حزام للهروب
بدأ صبر ريتشارد ونيكول ينفد. لقد كان يقف هو ونيكول على جدران نيويورك ما ينيف على الساعة، يمسحان السماء بأعينهما بحثًا عن أي أمارات تشير إلى مجيء طائرة هليكوبتر. دمدم ريتشارد: «أين هم بحق الجحيم؟ لا تستغرق المسافة من قاع سلالم ألفا حتى مخيم بيتا سوى خمس عشرة دقيقة بالطوافة.»
ردت نيكول في محاولة لرفع معنوياته: «ربما يبحثون في مكان آخر.»
أجابها: «يا له من أمر سخيف! بالطبع سوف يذهبون إلى مخيم بيتا أولًا، وحتى وإن لم يستطيعوا أن يصلحوا نظام الاتصالات، فعلى الأقل سوف يجدون رسالتي الأخيرة. لقد ذكرت أنني سأركب أحد القوارب البخارية إلى نيويورك.»
أجابته: «لعلهم يعتقدون أنه لا توجد بقعة تهبط فيها الطائرة في المدينة. أو لعلهم هم أنفسهم قادمون في قارب.»
قال ريتشارد: «دون أن يعرفوا أولًا هل بإمكانهم تحديد موقعنا من الطائرة؟ هذا أمر مستبعد.» حول ريتشارد عينيه إلى البحر وبحث عن مركب شراعي. ثم صاح مقتبسًا مقولة شكسبير من مسرحية ريتشارد الثالث بتصرف: «قارب. قارب. أتخلى عن مملكتي مقابل قارب.»
ضحكت نيكول، لكن ريتشارد ابتسم بصعوبة. وقال بغيظ: «يستطيع رجلان أن يجمعا القارب الشراعي من كوخ المؤن بمخيم بيتا في أقل من ثلاثين دقيقة. اللعنة، ما الذي يعوقهم؟»
وقام ريتشارد في خِضم إحباطه بتشغيل خاصية البث في جهاز الاتصال. وقال: «أنصتوا إليَّ يا رجال. إن كنتم بأي مكان بالقرب من البحر الأسطواني، فحددوا هويتكم. ثم أسرعوا إلى هنا. نحن نقف على الجدار وقد سئمنا الانتظار.»
ولم يكن هناك من مجيب. جلست نيكول على الجدار.
سألها ريتشارد: «ماذا تفعلين؟»
ردت عليه: «أعتقد أنك قلق بما فيه الكفاية لكلينا. وقد تعبت من الوقوف والتلويح بذراعي.» ثم حدقت عبر البحر الأسطواني. وقالت في إحباط: «لو كنا فقط نستطيع أن نطير، لكان الأمر أسهل كثيرًا.»
أمال ريتشارد رأسه للجانب ونظر إليها. وقال بعد بضع ثوانٍ: «يا لها من فكرة رائعة. لماذا لم تجُل بخاطرنا من قبل؟» جلس ريتشارد على الفور وبدأ في إجراء بعض الحسابات على جهاز الكمبيوتر الخاص به. وهمهم لنفسه قول يوليس قيصر من مسرحية شكسبير بنفس الاسم: «إن الجبناء ليموتون مرارًا قبل آجالهم، أما الشجعان فلا يذوقون الموت إلا مرة واحدة.»
شاهدت نيكول صديقها ينقر بهمة على لوحة المفاتيح. وسألته وهي تحدق في شاشة الكمبيوتر من فوق كتفه: «ماذا تفعل، يا عزيزي؟»
صرخ ريتشارد بعدما أنهى حساباته: «ثلاثة! ثلاثة يجب أن تكون كافية.» نظر ريتشارد إلى نيكول المتحيرة وسألها: «أتريدين أن تسمعي أشنع الخطط على الإطلاق في تاريخ عالم الفضاء؟»
أجابت نيكول بابتسامة تملؤها الريبة: «لمَ لا؟»
رد عليها: «سوف نصنع لأنفسنا أحزمة من المادة المصنوع منها الشباك، وتطير بنا الطيور عبر البحر الأسطواني.»
حدقت نيكول في ريتشارد لبضع ثوانٍ. ثم قالت في شك: «على افتراض أننا يمكن أن نصنع الأحزمة، كيف سنخبر الطيور بأن تقوم بدورها؟»
أجابها ريتشارد: «سوف نقنعها أن هذا في مصلحتها. أو نهددها بطريقة ما … لا أعرف يمكنكِ أن تتولي أنتِ هذا الأمر.»
كانت نيكول مرتابة. استرسل ريتشارد وهو يمسك يدها ويهبط من على الجدار: «على أي حال، هذا أفضل من المكوث هنا بانتظار الهليكوبتر أو القارب.»
•••
بعد مضي خمس ساعات لم تكن هناك أي أمارات تشير إلى قدوم فريق إنقاذ. وعندما انتهيا من صنع الحزام، ترك ريتشارد نيكول على الجدار وعاد إلى الغرفة البيضاء لتفقد الأمر عبر جهاز الاستشعار مرة أخرى. وعاد بخبر أنه يظن أنه رأى الأشكال البشرية على مقربة من مخيم بيتا، لكن درجة دقة الصورة على هذا الإطار الدقيق بالتحديد كانت ضعيفة للغاية. وكما اتفقا معًا، كانت نيكول تنادي عبر جهاز الاتصال كل نصف ساعة. ولكن لم يكن هناك مجيب.
قالت نيكول لريتشارد وهو يبرمج بعض الرسومات البيانية على الحاسب: «ريتشارد، لماذا تعتقد أن فريق الإنقاذ كان يستخدم السلالم؟»
رد عليها: «ومن يدري؟ ربما التلفريك معطل وليس معهم مهندسون.»
قالت نيكول متأملة: «إن هذا يبدو غريبًا من وجهة نظري.» ثم أردفت في سرها: «ثمة شيء يزعجني في هذا، لكنني لا أجرؤ على مجاهرة ريتشارد به حتى يمكنني تفسيره أولًا. هو لا يؤمن بالحدس.» حدقت نيكول في ساعتها. ثم تابعت حديثها إلى نفسها: «إنه لشيء جيد أننا وفرنا بعض الشمام. إذا لم يظهر فريق الإنقاذ، ولم تنجح هذه الخطة المتهورة، فإننا لن نسبح قبل طلوع النهار التالي.»
قال ريتشارد بنبرة حاسمة: «لقد انتهيت من التصميم المبدئي.» ثم لوح بيديه لنيكول لتنضم إليه. ثم قال وهو يشير إلى الشاشة التي بيديه: «إذا وافقتِ على هذا الرسم المكون من خطوط، فعندئذٍ سوف أكمل باقي تفاصيل الرسومات.»
وفي الصورة ثلاثة طيور كبيرة، وحبل ملفوف حول جسم كل واحد منها، تطير على هيئة سرب عبر البحر. ويتدلى منها رسمة لبشريين مربوطين فيها بثلاثة حبال ويجلسان على أحزمة واهية. قالت نيكول: «يبدو جيدًا لي»، وهي لا تحبذ التفكير ولو لدقيقة واحدة في أن هذا الأمر سيحدث فعليًّا.
•••
قالت نيكول وهي تضغط على اللوحة للمرة الثانية كي تفتح وكر الطيور: «لا أصدق أننا مقدمان على فعل هذا.»
وقد نجم عن محاولتهما الأولى لتجديد التواصل مع الطيور جفاء متوقع. في هذه المرة الثانية كان ريتشارد هو من صرخ في وكر الطيور. صرخ ريتشارد بأقوى صوت لديه: «أنصتي لي أيتها الطيور، أحتاج إلى أن أتحدث معك «الآن». اصعدي إلى هنا في الحال.» وكان على نيكول أن تكتم ضحكتها.
بدأ ريتشارد يُسقط بعضًا من الأشياء السوداء في الوكر. قال ريتشارد بابتسامة واسعة: «انظري، كنت أعلم أن هذه الأشياء الملعونة سوف تصلح لغرض ما.» أخيرًا سمعت الطيور حركة في قاع الممر الرأسي. صعد الطائران أنفسهما اللذان شاهداهما مرارًا وتَكرارًا من قبل إلى أعلى الوكر وبدآ يصرخان بشدة في ريتشارد ونيكول. ولم ينظرا حتى إلى شاشة الكمبيوتر عندما وجهها ريتشارد باتجاههما. وعندما فرغ الطائران من الصراخ حلقا فوق الدبابة الحارسة، وانغلق الغطاء مرة أخرى.
قالت نيكول عندما طلب منها ريتشارد أن تفتح الغطاء للمرة الثالثة: «لا جدوى من هذا يا ريتشارد. حتى صديقانا انقلبا علينا.» توقفت نيكول عن الحديث قبل أن تضغط على اللوحة. ثم قالت: «ماذا سنفعل إذا هاجَمانا؟»
أجاب ريتشارد وهو يشير لنيكول كي تفتح الغطاء: «لن يُهاجِمانا. لكن تحسبًا، أريدك أن تبقي فوق هناك. وسوف أتعامل أنا مع صديقيكِ الطائرين.»
وما إن انفتح الغطاء للمرة الثالثة حتى كانت هناك ثرثرة في الوكر. بدأ ريتشارد في الحال يصرخ فيهما ويقذف بالأشياء السوداء أسفل الممر. فأصاب أحدها الدبابة الحارسة مما أحدث انفجارًا صغيرًا أشبه بطلق ناري.
صعد الطائران المألوفان إلى الفتحة وصرخا في ريتشارد. وكان خلفهما مباشرة ثلاثة أو أربعة من رفاقهما. ووصل الصراخ إلى أوجه. لم يتراجع ريتشارد. بل استمر يصرخ ويشير إلى شاشة الكمبيوتر. وأخيرًا، نجح في إثارة انتباهها.
شاهدت مجموعة الطيور الوصف المرسوم الذي يصور الرحلة عبر البحر. عندئذٍ أمسك ريتشارد بأحد الأحزمة في يده اليسرى وبدأ يشغل العرض الموجود على شاشته مرة أخرى. تلا ذلك حوار محموم بين الطيور. بيد أن ريتشارد شعر في آخر الأمر أنه قد خسر المعركة. وبينما طار الطائران الآخران فوق الدبابة الحارسة، هبط ريتشارد إلى الصخرة الأولى في الوكر. صرخ ريتشارد بأعلى صوته: «انتظرا.»
اندفع للأمام الطائر المرافق للطائر ذي الطبقة القطيفة السوداء، وكان منقاره الذي يثير الرعب لا يبعد عن وجه ريتشارد أكثر من متر. وكانت الضوضاء الناجمة عن كل الصراخ والثرثرة عظيمة حتى إنها تصم الآذان. وكان ريتشارد مثابرًا. فعلى الرغم من اعتراض الطائر له، هبط إلى الصخرة الثانية. والآن لن يكون بمقدوره الهروب إذا ما بدأ الغطاء ينغلق مرة أخرى.
رفع ريتشارد الحزام مرة أخرى وأشار إلى الشاشة. وجاء الرد على هيئة جوقة من الصرخات. بعدئذٍ سمع ريتشارد صوتًا يعلو صراخ الطيور، صوتًا أشبه بصوت إنذار الحرائق في المدارس أو المستشفيات. على الفور هدأت كل الطيور. سكنت كل الطيور في هدوء على الصخور ثم حملقوا لأسفل في الدبابة الحارسة.
كان الوكر هادئًا على خلاف العادة. بعد بضع ثوانٍ، سمع ريتشارد صوت رفرفة أجنحة وبعدها بثوانٍ معدودة ظهر طائر جديد في الممر العمودي. وأخذ يرتفع بتؤدة إلى مستوى ريتشارد حتى صار قبالته. وكان يغطي جسمَ الطائر طبقةٌ قطيفة رمادية وهو ذو عينين رماديتَي اللون. وحول عنقه حلقتان سميكتان لونهما أحمر قانٍ.
أخذ المخلوق يتفرس في ريتشارد ثم هبط على الصخرة المقابلة عبر الممر. وعلى الفور انطلق الطائر الذي كان يوجد أولًا في هذه البقعة بعيدًا مفسحًا الطريق. وعندما تحدث الطائر ذو طبقة القطيفة الرمادية، كان صوته رقيقًا وواضحًا للغاية. بعدما أنهى الطائر حديثه حلق الطائر ذو طبقة القطيفة السوداء لأعلى إلى جانبه، ومن الواضح أنه أخذ يوضح سبب الاضطراب. وأخذ الطائران يحدقان في ريتشارد مرات عديدة. وفي المرة الأخيرة ظن ريتشارد أنه ربما يكون هز رءوسها هو بمنزلة إشارة له كي يتحدث، فأخذ يعرض مرة أخرى الرحلة الممثلة بالرسومات ورفع الحزام بيديه. فطار الطائر ذو الحلقات الحمراء إلى جانب ريتشارد لإلقاء نظرة من كثب.
تحرك الطائر حركة فجائية أرعبت ريتشارد حتى إنه كاد يقع من على الصخرة. وكتم كل صرخات الطيور كلمات قليلة من القائد الرمادي، الذي جلس هادئًا مدة دقيقة كما لو كان يفكر مليًّا في الأمر. أخيرًا أومأ الطائر القائد لريتشارد بأحد مخالبه، ثم فرد أجنحته العملاقة، وحلَّق خارج الفتحة إلى حيث ضوء النهار.
ظل ريتشارد بلا حراك مدة بضع ثوانٍ. حلَّق المخلوق الضخم لأعلى في السماء فوق الوكر وحالًا تبعه الطائران المألوفان. بعدها ببضع ثوانٍ ظهر رأس نيكول من الفتحة. وسألت ريتشارد: «هل ستأتي؟ لا أعلم كيف فعلتها، لكن الأمر يبدو كما لو أن أصدقاءنا مستعدون.»