جانب الشجاعة الجميل
امتدت الهوة المستديرة السحيقة أسفلهما في الظلام. ولم يكن مضاءً منها سوى الأمتار الخمسة العلوية. وكان يخرج من الجدران قضبان معدنية يبلغ طول كلٍّ منها مترًا تقريبًا، وكل قضيب يبعد عن القضيب المجاور نفس المسافة.
دمدم ريتشارد في سره: «قطعًا هذا هو المكان الذي تقود إليه الأنفاق.» وكانت لديه بعض الصعوبة في الجمع بين هذه الحفرة الأسطوانية الهائلة بجدرانها ذات القضبان وبين مفهومه الشامل لراما. لقد دار هو ونيكول حول حواف الحفرة مرتين. بل عادا أيضًا بضع مئات من الأمتار، حيث اجتازا في النفق المجاور، مستدلين من انحناءاته الطفيفة نحو اليمين أنه على الأرجح يتفرع عن نفس الكهف مثل النفق الذي سارا فيه من قبل.
قال ريتشارد أخيرًا وهو يهز كتفيه: «حسنًا، ها نحن قد وصلنا»، ثم وضع قدمه اليمنى على أحد القضبان ليختبر مدى قدرته على تحمل وزنه. ووجده صلبًا. ثم حرك قدمه اليسرى لقضيب آخر أسفل وهبط لمستوًى آخر برجله اليمنى. قال وهو يحدق لأعلى باتجاه نيكول: «إن المسافة بينهما مضبوطة تمامًا. لن يشقَّ علينا تسلقها.»
قالت نيكول من عند حافة الحفرة: «ريتشارد ويكفيلد، هل تحاول أن تقنعني أنك تنوي أن تهبط إلى هذه الهوة السحيقة؟ وإنك تتوقع مني أن أتبعك؟»
رد عليها: «أنا لا أتوقع منكِ شيئًا. لكنني لا أستطيع أن أرى الجدوى من التراجع الآن. فما البديل المتاح أمامنا؟ هل سنعود عبر النفق إلى المنحدر ثم نخرج؟ لأجل ماذا؟ لنرَ هل قد عثر أحدهم علينا بعد؟ لقد رأيتِ صور الزوارق. ربما توجد هذه الزوارق هنا في هذا القاع. أو ربما يوجد نهر سري يجري تحت الأرض يفضي إلى البحر الأسطواني.»
قالت نيكول عندما شرعت في الهبوط بتؤدة، وكان تقدم ريتشارد قد أشعل صفًّا آخر من الأضواء أسفل منهما: «ربما»، وتابعت: «إن أحد تلك الأشياء التي أصدرت الأصوات الغريبة بانتظارنا أسفل في القاع.»
قال ريتشارد: «سأعرف ذلك.» وأردف: «مرحبًا، يا من هناك بالأسفل. نحن اثنان من البشر وفي طريقنا لأسفل.» ثم لوح بيديه ما جعله يفقد توازنه لحظة.
قالت نيكول وهي تهبط إلى جانبه: «لا تكن متباهيًا.» ثم وقفت لتلتقط أنفاسها ونظرت حولها. وكانت قدماها ترتكزان على قضيبين، ويداها تمسكان بآخرين. وقالت في نفسها: «قطعًا أنا مجنونة، انظري إلى هذا المكان. من السهل أن أتخيل مائة طريقة للموت ميتة شنيعة هنا.» نزل ريتشارد مسافة قضيبين آخرين، فاستطردت في نفسها: «وانظري إليه، ألديه مناعة من الخوف؟ أم هو شخص متهور فقط؟ إنه يبدو كأنه مستمتع بكل هذا.»
أضاء الصف الثالث من الأضواء شبكة موجودة على الجدار المقابل أسفلهما. لقد كان معلقًا بين كل القضبان، وكانت تبدو من بعيد في الإضاءة الخافتة وكأنها نسخة مصغرة على نحو مذهل من الشبكة التي تربط ناطحتَي السحاب في نيويورك. هُرع ريتشارد حول الأسطوانة كي يفحص الشبكة. وصرخ في نيكول: «أسرعي إلى هنا. أعتقد أنها نفس المادة الملعونة.»
كانت الشبكة مثبتة بإحكام في الجدار ببراغي صغيرة. ومع إصرار ريتشارد اضطرت نيكول أن تقطع قطعة منها وتعطيها له. فشدها ووجد أنها تعود إلى وضعها مرة أخرى. وفحص تركيبها الداخلي. وقال: «إنها نفس الشيء.» وعقد ما بين حاجبيه. وقال متسائلًا: «لكن ماذا يعني هذا بحق الجحيم؟»
وقفت نيكول إلى جانبه وسلطت مصباحها بلا هدف على الهوة السحيقة الموجودة أسفلهما. وكانت على وشك أن تقترح أن يتسلقا إلى الخارج ويتجها إلى مكان أكثر ألفة، عندما اعتقدت أنها رأت انعكاسًا لضوء المصباح يرتدُّ من الأرضية من مسافة نحو عشرين مترًا لأسفل. قالت لريتشارد: «أود أن أقترح عليك شيئًا، سأهبط أنا بضعة أمتار في حين تفحص أنت حبل الشبكة. وعندئذٍ قد نقترب من قاع بئر القضبان الغريب هذا، أو أيًّا كان هذا الشيء. وإذا لم نقترب، فعندئذٍ سنغادر هذا المكان.»
رد عليها ريتشارد وهو شارد الذهن: «حسنًا.» فقد كان منهمكًا بالفعل في فحص حبل الشبكة باستخدام المجهر الذي أخرجه من حقيبة ظهره.
نزلت نيكول برشاقة على الأرض. ثم صرخت في ريتشارد: «أظن أنه من الأفضل أن تنزل. فثمة نفقان آخران؛ أحدهما كبير والآخر صغير. بالإضافة إلى حفرة أخرى في الوسط …» على الفور كان ريتشارد إلى جانبها. فقد هبط فور أن رأى الرصيف السفلي يُضاء.
كان ريتشارد ونيكول يقفان في تلك الأثناء على حافةٍ عرضها ثلاثة أمتار عند قاع الأسطوانة المليئة بالقضبان. وكانت هذه الحافة تشكل حلقة تحيط بحفرة أخرى أصغر ويخرج من جدرانها قضبان أيضًا. وعن يمينيهما ويساريهما، أنفاق مظلمة مقوسة محفورة في الصخر أو المعدن الذي كان مادة البناء الأساسية في هذا العالم الممتد تحت الأرض. وكان ارتفاع النفق الموجود عن يساريهما نحو خمسة أو ستة أمتار، أما النفق الصغير على الجانب المقابل الذي كان بزاوية ١٨٠ درجة حول الحلقة، فقد كان ارتفاعه نصف متر فحسب.
وكان يخرج من كلا النفقين قضيبان صغيران متوازيان مصنوعان من مادة مجهولة مثبتان في الأرضية، ويتخللان نصف عرض الحافة حتى الحلقة. ويتقارب القضيبان جدًّا عند النفق الصغير، ويتباعدان جدًّا عند النفق الكبير. وكان ريتشارد جاثيًا على ركبتيه يتفحص القضيبين أمام النفق الكبير عندما سمع صوتًا كقصف الرعد قادمًا من بعيد. فقال لنيكول وهما يتقهقران للوراء بصورة غريزية: «انصتي.»
ازداد الصوت ثم تحول إلى أزيز، كما لو كان شيئًا يتحرك بسرعة عبر الهواء. وعلى مسافة سحيقة في عمق النفق الذي كان مستقيمًا كالسهم، استطاع ريتشارد ونيكول أن يشاهدا الأنواء وهي تُضاء. فتوترا. ولم يكونا بحاجة للانتظار طويلًا حتى يحصلا على تفسير لما يحدث. فقد تراءت للنظر عربة تشبه عربة مترو الأنفاق المندفع سريعًا، وانطلقت نحوهما ثم توقفت فجأة بحافتها الأمامية على الأرض فوق أبعد امتداد للقضيبين.
ارتد ريتشارد ونيكول للوراء بينما كانت العربة تندفع باتجاههما. فأصبحا قريبًا بشدة من حافة الحلقة. ووقفا صامتين بضع ثوانٍ يحدقان في الشكل الديناميكي الهوائي المندفع أمامهما، فنظرا أحدهما إلى الآخر وضحكا في الوقت ذاته. قالت نيكول بانفعال: «حسنًا، لقد فهمت. لقد عبرنا إلى بعد جديد. في هذا البعد، من الصعب قليلًا العثور على محطة مترو … هذا منافٍ للعقل تمامًا. لقد هبطنا عبر برميل مملوء قضبانًا، وانتهى بنا الحال في محطة مترو … أنا لا أعرف ما رأيك يا ريتشارد، لكنني اكتفيت. سوف أتناول قليلًا من الطيور «الطبيعية» وشمام المن، أي يوم في الأسبوع …»
سار ريتشارد إلى جانب العربة. انفتح باب في جانب العربة واستطاعا أن يريا الجزء الداخلي المُضاء. لم يكن هناك أي مقاعد، لكن بعض القضبان الأسطوانية الرفيعة التي تبعد بعضها عن بعض في نمط عشوائي، وطولها ثلاثة أمتار هي المسافة بين السقف والأرضية. قال ريتشارد وهو يطل برأسه داخل الباب، ولا تزال قدماه على الحافة الناتئة بالخارج: «لا يمكنها أن تمتد أكثر من ذلك. وليس هناك مكان للجلوس.»
اقتربت نيكول كي تتفقد بنفسها. وقالت: «لعله ليس عندهم أناس كبار في السن أو ذوو احتياجات خاصة، وجميع المتاجر قريبة من المنازل.» ضحكت نيكول، في حين مال ريتشارد أكثر داخل العربة حتى يتسنى له رؤية أفضل للسقف والجدران. فقالت له نيكول: «لا تفكر في أي أفكار جنونية. إذا فكرت في أن نصعد على متن العربة فسيكون هذا جنونًا بحق. إلا إذا استنفدنا ما لدينا من طعام وكان هذا ملاذنا الأخير.»
رد ريتشارد: «أظن أنكِ محقَّة.» لكنه قطعًا كان محبطًا وهو ينسحب من عربة الترام. لكنه اندفع: «يا لها من فكرة مذهلة …» ثم أوقف نفسه قبل أن يُكمِل جملته. وأخذ يحدق عبر الرصيف في الجانب المقابل من الحافة الناتئة. فقد كانت هناك في منتصف المدخل المضاء آنذاك والمؤدي إلى النفق الصغير، عربة مماثلة حجمها عُشر حجم العربة المجاورة له، كانت منطلقة عبر الأرضية. تبعت نيكول نظرات ريتشارد.
قالت نيكول: «حتمًا هذا هو الطريق المؤدي إلى أرض الأقزام. فالعمالقة يهبطون إلى أرض أخرى، والمخلوقات ذات الأحجام الطبيعية يستقلون هذا المترو. هذا كل ما في الأمر.»
سار ريتشارد في عجالة حول الحلقة. ثم صرخ بصوت عالٍ: «هذا رائع»، ونزع عنه حقيبة ظهره ووضعها على الحافة بجانبه. ثم أخذ يفتش في أحد الجيوب الكبيرة.
سألته نيكول: «ماذا تفعل؟»
أخرج ريتشارد تمثالين صغيرين من حقيبته وأراها إياهما. وكرر قوله بحماسة واضحة: «هذا رائع.» ثم أردف: «يمكننا أن نرسل الأمير هال وفالستاف. أحتاج بضع دقائق فحسب حتى أبرمجهما.»
وكان ريتشارد قد بسط بالفعل حاسب الجيب على الحافة إلى جانب الأناسي الآليين، ومضى في العمل بهمة دون توقف. جلست نيكول وأسندت ظهرها إلى الجدار بين قضيبين. حدقت في ريتشارد. وأخذت تسترجع الساعات التي أمضياها معًا، وقالت لنفسها بإعجاب: «إنه من نوع نادر بحق. ومن الواضح أنه عبقري. ويكاد يخلو من المكر والخسة. ولا يزال يحتفظ بداخله بفضول الأطفال بشكل ما.»
شعرت نيكول بغتةً بالإعياء الشديد. وابتسمت لنفسها وهي تراقب ريتشارد. لقد كان منكبًّا على العمل. أغمضت نيكول عينيها لحظة.
•••
كان ريتشارد يقول: «أعتذر لأني استغرقت وقتًا طويلًا. لقد حرصت على التفكير في أشياء جديدة كي أضيفها، واحتاجت أن أعيد ترتيب الوَصلات …»
فاقت نيكول من غفوتها ببطء شديد. وقالت وهي تتثاءب: «كم أمضينا من الوقت هنا؟»
أجابها بنبرة خجلة: «لقد تجاوزنا الساعة بقليل. لكن كل شيء جاهز. أنا متأهب كي أضع الغلامين في المترو.»
حدقت نيكول حولها ثم علقت قائلة: «إن العربتين لا تزالان هنا.»
رد عليها: «أعتقد أنهما يعملان مثل كل الأضواء. أراهن أنهما سوف يظلان في المحطة ما دمنا على الرصيف.»
انتصبت نيكول ومددت جسدها. قال ريتشارد: «وإليك الخطة. أنا أمسك بجهاز التحكم في الإرسال والاستقبال. ولدى كلٍّ من هال والسير جون أجهزةُ استشعار صوتية ومرئية وأشعة تحت الحمراء ستُمدنا بالبيانات بلا انقطاع. يمكننا أن نختار أي قناة لنرصدها على الكمبيوتر ونرسل أوامر جديدة حسب الحاجة.»
سألته نيكول متذكرةً تجربتها داخل المخزن: «لكن أستخترق الإشارات الجدران؟»
أجابها: «يمكن ذلك، ما دامت الإشارات لا تنتقل عبر جزء كبير من المادة. إن النظام مصمم بطريقة معقدة للغاية على ضوء نسبة الإشارة إلى معدل التشويش كي يتلاءم مع ظروف ضعف الإشارة … علاوة على أن المترو الكبير جاء إلينا في خط مستقيم. وأرجو أن يكون المترو الصغير مشابهًا له.»
وضع ريتشارد بحذر بالغ الإنسانين الآليين على الحافة وأمرهما بالسير نحو المترو. وما إن اقتربا حتى انفتحت الأبواب على الجانبين. قال فالستاف وهو يصعد على متن العربة: «أنقل تحياتي إلى السيدة كويكلي. لقد كانت فتاة حمقاء لكن طيبة.»
نظرت نيكول إلى ريتشارد في حيرة. فضحك ريتشارد قائلًا: «أنا لم أمسح كل برمجتهما السابقة. لذا من المحتمل أن يلقيا بعض التعليقات السخيفة العشوائية بين الفينة والفينة.»
وقف الإنسانان الآليان في عربة المترو لدقيقة أو دقيقتين. تفقد ريتشارد في عجالةٍ أجهزة الاستشعار لديهما وضبط المعايير على الشاشة مرة أخرى. وأخيرًا أُغلقت أبواب المترو، وانتظرت العربة عشر ثوانٍ أخرى ثم انطلقت عبر النفق.
أمر ريتشارد فالستاف أن يتجه نحو المقدمة، لكن لم يكن هناك الكثير ليُرى خارج النافذة. وكانت جولة طويلة وسريعة بدرجة مذهلة. قدَّر ريتشارد أن المترو الصغير سافر بضعة كيلومترات قبل أن يهدئ من سرعته أخيرًا ليتوقف.
توقف ريتشارد قبل أن يعطي الأوامر للإنسانين الآليين بترك المترو؛ فقد أراد أن يتأكد أولًا أنهما لن ينزلا في محطة في منتصف الطريق. لكن لم يكن هناك ما يستدعي القلق؛ فالمجموعة الأولى الكاملة من بيانات التصوير الآتية من فالستاف والأمير هال قد أوضحت أن المترو وصل بالفعل إلى إحدى المحطات.
انتظر ريتشارد قبل أن يأمر الإنسانين الآليين بمغادرة المترو. أراد أن يتأكد من أنهما لن ينزلا بمحطة في منتصف الطريق. ومع ذلك، لم يكن هناك داعي للقلق؛ إذ أظهرت المجموعة الأولى الكاملة من بيانات تصوير الأمير هال وفالستاف أن عربة المترو قد وصلت بالفعل إلى نهاية الخط.
سار الإنسانان الآليان حول الرصيف المسطح بجانب العربة وصورا كثيرًا من الأشياء المحيطة بهما. كان يوجد بمحطة الترام الكثير من القناطر والأعمدة، لكن كان هناك بشكل أساسي حجرةٌ ملحقة طويلة. وقدر ريتشارد من الصورة أن ارتفاع السقف يبلغ نحو مترين. وأمر هال وفالستاف أن يدخلا في دهليز طويل يميل نحو اليسار، عموديًّا على مسار المترو.
وانتهى الدهليز أمام نفق آخر يكاد يصل ارتفاعه خمسة سنتيمترات. وبينما كان الإنسانان الآليان يتفحصان الأرضية وقد عثرا على قضيبين صغيرين يمتدان حتى أقدامهما تقريبًا، وصل إلى المحطة مترو صغير الحجم للغاية. ولما كانت أبوابه مفتوحة وداخله مضاء، استطاع ريتشارد ونيكول أن يشاهدا أن عربة المترو الجديد مطابقة لعربتَي المترو السابقتين باستثناء الحجم.
كان الرائدان يجلسان معًا على ركبتيهما على الحافة، وكلاهما ينظر بحماسة متقدة في شاشة الكمبيوتر الصغيرة. وأمر ريتشارد فالستاف بأن يلتقط صورة للأمير هال وهو يقف إلى جانب المترو الصغير. قال ريتشارد لنيكول بعد إمعان النظر في الصورة: «إن طول العربة نفسها أقل من سنتيمترين. من الذي سيركب فيها؟ لعلها مخصصة للنمل؟»
هزت نيكول رأسها ولم تتفوه بشيء. ساورها شعور الحيرة مجددًا. وأخذت تفكر أيضًا في هذه اللحظة في ردود فعلها الأولية تجاه راما. قالت نيكول لنفسها وهي تسترجع مشاعر الذعر التي انتابتها عندما وقع بصرها لأول مرة على ذلك المشهد البانورامي: «لم أتصور قط، ولا حتى في أكثر خيالاتي جموحًا، أنه سيكون هناك الكثير من الألغاز الجديدة. إن المكتشفين الأوائل لم يعرفوا سوى القليل …»
قطعت نيكول حبل أفكارها ونادت عليه: «ريتشارد.»
كان ريتشارد قد أمر الإنسانين الآليين أن يعودا أدراجهما عبر الدهليز ثم رفع بصره لأعلى بعيدًا عن الشاشة. وقال: «نعم؟»
سألته نيكول: «كم يبلغ سُمك القشرة الخارجية لراما؟»
أجابها باستغرابٍ بعض الشيء: «أظن، نحو أربعمائة متر إجمالًا.» ثم استطرد: «لكن هذا عند أحد الأطراف. وليس لدينا طريقة محددة لمعرفة سمك القشرة في أي مكان آخر. وقد أورد نورتن وطاقمه أن عمق البحر الأسطواني يتفاوت بدرجات كبيرة؛ إذ يصل إلى أربعين مترًا في بعض المناطق، وفي البعض الآخر إلى مائة وخمسين مترًا. مما يوحي لي بأن سُمك القشرة قد يصل إلى بضع مئات من الأمتار على الأقل.»
ألقى ريتشارد نظرةً خاطفة على الشاشة. وكان الأمير هال وفالستاف قد وصلا تقريبًا إلى المحطة، إلى المكان الذي نزلا فيه من الترام. فأرسل لهما أمرًا بالتوقف ثم التفت إلى نيكول وقال: «لمَ تسألين؟ ليس من طبعك أن تسألي مثل هذه الأسئلة العديمة الجدوى.»
ردت نيكول: «يبدو أنه يوجد هنا بالأسفل عالم بأكمله لم يُكتشف بعد. إن هذا سيستغرق حياة إنسان بأكملها …»
قاطعها ريتشارد ضاحكًا: «ليس لدينا كل هذا الوقت. على الأقل ليس مدة حياة الإنسان العادية … لكن بالرجوع إلى سؤالك بخصوص سُمك القشرة، تذكري أن مستوى أرضية نصف الأسطوانة الجنوبي بأكمله يعلو النصف الشمالي بأربعمائة وخمسين مترًا. وعليه، ما لم يكن هناك بعض الانحرافات الكبيرة في البنية — وبالطبع نحن لم نرَ أي انحرافات من الخارج — فإن السُّمك ينبغي أن يكون فعليًّا أكبر في النصف الجنوبي.»
انتظر ريتشارد حتى تقول نيكول شيئًا آخر. وعندما ظلت صامتة بضع ثوانٍ، التفت لشاشته مرة أخرى وتابع عملية الاستكشاف التي ينوب فيها عنه إنسانان آليان.
وكان هناك سبب وجيه لسؤال نيكول بشأن سُمك القشرة. لقد كان لديها صورة في ذهنها لم تستطع أن تتخلص منها؛ كانت نيكول تتخيل الوصول إلى نهاية أحد هذه الأنفاق الطويلة وعندما تفتح أحد الأبواب تصاب بالعمى عندئذٍ حينما يفاجئها ضوء الشمس المباشر. وجال بخاطر نيكول: «ألن يكون هذا رائعًا؛ أن تكون مخلوقًا ذكيًّا يعيش في هذه المتاهة ذات الإضاءة الباهتة والأنفاق، وبعد ذلك، تتعثر مصادفةً بشيء يغير للأبد مفهومك عن الكون بأكمله؟ كيف ستتمكن من العودة …»
وكان ريتشارد يسأل في ذلك الحين: «والآن ما هذا بحق؟» أوقفت نيكول ذهنها الشارد وركَّزت في الشاشة. لقد دخل كلٌّ من فالستاف والأمير هال غرفة كبيرة في الطرف المقابل من محطة المترو، وكانا يقفان أمام كتلة من الشباك الرخوة التي تشبه الإسفَنج. وأظهرت صورة الأشعة تحت الحمراء للمشهد، جسمًا كرويًّا متداخلًا على شكل عش داخل الشبكة، وكانت الحرارة تنبعث من هذا الجسم. وبناءً على اقتراح من نيكول، أمر ريتشارد الإنسانين الآليين أن يدورا حول هذا الشيء ويفحصا باقي هذا المكان الجديد.
كانت الغرفة ضخمة. تمتد في الفضاء مسافةً أبعد من مدى دقة صورة معدات الفيديو التي يحملها الإنسانان الآليان. وكان يبلغ ارتفاع السقف نحو عشرين مترًا، وتصل المسافة بين الجانبين إلى ما يزيد عن خمسين مترًا. وكان هناك كثير من الأشياء الكروية الشكل المشابهة، موضوعة داخل الكتل الإسفنجية ومبعثرة في أنحاء الغرفة بعيدًا. وكانت هناك شبكة ممتدة تقريبًا بطول الغرفة معلقة على ارتفاع خمسة أمتار فوق الأرض وتتدلى من السقف المرتفع في المقدمة. وهناك شبكة أخرى تكاد أن تُرى على مسافة مائة متر تقريبًا خلف الشبكة الأولى.
ناقش ريتشارد ونيكول ما الذي ينبغي أن يفعله الإنسانان الآليان عقب ذلك. ولم يكن هناك مخارج أخرى سواء من المترو أو من الغرفة الكبيرة. وفي صورة بانورامية لكل أنحاء الغرفة، لم يظهر شيء لافت للأنظار سوى الكرات في كتلها الإسفنجية الخارجية، أرادت نيكول أن يرجع الإنسانان الآليان وأن يتركا الوكر برُمَّته. لكنَّ فضول ريتشارد جعله راغبًا في إجراء بحث سريع على الأقل لأحد الأشياء الكروية الشكل.
وتمكن الإنسانان الآليان بصعوبة من تسلق الشبكة كي يصلا إلى الكرات في منتصفها. وكانت الحرارة المنبعثة من الكرات تزداد كلما اقتربا منها. وكان من الواضح أن من أحد أغراض وجود الكتل الإسفنجية الخارجية التي تكتنف الكرات هو امتصاص الحرارة. وعندما وصلا الإنسانان الآليان إلى الكرات، أومضت شاشتهما الداخلية مُنذرةً بأن الحرارة الخارجية قد تجاوزت معدلات الأمان.
هب ريتشارد على الفور. ومع استمرار توجيهه للإنسانين الآليين، حدد أن الكرات غير قابلة بالفعل للاختراق، وغالبًا ما تكون مصنوعة من سبيكة معدنية سميكة وذات سطح شديد الصلابة. قرع فالستاف بذراعه بضع مرات فوق الكرة، فكان الصوت الناجم عن ذلك القرع يتلاشى سريعًا، مما يشير إلى أن الكرة كانت ممتلئة، ربما بمادة سائلة. وكان الإنسانان الآليان يشقان طريقهما خارج الشبكة الإسفنجية عندما التقطت أنظمتهما الصوتية صوت احتكاك فرش بسطح معدني.
حاول ريتشارد أن يعجل من هروبهما. واستطاع هال أن يزيد من سرعته، غير أن فالستاف، الذي ارتفعت جدًّا درجة حرارة أنظمته الفرعية في أثناء اقترابه من الكرة، منعه منطق المعالج الداخلي من الإسراع في الحركة. واستمر صوت الفرش في الارتفاع.
وتحولت شاشة الكمبيوتر الموجودة على الحافة بين الرائدين إلى شاشة مجزأة. فقد اقترب الأمير هال من حافة الكتلة الإسفنجية، وداس الأرض ثم اتجه إلى المترو دون أن ينتظر رفيقه. بينما استمر فالستاف في التسلق ببطء عبر الشبكة. وتمتم وهو يعبر ببطء فوق حاجز آخر: «إنه لعمل شاقٌّ لرجل ثمل.»
انقطع فجأةً صوت الاحتكاك بسطح معدني، وسجلت كاميرا فالستاف صورة لشيء طويل ضامر مخطط باللونين الأسود والذهبي. وبعد مرور بضع ثوانٍ اتشح إطار الكاميرا بسواد كالح، وبدأ يصدر صوت إنذار يقول: «خلل في التعليمات البرمجية وشيك الحدوث.» واستطاع أن يرى كلٌّ من ريتشارد ونيكول لمحةً خاطفة أخرى لفالستاف، وكانت الصورة تبين ما يمكن أن يكون عينين ضخمتين، اتضحت في لقطة قريبة كخليط جيلاتيني أسود به مسحة زرقاء. وفجأةً انقطع أي إرسال من الإنسان الآلي بما في ذلك الاتصال عن بعد عند الطوارئ.
في تلك الأثناء دخل هال المترو الذي ينتظره. وفي غضون بضع ثوانٍ سبقت انطلاق المترو من المحطة سُمع مرة أخرى صوت الاحتكاك المُنذر بالسوء. لكن المترو غادر المحطة على كل حال، والإنسان الآلي بداخله، وأخذ المترو في الانطلاق مسرعًا عبر النفق نحو الرائدين. وتنفس كلٌّ من ريتشارد ونيكول الصعداء.
ولم تمر سوى ثانية أخرى حتى التقط الجهاز السمعي للأمير هال صوت كسر زجاج. أمر ريتشارد الإنسان الآلي أن يلتفت باتجاه الصوت، فصورت كاميرا الأمير هال رجلًا مخططة باللونين الأسود والذهبي معلقة في الهواء وحدها. وقد كسرت هذه الرجل النافذة وكانت تتحرك بلا رادع نحو الإنسان الآلي. وأدرك كلٌّ من ريتشارد ونيكول ما كان يحدث في اللحظة نفسها. فقد كان الشيء يركب فوق المترو! وفي طريقه إليهما!
وفي لمح البصر كانت نيكول تتسلق القضبان. أما ريتشارد فقد أهدر بضع ثوانٍ قيمة في التقاط شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص به ووضع كل معداته في حقيبة الظهر. وقد سمع بينما كان يتسلق القضبان وهو في منتصف طريقه إلى أعلى صوت إنذار صادر من الأمير هال، يقول «خلل في التعليمات البرمجية وشيك الحدوث.» التفت ريتشارد لينظر عندما كان المترو مندفعًا في النفق أسفله.
وما شاهده بعد ذلك جعل الدم يهرب من عروقه. كان هناك أعلى عربة المترو مخلوق أسود كبير، وكان مركز جسده، إن كان هذا جسدًا بحق، مسطحًا فوق سقف المترو. وكانت أرجله المخططة تمتد في كل الاتجاهات. واخترقت أربع منها نوافذ المترو وانتزعت الإنسان الآلي. وبسرعة ترك هذا الشيء عربة المترو ولف أحد أرجله الثمانية حول القضبان السفلية. ولم يشاهد ريتشارد المزيد. وتسلق باقي الأسطوانة وبدأ يعدو عبر النفق بأعلى متعقبًا نيكول التي كانت تسبقه بمسافة كبيرة.
وبينما كان ريتشارد يركض لاحظ أن النفق كان ينحني قليلًا نحو اليمين. وذكر نفسه أنه حتى لو لم يكن هذا هو نفس النفق الذي اجتازاه من قبل، فإنه ينبغي أن يقودهما أيضًا إلى المنحدرات. وبعد بضع مئات من الأمتار، توقف ريتشارد كي يستمع إلى صوت متعقبه. فلم يسمع شيئًا. التقط ريتشارد نفسًا عميقًا وأعقبه بآخر، ثم أخذ في العدو مرة أخرى عندما اخترقَت أذنيه صرخة حادة رهيبة آتية من أمامه. لقد كانت نيكول. فقال لنفسه وهو مندفع للأمام كي يعثر عليها: «تبًّا.»