ما بعد التشريح الثاني
جلست نيكول هادئة في كوخها بمخيم بيتا. ولم تستطِع أن تمحو من ذاكرتها الصورة المرعبة لوجه ريجي ويلسون الذي كان يتلوى في هلع عندما كان يُقطع إربًا إربًا. حاولت نيكول أن ترغم نفسها على التفكير في شيء آخر. وتساءلت في سرها: «وماذا بعد؟ ما الذي سيلمُّ بالبعثة الآن؟»
وبالخارج حل الظلام مرة أخرى براما. فقد انطفأت الأنوار على حين غِرة قبل ثلاث ساعات، بعد فترة إضاءة دامت ما يقل عن يوم راما السابق بأربع وثلاثين ثانية. وكان يُفترض أن انقطاع الأضواء سوف يثير كثيرًا من المناقشات والتخمينات. لكن أحدًا لم يأبه. ولم يُرِد أحد من الرواد أن يتحدث عن شيء. فقد كانت للذكرى المأساوية لمصرع ويلسون وطأة شديدة على الجميع.
وأُرجئ اجتماع الطاقم المعتاد بعد العشاء حتى صباح اليوم التالي لأن ديفيد براون والفريق البحري هيلمان كانا في اجتماع مطول مع مسئولي وكالة الفضاء الدولية في الأرض. ولم تشترك نيكول في أيٍّ من الحوارات، لكنه لم يكن من العسير عليها أن تتخيل مضامينها. وقد أدركت نيكول أن ثمة احتمالًا كبيرًا لإلغاء المَهمة الآن. فربما تعالت صيحات العامة طلبًا لهذا. فعلى أي حال، لقد شاهدوا جميعًا واحدًا من أبشع المشاهد …
وتخيلت نيكول جينفيف وهي جالسة أمام شاشة التلفزيون في بوفوا، وتشاهد الرائد ويلسون والكائنات الآلية تقطعه على نحو منظم. ارتعدت نيكول. ثم وبخت نفسها لانشغالها بشئونها الخاصة فحسب. وقالت في سرها: «لا بد أن الرعب الحقيقي هناك في لوس أنجلوس.»
وكانت نيكول قد التقت بعائلة ويلسون مرتين في غضون الحفلات الأولى التي تلت عملية انتقاء أعضاء الطاقم مباشرة. كانت نيكول تتذكر الصبي على وجه الخصوص. كان اسمه راندي. كان يبلغ من العمر سبع أو ثماني سنوات، ذا عينين نجلاوين ووجع وسيم. وكان يحب ممارسة الرياضة. وقد أحضر لنيكول أحد مقتنياته الثمينة وهي برنامج من أوليمبياد عام ٢١٨٤ في حالة شبه ممتازة، ثم طلب من نيكول أن توقع في الصفحة التي تبرز القفزة الثلاثية للنساء. مسحت نيكول على شعر الصبي مداعبةً إياه بينما كان يشكرها بابتسامة عريضة.
كان من الصعب للغاية عليها تخيل صورة راندي ويلسون وهو يشاهد والده يموت على شاشة التلفزيون. تحجرت بعض قطرات الدمع في جانبَي عينيها. وقالت لنفسها: «إن هذه السنة لكابوس لك أيها الصبي المسكين. إنها تقلبات الحياة. ففي البداية فرح وسعادة باختيار والدك رائد فضاء. ثم كل تفاهات فرانشيسكا والطلاق، والآن هذه المأساة المروعة.»
اعترت نيكول حالةٌ من الاكتئاب، وكان عقلها لا يزال في حالة نشطة لا يريد أن ينام. وقررت أنها بحاجة إلى صحبة. فاتجهت نحو الكوخ المتاخم وقرعت بابه برفق.
جاءها صوت من الداخل يقول: «من بالخارج؟»
فردَّت عليه قائلةً: «تاكاجيشي-سان. أنا نيكول. هل تأذن لي بالدخول؟»
سار تاكاجيشي نحو الباب وفتحه. وقال: «مفاجأة غير متوقَّعة. هل هذه الزيارة رسمية؟»
أجابته نيكول وهي تدخل: «لا. إنها غير رسمية بالمرة. لم أستطِع أن أنام، ورأيت أن …»
قاطعها بابتسامة ودودة: «على الرحب والسعة دائمًا. أنتِ لست في حاجة لتبرري مجيئك.» ثم نظر إليها بضع ثوانٍ. وقال: «إنني منزعج أيَّما انزعاج مما حدث بعد ظهيرة اليوم. وأشعر بالمسئولية. ولا أعتقد أنني قمت بما يكفي لمنع …»
ردت نيكول: «كن واقعيًّا شجيرو. ولا تكن سخيفًا. لا لوم عليك. فعلى الأقل أنت الوحيد الذي عارَض الأمر. أنا الطبيبة ومع ذلك لم أنبس ببنت شفة.»
تجولت عينا نيكول بلا هدف في أرجاء كوخ تاكاجيشي. رأت نيكول تمثالًا أبيض يثير الانتباه وبه علامات سوداء إلى جانب فراشه، على قطعة صغيرة من القماش على الأرضية. سارت نحوه وانحنت على ركبتيها وسألته: «ما هذا؟»
ارتبك دكتور تاكاجيشي قليلًا. وجاء إلى جانب نيكول والتقط الرجل الشرقي الصغير والبدين. وأمسكه بين إصبعيه السبابة والإبهام. وأجاب: «إنه تمثال صغير ورثته عن عائلة زوجتي. وهو مصنوع من العاج.»
ثم أعطى نيكول إياه. وقال: «إنه ملك الآلهة. وقد كان بصحبة هذا التمثال، تمثال آخر لملكة ممتلئة البدن بالمثل موضوع على الطاولة بجانب فراش زوجتي في كيوتو. وفي الماضي قبلما تعاني الفيلة خطر الانقراض، كان الكثيرون يصنعون من أنيابها تماثيل مثل هذه. وكان لعائلة زوجتي مجموعة فخمة منها.»
أنعمت نيكول النظر في الرجل الصغير في يدها. لقد كان تداعب شفتيه ابتسامةٌ عذبة صافية. وتخيلت نيكول ماتشيكو تاكاجيشي الجميلة هناك في اليابان، ولثوانٍ معدودة حسدتهما على قوة رابطة زواجهما. إذ جال في خاطرها: «إن هذه الرابطة تجعل التعامل مع أحداث مثل حادثة موت ويلسون أكثر يسرًا.»
قال دكتور تاكاجيشي: «أتودين الجلوس؟» جلست نيكول على صندوق بجانب الفراش وتحدثا عشرين دقيقة. وقد قضيا معظم الوقت يقص أحدهما على الآخر ذكريات عن عائلته. وقد أشارا إلى كارثة بعد الظهيرة مرات عديدة بطريقة غير مباشرة، بيد أنهما تحاشيا تمامًا الخوض في تفاصيل راما وبعثة نيوتن. فقد كانا بحاجة إلى صور من حياته اليومية على الأرض تبعث الراحة في نفسه.
قال دكتور تاكاجيشي بعدما فرغ من احتساء كوب الشاي ووضعه على الطاولة الصغيرة بجانب كوب نيكول: «والآن، لديَّ طلب غريب منك يا دكتورة نيكول. هل من الممكن أن تذهبي إلى كوخك وتُحضري جهاز إحصائك البيولوجي؟ أود أن أخضع للفحص.»
همَّت نيكول بالضحك، غير أنها لاحظت أمارات الجدية على وجه زميلها. وعندما عادت بجهازها بعد بضع دقائق، أخبرها دكتور تاكاجيشي عن سبب طلبه. فقال: «لقد شعرت بعد ظهيرة اليوم بألم حاد جدًّا في صدري مرتين. كان هذا في غمرة الانفعال. بعدما اصطدم ويلسون بالسرطانات، أدركت أن …» ولم يكمل جملته. فقد أومأت نيكول برأسها وشغلت جهاز الفحص.
ولم ينبسا ببنت شفة على مدار الثلاثة الدقائق الثلاثة التالية. تفقدت نيكول كل بيانات التحذير والرسومات البيانية الظاهرة على الشاشة الخاصة بأداء قلبه، وكانت تهز رأسها بانتظام. وعندما فرغت من فحصها ابتسمت لصديقها ابتسامة عريضة. وعلقت: «لقد أُصبت بنوبة قلبية خفيفة، ربما نوبتين في وقت متقارب جدًّا. وقد أصبحت ضربات قلبك غير منتظمة منذ ذلك الحين.» وقد استشفَّت من وجهه أنه كان متوقعًا ذلك الخبر. فقالت: «يؤسفني ذلك. بحوزتي بعض الأدوية التي يمكنني إعطاؤك إياها، لكنها ليست سوى بدائل مؤقتة. علينا أن نعود إلى مركبة نيوتن على الفور حتى يتسنى لنا أن نعالج هذه المشكلة كما ينبغي.»
ابتسم ابتسامة شاحبة وقال: «حسنًا، إن كانت تكهناتنا صحيحة، فإن الضوء سيعود إلى راما مرة أخرى في غضون اثنتي عشرة ساعة تقريبًا. وأعتقد أنه سيتسنى لنا العودة عندئذٍ.»
أجابته: «ربما. سوف أتحدث إلى براون وهيلمان بهذا الصدد على التو. وأظن أنني أنا وأنت سوف نرحل أولًا في الصباح.»
اقترب منها وأمسك بيديها. وقال: «أشكرك يا نيكول.»
استدارت نيكول. وللمرة الثانية في غضون ساعة اغرورقت عيناها بالدموع. ثم غادرت كوخ تاكاجيشي واتجهت إلى طرف المخيم للتحدث إلى ديفيد براون.
•••
سمعت نيكول صوت ريتشارد ويكفيلد في الظلام يقول لها: «آه، إنه أنتِ. اعتقدت يقينًا أنك كنت نائمة. لديَّ بعض الأخبار لكِ.»
قالت نيكول عندما اتضحت ملامح ريتشارد الممسك بالمصباح الضوئي في الظلام: «أهلًا ريتشارد.»
أجابها: «لم أستطِع النوم. فثَمة كثير من الصور المروِّعة التي لا تبرح ذهني. لذا قررت أن أحاول حل مشكلتك.» ثم ابتسم. واستطرد قائلًا: «إنها أيسر مما تخيلت. هل من الممكن أن تتفضلي إلى كوخي للإيضاح؟»
كانت نيكول مشوَّشة. كانت مشغولة بما كانت تنوي أن تقوله لبراون وهيلمان بشأن تاكاجيشي. سألها ريتشارد: «ألا تتذكرين؟ المشكلة في برمجيات روسور والأوامر اليدوية.»
فسألته: «أكنت تحاول العمل على هذا الأمر؟ وهنا في هذا المكان؟»
أجابها: «بالطبع. كل ما كان عليَّ فعله هو أن أجعل أوتول ينقل لي كل البيانات التي أحتاجها. هيا، دعيني أريكِ.»
قررت نيكول أن ترجئ مقابلة دكتور براون لدقائق أخرى. سارت إلى جانب ريتشارد. ثم قرع ريتشارد باب الكوخ الآخر الذي سارا إليه. وصاح: «هاي تابوري، أتستطيع أن تخمن ما عندي؟ لقد عثرت على طبيبة جميلة تتجول في الظلام. أتريد أن تنضم إلينا؟»
قال ريتشارد لنيكول: «لقد شرحت بعض الأمور له أولًا. لقد كان كوخك مظلمًا واعتقدت أنكِ نائمة.»
خرج جانوس من باب كوخه بعد أقل من دقيقة ورحَّب بنيكول بابتسامة. ثم قال: «حسنًا يا ويكفيلد، لكن لا تدعنا نطيل. فقد استغرقت في النوم بعد معاناة.»
وهناك في مؤخرة كوخ ويكفيلد، راح المهندس البريطاني يروي باستمتاع واضح ماذا حدث للجراح الآلي عندما تعرضت نيوتن لتلك الهزات العنيفة غير المتوقعة. فقال: «كنت محقَّة يا نيكول؛ بالفعل أُدخلت أوامر يدوية إلى روسور. وهذه الأوامر هي التي تسببت فعليًّا في غلق نظام خوارزميات الحماية ضد الأعطال المعتادة. لكن لم يجرِ إدخال أيٍّ منها حتى في غضون مناورة راما.»
ابتسم ويكفيلد ثم استرسل وهو يلاحظ نيكول بعناية ليتأكد أنها تتابع شرحه. أردف: «يبدو أنه عندما سقطت أصابع جانوس على صندوق التحكم، أنه أعطى ثلاثة أوامر. على الأقل هذا ما اعتقده روسور، فقد وصلته رسالة تفيد أن هناك ثلاثة أوامر يدوية في مصفوفاته. وبالطبع كانت كلها بيانات عديمة النفع. لكن لم يكن لدى روسور المقدرة على تمييز ذلك.
ربما يمكنكِ الآن أن تتفهمي بعضًا من الكوابيس التي تعذب مصممي برمجيات الأنظمة. فما من أحد يمكنه أن يتوقع كل الاحتمالات الممكن حدوثها. فالمصممون وضعوا حماية ضد أمر «واحد» عديم النفع غير مقصود — على سبيل المثال، أن يلمس أحدهم صندوق التحكم في أثناء إجراء العملية — ولكن لم يؤمِّنوا ضد «العديد» من الأوامر الخاطئة. فتصميم النظام الشامل ينظر إلى الأوامر اليدوية على أنها حالة طوارئ في المقام الأول. من ثَم حظيت الأوامر اليدوية بالأولوية الكبرى في الإيقاف المؤقت لتنفيذ الأوامر الخاصة ببرمجيات روسور وكان يجري معالجتها في التو؛ بيد أن التصميم وضع في اعتباره أنه قد يوجد أمر يدوي واحد «خاطئ»، وأن لديه القدرة على رفضه والانتقال إلى الإيقاف المؤقت لتنفيذ الأوامر التي تليها في الأولوية، والتي تضمنت الحماية ضد الأعطال.»
قالت نيكول: «عذرًا. لقد فقدت التركيز. فكيف يمكن للتصميم أن يُبنى بحيث يتجاهل أمرًا واحدًا خاطئًا، وليس العديد من الأوامر الخاطئة؟ لقد اعتقدت أن هذا المعالج البسيط يعمل في تسلسل.»
استدار ريتشارد نحو جهاز الكمبيوتر المحمول، وانطلاقًا من بعض الملاحظات، استدعى على الشاشة مجموعة من الأرقام المرتبة في صفوف وأعمدة. ثم قال: «ها هي العمليات، أمر تلو الآخر، نفذتها برمجيات روسور بعدما حدثت أوامر يدوية في مصفوفاته.»
علق جانوس قائلًا: «إنها تتكرر كل سبع عمليات.»
أجابه ريتشارد: «بالضبط. لقد حاول روسور ثلاث مرات أن يعالج الأمر اليدوي الأول، لكن كل محاولاته باءت بالفشل فانتقل إلى الأمر التالي. وقد عملت البرمجيات بالضبط تبعًا للطريقة التي صُممت بها …»
عندئذٍ سأله تابوري: «لكن لماذا رجع إلى الأمر الأول بعدها مباشرة؟»
أجابه: «لأن مصممي البرمجيات لم يأخذوا بعين الاعتبار على الإطلاق احتمالية أن تكون الأوامر اليدوية الخاطئة «متعددة». أو على الأقل لم يتحسبوا لمثل هذه الظروف قط. فالسؤال الداخلي الذي تطرحه البرمجيات بعد الانتهاء من معالجة كل أمر هو هل لا يزال هناك أمر يدوي آخر في الذاكرة المؤقتة أم لا. فإذا «لم» يوجد أمر يدوي فالبرمجيات ترفض الأمر الأول عندئذٍ وتصبح حرة للانتقال لمعالجة عطل آخر. أما إذا «وُجد» أمر يدوي فإن البرمجيات تُخبَر بأن تخزن الأمر المرفوض وتعالج الأمر التالي. والآن إذا كان هناك أمران مرفوضان في صف فإن البرمجيات «تفترض» أن عتاد معالج الأوامر معطل فتستبدله بمجموعة عتاد احتياطية، ثم تحاول مجددًا أن تعالج نفس الأوامر اليدوية. وبإمكانكما أن تفهما الاستنتاج هكذا، افترضا أن …»
أصغت نيكول لعدة ثوانٍ بينما كان ريتشارد وجانوس يتحدثان حول النظم الاحتياطية، والأوامر المختزنة في الذاكرة المؤقتة، وتراكيب المصفوفات. لقد تلقَّت نيكول اليسير من التدريبات على كلٍّ من نظام الحماية ضد الأعطال وإدارة البرامج الاحتياطية، غير أنها لم تستطِع متابعة الحديث. فقاطعته أخيرًا: «لحظة من فضلك، لقد فقدت التركيز مرة أخرى. تذكر أنني لست مهندسة. ألا يستطيع أحدكما أن يلخص لي الأمر بلغة مبسطة؟»
اعتذر لها ويكفيلد. وقال: «آسف نيكول. أتعرفين ما نظام البرمجيات القائم على الإيقاف المؤقت لتنفيذ الأوامر حسب الأولويات؟» أومأت برأسها بالإيجاب. فسألها أيضًا: «وهل تألفين الطريقة التي تُدار بها الأولويات في مثل هذا النظام؟ حسنًا. إذَن التفسير بسيط. إن الإيقاف المؤقت لتنفيذ الأوامر الخاصة بنظام الحماية ضد الأعطال، الذي يقوم على مقياس التسارع وتصوير البيانات، يتمتع بأولوية أقل من تلك التي للأوامر اليدوية التي أدخلها جانوس سهوًا وهو يسقط. فأصبح النظام مغلقًا في حلقة البرمجيات في محاولة لمعالجة الأوامر الخاطئة، ولم تُتَح له الفرصة على الإطلاق كي يلتفت إلى إشارات العطل من النُّظم الفرعية للمستقبلات. لهذا السبب استمر المشرط في عملية القطع.»
شعرت نيكول بالإحباط لسبب غير واضح. لقد كان الشرح واضحًا على نحو وافٍ، وهي لم ترد بالطبع أن يُظهر التحليل تورُّط جانوس أو أي فرد آخر من أفراد الطاقم. لكن الأمر كان في غاية البساطة. ولم يكن يستحق منها كل ذلك العناء والوقت.
جلست نيكول على الفراش في كوخ ويكفيلد. وقالت: «هذا كثير بالنسبة إلى لغزي الغامض.»
جلس جانوس إلى جانبها. وقال لها: «ابتهجي يا نيكول. إنها أخبار سارَّة. على الأقل نحن متيقنون الآن من أننا لم نخطئ في ضبط الجهاز من البداية. ثمة تفسير منطقي لما حدث.»
أجابته بتهكم: «رائع.» وأردفت: «لكن الجنرال بورزوف لا يزال ميتًا. والآن ريجي ويلسون أيضًا.» فكرت نيكول في الطريقة الشاذة التي كان يتصرف بها الصحفي الأمريكي خلال الأيام العديدة الماضية، وتذكرت أيضًا حوارها السابق مع فرانشيسكا. وقالت بتلقائية: «بالمناسبة، هل سمع أحد منكم قط الجنرال بورزوف يشكو من صداع أو أي اضطرابات؟ ولا سيما في يوم إقامة المأدبة؟»
هز ويكفيلد رأسه نافيًا. وقال جانوس: «لا. لكن لمَ تسألين؟»
أجابته: «حسنًا، لقد سألت جهاز التشخيص، بناءً على بيانات الفحص البيولوجي الخاصة ببورزوف، عن الأسباب المحتملة للأعراض التي أصابته، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه «لم» يكن مصابًا بالزائدة الدودية. وكان أكثر الأسباب ترجيحًا هو التفاعل الدوائي. وكانت نسبة الاحتمال اثنين وستين بالمائة. وظننت أنه ربما تأثر بتفاعل عكسي لنوع معين من الأدوية.»
«حقًّا؟» قالها جانوس، وقد أُثير فضوله. ثم تساءل: «لمَ لم تقولي أي شيء عن هذا الأمر من قبل؟»
أجابته نيكول: «مرات عدة، كنت أنوي … لكنني ظننت أنك غير مهتم. أتذكر حينما عرجت عليك في غرفتك على متن نيوتن في اليوم التالي لموت الجنرال بورزوف؟ كان ذلك بعد اجتماع الطاقم مباشرة. وقد استنتجت من الطريقة التي كنت تتعامل بها معي، أنك لا تريد الخوض في تفاصيل ذلك الموضوع مرة أخرى …»
هز جانوس رأسه وقال: «يا إلهي. إن البشر لا يعرفون كيف يتواصلون جيدًا معًا. لقد كنت مصابًا بصداع ليس غير. بالطبع لم أقصد أن أترك لديك انطباعًا بأنني عازف عن التحدث بشأن موت فاليري.»
ردت عليه نيكول وهي تنهض بضجر من على الفراش: «بمناسبة التحدث عن التواصل، عليَّ أن أذهب لأرى دكتور براون والفريق البحري هيلمان قبل أن أخلد إلى النوم.» ثم نظرت إلى ويكفيلد. وقالت: «أشكرك على مساعدتك ريتشارد. ليتني أستطيع أن أقول إنني أصبحت بحال أفضل الآن.»
سارت نيكول إلى جانب جانوس. وقالت: «آسفة يا صديقي. كان ينبغي لي أن أشركك في كل التحقيقات بأكملها. ربما لم أفعل هذا لأن الأمور قد سارت على جناح السرعة …»
أجابها جانوس بابتسامة: «كل شيء على ما يرام. لا عليك. هيا سوف أرافقك حتى أصل إلى كوخي.»
سمعت نيكول الحوار الدائر بصوت عالٍ قبل أن تقرع باب الكوخ. لقد كان يتجادل كلٌّ من ديفيد براون وأوتو هيلمان وفرانشيسكا ساباتيني حول كيفية الرد على آخر التوجيهات الآتية من الأرض.
كانت فرانشيسكا تقول: «إنهم يغالون. وجميعهم سيدركون الواقع حالما يكون لديهم الوقت الكافي لإمعان النظر في الأمر. فهذه ليست أول بعثة تتكبَّد خسائر في الأرواح. فرِحلات استكشاف الفضاء الأمريكية لم تُلغَ حين قُتلت رائدة الفضاء كريستا ماك أوليف وطاقمها إثر تحطم مكوك الفضاء تشالنجر.»
اعترض الفريق البحري هيلمان قائلًا: «لكنهم قد «أمرونا» بالعودة إلى نيوتن في أسرع وقت ممكن.»
قالت فرانشيسكا: «إذن سوف نتحدث إليهم مرة أخرى بالغد ونفسر لهم لماذا نريد أن نمسح نيويورك أولًا. فقد ذكر تاكاجيشي أن البحر سوف يبدأ في الذوبان في غضون يوم أو يومين، وسنُضطر إلى الرحيل على أي حال. علاوة على أن ويكفيلد وتاكاجيشي وأنا سمعنا بالفعل صوتًا ما في تلك الليلة، حتى إذا لم يصدقنا ديفيد.»
شرع أخيرًا دكتور براون في الرد عليهما فقال: «لا أعلم يا فرانشيسكا،» لكنه توقف حينما سمع نيكول تقرع الباب. فسأل بحدة: «من الطارق؟»
أجابته: «الرائدة نيكول، لديَّ معلومة طبية غاية في الأهمية …»
قاطعها براون في عجالة: «نيكول، نحن مشغولون للغاية. ألا يمكنك أن ترجئيها حتى الصباح؟»
قالت نيكول في نفسها: «حسنًا، يمكنني الانتظار حتى الصباح.» ولم تكن متحمسة للرد على سؤال دكتور براون بشأن حالة قلب تاكاجيشي على أي حال. ثم قالت بصوت مرتفع، وهي تضحك في سرها: «عُلم.»
وفي غضون ثوانٍ كانت نيكول تسمع المحادثة تدور مجددًا وراء ظهرها. وسارت بتؤدة عائدةً إلى كوخها. قالت في نفسها وهي تزحف إلى فراشها: «ينبغي أن يكون الغد يومًا أفضل.»