مستكشف نيويورك
استيقظ دكتور تاكاجيشي من سباته العميق على صوت منبه ساعة يده الصغير جدًّا. ظل مرتبكًا لبضع ثوانٍ لا يدري أين هو. فجلس على فراشه ثم فرك عينيه. وأخيرًا تذكر أنه داخل راما، وأنه قد ضبط هذا المنبه كي يوقظه بعد خمس ساعات من النوم.
ارتدى ملابسه في الظلام. وعندما انتهى التقط حقيبة كبيرة ثم تحسسها من الداخل لبضع ثوانٍ. وعندما شعر بالرضا عن محتويات الحقيبة وضع حزام الحقيبة على كتفه واتجه صوب باب كوخه. وحدق دكتور تاكاجيشي فيما حوله بحذر. لكنه لم يرَ أي ضوء منبعث من أيٍّ من الأكواخ الأخرى. أخذ نفسًا عميقًا ثم مشى على أطراف أصابعه خارجًا من الباب.
غادر الخبير العالمي البارز المتخصص في راما المخيم متجهًا صوب البحر الأسطواني. وعندما وصل إلى الشاطئ انحدر بتؤدة نحو السطح المتجمد على الدرجات المحفورة في الجرف الذي يبلغ ارتفاعه خمسين مترًا. جلس تاكاجيشي على درجة السلم السفلى التي تحجبها قاعدة الجرف. وأخرج بعض حافظات النعل الخاصة من حقيبته ولصقها في نعل حذائه. وقبل أن يمشي العالم على الجليد ضبط جهاز الملاح الشخصي ليتسنى له الاحتفاظ باتجاه ثابت متى غادر الشاطئ.
عندما أصبح على بعد ما يقرب من مائتَي متر من الشاطئ، وضع يده في جيبه كي يخرج شاشة جهاز رصد حالة الطقس المحمولة. سقطت الشاشة على الجليد محدثة صوت طقطقة ضعيفًا في هذه الليلة الهادئة. وبعد ثوانٍ قليلة التقطها. وقد أخبرته الشاشة أن درجة الحرارة درجتان مئويتان تحت الصفر، وأن ثمة رياحًا خفيفة تهب عبر الجليد بسرعة ثمانية كيلومترات في الساعة.
أخذ تاكاجيشي نفسًا عميقًا وذُهل عندما شم رائحة غريبة وإن كانت مألوفة في الوقت نفسه. ومن شدة حيرته، استنشق الهواء مجددًا، معيرًا انتباهه هذه المرة للرائحة. لا يمكن أن يختلط الأمر على المرء في هذه الرائحة، لقد كانت رائحة سجائر! وبسرعة أطفأ كشافه الضوئي ووقف بلا حراك على الجليد. بدأ ذهنه يعمل بسرعة وبكل طاقته بحثًا عن تفسير. فرانشيسكا ساباتيني هي الرائدة الوحيدة التي تدخن. هل تبعته بطريقة ما عندما غادر المخيم؟ هل شاهدت ضوء كشافه عندما تفقد شاشة جهاز رصد حالة الطقس؟
أنصت تاكاجيشي ليسمع أي صوت، لكنه لم يسمع شيئًا في ليل راما. ظل ينتظر. وعندما تلاشت رائحة السجائر بعد بضع دقائق، واصل دكتور تاكاجيشي رحلته المضنية عبر الجليد متوقفًا كل أربع خطوات أو خمس حتى يتأكد من أن أحدًا لا يقتفي أثره. وفي آخر الأمر أقنع نفسه أن فرانشيسكا لا تلاحقه. بيد أن تاكاجيشي الحذر لم يضئ مصباحه ثانية إلا بعدما سار مسافة تتجاوز الكيلومتر، وأصبح قلقًا من أنه ربما يكون قد انحرف عن مساره.
وقد استغرق الأمر منه خمسًا وأربعين دقيقة حتى يصل إلى الضفة المقابلة للبحر وإلى مدينة الجزيرة نيويورك. وعندما ابتعد العالم الياباني مائة متر عن الشاطئ، أخرج مصباحًا أكبر من حقيبته وأضاء شعاعه القوي. اقشعر بدنه عندما شاهد الظلال المخيفة لناطحات السحاب. أخيرًا وصل إلى هناك! وأخيرًا سوف يستطيع أن ينشد الإجابة على الأسئلة التي طالما حيرته طوال عمره دون التقيد بجدول أعمال تعسفي خاص بشخص ما.
كان دكتور تاكاجيشي يعرف بالضبط المكان الذي يريد أن يذهب إليه في نيويورك. وانقسم كل قسم من الأقسام المستديرة الثلاثة لمدينة راما إلى ثلاثة أجزاء فرعية ذات زوايا وكأنها شطيرة مقسمة إلى شرائح. ويوجد في مركز كل قسم من الأقسام الثلاثة الرئيسية مكان مركزي أو ميدان تتراصُّ حوله باقي المباني والشوارع. وعندما كان تاكاجيشي لا يزال صبيًّا في كيوتو، وبعدما قرأ كل ما طالته يداه عن بعثة راما ١ كان يسأل نفسه عن شعور المرء عندما يقف وسط أحد هذه الميادين الغريبة ويحدق لأعلى في المباني التي شيدتها كائنات من نجم آخر.
شعر تاكاجيشي بيقين بأنه بدراسة نيويورك لا يمكن فهم أسرار راما فحسب، بل شعر أيضًا أنها على الأرجح تحوي ساحاتها الثلاثة مفاتيح لفهم الأهداف الغامضة لتلك المركبة التي تدور بين النجوم.
لقد كانت خارطة نيويورك التي رسمها مكتشفو مركبة راما ١ محفورة في ذهن تاكاجيشي تمامًا مثل خارطة كيوتو التي وُلد وترعرع فيها. لكن البعثة الأولى لم تحظَ بمتسَع من الوقت حتى يتسنى لها مسح نيويورك. فمن بين الوحدات الوظيفية التسعة، لم تُعمل خرائط تفصيلية إلا لوحدة واحدة فحسب، فالرواد الأوائل افترضوا ببساطة، بناءً على عدد من الملاحظات المحدودة، أن باقي الوحدات الأخرى تتطابق معها.
وبينما حملته خطوته الخفيفة إلى أغوار السكون المنذر بالسوء لأحد أجزاء المنطقة المركزية، بدأت تظهر بعض الفروق الدقيقة بين هذا الجزء بعينه من راما وبين الجزء الذي درسه طاقم نورتون (فقد مسحوا جزءًا متاخمًا). فتصميم الشوارع الرئيسية في الوحدتين كان متطابقًا؛ بيد أنه عندما اقترب دكتور تاكاجيشي من الميدان وجد أن تصميم الشوارع الصغيرة يختلف اختلافًا طفيفًا عن ذلك الذي أورده المكتشفون الأوائل. وقد أرغمته شخصية العالم التي بداخله على التوقف بين الفينة والفينة وتدوين كافة الاختلافات على كمبيوتر الجيب.
ثم دخل إلى المنطقة التي تحيط بالميدان مباشرة حيث تمتد الشوارع في دوائر متحدة المركز. وقد قطع ثلاثة طرق ووجد نفسه يقف قبالة مبنًى ثُماني الأسطح ضخم يبلغ ارتفاعه نحو مائة متر وذي واجهة مكسوَّة بالمرايا. انعكس شعاع كشافه القوي على سطحه ثم صار ينتقل حوله من مبنًى إلى آخر. سار دكتور تاكاجيشي بتؤدة حول المبنى الضخم بحثًا عن مدخل لكنه لم يعثر على شيء.
وفي الجهة المقابلة للبناية ذات الأوجه الثمانية، وفي وسط الميدان، كان هناك مساحة واسعة مستديرة خالية من المباني المرتفعة. تعمَّد تاكاجيشي أن يدور حول محيط الدائرة بأكمله، متفحصًا المباني المحيطة أثناء سيره. ولم يتسنَّ له تكوين أي أفكار جديدة حول الغرض من إنشاء هذه البنايات. وعندما كان يستدير إلى الداخل على مسافات منتظمة كي يمسح منطقة الميدان نفسها، لم يرَ أي شيء مثير للدهشة أو جدير بالملاحظة. بيد أنه أدخل إلى جهاز الكمبيوتر الخاص به موقع العديد من الصناديق المعدنية القصيرة التي يصعب على المرء وصفها والتي تقسم الميدان إلى أجزاء.
وعندما أصبح مرة أخرى قبالة المبنى ذي الأوجه الثمانية، أخرج من حقيبته شريحة رفيعة سداسية الأسطح مغطاة على نحو مكثف بالأجهزة الإلكترونية. وضع الجهاز العلمي في الميدان على بعد ثلاثة أمتار أو أربعة من المبنى الثماني الأوجه، ثم أمضى عشر دقائق يتحقق فيها من أن كل الأدوات العلمية تعمل كما ينبغي باستخدام جهاز الإرسال والاستقبال. وعندما انتهى العالم الياباني من فحص المعدات، ترك في عجالةٍ منطقة الميدان ثم سار باتجاه البحر الأسطواني.
كان تاكاجيشي في منتصف الطريق الثاني متحد المركز عندما ترامى إلى سمعه صوت فرقعة مدوٍّ لم يستمر طويلًا قادم من خلفه من الميدان. تلفت حوله دون أن يتحرك. وبعد بضع ثوانٍ قلائل أخرى سمع صوتًا مختلفًا. كان هذا الصوت الأخير هو نفس ذلك الصوت الذي سمعه تاكاجيشي في الرحلة الأولى؛ صوت احتكاك فرش معدنية مدمجًا بصوت غناء عالي التردد. أضاء تاكاجيشي كشافه في اتجاه الميدان. فتوقف الصوت. أطفأ الكشاف ووقف بهدوء في منتصف الطريق.
بعد مرور بضع دقائق عاد صوت احتكاك الفرش مرة أخرى. تحرك تاكاجيشي خلسةً عبر الطريقين وسار حول المبنى الثماني الأوجه باتجاه الضوضاء. وعندما أوشك على بلوغ الميدان قطع تركيزَه صوتُ إنذار صدر من حقيبته. أطفأ تاكاجيشي الإنذار الذي كان يشير إلى أن الأجهزة العلمية التي كان لتوه قد وضعها في الميدان تعطلت عن العمل، وعمَّ نيويورك صمتٌ رهيب. مرة أخرى انتظر دكتور تاكاجيشي، لكن الصوت لم يتكرر هذه المرة.
أخذ تاكاجيشي نفسًا عميقًا كي يهدئ من روعه واستجمع شجاعته. وبطريقةٍ ما تغلب فضوله على خوفه ورجع إلى الميدان المقابل للمجسم الثماني الأسطح ليستطلع ما قد حدث لمعداته العلمية. وكانت أولى المفاجآت هي أن مجموعة أجهزته السداسية الأسطح قد اختفت من البقعة التي تركها فيها. أين ذهبت؟ مَن أو ما الشيء الذي يمكن أن يأخذها؟
أيقن تاكاجيشي أنه مشرف على اكتشاف علمي بالغ الأهمية. وقد كان مرتاعًا أيضًا. وكان يحارب رغبة عارمة داخله تحثه على أن يولي الأدبار، فسلط ضوء مصباحه الكبير في كل أنحاء الميدان أملًا في إيجاد تعليل لاختفاء محطة الرصد العلمية الخاصة به. عكس شعاع ضوء مصباحه وجود قطعة معدن صغيرة على بعد مسافة تتراوح بين ثلاثين وأربعين مترًا بالقرب من وسط الميدان. علم تاكاجيشي على الفور أن الانعكاس يأتي من مجموعة معداته. فأسرع باتجاهها.
انحنى على ركبتيه وتفحص الأجهزة الإلكترونية. لم يكن هناك تلف واضح. أخرج جهاز الاستقبال والإرسال الذي بحوزته حتى يبدأ في عملية فحص نظامية لكافة الأدوات العلمية، وعندئذٍ لاحظ شيئًا يشبه الحبل ويبلغ قطره نحو خمسة عشر سنتيمترًا عند حافة شعاع الضوء الخارج من مصباحه الذي يضيء نطاق مجموعة الأجهزة العلمية. التقط دكتور تاكاجيشي مصباحه واتجه نحو هذا الشيء. لقد كان مخططًا باللونين الأسود والذهبي وممتدًا لمسافة اثني عشر مترًا أو نحو ذلك، ومختفيًا وراء كوخ معدني غريب يبلغ ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار. تحسس تاكاجيشي الحبل السميك. لقد كان أملس وعلى أعلاه زغب. وعندما حاول أن يقلبه ليتحسس أسفله بدأ الشيء يتحرك. فألقاه تاكاجيشي على الفور وشاهده وهو يزحف كالحية ببطء بعيدًا عنه متجهًا نحو الكوخ. كانت حركته مصحوبة بصوت احتكاك فرش بسطح معدني.
وكان دكتور تاكاجيشي يسمع صوت خفقان قلبه. ومرة أخرى قاوَم الفكرة التي تحضه على الفكاك. لقد تذكر تأملاته وقت الفجر عندما كان طالبًا في الكلية في حديقة معلمه الذي كان يلقنه تعاليم مذهب زن البوذي. لم يخف. وأمر قدميه أن تمشيا باتجاه الكوخ.
اختفى الحبل المخطط باللونين الأسود والذهبي. وعمَّ الصمت في الميدان. اقترب تاكاجيشي من الكوخ مسلطًا ضوء مصباحه على الأرض عند آخر بقعة شُوهد عندها الحبل السميك. سار نحو الركن وسلط الضوء على الكوخ. ولم تُصدق عيناه ما رأته. كان قد رأى كتلة من المجسَّات الملونة باللونين الأسود والذهبي تتلوى تحت أشعة الضوء.
وفجأةً انفجر في أذنيه طنينٌ عالي التردد. تراجع دكتور تاكاجيشي وصُعق مما رأى. وجحظت عيناه. ولم يقوَ على الصراخ عندما اشتدت الضوضاء واقتربت ثلاثة من المجسات لتلمسه. انخلع فؤاده، وعندما سقط فريسة بين قبضة المخلوق الغريب كان قد مات بالفعل.