معجزة أورفيتو
قال ديفيد براون عندما همَّ الفريق البحري الألماني بمغادرة كوخه: «ليلة هانئة، يا أوتو.»
«أراك في الصباح.» قالها دكتور براون وأخذ يتثاءب ويتمدد. ثم نظر إلى ساعته. سيبقى على ظهور الضوء مرةً أخرى ما يزيد قليلًا عن ثماني ساعات.
خلع بذلة الطيران ثم احتسى كوبًا من الماء. وكان قد استلقى على فراشه لتوه حينما دخلت فرانشيسكا كوخه. قالت: «ديفيد، لدينا مزيد من المشكلات.» ثم دنت منه وقبَّلته قبلة صغيرة. وقالت: «لقد كنت أتحدث مع جانوس. وعرفت أن نيكول تُساورها الشكوك بأن بورزوف قد أُعطي دواءً ما.»
صاح قائلًا: «ماااااااذا؟» ثم انتفض براون على فراشه. وأردف: «كيف تمكنت من هذا؟ يستحيل …»
قاطعته قائلة: «يبدو أن هناك بعض الأدلة في بيانات إحصائه البيولوجي، وقد تمكنت ببراعة من اكتشافها. لقد ذكرت هذا لجانوس الليلة.»
قال: «ألم يبدو عليكِ أي تأثر حينما قال لك هذا؟ أقصد، يجب علينا أن …»
أجابته فرانشيسكا: «بالطبع لم أبالِ أمامه. على أي حال، جانوس لن يرتاب في أي شيء البتة ولا حتى بعد ألف عام. فهو ساذج تمامًا. على الأقل عندما يتعلق الأمر بأمور كهذه.»
قال ديفيد براون: «اللعنة على تلك المرأة. وعلى جهاز إحصائها البيولوجي.» ثم فرك وجهه بيديه. وقال: «يا له من يوم. في أوله يحاول ويلسون الأخرق أن يقوم بدور البطل، والآن هذه المصيبة … لقد أخبرتك أنه كان ينبغي تدمير كل البيانات من العملية. لقد كان من اليسير جدًّا أن نمحو الملفات المركزية. عندئذٍ كان سيستحيل …»
ردت فرانشيسكا: «لا تنسَ أنه كان سيظل بحوزتها سجلات بيانات إحصائه البيولوجي. وهذا هو المكان الذي يوجد فيه الدليل الأساسي. عندئذٍ عليك أن تصبح عبقريًّا بمعني الكلمة بأن تأخذ البيانات من ملف العملية نفسها وتستنتج منها أي شيء.» جلست فرانشيسكا وضمت رأس دكتور براون إلى صدرها. واسترسلت: «أفدح أخطائنا لم يكن إخفاقنا في تدمير الملفات. فهذا كان سيثير الشكوك في وكالة الفضاء. وإنما تمثل الخطأ الفادح في أننا استخففنا بنيكول دي جاردان.»
أبعد دكتور براون رأسه عن حضنها ونهض. وقال: «اللعنة يا فرانشيسكا، إنها غلطتك. ما كان عليَّ أن أدعك تقودينني إلى هذا. لقد علمت حينذاك …»
قاطعته فرانشيسكا بحدة: «علمت حينذاك يا دكتور ديفيد براون أنك ممنوع من الانضمام إلى الرحلة الأولى إلى راما. علمت حينذاك أن الملايين التي ستحصل عليها في المستقبل باعتبارك البطل والقائد المميز في هذه البعثة ستكون عُرضة للخطر إذا مكثت على متن نيوتن.» توقف براون عن ذرع المكان جيئة وذهابًا، ووقف في مواجهة فرانشيسكا. استرسلت فرانشيسكا ولكن بطريقة أكثر لينًا: «علمت حينذاك أنني أيضًا لي مصلحة مشتركة من ذهابك إلى الرحلة. وإنه يمكن الاعتماد عليَّ كي أعضدك.»
أمسكت فرانشيسكا يديه وجذبته نحو الفراش. وقالت: «اجلس، يا ديفيد. لقد أسهبنا في الحديث حول هذا الموضوع. نحن لم نقتل الجنرال بورزوف. نحن ببساطة أعطيناه دواءً يخلق لازمة أعراض الزائدة الدودية. لقد اتخذنا القرار معًا. ولو لم تقم راما بتلك المناورة ولم يحدث خلل وظيفي في الجراح الآلي، لنجحت خطتنا نجاحًا تامًّا. فكان بورزوف سيُمضي ذاك اليوم على متن نيوتن للتعافي من الزائدة ونقود أنا وأنت عملية استكشاف راما هنا.»
أفلت ديفيد براون يدها وبدأ يعتصر يديه. ثم قال: «أشعر … أشعر بالنجاسة الشديدة، لم أفعل في حياتي شيئًا مثل هذا قط. أقصد، سواء فعلنا ذلك عن عمد أم لا، فنحن متورطان إلى حد ما في موت بورزوف. وربما في موت ويلسون أيضًا. وقد نُحاكَم جرَّاء ذلك.» وكان يهز رأسه مرة أخرى. وكانت أمارات البؤس تبدو على وجهه. وأردف: «من المفترض أنني عالم، ماذا دهاني؟ كيف تورطت في كل هذه الأشياء؟»
قالت فرانشيسكا بقسوة: «لا حاجة لي باستقامتك وطُهرك. ولا تحاول أن تخدع نفسك. ألست أنت ذاك الرجل الذي سرق أهم اكتشاف فلكي في هذا العقد من إحدى طالبات الدراسات العليا؟ ثم تزوجت منها كي تضمن سكوتها للأبد، أليس كذلك؟ لقد تخليت عن استقامتك منذ زمان طويل جدًّا.»
رد عليها دكتور براون بمكابرة: «هذا ظلم. كنت أمينًا معظم حياتي. باستثناء …»
انتصبت فرانشيسكا واقفة وكانت هي التي تذرع المكان جيئة وذهابًا هذه المرة. قاطعته: «باستثناء عندما كان الأمر يعني الكثير بالنسبة لك ويستحق العناء. يا له من هراء! أنتم أيها الرجال منافقون ملعونون. فأنتم تحتفظون بصورة نبيلة عن أنفسكم عن طريق تبريرات مذهلة. ولا تعترفون لأنفسكم البتة بمن أنتم بحق ولا بما تريدون بالفعل. معظم النساء أكثر أمانة منكم. فنحن نعترف بطموحاتنا ورغباتنا، وحتى أكثرها دناءة وخسة. نحن نُقر بنقاط ضعفنا. ونواجه أنفسنا كما هي بالفعل، وليس كما نرغب أن نكون.»
رجعت فرانشيسكا مرة أخرى إلى الفراش وأمسكت بيد ديفيد مرة أخرى. وقالت بحماسة: «ألا ترى يا عزيزي؟ أنا وأنت متوحدان روحيًّا، وتوحدنا هذا يقوم على أقوى رابطة على الإطلاق؛ تبادل المنفعة الذاتية. فكلانا يسير مدفوعًا بنفس الهدف؛ السلطة والشهرة.»
فرد عليها: «إنه لأمر مروِّع.»
أجابته: «لكنها الحقيقة. حتى لو كنت لا تريد أن تقر بها لنفسك. عزيزي ديفيد، ألا يمكنك أن ترى أن افتقارك للحسم ينبع من إخفاقك في أن تعترف بطبيعتك الحقيقية؟ انظر إليَّ. أنا أعرف بالضبط ما أريده ولا أرتبك البتة بشأن ما أنوي فعله. ومن ثَم أتصرف بطريقة تلقائية.»
جلس الفيزيائي الأمريكي في هدوء إلى جانب فرانشيسكا لمدة طويلة. ثم أخيرًا استدار ووضع رأسه على كتفها. وقال وهو يتنهد: «في البداية بورزوف والآن ويلسون. أشعر أنني مستنزف ومنهك. ليت شيئًا من كل هذا لم يحدث.» قالت له وهي تمسح بيدها على رأسه: «لا مفر الآن يا ديفيد. لقد قطعنا شوطًا كبيرًا. والجائزة الكبرى الآن في متناول أيدينا.»
مدت فرانشيسكا يدها ونزعت عنه قميصه. وقالت بلطف: «لقد كان يومًا طويلًا وشاقًّا. لنحاول أن ننساه.» أغمض ديفيد براون عينيه بينما أخذت هي تداعب وجهه وصدره.
مالت فرانشيسكا عليه ولثمت شفتيه برفق. وبعد ثوانٍ قلائل توقفت فجأة. وقالت وهي تخلع ملابسها ببطء: «أتعلم، ما دمنا متورطين معًا في هذا الأمر، فلسوف يستمد أحدُنا القوة من الآخر.» ثم وقفت أمام ديفيد مجبِرةً إياه أن يفتح عينيه.
قال في لهفة: «أسرعي، فأنا فعليًّا …»
ردت فرانشيسكا ببطء وهي تخلع ملابسها الداخلية: «لا تقلق كثيرًا بهذا الشأن، فأنت لم تعانِ أي صعاب معي.» ابتسمت فرانشيسكا مرة أخرى وهي تدفع بركبتيه بعيدًا إحداهما عن الأخرى، وتضغط وجهه في نهدَيها. قالت وهي تضع يدها الأخرى برفق على بنطاله القصير: «تذكر أنا لست إيلين.»
•••
تفرَّست فرانشيسكا في ديفيد براون وهو نائم بجانبها. وقد حلَّت ابتسامةٌ صافية كتلك التي لصبي صغير محل الإجهاد والقلق اللذين كانا يهيمنان على وجهه قبل بضع دقائق فحسب. قالت فرانشيسكا في نفسها: «الرجال أمرهم سهل للغاية. فالجماع أفضل مسكن لألمهم. ليت الأمر كان بهذه السهولة لنا.»
انسلت برفق من الفراش وارتدت ملابسها. كانت فرانشيسكا حريصة على ألا تزعج صديقها النائم. وقالت لنفسها وهي تنتهي من ارتداء ملابسها: «لكننا لا يزال لدينا مشكلة حقيقية، ويجب أن نتعامل معها بسرعة. وهذه المشكلة أكثر صعوبة لأننا نتعامل مع امرأة.»
سارت فرانشيسكا خارج كوخها في ظلام راما. كانت هناك أضواء قليلة بالقرب من مخزن المؤن في الطرف الآخر من المخيم، ولكن فيما عدا مخيم بيتا كان الظلام يخيم على كل الأرجاء. وكان الجميع نائمين. أدارت كشافها الضوئي الصغير، وسارت جنوبًا باتجاه البحر الأسطواني.
تساءلت في سرها وهي سائرة: «ماذا تريدين بالتحديد يا سيدة نيكول دي جاردان؟ وما نقطة ضعفك، النقطة التي تجعلني أنال منك؟» وأخذت فرانشيسكا تقلب لبضع دقائق ما في جعبتها من أفكار عن نيكول، في محاولة أن تجد أي نقيصة في شخصيتها يمكن استغلالها. قالت في نفسها: «بالطبع ليس المال. ولا ممارسة الجنس، على الأقل معي.» ثم ضحكت تلقائيًّا. وأردفت: «وبالطبع، ليس مع ديفيد أيضًا. فكرهك له بيِّن.»
«وماذا عن الابتزاز؟» قالتها فرانشيسكا في نفسها وهي تقترب من ضفاف البحر الأسطواني. لقد تذكرت رد فعل نيكول العنيف تجاه سؤالها عن والد جينفيف. فقالت: «إذن ربما يُجدي معها الابتزاز، لو كنت فقط أعلم إجابة هذا السؤال … لكنني لا أعرف.»
تحيرت فرانشيسكا لفترة وجيزة. ولم تستطع أن تصل إلى شيء تفضح به نيكول دي جاردان. وفي ذلك الوقت، كانت الأضواء البازغة من المخيم وراءها مرئية بالكاد. أطفأت فرانشيسكا كشافها الضوئي وجلست بحذر شديد كي تدلي قدمها من على حافة الجرف.
وقد أثار تدلي قدمها فوق ثلج البحر الأسطواني في ذهنها مجموعة من الذكريات المثيرة للشجن من طفولتها في أورفيتو. ففي سن الحادية عشرة قررت فرانشيسكا الناضجة قبل الأوان أن تبدأ في تدخين السجائر على الرغم من وابل التحذيرات الصحية الذي كان يطلق عليها من كل جانب. فكانت تشق طريقها كل يوم بعد المدرسة عبر التل إلى السهل أسفل المدينة وتجلس على ضفة جدول الماء المفضل لديها. وهناك كانت تدخن في صمت، كنوع من التمرد الفردي. وفي هذه الأمسيات الهادئة، كانت تعيش في عالم خيالي من القلاع والأمراء، على بعد ملايين الكيلومترات من والدتها وزوج والدتها.
أثارت ذكريات فترة المراهقة رغبةً عارمة داخل فرانشيسكا للتدخين. لقد تناولت حبات النيكوتين طيلة البعثة، لكن هذه الحبات لم تشبع سوى إدمانها الجسدي فحسب. سخرت فرانشيسكا من نفسها ومدت يدها إلى أحد الجيوب السرية في بذلة الطيران التي ترتديها. لقد خبأت فرانشيسكا ثلاث سيجارات في غلاف معد خاصة لتحتفظ بحالتها جيدة. لقد قالت لنفسها قبل مغادرة الأرض سآخذ السجائر معي «تحسبًا لحدوث أي طوارئ» …
إن تدخين السجائر بداخل مركبة فضائية قائمة خارج الأرض لهو أمرٌ أشد ضراوة من التدخين في عمر الحادية عشرة. أرادت فرانشيسكا أن تصيح بصوت عالٍ مُعرِبةً عن سعادتها عندما ألقت برأسها للخلف وزفرت الدخان في هواء راما. لقد جعلها هذا التصرف تشعر بالحرية وأنها بلا قيود. وبطريقة أو بأخرى كان التهديد الذي تمثله نيكول دي جاردان لها لا يبدو خطيرًا بالدرجة.
وبينما كانت تدخن، تذكرت فرانشيسكا الوحدة الموحشة التي كانت تملأ كيان الصبية التي كانت تنسل عبر منحدرات أورفيتو القديمة. وتذكرت أيضًا السر المروع الذي كتمته في قلبها أبد الدهر. لم تخبر فرانشيسكا أحدًا قط بشأن زوج أمها، وقطعًا لم تخبر والدتها أيضًا، وقلما فكرت في الأمر بعد ذلك. لكن بينما كانت جالسة على ضفاف البحر الأسطواني، بدا أن مآسي طفولتها قد تجلت أمامها بكل وضوح.
بعدما غرقت في تفاصيل حياتها قبل ثماني عشرة سنة، قالت في نفسها: «لقد بدأ الأمر بعد عيد ميلادي الحادي عشر مباشرة. ولم يكن لديَّ أدنى فكرة في البداية عما يريد مني هذا الوغد.» ثم أخذت نفسًا عميقًا آخر من السيجارة. واسترسلت في ذكرياتها: «حتى بعدما بدأ يجلب لي الهدايا بلا مبرر.»
كان يعمل مديرًا لمدرستها الجديدة. وعندما خضعت للمجموعة الأولى من اختبارات القَبول، أحرزت أعلى الدرجات في تاريخ أورفيتو. فقد تخطت جميع المقاييس، لتكون بذلك الطفلة المعجزة. وحتى ذلك الحين لم يكن يلتفت إليها مطلقًا. وكان قد تزوج من والدتها منذ ثمانية عشر شهرًا وأنجبا توءمًا بعدها مباشرة تقريبًا. وأضحت فرانشيسكا مصدرًا للإزعاج، وعبئًا ماديًّا آخر، وأصبح وجودها لا يعني شيئًا اللهم سوى جزء من ممتلكات والدتها.
قالت فرانشيسكا لنفسها: «وأخذ يحسن معاملتي على غير المعتاد على مدار عدة أشهر. ثم ذهبت والدتي لزيارة الخالة كارلو لبضعة أيام.» وعندئذٍ توالت الذكريات المُرة سريعًا كوابلٍ من المطر على ذهنها. لقد تذكرت رائحة الخمر المنبعثة من أنفاس زوج والدتها، وعرقه الذي يبلل جسدها، ودموعها بعدما يغادر غرفتها.
استمر هذا الكابوس ما يزيد عن عام. كان يرغمها على ذلك كلما غابت والدتها عن المنزل. وفي إحدى الليالي، وبينما كان يرتدي ملابسه موجهًا نظره في الاتجاه الآخر، ضربته فرانشيسكا على مؤخرة رأسه بمضرب كرة البيسبول المصنوع من الألومنيوم. سقط زوج والدتها على الأرض غارقًا في دمائه وفاقدًا للوعي. سحبته إلى غرفة المعيشة وتركته هناك.
تذكرت فرانشيسكا وهي تطفئ سيجارتها في تراب راما: «ولم يلمسني مرة أخرى قط.» واسترسلت في حديثها مع نفسها: «وصرنا غريبين يعيشان في المنزل نفسه. ومنذ ذلك الحين، أصبحت أقضي معظم وقتي مع روبرتو وأصدقائه. وقد كنت أنتظر حتى تحين الفرصة فحسب. وكنت مستعدة عند ظهور كارلو.»
وفي صيف عام ٢١٨٤، ناهزت فرانشيسكا الرابعة عشرة من عمرها. وقد أمضت معظم وقتها في ذلك الصيف في التسكع حول الميدان الرئيسي في أورفيتو. وكان ابن عمها روبرتو الأكبر منها سنًّا قد أنهى لتوه دراسته ليصبح مرشدًا سياحيًّا للكاتدرائية الموجودة بالميدان. كانت الكاتدرائية القديمة أكبر مكان لجذب السياح، وقد بُنيت على مراحل بدايةً من القرن الرابع عشر. وكانت الكنيسة تحفة فنية ومعمارية رائعة. وكان يُشاد في كل الأرجاء باللوحات الجصية التي أبدعها الفنان لوكا سينوريلي في مصلى سان بريزيو داخلها باعتبارها خير مثال على الرسومات الخيالية في القرن الخامس عشر الموجودة خارج متحف الفاتيكان.
ولأن يصير أحدهم المرشد الرسمي للكاتدرائية، فهذا يُعتبر إنجازًا كبيرًا ولا سيما في عمر التاسعة عشر. لذا كانت فرانشيسكا فخورة للغاية بروبرتو. وكانت تصحبه في بعض الأوقات في جولاته السياحية، لكن في حال إذا وافقت مسبقًا على ألا تضعه في مواقف محرجة بنكاتها.
وبعد ظهر أحد أيام شهر أغسطس، وبالتحديد بعد الغداء مباشرة، وقفت إحدى السيارات الليموزين البراقة بساحة الكاتدرائية، وطلب السائق من مكتب الإرشاد السياحي مرشدًا سياحيًّا. ولم يكن السيد الموجود بالسيارة قد حجز مسبقًا، وكان روبرتو هو المرشد الوحيد المتاح في تلك الأثناء. كانت فرانشيسكا تراقب الموقف بفضول شديد، إذ رأت رجلًا قصير القامة، ووسيمًا، في أواخر الثلاثينيات من عمره أو أوائل الأربعينيات ينزل من المقعد الخلفي للسيارة، وقدم نفسه لروبرتو. وكان دخول السيارات إلى شمال أورفيتو محظورًا إلا بتصريح خاص على مدار قرابة المائة عام، من ثَم علمت فرانشيسكا أن هذا الرجل بلا جدال شخصٌ غير عادي.
وكما جرت العادة، بدأ روبرتو جولته بالتحدث عن النقوش التي نحتها الفنان لورنزو ميتاني على البوابات الخارجية للكنيسة. ووقفت فرانشيسكا التي لا يزال يتملكها الفضول بعيدًا عنهما تدخن في هدوء، بينما كان ابن عمها روبرتو يشرح المغزى من الرسومات الشيطانية الغريبة عند قاعدة أحد الأعمدة. قال روبرتو وهو يشير إلى مجموعة من الشخصيات التي صورها دانتي في أشعاره: «وهذه إحدى أقدم الصور التي تمثل الجحيم. فقد كانت رؤية أناس القرن الرابع عشر للجحيم تنطوي على تفسير حرفي بحت للإنجيل.»
قاطعته فرانشيسكا على حين غِرة وهي تلقي بسيجارتها على الطريق المعبَّد بالحجارة وتتجه نحو روبرتو والرجل الوسيم الغريب. قائلة: «هاه! إنها أيضًا رؤية ذكورية جدًّا للجحيم. لاحظ هنا أن معظم الشياطين ذوو نهود، ومعظم الخطايا المصورة هي خطايا جنسية. فالرجال لديهم دائمًا معتقد بأنهم خُلقوا كاملين، والنساء هن اللائي علمن إياهم الخطيئة.»
ذُهل الغريب من مظهر هذه المراهقة الهيفاء التي تزفر الدخان من فمها. وعلى الفور لاحظ جمالها الطبيعي، وكان من الواضح أنها غاية في الذكاء. فسأل من تكون؟
أجابه روبرتو المرتبك للغاية بسبب مقاطعتها: «هذه ابنة عمي فرانشيسكا.»
قال الرجل وهو يمد يده: «كارلو بيانكي.» وكانت يده رطبة، ونظرت فرانشيسكا إلى وجهه فتبيَّنت اهتمامه. شعرت بضربات قلبها تدق بشدة. وقالت بخجل: «إذا أصغيت إلى روبرتو، فإن كل ما ستحصل عليه هو جولة رسمية فقط. فهو يهمل الجزء الممتع.»
فقال لها: «وأنت، آنسة …»
قالت له: «فرانشيسكا.»
فقال لها: «نعم فرانشيسكا، هل لديك جولة من صنعكِ أنتِ؟»
منحته فرانشيسكا أجمل ابتساماتها. وأردفت: «أنا كثيرة الاطلاع. وأعرف عن كل الفنانين الذين ساهموا بفنونهم في هذه الكاتدرائية، ولا سيما الرسام لوكا سينوريلي.» توقفت عن الحديث لحظة. ثم استطردت قائلة: «أتعلم أن مايكل أنجلو قد وفد إلى هنا كي يدرس الصور العارية التي رسمها سينوريلي قبل أن يرسم سقف كنيسة سيستينا؟»
ضحك كارلو بشدة وقال: «لا، لم أكن أعرف.» لقد افتتن بها بالفعل. واستطرد قائلًا: «لكنني أعرف الآن. تعالَي. رافقينا. يمكنكِ أن تضيفي المزيد إلى أقوال ابن عمك روبرتو.»
أُعجبت فرانشيسكا اليافعة بالطريقة التي يرمقها بها. لقد بدا وكأنه يمدحها كما لو كانت لوحة رائعة، أو عقدًا مرصعًا بالجواهر، ولم تفوت عيناه أي شيء وهي تجول بوقاحة في كل أنحاء جسدها. وقد شجعتها ضحكته المريحة في المضي قدمًا. وبمرور الوقت ازدادت تعليقات فرانشيسكا وقاحة وبذاءة.
«أترى تلك الفتاة المسكينة على ظهر الشيطان؟» تساءلت بينما كانوا يتفرسون في العبقرية المذهلة في اللوحة الجصية لسينوريلي بداخل كنيسة سان بيرزيو. وأردفت: «إنها تبدو وكأنها تحتضن الشيطان من الخلف، أليس كذلك؟ أتعلم من هذه الفتاة؟ إن وجهها وجسدها العاري هما صورة عشيقة سينوريلي. وقد كان يستعبدها يومًا تلو الآخر، فسئمت منه وقررت أن تعبث مع دوق أو اثنين أيضًا. وبالفعل استشاط لوكا غضبًا. فثبتها في مكانها. لقد حكم عليها أن تمتطي ظهر الشيطان إلى الأبد.»
وعندما فرغ كارلو من الضحك، سأل فرانشيسكا إن كانت ترى أن العقاب الذي نزل بالمرأة عادلًا. ردت الفتاة ذات الأربعة عشرة ربيعًا قائلة: «بالطبع لا، إنه ليس إلا مثالًا آخر على النزعة الذكورية السائدة في القرن الخامس عشر. فالرجال بمقدورهم ممارسة الجنس مع أي شخص يريدونه ويُطلق عليهم مكتملي الرجولة، لكن إن حاولت امرأة أن تشبع احتياجها …»
انتهرها روبرتو قائلًا: «فرانشيسكا!» وأردف: «حقًّا. لقد تماديتِ. والدتك سوف تقتلك إن سمعت ما تقولين …»
فردت عليه: «لا شأن لوالدتي بهذا الآن. أنا أتحدث عن ازدواج المعايير الذي لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا. انظر …»
وكاد كارلو بيانكي ألا يصدق حظه السعيد. كان كارلو مصمم الأزياء الثري الذي ينتمي إلى ميلانو، وذاع صيته دوليًّا وهو في الثلاثينيات من عمره، وما حدث أنه قرر عشوائيًّا أن يستأجر سيارة لتُقِلَّه إلى روما بدلًا من استخدام القطار السريع كعادته. ولطالما أخبرته أخته مونيكا عن جمال الكاتدرائية الثانية في أورفيتو. لذا قرر في اللحظة الأخيرة أن يعرج عليها. والآن. يا لها من لحظة. كانت الفتاة مثل اللقمة السائغة.
وعندما انتهت الجولة دعا فرانشيسكا للعشاء. ولكن عندما وصلوا إلى مدخل أفخر مطعم في أورفيتو، تراجعت السيدة الصغيرة. تفهَّم كارلو الوضع. فأخذها إلى متجر وابتاع لها ثوبًا جديدًا باهظ الثمن مع الحذاء والحلي المناسبين له. شُدِهَ كارلو من شدة جمالها. رغم أنها في سن الرابعة عشرة فحسب!
لم تحتسِ فرانشيسكا خمرًا جيدة مثل هذه قط. لقد كانت ترتشفها كما لو كانت ترتشف الماء. وكانت كل الأطباق شهية حتى إنها كانت تصرخ من لذة الطعام. افتتن كارلو بفتاته الصغيرة. وقد أُعجب بطريقتها في جعل السيجارة تتدلى من زاوية شفتيها. لقد كانت بريئة للغاية، وخرقاء تمامًا.
عندما انتهى العشاء كان الظلام قد حل. سارت فرانشيسكا معه للعودة إلى الليموزين التي تقف أمام الكاتدرائية. وبينما كانا يسيران في درب ضيق، مالت فرانشيسكا عليه وعضت أذنيه بطريقةٍ لعوب. فجذبها نحوه بطريقة تلقائية وكُوفئ بقبلة ساخنة. وكانت الإثارة قد غمرته وتمكنت منه.
شعرت فرانشيسكا بهذا أيضًا. ولم تتردد لحظة عندما اقترح كارلو أن يذهبا في جولة بالسيارة. وعندما وصلت الليموزين ضواحي أورفيتو، جلست على فخذيه بالمقعد الخلفي. وبعد مرور ثلاثين دقيقة كانا قد مارسا الجنس مرتين، ولم يستطع كارلو أن يحتمل فكرة مفارقة هذه الفتاة الرائعة. فسألها إن كانت تود أن ترافقه إلى روما.
ردت بابتسامة: «هيا بنا.»
•••
أخذت فرانشيسكا تتذكر: «وذهبنا إلى روما ومنها إلى كابري. وقضينا أسبوعًا في باريس. وفي ميلانو جعلني أمكث عند مونيكا ولويدجي. ليحافظ بذلك على المظهر العام. لطالما يقلق الرجال بشأن المظهر العام.»
انقطع سيل ذكرياتها الطويلة عندما ظنت أنها قد سمعت وقع أقدام آتية من بعيد. فوقفت بحذر بالغ في الظلام وأنصتت. وقد كان عسيرًا عليها أن تسمع صوتًا أعلى من صوت أنفاسها. وعندئذٍ سمعت الصوت مجددًا وقد كان قادمًا من ناحية اليسار. وقد استطاعت أذنها أن تميز أن الصوت لشيء يمشي على الجليد. وقد غمرها الخوف بوابل من الصور لكائنات غريبة تهاجم مخيمهم قادمة من ناحية الجليد. أنصتت بعناية شديدة مرة أخرى، ولم تسمع شيئًا.
استدارت فرانشيسكا صوب المخيم. وقالت لنفسها: «لقد أحببتك يا كارلو. إذا كنت قد أحببت أي رجل قط. فقد أحببتك أنت، حتى بعدما بدأت تجعل أصحابك يشاركونك جسدي.» وقد طفا على السطح ألم مطمور منذ فترة طويلة لكن فرانشيسكا كبحته بغضب. وقالت: «حتى بدأت تضربني. هذا دمر كل شيء. لقد أثبت أنك وغد حقيقي.»
وعن عمد نحَّت فرانشيسكا كل ذكرياتها جانبًا. وأخذت تحدث نفسها عندما وصلت إلى الكوخ. قائلة: «أين كنا الآن؟ آه نعم. كنا نناقش مشكلة نيكول دي جاردان. ما حجم المعلومات الذي تعرفه بحق؟ وماذا نحن فاعلون إزاء ذلك؟»