مياه الحكمة
على الفور غشي بصرها. فأغمضت عينيها ثانيةً.
وعندما فتحتهما مرة أخرى غمرتهما ألوان ساطعة تتدفق في صورة أشكال هندسية كما لو كانت نيكول تتحرك بسرعة كبيرة. وفي مركز رؤيتها كان هناك على مسافة بعيدة نقطة سوداء بزغت من خلفية تنتصف مجموعة رائعة يتبادل فيها ظهور الأشكال الحمراء والصفراء. ركزت نيكول على النقطة السوداء التي بدأت تتضخم شيئا فشيئًا. فاندفعت النقطة نحوها وتمددت حتى ملأت مجال رؤيتها. رأت نيكول رجلًا، رجلًا كبيرًا وأسود البشرة يجري عبر غابات السافانا الأفريقية في ليلٍ سماؤه متألقة ومرصَّعة بالنجوم. رأت وجهه بوضوح في حين كان يتجه كي يتسلق جبلًا من الصخور. بدا الرجل مثل أوميه، لكن من المثير للدهشة أنه بدا مثل والدتها أيضًا.
انطلق متسلقًا الجبل الصخري بخفة ورشاقة مذهلين. وعلى قمة الجبل وقف كالشبح، باسطًا ذراعيه ومحدقًا في السماء نحو الهلال المعلق في الأفق. سمعت نيكول صوت محرك إطلاق صاروخ ثم التفتت إلى يسارها. فرأت سفينة فضائية صغيرة تهبط على سطح القمر. وخرج منها رجلان في بذلة رواد الفضاء وبدآ في هبوط السلم. ثم سمعت نيل آرمسترونج يقول: «إن هذه مجرد خطوة صغيرة لشخص، وقفزة عملاقة للبشرية.»
وانضم بز ألدرين إلى آرمسترونج على سطح القمر وأشارا بعيدًا عن يمينهما. لقد كانا يحدقان في الرجل الهرِم الأسود الذي يقف على سفح قمري متاخم. ابتسم الرجل. كانت أسنانه ناصعة البياض.
لاح وجهه في مجال رؤية نيكول وصار أكثر وضوحًا مما سبق؛ إذ بدأ يتلاشى منظر سطح القمر من خلفه. ثم بدأ يغني بهدوء بلغة السينوفو، لكن في بادئ الأمر لم تستطع نيكول أن تفهم ما كان يقوله. وفجأة بدأت تدرك أنه يتحدث «إليها»، وأنها تفهم كل كلمة ينطق بها. قال: «أنا أحد أسلافك منذ زمن سحيق. وعندما كنت صبيًّا انصرفت لأتأمل الليلة التي هبط فيها أناس على القمر. ولأني كنت ظمآن، احتسيت حتى الثمالة من مياه بحيرة الحكمة. فحلقت أولًا للقمر حيث تحدثت إلى رواد الفضاء، ثم إلى عوالم أخرى. والتقيت بالعظماء الذين أخبروني أن أروي قصة مينوي للنجوم.»
وبينما كانت نيكول تنظر إليه بدأت رأسه تتضخم. وتحولت أسنانه إلى أسنان وحشية طويلة، وأخذت عيناه تضرب إلى الصفرة. ثم تحول إلى نمر وأطبق على عنقها. صرخت نيكول إذ كانت تشعر بأنيابه على عنقها بالفعل. فأخذت تحتضر. بيد أن قبضة النمر ارتخت من على عنقها؛ إذ طُعن طعنةً غائرة بسهم في جنبه. سمعت نيكول صوت جلبة، فنظرت إلى أعلى. كانت والدتها، التي تتسربل برداء أحمر متدلٍّ وتمسك بقوس ذهبي، تركض بخفة نحو مركبة مطلية بالذهب تجرها الخيول معلقة في منتصف الهواء. فصرخت نيكول: «أماه، انتظريني.»
استدارت والدتها. وقالت: «لقد ضُللتِ. عليك أن تكوني أكثر حذرًا. لا أستطيع أن أنقذك سوى ثلاث مرات. احترسي مما لا ترينه لكنك تعلمين بوجوده.» ثم صعدت أناوي إلى المركبة وأمسكت الزمام. وقالت: «لا يجب أن تموتي. أنا أحبك يا نيكول.» ثم حلقت الخيول الحمراء ذات الأجنحة لأعلى وأعلى حتى اختفت عن ناظرَي نيكول.
عادت الأشكال الملونة تتراءى لنيكول. وسمعت الآن صوت موسيقى، كان الصوت بعيدًا جدًّا في البداية ثم أخذ في الاقتراب. إنه صوت اصطناعي كصوت أجراس من الكريستال. صوت سماوي جميل لا يُنسى. وكان هناك صوت تصفيق حاد. كانت نيكول تجلس في الصف الأول في حفلة موسيقية بمعية والدها. ويقف على خشبة المسرح رجل شرقي ينساب شعره على الأرض، وعيناه تحدقان في نشوة وطرب، ووقف إلى جانب ثلاث آلات موسيقية غريبة الشكل. وكان الصوت يحاصر نيكول من جميع الجهات. وأثار رغبتها في البكاء.
قال والدها: «هيا. علينا أن نرحل.» وبينما كانت نيكول تنظر إلى والدها تحول إلى عصفور. وابتسم لها. رفرفت نيكول بجناحَي عصفورها وأصبحا كلاهما في الهواء معًا تاركين الحفلة الموسيقية وراءهما. وتلاشى صوت الموسيقى. واندفع الهواء خلالهما. استطاعت نيكول أن ترى وادي اللوار المحبب إلى نفسها، ولمحة من فيلتهما في بوفوا. وكانت مسرورة لذهابهما إلى المنزل. لكن والدها العصفور هبط في شينون جنوب وادي اللوار. وهبط العصفوران على شجرة تقع في الأراضي المحيطة بالقلعة.
وأسفل منهما، كان يقف في هواء شهر ديسمبر المنعش، هنري بلانتاجينت وإليانور دي أكيتان يتجادلان حول خلافة عرش إنجلترا. كانت إليانور تتمشى تحت الشجرة وشاهدت العصفورين. فقالت: «هاي! مرحبًا يا نيكول، لم أكن أعرف أنكما هناك»، شبَّت الملكة إليانور إليهما ثم مسدَت بلطف على باطن العصفور. اقشعر بدن نيكول من رقة لمستها. قالت الملكة لنيكول: «تذكري يا نيكول، القدر أكثر أهمية من الحب أيًّا كان نوعه. يمكنك أن تتحملي أي شيء، إن كنت متيقنة من قدرك.»
اشتمَّت نيكول رائحة نيران، وشعرت بأن ثَمة حاجة إليهما في مكان آخر. فحلقتا هي ووالدها، حيث استدارا شمالًا باتجاه نورماندي. فازدادت رائحة النيران قوة. لقد سمعا صوت أحدهم يصرخ طلبًا للنجدة، فرفرفا بقوة.
وفي رون، وجهت فتاة بسيطة ذات عينين مشرقتين بصرها نحوهما عندما وصلا. وقد التهمت النيران المشتعلة تحتها قدميها، فكانت رائحة الجسد المحترق التي اشتماها أولًا في الهواء لقدميها المحترقين. وأغمضت الفتاة عينيها للصلاة؛ إذ كان هناك كاهن يصلي لها واضعًا الصليب على رأسها. قالت الفتاة والدموع تنهمر من عينيها على وجنتيها: «مبارك الرب.»
صرخت نيكول بينما كانت تهبط هي ووالدها في الميدان الذي يعج بالناس: «سوف ننقذك يا جان.» حضنتهما جان عندما حلا رباطها من الوتد. اندلعت النيران حولهم، ثم صار كل شيء مظلمًا من حولهم. وفي اللحظة التالية كانت نيكول تحلق مرة أخرى، لكن هذه المرة كانت في هيئة طائر البلشون العظيم. كانت بمفردها داخل راما تحلق عاليًا فوق مدينة نيويورك. ثم مالت جانبًا كي تتحاشى أحد الطائرين، الذي نظر إليها مذهولًا.
استطاعت نيكول أن ترى كل شيء في نيويورك بالتفصيل الممل. كان الأمر كما لو كان لديها عيون متعددة الطيف ذات عدسات طويلة المدى. إذ كان يمكنها أن تلحظ في آن واحد الحركةَ في أربعة أماكن مختلفة. وكان هناك بالقرب من المخزن مخلوق آلي على شكل حشرة أم أربع وأربعين يزحف بخُطًا متثاقلة نحو الطرف الجنوبي من المبنى. وعلى مقربة من كلٍّ من الساحات المركزية الثلاثة، كانت الحرارة تنبعث من أماكن تحت الأرض، مما كان يسبب أشكالًا ملونة في رؤية نيكول تحت الحمراء. دارت نيكول لأسفل نحو المخزن وهبطت بأمان داخل تجويفها.