعرفة: «أعتقد أنكم تُعقِّدون الأمور وتجعلونها أكثر عقلانية.» وتابعت: «لم يكن هناك أي داعٍ بأن أقوم ببحث عميق في النفس قبل التقديم للعمل رائدًا للفضاء بنيوتن. لقد تعاملت مع المسألة بنفس الطريقة التي أتخذ بها كل قراراتي المهمة. لقد أجريت مفاضلة بين المخاطر والمنافع. ورأيت أن المنافع التي ستعود عليَّ — بأخذ كل العوامل بعين الاعتبار بما في ذلك الشهرة والمكانة الاجتماعية والمال وحتى المغامرة — تستحق المخاطرة. وأنا أختلف مع ريتشارد تمامًا في أحد الجوانب. فإذا مت في هذه البعثة فلن أكون سعيدة على الإطلاق بالطبع. فمن وجهة نظري، معظم المنافع التي ستعود عليَّ من هذا المشروع مُرجأة، ولن أستطيع الاستفادة منها ما لم أعد إلى الأرض.»
أثارت تعليقات فرانشيسكا فضول نيكول. ورغبت في أن تسأل الصحفية الإيطالية أسئلةً أخرى، غير أن نيكول رأت أن الوقت والمكان غير مناسبَين. وبعد انتهاء الاجتماع، كانت لا تزال مشغولة بما قالته فرانشيسكا. قالت نيكول لنفسها: «هل الحياة بهذه البساطة من وجهة نظرها؟ وهل يُقيَّم كل شيء على ضوء المخاطر والمنافع؟» لقد تذكرت خلو فرانشيسكا من المشاعر عندما رشفت دواء الإجهاض. سألت نيكول نفسها: «ولكن ماذا عن المبادئ أو القيم؟ أو حتى المشاعر؟» وعندما كان الاجتماع على وشك الانتهاء، أقرَّت نيكول في نفسها أن فرانشيسكا لا تزال لغزًا محيرًا.
راقبت نيكول دكتور تاكاجيشي بعناية. لقد كان يتصرف بطريقةٍ أفضل اليوم. وكان يقول ويداه تلوح برزمة أوراق سُمكُها أربع بوصات: «دكتور براون، لقد أحضرت نسخة مطبوعة من «استراتيجية الغارات» كي تذكرنا بالمبادئ الأساسية الخاصة بتصميم الرحلة، ثمرة ما يزيد عن عام من التخطيط المتأني للبعثة. هل أقرأ لكم من الملخص؟»
أجابه دكتور ديفيد براون: «لا أعتقد أنك في حاجة للقيام بذلك. فكلنا لدينا دراية تامة …»
حينئذٍ قاطعه الجنرال أوتول قائلًا: «أنا لست على دراية تامة.» وأردف: «أود أن أستمع لهذا. فقد طلب مني الفريق البحري هيلمان أن أعير انتباهًا شديدًا، وأن أوجز له ما يحدث.»
أومأ دكتور براون لتاكاجيشي بالمضي قدمًا. كان العالم الياباني الضئيل البنية يستعير ورقة من حافظة الأوراق الخاصة ببراون. ومع أنه كان قد علم أن ديفيد براون كان يفضل بشكل شخصي السعيَ وراء السرطان الآلي في الرحلة الثانية، فإنه كان لا يزال يحاول إقناع الرواد الآخرين أن النشاط الذي ينبغي أن يولوه الأولوية الأولى هو شن غارة علمية على مدينة نيويورك.
استأذن ريجي ويلسون من الاجتماع ساعة مبكرًا وقصد غرفته للراحة. أما باقي أفراد الطاقم الخمسة الآخرين الموجودين على متن نيوتن فقد أمضوا معظم المساء يجاهدون للوصول إلى اتفاق بشأن الأنشطة المقرر القيام بها في الرحلة الثانية، لكن جهودهم ذهبت سدًى. فلما كان العالمان براون وتاكاجيشي مختلفين اختلافًا جذريًّا في آرائهم حول ما ينبغي فعله، استحال الوصول إلى قرار بإجماع الآراء. في تلك الأثناء، كانت الشاشة العملاقة من ورائهم تبين مشاهد متقطعة للرواد المبتدئين بصحبة الفريق البحري هليمان وهم يعملون داخل راما. وكانت الصورة الحالية تبين تابوري وتورجينيف وهما في المخيم المجاور للبحر الأسطواني. وقد انتهيا لتوهما من تجميع المركب البخاري، وكانا يتفقدان أنظمته الفرعية الكهربائية.
وقد صُممت الرحلة رقم ٢ لإتمام إعداد خرائط لراما من الداخل، مع التركيز بدرجة خاصة على المناطق التي لم تُكتشف منذ سبعين سنة، ومجموعات المباني التي يُطلق عليها مدنًا أو أي اختلافات داخلية جرى تحديدها في الرحلة الأولى. وفي الرحلة الثانية يجري «تجنب» أي مناوشات مع الكائنات الآلية، مع أن ظهور أنواع مختلفة من المخلوقات الآلية وتحديد مواقعها سوف يكون جزءًا من عملية وضع الخرائط.
يُرجأ أي تعامل مع الكائنات الآلية إلى الرحلة الثالثة. ولن تجري أي محاولات للتعامل معها إلا بعد القيام بالمراقبة الدقيقة و«المطولة» …»
قاطعه دكتور ديفيد براون قائلًا: «كفى يا دكتور تاكاجيشي.» وأردف: «فكلنا على دراية بلب الموضوع. للأسف، وُضعت هذه الوثائق العقيمة قبل الإقلاع بعدة أشهر. والموقف الذي نُجابهه الآن لم يكن متوقعًا البتة. نحن الذين رأينا الأنوار وهي تُضاء وتنطفئ. ونحن الذين عيَّنا موقع قطيع مكوَّن من ستة سرطانات آلية خلف الحافة الجنوبية للبحر الأسطواني ونقتفي أثرهم.»
رد عليه العالم الياباني باحترام: «لا أوافقك الرأي.» ثم تابع حديثه: «لقد قلت بنفسك إن انقطاع الضوء غير المتوقع لا يظهر اختلافًا جوهريًّا بين المركبتين. لذا نحن لا نواجه راما مجهولة لنا. من ثَم أؤكد على ضرورة تنفيذ الغارات وفقًا للخطط الأصلية للبعثة.»
«إذَن أنت تفضل تخصيص الرحلة الثانية بأكملها لإعداد الخرائط، بما في ذلك، أو من المحتمل، إجراء استطلاع مفصل لنيويورك، أليس كذلك؟» كان هذا سؤال الجنرال أوتول.
أجابه: «بالضبط يا جنرال أوتول. حتى وإن افترضنا أن «الأصوات الغريبة» التي سمعتها بنفسي ومعي الرائد ويكفيلد والرائدة فرانشيسكا لا تمثل اختلافًا رسميًّا، فإن المسح الدقيق لنيويورك هو بوضوح أحد الأنشطة التي لها الصدارة في الأولوية. وإنه لأمر حيوي أن نُتمَّه في هذه الرحلة. وقد ارتفعت درجة الحرارة فعليًّا في السهل المركزي لتصل إلى خمس درجات مئوية تحت الصفر. إن راما تأخذنا نحو الشمس أكثر فأكثر. إن المركبة الفضائية تسخن من الخارج إلى الداخل. وأتوقع أن البحر الأسطواني سوف يبدأ في الذوبان من القاع في غضون ثلاثة أيام أخرى أو أربعة …»
قاطعه دكتور براون مجددًا قائلًا: «لم أقل قط إن نيويورك ليست هدفًا مشروعًا للاستطلاع؛ لكني أكدت من البداية على أن المخلوقات الآلية هي الكنز العلمي الحقيقي لهذه الرحلة. انظروا إلى هذه المخلوقات المذهلة.» قال هذا مشيرًا إلى الشاشة المركزية حيث يُعرض فيلم للسرطانات الستة الآلية وهي تتحرك بتؤدة عبر منطقة هادئة في نصف الأسطوانة الجنوبي. ثم تابع حديثه: «وقد لا يكون لدينا فرصة أخرى لنقتنصها. إن طائرات الاستطلاع الخارجية قد انتهت تقريبًا من استكشاف نصف الأسطوانة بأكمله، ولم يتبين وجود أي كائنات آلية أخرى.»
نظر سائر أفراد الطاقم بما فيهم تاكاجيشي إلى الشاشة باهتمام شديد. اقترب سرب المخلوقات الغريبة الذي يأخذ شكل المثلث وقائد يفوقهما قليلًا في الحجم في المقدمة، من كومة غير منظمة من معدن رخو. وكان السرطان القائد يتحرك مباشرةً نحو هذا الحائل، وتوقف لعدة ثوانٍ، وعندئذٍ استخدم مخالبه كي يقطع عناصر الكومة إلى قطع أصغر. حمل السرطانان الموجودان في الصف الثاني شظايا المعدن ووضعاها فوق ظهور الأعضاء الثلاثة الباقية في التشكيل. وزادت كميات هذه المادة الجديدة من حجم الكومات الصغيرة الموجودة بالفعل من قبل فوق أصداف السرطانات الثلاثة الآلية الموجودة بالصف الخلفي.
قالت فرانشيسكا: «حتمًا، هؤلاء هم طاقم نظافة راما.» فضحك الجميع.
ثم استرسل ديفيد براون: «لكن يمكنكم أن تروا لماذا أريد التحرك سريعًا. فهذا الفيلم القصير الذي شاهدتموه للتو في طريقه لشبكات التلفزيون على الأرض. ما يزيد عن مليار من إخواننا من الرجال والنساء سوف يشاهدونه اليوم بنفس المزيج من الخوف والافتتان اللذين شعرتم بهما أنتم لتوِّكم. تخيَّلوا نوع المعامل التي يمكن أن ننشئها لفحص مثل هذه المخلوقات. تخيلوا ما الذي يمكن أن نتعلمه …»
عندئذٍ قاطعه الجنرال أوتول. وسأله: «ما الذي يجعلك تعتقد أنك ستُمسك بأحدها؟ إنها تبدو مرعبة للغاية.»
أجابه: «مع أن هذه الكائنات تبدو ذات أجساد وخلايا حية، فنحن متيقنون من أنها كائنات آلية بالفعل. وعليه، شاع استخدام مصطلح «الكائنات الآلية البيولوجية» في غضون البعثة الأولى لراما وبعدها. وبناءً على كافة تقارير نورتون وطاقم رواد فضاء مركبة راما ١، صُمم كل مخلوق من هذه المخلوقات الآلية كي يؤدي وظيفة واحدة فحسب. وهي لا تتمتع بالذكاء كما نعلم. وينبغي لنا أن نكون قادرين على أن نخدعها … ونأسرها.»
ظهرت لقطة قريبة مركزة على المخالب الأشبه بالمقصات على الشاشة العملاقة. وكان من الواضح أنها حادة جدًّا. فقال الجنرال أوتول: «لا أعلم. أنا أميل لأن أتبع اقتراح دكتور تاكاجيشي بأن نراقبها لوقت كافٍ قبل أن نحاول الإمساك بأحدها.»
قالت فرانشيسكا: «أنا لا أتفق معك. فمن منطلق كوني صحفية، ما من قصة إخبارية أهم من محاولة الإمساك بأحد تلك الأشياء. سوف يشاهد الناس على الأرض ذلك. وقد لا تتكرر هذه الفرصة مرةً أخرى.» ثم توقفت لبرهة. وواصلت قائلة: «إن وكالة الفضاء العالمية تضغط علينا لإرسال بعض الأخبار المبهجة. إن حادثة بورزوف لم تستطِع أن تقنع تمامًا القائمين على تكاليف البعثة أن الأموال التي ينفقونها على هذه البعثة تنفق في مكانها الصحيح.»
«لمَ لا يمكننا أن نقوم بكلتا المهمتين في نفس الرحلة؟» طرح الجنرال أوتول هذا السؤال. وأردف: «يمكن لأحد الفرق الفرعية استطلاع نيويورك والآخر يذهب للإمساك بسرطان.»
ردت نيكول: «مستحيل.» ثم تابعت: «إذا كان الهدف من هذه الرحلة هو اقتناص مخلوق آلي، عندئذٍ تُخصص كل الموارد لهذا الغرض. تذكر أننا مقيدون بعدد الرواد وبالوقت.»
رد ديفيد براون وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة خبيثة: «مع الأسف.» وعقَّب قائلًا: «لا يمكننا أن نتخذ هذا القرار كلجنة. وبما أنه لم يتسنَّ لنا الوصول إلى اتفاق تام، يتعين عليَّ أن أختار … وعليه يكون الغرض من الرحلة التالية هو اقتناص سرطان آلي. وسأفترض جدلًا أن الفريق البحري هيلمان سوف يتفق معي في الرأي. فإن لم يتفق معي، فسنطرح القضية للتصويت عندئذٍ.»
انفضَّ الاجتماع بالتدريج. أراد دكتور تاكاجيشي أن يطرح مسألة مهمة أخرى للنقاش؛ إذ أراد أن يوضح أن معظم أنواع الكائنات الآلية التي شاهدها مستكشفو مركبة راما ١، لم تكن قد تجسدت حتى «بعد» ذوبان البحر الأسطواني. لكن لم يرد أحد أن يسمع المزيد. إذ كانوا جميعًا منهكين.
دنَت نيكول من تاكاجيشي وأدارت خفيةً شاشة الإحصاء البيولوجي خاصتها. وكان ملف التحذيرات فارغًا. قالت باسمةً: «ملفك ناصع البياض.»
نظر تاكاجيشي إليها نظرةً جادَّة. وقال في كمد: «قرارنا خاطئ. كان من المفترض أن نكون ذاهبين إلى نيويورك.»