شخص مفقود
«أيها الفريق البحري هيلمان؟»
«نعم، جنرال أوتول.»
«هل أنت بمفردك؟»
أجاب هيلمان: «بالطبع، لقد استيقظت منذ دقائق قلائل. اجتماعي مع دكتور براون بعد ساعة. لماذا تتصل بي في مثل هذا الوقت المبكر؟»
قال أوتول: «لقد تسلمت وأنت نائم رسالة سرية للغاية مشفرة من مقر القيادة العسكرية بمجلس الحكومات. إنها بشأن الثالوث. إنهم يريدون تقريرًا بالوضع الحالي.»
فقال هيلمان: «ماذا تعني يا جنرال؟»
سأل أوتول: «هل هذا الخط آمن أيها الفريق البحري؟ هل أطفأت المسجل الآلي؟»
أجابه: «سأفعل الآن.»
قال أوتول: «لقد سألوا سؤالين. هل مات بورزوف دون أن يخبر أحدًا بشفرة «آر كيو» الخاصة به؟ هل علم أي شخص آخر من أفراد الطاقم بشأن الثالوث؟»
أجاب هيلمان: «أنت تعرف الإجابة على كلا السؤالين.»
قال أوتول: «أردت أن أتحقق فحسب من أنك لم تخبر دكتور براون. لقد أصروا أن أتحقق منك أولًا قبل أن أشفر إجابتي. ما رأيك في كل هذا؟»
قال هيلمان: «لا أعرف يا مايكل. لعل أحدهم على كوكب الأرض صار مستاءً. فربما أرعبهم موت ويلسون.»
قال أوتول: «وأرعبني أنا أيضًا، بلا ريب. لكن ليس بالدرجة التي تجعلني أفكر في الثالوث. إنني أتساءل هل عرفوا شيئًا لم نعرفه نحن؟»
رد هيلمان: «حسنًا، أظن أننا سوف نكتشف ذلك سريعًا بما يكفي. مسئولو وكالة الفضاء كافةً لا يزالون مُصرين على أننا ينبغي أن نُخْلي راما عند أول فرصة. إنهم حتى لا يرحبون بقرارنا بشأن منح أفراد الطاقم راحةً بضع ساعات. لا أعتقد أنهم سوف يعدلون عن رأيهم هذه المرة.»
قال أوتول: «هل تتذكر أيها الفريق البحري تلك المناقشة القائمة على الافتراضات التي أجريناها مع الجنرال بورزوف في أثناء الرحلة، حول الظروف التي بموجبها سوف نفعِّل الثالوث؟»
أجابه: «أتذكرها بصعوبة. لكن لمَ تسأل؟»
رد قائلًا: «ألا تزال تختلف معه بشأن إصراره على معرفة لماذا اقتضى الأمر اللجوء إلى الثالوث؟ لقد ذكرت في تلك الأثناء أنه إذا شعر طاقم المراقبة بالأرض أن ثمة خطرًا جسيمًا وشيك الحدوث، فإنك شخصيًّا لست في حاجة لأن تفهم الداعي إلى ذلك.»
«عذرًا يا جنرال، أنا لا أستطيع متابعة حديثك. لمَ تسألني هذه الأسئلة؟»
«أود أن تسمح لي يا أوتو هيلمان بأن أبعث مع الإجابة التي سأشفرها إلى القيادة العسكرية بمجلس الحكومات استفسارًا عن سبب سؤالهم عن الثالوث في هذا الوقت بالتحديد. فإن كنا في خطر فلنا الحق أن نعرف ذلك.»
«يمكنك أن تستفسر عما تريد يا مايكل، لكني متيقن أن سؤالهم هذا ليس إلا عملًا روتينيًّا.»
•••
استيقظ جانوس تابوري والظلام لا يزال يكتنف راما. وقد أعد في ذهنه وهو يرتدي بذلة الطيران قائمةً بالمهام المطلوبة لنقل السرطان الآلي إلى مركبة نيوتن. فإذا تأكد أمر الرحيل عن راما، فسيرحلون بعد طلوع الفجر مباشرة. راجع جانوس إجراءات الإخلاء الرسمية المخزنة على كمبيوتر الجيب ثم حدَّثها عن طريق إضافة المهام الجديدة المتعلقة بالسرطان.
نظر إلى ساعة يده. وأدرك أنه لم يتبقَّ سوى خمس عشرة دقيقة على طلوع الفجر، مفترضًا بالطبع أن الطور النهاري لراما منتظم. ضحك جانوس في نفسه. فقد فاجأتهم راما بالكثير حقًّا؛ لذا لم يكن رجوع الضوء في ميعاده أمرًا مؤكدًا. ولكن إذا حدث وبزغ الضوء في ميعاده، فإن جانوس أراد عندئذٍ مشاهدة «شروق الشمس» في راما. وسوف يتناول إفطاره بعد الفجر.
وعلى بعد مائة متر من كوخه كان السرطان الآلي المحبوس في القفص يقف بلا حراك، كما كان منذ أن عُزل عن رفقائه في اليوم السابق. سلط جانوس مصباحه على القفص المحكم الشفاف وتفحص ما إذا كانت هناك أي أمارات تشير إلى أن السرطان قد تحرك في غضون الليل. وبعدما تحقق من أن السرطان لم يغير وضعه، سار بعيدًا عن مخيم بيتا باتجاه البحر.
وبينما كان ينتظر بزوغ الضوء، وجد نفسه يفكر بشأن نهاية الحوار الذي دار بينه وبين نيكول الليلة الماضية. ثَمة شيء يدعو للقلق بشأن اكتشافها الارتجالي عن السبب المحتمل للألم الذي أصاب الجنرال بورزوف في الليلة التي لقي فيها حتفه. تذكر جانوس جيدًا أن الزائدة الدودية كانت سليمة تمامًا؛ قطعًا كان التشخيص المبدئي خاطئًا. لكن لماذا لم تصرح له نيكول بأمر التشخيص الدوائي البديل؟ ولا سيما إذا كانت تُجري تحقيقًا في هذه القضية …
خلص جانوس في النهاية إلى الاستنتاج الذي لا مفر منه، ألا وهو أن الدكتورة نيكول إما أنها قد فقدت الثقة بقدراته، وإما أنها بطريقةٍ ما خامرها شك في أنه هو نفسه من دس الدواء للجنرال بورزوف دون الرجوع إليها. فكَّر جانوس أنه مهما كان الأمر فعليه معرفةُ فيمَ كانت تفكر. وبعدها خطرت بباله فكرةٌ غريبة نبعت من إحساسه بالذنب. تأمل الفكرة قائلًا في سره: «أليس من المحتمل أن تكون نيكول قد علمت بطريقة ما بشأن مشروع شميت وهاجينست وارتابت في أربعتهم؟»
وللمرة الأولى تساءل جانوس في نفسه إذا كان من المحتمل أن يكون الألم الذي حل بفاليري بورزوف لم يكن ألمًا طبيعيًّا. وتذكر الاجتماع الفوضوي الذي عقده أربعتهم بعد ساعتين من معرفة ديفيد براون أنه سوف يُترك على متن نيوتن في غضون الرحلة الأولى. وكان ديفيد براون المحبط يقول للفريق البحري هيلمان: «يجب عليك أن تتحدث إليه يا أوتو. يجب أن تقنعه بأن يَعدِل عن رأيه.»
عندئذٍ أقر أوتو هيلمان أنه من المستبعَد أن يغيِّر الجنرال بورزوف المهام الموزَّعة على العاملين بناءً على طلبه. رد دكتور براون بسخط: «في تلك الحالة، لن نرى الحوافز المنصوص عليها في العقد مطلقًا.»
ظلت فرانشيسكا ساباتيني صامتةً طوال الاجتماع، وبدا أنها لا تعبأ بالأمر. وبينما كان جانوس يهم بالرحيل سمع مصادفةً دكتور براون يوبخها. كان يقول لها: «ولمَ أنت هادئة هكذا؟ لن تكون خسارتك أقل من خسارتنا جميعًا. ألديك خطة أخرى لست على دراية بها؟»
لمح جانوس فرانشيسكا تبتسم ابتسامةً خاطفة لم تستغرق سوى جزء من الثانية. لكنه قال لنفسه حينذاك إنها تبدو واثقة بصورة غريبة. والآن وبينما رائد الفضاء تابوري ينتظر بزوغ الضوء في راما عاودت هذه الابتسامة لتطارده. فمع دراية فرانشيسكا الكبيرة بالأدوية، من المرجَّح جدًّا أن يكون بمقدورها أن تعطي الجنرال بورزوف شيئًا يسبب لازمة أعراض الزائدة الدودية. لكن هل تُراها فعلت مثل هذا الشيء … بمنتهى الخداع السافر فقط حتى تعزز من قيمة المشروع الإعلامي الذي سيعقب البعثة؟
وفي تلك اللحظة غمر الضوء راما مجددًا. وكالمعتاد كان المشهد ممتعًا للنظر. التفت جانوس حوله بتؤدة، محدقًا في كل الأرجاء ومنعمًا النظر في تجويفَي البناية الضخمة. والآن والأضواء ساطعة، عزم جانوس على أن يتحدث إلى فرانشيسكا عندما تتاح له أول فرصة.
•••
كان من الغريب أن إيرينا تورجينيف هي التي سألت ذاك السؤال. وكان الرواد قد انتهَوا من إفطارهم تقريبًا. وفي الحقيقة، كان دكتور براون والفريق البحري هيلمان قد غادرا الطاولة كي يجريا مؤتمرًا هاتفيًّا ممتدًّا مع إدارة وكالة الفضاء. سألت إيرينا بعفوية: «أين دكتور تاكاجيشي؟» وأردفت: «فهو آخر فرد من أفراد الطاقم أتوقع أن يتأخر مهما كان السبب.»
أجابها جانوس تابوري وهو يدفع مقعده القابل للطي بعيدًا عن الطاولة: «حتمًا، غلبه النوم حتى إنه لم يشعر بصوت المنبه.» وأردف: «سأذهب لأطمئن عليه.»
عاد جانوس بعد دقيقة مرتبكًا. وقال وهو يهز كتفيه: «ليس موجودًا. أعتقد أنه ذهب للتنزه سيرًا على قدميه.»
على الفور ارتعدت نيكول دي جاردان. وهبَّت من مكانها قبل أن تنتهي من تناول إفطارها. وقالت وهي لا تستطيع أن تداري مخاوفها: «علينا أن نذهب ونبحث عنه؛ وإلا فلن يكون مستعدًّا عندما نهمُّ بالرحيل.»
لاحظ الرواد الآخرون كافةً اضطراب نيكول. فقال ويكفيلد بعدم اكتراث: «ما الذي يحدث هنا؟» وتابع حديثه: «أليس الأمر ببساطةٍ أن أحد علمائنا ذهب للتنزه سيرًا على قدميه بمفرده في الصباح، وطبيبة الطاقم هلعت لذلك؟» ثم أدار ويكفيلد جهاز الإرسال والاستقبال خاصته وقال: «مرحبًا دكتور تاكاجيشي أينما كنت. معك ويكفيلد. من فضلك أخبرنا أنك بخير تمامًا حتى يمكننا أن نكمل تناول إفطارنا.»
ساد صمت طويل. فقد كان يعرف كل أفراد الطاقم أن حمل جهاز الاتصال أمرٌ إجباري لا خيار فيه مطلقًا. فيمكن للفرد أن يختار إطفاء خاصية الإرسال، لكن عليه أن يبقي خاصية الاستقبال تعمل تحت أي ظرف من الظروف وفي كل الأحوال.
قالت نيكول بعد ذلك عبر جهاز الاتصال بنبرة مُلحة: «تاكاجيشي-سان.» ثم تساءلت: «هل أنت بخير؟ من فضلك أجبني.» وفي غضون فترة الصمت الممتد تفاقم اضطرابها. فثَمة مكروه ألمَّ بصديقها.
•••
قال ديفيد براون في سخط: «لقد شرحت لك ذلك مرتين يا دكتور ماكسويل. إن رحيل جزء من الطاقم غير منطقي بالمرة. فأفضل الطرق للبحث عن دكتور تاكاجيشي هي استخدام الطاقم بأكمله. وما إن نعثر عليه حتى نُخلي راما بأقصى سرعة. وللإجابة عن سؤالك الأخير؛ لا، هذه ليست خدعة من جانب الطاقم كي يتجنب الإذعان لأمر الإخلاء.»
ثم التفت إلى الفريق البحري هيلمان وأعطاه الميكروفون. ودمدم قائلًا: «اللعنة، تحدث أنت يا أوتو مع هذا البيروقراطي الأخرق. إنه يعتقد أنه بمقدوره أن يقود هذه البعثة أفضل منا، حتى وإن كان كذلك، فهو بعيد عنا بمائة مليون كيلومتر.»
«دكتور ماكسويل، معك الفريق البحري هيلمان. أنا أتفق تمامًا مع دكتور براون. على أي حال، لا يمكننا أن نُسهب في النقاش في ظل تأخرنا هذا. سوف ننفذ خطتنا. سيَمكث الرائد تابوري معي هنا في مخيم بيتا، وسوف نحزم كل المعدات الثقيلة بما فيها الكائن الآلي. وسوف أنظم عملية البحث بنفسي. وسيعبر براون وفرانشيسكا ونيكول الجليد إلى نيويورك، أكثر الأماكن المرجح أن يذهب إليها البروفيسور، إذا كان قد ذهب بإرادته. وسيبحث عنه ويكفيلد وتورجينيف وياماناكا باستخدام الطائرتين الهليكوبتر.»
توقف عن الحديث لحظة. ثم استرسل: «وأنت لست في حاجة لأن تتعجل الإجابة عن هذه الرسالة. فالبحث سيكون قد بدأ بالفعل قبل أن تصل رسالتك التالية.»
وهناك في كوخها كانت نيكول تحزم معداتها الطبية بعناية. وقد عنَّفت نفسها على أنها لم تضع في حسبانها أن تاكاجيشي قد يحاول أن يزور نيويورك مرة أخيرة. قالت نيكول في نفسها: «ها قد اقترفتِ خطأً آخر. وأقل ما يمكن أن تفعليه هو أن تتأكدي من أنكِ مستعدة عندما تعثرين عليه.»
كانت تحفظ عن ظهرِ قلبٍ إجراءاتِ حزم الأمتعة الشخصية. لكنها مع ذلك قد أخذت أقل القليل من المؤن الخاصة بها من طعام وماء حتى تضمن أنها أخذت كل ما قد يحتاج إليه تاكاجيشي الذي قد يكون جريحًا أو مريضًا. وانتاب نيكول مشاعر مختلطة بشأن رفيقيها العالم الياباني في عملية البحث عنه، لكن لم يخطر ببالها قط أن خروجهم في مجموعة واحدة قد يكون مخططًا له عن عمد. وكان الجميع يعلم عن افتتان تاكاجيشي بنيويورك. وفي ظل الظروف الراهنة لم يكن غريبًا أن يرافقها براون وفرانشيسكا إلى منطقة البحث الأساسية.
وقبل أن تغادر نيكول الكوخ مباشرة، رأت ريتشارد ويكفيلد عند بابها. استأذن ويكفيلد: «هل لي أن أدخل؟»
أجابته: «بالطبع.»
سار بريبة غير معهودة كما لو كان مرتبكًا أو يشعر بالخجل. «ما الأمر؟» هكذا سألته نيكول بعد برهة من الصمت المحرج.
ابتسم. وقال بارتباك: «حسنًا، لقد جالت بخاطري منذ بضع دقائق فكرةٌ تبدو جيدة. والآن تتملكني هذه الفكرة بقوة كما لو كنت أحمق – ربما تكون فكرة طفولية.» لاحظت نيكول أنه ممسك بشيء ما في يده اليمنى. تابع ويكفيلد: «لقد أحضرت لك شيئًا ما. أعتقد أنها قد تكون تميمة للحظ السعيد. رأيت أنك ربما تصطحبينها معك إلى نيويورك.»
كشف الرائد ويكفيلد عما في يديه. أدركت نيكول أنه تمثال الأمير هال. استأنف ويكفيلد حديثه: «يمكنك أن تقولي ما تشائين عن البسالة والفطنة وما إلى ذلك، لكن في بعض الأحيان يتطلب الأمر قليلًا من الحظ.»
تأثرت نيكول في أعماقها بهذا الصنيع على نحو غير متوقع. وأخذت التمثال الصغير من ويكفيلد وأنعمت النظر بإعجاب في تفاصيله المعقدة. وسألته بابتسامة عذبة: «هل الأمير يتمتع ببعض الخصال الخاصة التي ينبغي أن أعرفها عنه؟»
انفرجت أسارير ريتشارد وأجابها: «بلى. إنه يهوى قضاء بعض الأمسيات الطيبة في الحانات مع الفرسان السمان وغيرهم من الشخصيات البذيئة. أو الدوقات الخونة في المعارك، أو بعض الإيرلات، أو أميرة فرنسية جميلة.»
احمرت وجنتا نيكول قليلًا. وسألت: «إذا كنت وحدي وودت أن يسليني الأمير، فماذا أفعل؟»
دنا ريتشارد من نيكول وأراها لوحة مفاتيح دقيقة للغاية فوق ردف الأمير هال مباشرة. وقال ريتشارد وهو يعطيها عصًا صغيرة جدًّا في حجم الدبوس: «سوف ينفذ الكثير من الأوامر. فجرِّبي أن تضغطي على حرف «ك» للكلام أو حرف «ت» للتشغيل، إن أردت أن يريكِ الأشياء التي يقوم بها.»
وضعت نيكول الأمير الصغير والعصا في جيب بذلة الطيران. وقالت: «أشكرك يا ريتشارد. هذا لطيف للغاية.»
ارتبك ريتشارد. وقال: «حسنًا، أتعلمين، هذا ليس بالأمر المهم. كل ما هنالك أنه قد انهال علينا فيض من الحظ العاثر، وأنا أعتقد، أقصد أنه قد …»
قاطعته نيكول قائلة: «أشكرك يا ريتشارد مرة أخرى. أقدر اهتمامك.» ثم خرجا معًا من كوخها.