نيكي
«أتعتقد أن غطاء وكر الطيور يُفتح بالطريقة نفسها؟» سألت نيكول ريتشارد بعدما بحث بعناية بالغة في الضواحي وعثر على لوحة مسطحة على أحد المباني، والتي بدت أنها في غير موضعها بلا شك. وقد أدى الضغط بقوة على اللوحة إلى فتح الغطاء.
أجابها: «ربما. سيكون علينا أن نعود ونتحقق من ذلك.»
قالت نيكول: «إذن هذه الأماكن ليست آمنة تمامًا.»
رجع كلاهما إلى الشارع حيث الغطاء الثاني وجثيا على ركبتيهما لينظرا داخل الحفرة. كان هناك ممر عريض وشديد الانحدار ينحدر من جانبيهما ويختفي في الظلام أسفلهما. ولم يتمكنا من رؤية أي شيء على عمق أبعد عشرة أمتار فقط داخل الحفرة.
علَّق ريتشارد: «إنها تبدو كإحدى الباحات القديمة لوقوف السيارات. كان ذلك في الماضي، عندما كان الجميع يمتلكون السيارات.»
ضغط ريتشارد بقدميه على الممر. وقال: «إنه يبدو كالخرسانة.»
أخذت نيكول تراقب رفيقها وهو ينزل الممر ببطء. وعندما أصبح رأس ريتشارد أسفل مستوى سطح الأرض، التفت وتحدث إليها. إذ سألها: «ألن تأتي؟» ثم أضاء مصباحه الضوئي وسلَّطه على بسطة درج صغيرة أخرى على بعد بضعة أمتار قليلة لأسفل.
قالت نيكول من أعلى: «ريتشارد. أعتقد أننا ينبغي أن نناقش ذلك. لا أود أن أعلق في …»
تعجب ريتشارد: «يا للهول!» فما إن وطئ ريتشارد برجله بسطة الدرج الأولى، حتى أضاءت بعض الأنوار آليًّا من حوله الجزء التالي من المنحدر. ثم صرخ: «الممر يستدير ويعود للخلف ثم يواصل طريقه لأسفل. والمناظر كما هي لا تتغير.» ثم استدار واختفى من مجال رؤية نيكول.
صرخت نيكول بشيء من السخط: «ريتشارد، هلا توقفت لحظة من فضلك؟ ينبغي أن نتحدث عما سنفعله.»
وبعد بضع ثوانٍ ظهر وجه ريتشارد الباسم مرة أخرى. وناقش الرائدان الخيارات المتاحة. وأصرَّت نيكول على رغبتها في أن تظل بالخارج في نيويورك، حتى وإن كان ريتشارد سيمضي قدمًا في اكتشافاته. على الأقل بهذه الطريقة، لن يُحبسا داخل الحفرة.
وبينما كانت نيكول تتحدث، كان ريتشارد يقف على بسطة الدرج الأولى ويمسح بنظره المنطقة المحيطة به. كانت الجدران مصنوعة من نفس المادة التي وجدتها نيكول في وكر الطيور. وكانت هناك مصابيح فلورسنتية صغيرة، لا تختلف كثيرًا عن المصابيح الفلورسنتية التي توجد على كوكب الأرض، على طول الجدران لتضيء الممر.
صاح ريتشارد في منتصف حوارهما: «هلا ابتعدتِ لحظةً من فضلك؟»
في البداية رجعت نيكول المتحيرة بعيدًا عن المدخل المؤدي إلى الحفرة المستطيلة الشكل. وسمعت ريتشارد يصرخ: «ابتعدي أكثر.» سارت نيكول ووقفت مقابل أحد المباني المحيطة.
صاحت نيكول: «هل هذه المسافة كافية؟» وما إن فرغت من الصراخ حتى بدأ غطاء الحفرة ينغلق. ركضت نيكول نحوها وحاولت أن توقف حركة الغطاء، لكنه كان ثقيلًا للغاية. وعندما اختفت الحفرة أسفلها أخذت تصرخ قائلة: «ريتشارد.»
أخذت نيكول تضرب الغطاء بشدة وتذكرت مشاعر الإحباط التي انتابتها عندما كانت محبوسة في وكر الطيور. على الفور ركضت إلى المبنى وضغطت على اللوحة المسطحة المثبتة. فلم يحدث شيء. وانتظرت دقيقة تقريبًا. توترت نيكول. وهرولت إلى الشارع مرةً أخرى تنادي على رفيقها.
رد عليها ريتشارد مما بعث الطمأنينة في نفسها: «أنا بخير هنا، تحت الغطاء. لقد وجدت لوحة أخرى بالقرب من بسطة الدرج الأولى وضغطت عليها. أعتقد أنها هي المسئولة عن فتح الغطاء أو غلقه، لكنها ربما تحتاج لفترة زمنية كي تعمل. أعطيني بضع دقائق. ولا تحاولي أن تفتحي الغطاء. ولا تقفي بالقرب منه.»
ابتعدت نيكول وانتظرت. كان ريتشارد محقًّا. فبعد مرور بضع دقائق انفتح الغطاء، وظهر ريتشارد مرة أخرى بابتسامة عريضة تداعب شفتيه. وقال: «انظري، قلت لكِ لا داعي للقلق … والآن ماذا سنتناول في الغداء؟»
•••
وبينما كانا يهبطان الممر، سمعت نيكول صوت الماء الجاري المألوف. وفي غرفة صغيرة تبعد نحو عشرين مترًا خلف بسطة الدرج، وجدا ماسورة وخزانًا مطابقين لهذين الموجودين في وكر الطيور. ملأ ريتشارد ونيكول قارورتيهما بالماء العذب اللذيذ.
أما خارج الغرفة، فلم يكن هناك أنفاق أفقية في الاتجاهين، ولكن ممر منحدر آخر، ينحدر خمسة أمتار تحت سطح الأرض. بدأ شعاع الضوء الخارج من مصباح ريتشارد يزحف ببطء عبر الجدران المظلمة بالقرب من غرفة الماء. قال ريتشارد وهو يشير إلى اختلاف طفيف للغاية في مادة البناء: «انظري هنا نيكول. لاحظي أنها تتقوس إلى الجانب الآخر.»
تتبعت نيكول الشعاع الخارج من مصباحه وهو يرسم قوسًا مستديرًا طويلًا على الجدار. وقالت: «يبدو كما لو أن البناء تم على مرحلتين على الأقل.»
رد عليها: «بالضبط. لعله كان هنا أيضًا أنفاق أفقية، على الأقل في البداية، ثم سُدت فيما بعد.» صمت ريتشارد ونيكول وهما يواصلان الهبوط. وكانت المنحدرات المتطابقة تتحرك جيئة وذهابًا. وكلما لمس ريتشارد ونيكول بسطة درج جديدة، كان المنحدر التالي يُضاء تلقائيًّا.
وصارا على بعد خمسين مترًا تحت سطح الأرض، عندما انكشف السقف فوقهما وانتهت المنحدرات بكهف كبير. وكان يبلغ قطر أرضية الكهف المستديرة نحو خمسة وعشرين مترًا. وكان هناك أربعة أنفاق مظلمة يبلغ ارتفاع كلٍّ منها خمسة أمتار، وتبعد بعضها عن بعض بمسافات متساوية، نحو تسعين درجة حول الدائرة التي تبدأ من الكهف.
قال ريتشارد متحيرًا: «النفق الأول أم الثاني أم الثالث أم الرابع.»
قالت نيكول: «سأسلك النفق الرابع.» واتجهت صوبه. وعندما أصبحت على بعد بضعة أمتار من المدخل، أُضيئت أنوار الجزء القريب من النفق.
جاء دور ريتشارد ليتردد. وأخذ يحدق بحذر في النفق، ثم أدخل في عجالةٍ بعض المدخلات إلى جهاز الكمبيوتر الخاص به. وقال: «هل يبدو لك أن هذا النفق ينحني بعض الشيء ناحية اليمين؟ انظري، هناك عند نهاية الأضواء، ألا ترين؟»
أومأت نيكول برأسها. ثم نظرت من فوق كتف ريتشارد كي ترى ماذا يفعل. فقال ردًّا على فضولها: «إنني أعد خريطة. كان البطل الإغريقي ثيسيوس لديه خيط وهانسل وجريتل كان لديهما الخبز. ونحن لدينا ما هو أفضل مما كان لديهما. أليست أجهزة الكمبيوتر رائعة؟»
ابتسمت نيكول. وقالت وهما يسيران في الجزء التالي من النفق: «إذن ما تخمينك للأمر؟ هل سنقابل الوحش مينوتور الذي قتله ثيسيوس أم سنجد منزلًا مصنوعًا من خبز الزنجبيل وبه ساحرة شريرة مثل هانسل وجريتل؟»
قالت نيكول لنفسها: «ينبغي أن يحالفنا الحظ.» إذ كانت مخاوفها تزداد باطراد كلما تغلغلا أكثر فأكثر داخل النفق. تذكرت لحظة الهلع الرهيبة تلك في التجويف عندما رأت الطائر لأول مرة يرفرف فوقها وهو يمد منقاره ومخالبه باتجاهها. واقشعر بدنها بشدة. وقالت في نفسها: «ها هي مرة أخرى، تلك المشاعر التي تنبئني أن ثمة شيئًا مريعًا على وشك الحدوث.»
توقفت نيكول. وقالت: «يا ريتشارد، أنا لا أحبذ ذلك. ينبغي أن نعود أدراجنا …»
سمعا الضوضاء في الوقت نفسه. قطعًا كان الصوت قادمًا من «خلفهما»، على مقربة من الكهف المستدير الذي تركاه لتوهما. لقد بدا الصوت كصوت احتكاك فرش صلبة بسطح معدني.
التصق ريتشارد ونيكول بعضهما ببعض. ثم همس ريتشارد: «هذا هو نفس الصوت الذي سمعته في أول ليلة في راما، عندما كنا على الجدار في نيويورك.»
وخلفهما انعطف النفق قليلًا نحو اليسار. وعندما نظرا إلى الخلف في ذلك الاتجاه، كانت الأنوار مطفأة على مرمى بصرهما. لكن عندما سمعا الصوت للمرة الثانية، بدأت تُضاء بعض الأنوار من مسافة بعيدة على نحو شبه متزامن؛ مما يدل على أن شيئًا ما يقترب من مدخل نفقهما.
انطلقت نيكول كالصاروخ. كان عليها أن تقطع المائتَي متر التالية في ثلاثين ثانية، رغم ارتدائها بذلة الطيران وحملها حقيبة الظهر. لكنها توقفت وانتظرت ريتشارد. ولم يسمعا الصوت مجددًا ولم تُضَأ أنوار أخرى في المناطق النائية من النفق.
عندما وصل ريتشارد أخيرًا قالت له: «آسفة. لقد تملكني الذعر. أعتقد أنني طال عليَّ الأمد في أرض العجائب الغريبة هذه.»
أجاب ريتشارد بعبوس واستنكار: «يا إلهي. لم أرَ أحدًا في حياتي البتة يركض بهذه السرعة.» ثم بدل العبوس إلى ابتسامة على وجهه. وأردف: «لا تأسفي يا نيكي. لقد فزعت بشدة أيضًا. لكنني تجمدت في مكاني.»
استمرت نيكول تلهث وحملقت في ريتشارد. وسألته بشيء من العدوانية: «بماذا دعوتني؟»
رد ريتشارد: «نيكي. ظننت أنه حان الوقت لي كي أدعوك بالاسم الذي يحلو لي. ألا يروق لكِ؟»
لم تنبس نيكول ببنت شفة عشر ثوانٍ كاملة. لقد قطع عقلها مسافة ملايين الكيلومترات، وعاد بالزمن للوراء قبل خمس عشرة سنة، في جناح أحد الفنادق بلوس أنجلوس، حينما اهتز جسدها من اللذة مرة تلو الأخرى. وبعدها ببضع دقائق قال لها الأمير: «كان هذا رائعًا يا نيكي، مذهل بحق.» وقد أخبرت هنري في هذه الليلة منذ خمس عشرة سنة ألا يدعوها باسم نيكي، فإنه يبدو كاسم لفتاة استعراض ممتلئة الجسم أو لفتاة عاهرة.
وكان ريتشارد يفرقع أصابعه أمام وجهها. قال: «مرحبًا، مرحبًا. إلى أين ذهبتِ؟»
ابتسمت نيكول. وردت عليه: «بالطبع يا ريتشارد. نيكي اسم رقيق … ما دمت لا تستخدمه طوال الوقت.»
وواصلا السير معًا بتؤدة عبر النفق. وسألها ريتشارد: «إذن، فيما كنت تفكرين؟»
قالت نيكول في نفسها: «كنت أفكر في شيء لا يمكنني أن أخبرك به مطلقًا. لأن كل واحد منا نتاج التجارِب التي عايشها في الحياة. وما من أحد يملك صفحة بيضاء سوى الأطفال الصغار. أما بقيَّتنا فيجب أن يتعايش إلى الأبد مع كل شيء صرنا إليه.» ثم حركت ذراعها بخفة على ذراع ريتشارد. واسترسلت تقول في سرها: «ويجب أن يتمتع بحسن الإدراك لكي يعرف التوقيت الذي يحتفظ فيه بأسراره لنفسه.»
•••
بدا النفق وكأنه لا نهاية له. وأوشك ريتشارد ونيكول على أن ينعطفا عندما وصلا إلى حجرة جانبية عن يمينيهما. وبلا تردد سارا داخلها. وعلى الفور أُضيئت الأنوار. وبداخل الحجرة، وعلى الجدار الكبير الموجود عن يساريهما كان يوجد خمسة وعشرون شيئًا مسطحًا ومستطيل الشكل، مرتبة في خمسة صفوف وخمسة أعمدة. أما الجدار المقابل فقد كان خاليًا. وفي غضون لحظات من دخولهما، سمع رائدا الفضاء صوتًا حادًّا عالي التردد قادمًا من السقف. فتوترا قليلًا، لكنهما هدآ مرة أخرى إذ استمر الصوت دون حدوث أي مفاجآت جديدة.
أمسك أحدهما بيد الآخر ثم سارا إلى آخر الحجرة الطويلة الضيقة. وكانت الأشياء المُعلقة على الجدار صورًا فوتوغرافية، يمكن إدراك أن معظمها قد الْتُقِطَ في مكان ما داخل راما. فالمبنى الثماني الأسطح الهائل الواقع بالقرب من الساحة المركزية كان مصورًا في العديد منها. أما باقي الصور فقد كانت موزعة ما بين مشاهد لمباني نيويورك ولقطات متسعة الزاوية لمناظر شاملة حول الأجزاء الداخلية لراما.
وقد أسرت ثلاث من الصور لب ريتشارد بشدة. لقد كانت تصور زوارق إيروديناميكية مصقولة ومنحنية تشق طريقها عبر البحر الأسطواني، وفي إحدى الصور، كانت هناك موجة عنيفة على وشك أن تحطم قمة زورق كبير. قال ريتشارد لنيكول بحماسة: «هذا ما نريد. إذا تمكنا من العثور على واحد منها، فستنتهي محنتنا.»
استمر الصوت الحاد القادم من فوقهما، مع حدوث تغيير طفيف في حدته. وكانت هناك بقعة ضوئية تتحرك من صورة لأخرى في اللحظات التي يحدث فيها انقطاع للصوت. واستنتج ريتشارد ونيكول بسهولة أنهما كانا في جولة سياحية في متحف، لكنهما لم يكونا متأكدين من أي شيء آخر. جلست نيكول مقابل جدار جانبي وقالت: «إن كل هذه الأمور تزعجني، أشعر أنني لا أملك السيطرة على شيء.»
جلس ريتشارد بجانبها. وأومأ برأسه قائلًا: «وأنا كذلك. لقد وصلت إلى نيويورك للتو. ولذا، أستطيع أن أتخيل ما قد يسببه لكِ كل هذا.»
وساد الصمت بينهما للحظة. قالت نيكول في محاولة للتعبير عن الشعور بقلة الحيلة الذي انتابتها: «أتعرف ما هو أكثر شيء يزعجني؟ ما يزعجني هو عدم استيعابي أو تقديري لجهلي. فقبل أن أشارك في هذه الرحلة، ظننت أنني أعرف الأبعاد العامة للعلاقة بين معرفتي الخاصة ومعرفة البشرية. لكن ما صعقني في هذه البعثة هو كم يكون «الإطار الكامل» للمعرفة البشرية ضئيلًا للغاية مقارنة ﺑ «ما يمكن» معرفته. فَكِّر معي فحسب؛ إن إجمالي كل شيء تعرفه البشرية أو عرفته قط قد لا يزيد عن كونه كسرة متناهية الصغر في موسوعة جالاكتيكا …»
قاطعها ريتشارد بحماسة: «وهو أمر مرعب ومثير في الوقت نفسه … في بعض الأحيان عندما أكون في متجر بيع الكتب أو في مكتبة، أتعجب من كم الأشياء التي لا أعرفها. وعندئذٍ تتملكني رغبة عارمة في أن أقرأ جميع الكتب، كتاب تلو الآخر. تخيلي ما سيكون شعورك وأنتِ في مكتبة «الواقع»، تلك المكتبة التي تجتمع فيها المعرفة عن كل أجناس الكون … الفكرة نفسها تجعلني مشوَّش الذهن.»
التفتت نيكول نحوه وضربته على رجله. وقالت مازحةً كي تغير الحالة المزاجية السائدة: «حسنًا يا ريتشارد، الآن وبعد أن تأكدنا مرة أخرى كم نحن شديدا الغباء، ما خطتنا؟ أظن أننا قد قطعنا بالفعل ما يقرب من كيلومتر واحد في هذا النفق. إلى أين سنذهب من هنا؟»
رد عليها: «أقترح أن نسير خمس عشرة دقيقة أخرى بنفس الاتجاه. يمكنني القول، من واقع خبرتي، إن الأنفاق دائمًا تقود إلى مكان ما. وإذا لم نجد أي شيء فسنعود أدراجنا.»
ساعد ريتشارد نيكول في النهوض من مكانها وعانقها عناقًا رقيقًا. وقال لها وهو يغمز بعينيه: «حسنًا، يا نيكي، أمامنا نصف فرسخ.»
قطبت نيكول جبينها وهزت رأسها. وقالت وهي تمد يدها ناحية ريتشارد: «يكفي مرتين في يوم واحد.»