صوت مايكل
قضى الجنرال أوتول فترة الأصيل في غرفته، يشاهد التلفزيون في حين كان تابوري وياماناكا يتفقدان الأسلحة النووية. وقد اعتذر عن أداء المهمة المُكلف بها وهي اختبار نظم الأسلحة متذرعًا بحجة استمرار اضطرابات معدته. وكانت الإجراءات بسيطة للغاية، وفي الواقع لم يتخيل أحد أن هذه الأسلحة قد صُممت خصيصى لتدمير أكثر الأعمال الهندسية التي سبق أن شاهدها البشر روعة.
وقبل العشاء طلب أوتول إجراء مكالمة مع زوجته. وكان الاتصال بين نيوتن والأرض يصل سريعًا الآن، وأصبح وقت التأخير بين البث والاستقبال أقل من ثلاث دقائق. وأصبحت المحادثة التقليدية الجارية بين طرفين ممكنة مرة أخرى. وكان حديثه مع كاثلين وديًّا وتقليديًّا. وفكر الجنرال أوتول لفترة وجيزة في مشاركة زوجته بالمشكلة الأخلاقية التي تواجهه، لكنه أدرك أن مكالمة الفيديو غير آمنة فعدل عن الفكرة. وقد أعرب كلٌّ منهما عن توقه الشديد للالتقاء مرة أخرى في القريب العاجل.
تناول الجنرال العشاء مع أفراد الطاقم. وكان جانوس في أكثر حالاته المزاجية تأججًا، فكان يسلي الآخرين بقصصه عن الأمسية التي قضاها مع «الرصاصات»، وهو اللقب الذي أصر أن يطلقه على القذائف النووية. وقد أخبر فرانشيسكا التي كانت تضحك بلا انقطاع منذ أن بدأ في سرد رواياته: «في لحظة من اللحظات، وضعنا كل الرصاصات على الأرض في صف واحد مثل أحجار الدومينو. أرعبت ياماناكا. فقد دفعت الرصاصة الأمامية فسقطت جميعها وأحدثت ضجة وتخبطت بعنف في جميع الاتجاهات. وكان هيرو متيقنًا إنها ستنفجر لا محالة.»
سأله ديفيد براون: «ألم تخشَ من أنك قد تضر ببعض المكونات الأساسية؟»
أجابه: «لا. الكتيبات التي أعطاني إياها أوتو هيلمان تقول إنك لا تستطيع أن تلحق الضرر بهذه الأشياء إذا أسقطتها من أعلى قمة ناطحة السحاب ترامب تاور ذات الثمانية والخمسين طابقًا. بالإضافة إلى أنها لم تُفعَّل بعد. أليس كذلك سيادة الفريق البحري؟»
أومأ هيلمان برأسه، وانطلق جانوس في سرد رواية ثانية. سبح جنرال أوتول بمخيلته بعيدًا متصارعًا بشدة مع العلاقة بين هذه الأشياء المعدنية الموجودة على متن السفينة العسكرية وبين السحب التي تأخذ شكل عيش الغراب في المحيط الهادي …
قطعت فرانشيسكا حبل أفكاره. إذ قالت: «لديك مكالمة عاجلة على خطك الخاص يا مايكل. الرئيس بوثويل سيكون معك بعد خمس دقائق.»
انقطع الحديث الدائر حول الطاولة. قال جانوس باسمًا: «حسنًا، قطعًا أنت شخصية مهمة. فالجميع لا يتلقون مكالمة من سلاجر بوثويل.»
استئذن الجنرال أوتول بلطف من على الطاولة ثم ذهب إلى غرفته. وأخذ هيلمان يفكر وهو ينتظر المكالمة بفارغ الصبر حتى تصل: «حتمًا هو يعرف. وإنما هو يعرف بلا ريب. فهو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.»
لطالما كان أوتول هاويًا للعبة البيسبول، وكان فريقه المفضل هو فريق بوستن ريد سوكس. ووضعت كرة البيسبول تحت الحراسة القضائية في ذروة فترة الفوضى العارمة عام ٢١٤١، غير أن مجموعة جديدة من الملاك أعادت الدوري إلى الانطلاق مجددًا بعد مرور أربع سنوات. وعندما كان مايكل في السادسة من عمره عام ٢١٤٨، اصطحبه والده إلى استاد فينواي دوم لمشاهدة مباراة بين فريق الريد سوكس وهافانا هاريكنز. وكانت هذه بداية علاقة حب عاشها أوتول مدى حياته.
وكان شيرمان بوثويل الأعسر يلعب في مركز المدافع الأول في فريق ريد سوكس في الفترة ما بين ٢١٧٢ و٢١٨٧. وكان يتمتع بشعبية هائلة. وكان بوثويل، المولود في ميزوري، مميزًا بتواضعه الأصيل وتكريسه الجاد للعمل مثلما كان مميزًا في لعبه، فقد أحرز على مدار الست عشرة سنة التي كان يلعب فيها مع الفريق الرئيسي خمسمائة وسبعًا وعشرين ضربةً خارج أرض الملعب. وفي غضون سنته الأخيرة مع البيسبول، لقيت زوجته حتفها في حادثة قارب مريعة. وكانت كل البيوت الأمريكية تتغنى بتكريس شيرمان نفسه لتربية أولاده بلا ضجر أو تأفف باعتباره أبًا وحيدًا لا معين له.
وبعد مضي ثلاثة أعوام، عندما تزوج من ليندا بلاك، الابنة المحبوبة لحاكم تكساس، كان من الجلي لكثيرين أن شيرمان ينوي الدخول إلى الحياة السياسية. وبالفعل تدرج في المناصب بسرعة البرق. فعمل أولًا وكيلًا لحاكم ولاية، ثم حاكم ولاية، ثم المرشح الرئاسي. واختِير شيرمان للبيت الأبيض بأغلبية ساحقة عام ٢١٩٦، وكان مترقبًا أن يهزم غريمه المسيحي المحافظ هزيمة نكراء في الانتخابات العامة القادمة عام ٢٢٠٠.
عندما ظهر الرجل الذي كان يرتدي بذلة زرقاء على الشاشة قال بابتسامة عزبة: «مرحبًا يا جنرال أوتول. معك رئيسك شيرمان بوثويل.»
ولم يكن بحوزة الرئيس أي مفكرات. وكان يتكئ إلى الأمام على مقعد بسيط، ساندًا مرفقيه على فخذيه، ويطوي يديه أمامه. وكان يتحدث كما لو كان يجلس إلى جانب الجنرال أوتول في غرفة معيشة مريحة.
استرسل الرئيس: «كنت أتابع بعثة نيوتن بلهفة شديدة — وكذلك كل أفراد عائلتي بما فيهم ليندا والأطفال الأربعة — منذ إقلاعكم. غير أنني صرت أكثر اكتراثًا ﺑ «درجة خاصة» على مدار الأسابيع الأخيرة؛ إذ انهالت الفواجع عليك وعلى زملائك البواسل كوابل من الأمطار. يا إلهي. من كان يتوقع مثل هذا الأمر، أن مركبة راما حقيقة قائمة؟ يا له من أمر مريع …
على أي حال، علمت من ممثلنا في مجلس الحكومات أن الأمر قد أُصدر بتدمير راما. وأعي جيدًا أن مثل هذه القرارات لا تؤخَذ بسهولة، وإنها تضع مسئولية كبيرة على عاتق أناس مثلك. غير أنني متيقن من أن هذا هو القرار الصائب.
نعم، أعرف أن هذا هو القرار الصائب. آه، أنت تعرف ابنتي كورتني — البالغة من العمر ثماني سنوات — إنها تستيقظ كل ليلة تقريبًا على كوابيس. لقد كنا جميعنا نشاهد عندما كنتم تحاولون أن تقتنصوا المخلوق الآلي، ذاك الذي كان يبدو مثل السرطان، ويا للهول، كان المشهد مريعًا بلا شك. والآن كورتني تعلم — رغم أن كل هذه الأحداث كانت على شاشة التلفزيون — أن راما متجهة الآن إلى الأرض «مباشرة» وهي مذعورة بحق. إنها مرتاعة بشدة. فهي تعتقد أن تلك السرطانات سوف تغزو البلد بأكملها، وأنها سوف تُقطعها إربًا هي وكل أصدقائها مثل الصحفي ويلسون.
إني أخبرك بكل هذا أيها الجنرال؛ لأني أعلم أنك تجابه قرارًا صعبًا. وقد سمعت من الشائعات الرائجة أنك قد تكون مترددًا في تدمير المركبة الفضائية العملاقة بكل عجائبها. لكنني أخبرت كورتني عنك أيها الجنرال. لقد أخبرتها أنك أنت وفريقك سوف تنسفون راما وتجعلونها كالفتات الصغيرة قبل أن تصل إلى الأرض بكثير.
لهذا السبب اتصلت بك. كي أخبرك أنني أعتمد عليك. وكذلك كورتني تعتمد عليك.»
اعتقد الجنرال أوتول، قبل أن ينصت إلى الرئيس، بأنه قد يستفيد من هذه المكالمة بأن يطرح هذه المعضلة أمام قائد الشعب الأمريكي. حتى إنه تخيل أنه من الممكن أن يسأل سلاجر بوثويل عن طبيعة الناس التي قد تدمر أشياء لتحمي نفسها ضد مخاطر بعيدة الاحتمال. لكن بعد الحديث القصير الذي يخلو تقريبًا من أي ثغرة، من المدافع الأول السابق للريد سوكس، لم يكن لدى أوتول ما يقوله. كيف له أن يرفض الاستجابة لمثل هذه المناشدة؟ فكل الفتيات الصغيرات على وجه كوكب الأرض يعتمدن عليه.
بعد أن نام أوتول خمس ساعات استيقظ في تمام الساعة الثالثة. وكان يعي أنه يجابه أهم حدث في حياته برمتها. وقد بدا له أن كل شيء فعله، سواء في حياته المهنية، أو دراسته الدينية، وحتى الأنشطة العائلية، كانت جميعها تعده لهذه اللحظة. فقد عهد الله إليه بقرار عظيم. لكن ماذا يريده الله أن يفعل؟ وكانت جبهة أوتول تتصبب عرقًا وهو ساجد أمام صورة المسيح على الصليب الموضوعة خلف مكتبه.
صلى أوتول وهو يشبك يديه بشدة: «يا إلهي، لقد حانت ساعتي وما زلت لا أعرف مشيئتك بوضوح. من السهل جدًّا أن أنصاع للأوامر المعطاة لي وأفعل ما يرضي الجميع. لكن هل هذه مشيئتك؟ كيف يمكنني أن أتيقن من ذلك؟»
أغمض مايكل أوتول عينيه وأخذ يصلي طالبًا الهداية بخشوع لم يشعر بمثله من قبل. وبينما كان يصلي تذكر فترة أخرى من حياته، منذ سنوات عندما كان لا يزال طيارًا يعمل في قوات حفظ السلام المؤقتة في جواتيمالا. استيقظ أوتول وجنوده في صبيحة أحد الأيام ليجدوا القاعدة الجوية العسكرية الصغيرة الخاصة بهم محاطة بالإرهابيين اليمينيين الذين كانوا يحاولون إخضاع الحكومة الديمقراطية الجديدة لسطوتهم. وقد رام المخربون الحصول على الطائرات مقابل المرور الآمن لأوتول وجنوده.
استغرق الرائد أوتول حينذاك خمس عشرة دقيقة كي يتدبر الأمر ويصلي قبل أن يقرر القتال حتى آخر قطرة دماء. وفي المعركة التي أعقبت ذلك، دُمرت الطائرات ولقي نصف رجاله تقريبًا مصرعهم، لكن عضَد موقفه الباسل ضد الإرهاب الحكومة اليافعة وكثيرين في أنحاء أمريكا الوسطى، في الوقت الذي كافحت فيه البلدان الفقيرة بيأس للتغلب على الخراب الذي حل بها على مدار عقدين من الكساد. ومُنح أوتول وسام الاستحقاق، وهو أرفع وسام عسكري يمنحه مجلس الحكومات، نظير العمل البطولي الذي قام به في جواتيمالا.
وبعد مرور بضع سنوات، وعلى متن نيوتن، كانت عملية اتخاذ القرار التي سيقوم بها الجنرال أوتول أكثر تعقيدًا. ففي جواتيمالا لم يكن لدى الرائد الشاب أدنى شك حول مشروعية تصرفاته من الناحية الأخلاقية. لكن الأمر الذي تلقاه بتدمير راما، مختلف بالمرة. فمن وجهة نظر أوتول، لم تقم المركبة الفضائية جهارًا بأي أفعال عدوانية. بالإضافة إلى أنه يعلم أن الأمر الذي تلقاه يركن في الأصل إلى عاملين هما: عامل الخوف مما «قد» تفعله راما، وعامل المجاهرة بالرأي العام المعادي لكل ما هو أجنبي. وبالنظر إلى التاريخ نجد أن كلًّا من الخوف والرأي العام لم يأبها صراحة بالجانب الأخلاقي. لو كان بمقدوره فقط أن يعرف ما هي النوايا الحقيقية لراما، لكان …
وتحت صورة المسيح على المكتب الموجود في غرفته، كان هناك تمثال صغير لشاب أجعد الشعر واسع العينين. وكان أوتول يصطحب هذا التمثال للقديس مايكل من كاتدرائية سيينا معه في كل رحلاته التي قام بها منذ زواجه من كاثلين. وعندما نظر إلى التمثال خطرت بباله فكرة. ففتح أحد أدراج المكتب وأخرج مسجلًا إلكترونيًّا. ثم أداره ونظر في قائمته ثم دخل على فهرس وعظات القديس مايكل.
ووجد الجنرال في الفهرس تحت كلمة «راما» عددًا ضخمًا من المراجع المختلفة. كان المرجع الذي يبحث عنه هو المرجع الوحيد المكتوب بخط واضح. وكان هذا المرجع المميز العظة الشهيرة «عظة راما» التي كان قد ألقاها القديس في معسكر حضره خمسة آلاف من معتنقي أفكاره الجدد، قبل المحرقة التي حدثت في روما بثلاثة أسابيع. بدأ أوتول يقرأ.
«الموضوع الذي نحن بصدد تناوله اليوم هو القضية التي أثارتها الأخت جودي في مجلسنا، وهو بالتحديد؛ إلامَ أستند في البيان الذي قدمته حول أن المركبة الفضائية التي تُدعى راما قد تكون بحقٍّ أول إعلان عن المجيء الثاني للمسيح. وأعرف أنه لم يكن لديَّ رؤية واضحة بطريقة أو بأخرى، لكن مع ذلك أوحى إليَّ الله أن نُذر المجيء الثاني للمسيح يجب أن تكون خارقة للطبيعة، وإلا فلن ينتبه الناس على الأرض. فلو بوق ملاك أو اثنان في السماء فهذا لن يكفي. يجب أن تكون النذر مثيرة وهائلة كي تجذب الأنظار.
وثمة حادثة سابقة عن الإعلانات النبوية التي تبزغ من السماء في نبوءات العهد القديم التي تنبئ بمجيء المسيح. وقد كانت مركبة إيليا هي بمنزلة راما ذلك العصر. فبالتحدث من الناحية التقنية، كان الأمر، يفوق إدراك أولئك الذين رأوها مثلما حدث مع راما اليوم. وبهذا الإدراك، نجد أن هناك نمطًا معينًا يعزز هذه الحقيقة، فهي منظومة متساوقة لا تتنافى مع أوامر الله.
لكن ما أراه مشجعًا بشأن وصول المركبة الفضائية الأولى راما، التي وصلت منذ ثماني سنوات — وأقول «الأولى» لأنني متيقن من أنه سيكون هناك المزيد — هو أنها ترغم البشرية على أن تفكر في نفسها من منظور أكبر منها. فكثيرًا ما نحد مفهومنا عن الرب ومفهومنا عن روحانياتنا ضمنًا. فنحن ننتمي إلى الكون. نحن أبناؤه. إنه لحظ محضٌ أن ذراتنا قد بزغت إلى الوجود على هذا الكوكب بالأخص.
إن راما تدفعنا إلى التفكير في أنفسنا وفي الله بصفتنا كائنات هذا الكون. إن إرسال الله هذا النذير في هذه اللحظة لهو تعبير عن قدرة الله. وكما أخبرتكم مرارًا وتكرارًا، نحن مدينون لتطورنا النهائي، لإدراكنا أن الجنس البشري بأكمله ليس إلا كائنًا حيًّا واحدًا. وظهور راما هو بمنزلة كائن واحد آخر، وعليه حان الوقت لكي نغير طرقنا ونبدأ هذا التطور النهائي.»
وضع الجنرال أوتول المسجل جانبًا وأخذ يفرك عينيه. لقد قرأ هذه العظة من قبل، قبيل لقائه مع البابا في روما مباشرة، لكنها لم تبدُ حينها ذات مغزًى مثلما تبدو الآن. قال أوتول في نفسه: «إذَن ما ماهيتك يا راما؟ هل أنت مصدر تهديد لكورتني بوثويل أم نذير المجيء الثاني للمسيح؟»
•••
في غضون الساعة التي سبقت الإفطار، كان الجنرال أوتول لا يزال مترددًا. ولم يكن يعرف بحق ماذا سيكون قراره. وكانت تستنزفه بشدة حقيقة أن قائده الأعلى قد أملى عليه الأوامر صراحةً. وكان أوتول يعي جيدًا أنه قسم عندما تسلم أمر تفويضه لهذه البعثة بأنه لن يتبع الأوامر فحسب، بل أيضًا سيحمي كل بنات هذا الكوكب. فهل لديه أي دليل أن هذا الأمر بعينه كان فاسقًا للدرجة التي يحنث معها بقسمه؟
ما دام جنرال أوتول يفكر في راما باعتبارها آلة فحسب، من السهل عليه أن يؤيد فكرة تدميرها. فصنيعه هذا في آخر الأمر لن يودي بحياة أي من سكان راما. لكن أهذا ما قاله ويكفيلد؟ ألم يقل إن مخلوقات راما من المحتمل أن تكون أكثر ذكاءً من أي كائن حي على وجه كوكب الأرض بما في ذلك البشر أنفسهم؟ ألن يكون لعقل آلة متقدمة مكانة خاصة بين مخلوقات الله، وربما مكانة أعلى من أنماط الحياة الدونية؟
أخيرًا استسلم الجنرال أوتول للتعب. إذ لم يتبقَّ لديه أي قدر من الطاقة للتعامل مع معين لا ينضب من الأسئلة التي لا إجابة لها. وقرر على مضض أن يوقف الجدال الدائر بداخله ويعد نفسه لتنفيذ الأوامر.
وكانت المهمة الأولى له هي حفظ شفرة الآر كيو الخاصة به، وهي متوالية معينة مكونة من خمسين عددًا صحيحًا ما بين رقمَي صفر وتسعة لا يعرفها أحد سواه ومعالج البيانات الموجود داخل الأسلحة النووية. وكان أوتول قد أدخل شفرته بنفسه وتأكد من أنه قد جرى تخزينها تخزينًا صحيحًا في كل سلاح من الأسلحة قبل إقلاع بعثة نيوتن من الأرض. وكانت متوالية الأرقام طويلة حتى تقلل من احتمالية نسخها بواسطة باحث إلكتروني متكرر. وقد أُوصي كل ضابط من الضباط العسكريين ببعثة نيوتن بأن يشتق متتالية ينطبق عليها معياران؛ أولهما: ينبغي أن تكون الشفرة مستحيلة النسيان، ثانيهما: يحذر أن تكون الشفرة شيئًا مباشرًا، مثل كل أرقام هواتف العائلة؛ إذ يمكن لأي طرف خارجي أن يحصل عليها بسهولة من ملفات العاملين.
ولأسباب عاطفية، أراد أوتول أن تكون الأرقام التسعة المكونة لشفرته هي أرقام تاريخ ميلاده، ٣-٢٩-٤٢، وتاريخ ميلاد زوجته ٢-٧-٤٦. وكان أوتول يعلم أن أي متخصص في فك رموز الشفرات سوف يبحث على الفور عن مثل هذا الاختيار السهل؛ لذا قرر الجنرال أن يخفي أرقام تواريخ أعياد الميلاد وسط الخمسين رقمًا. لكن ماذا عن الواحد والأربعين رقمًا الأخرى؟ وهذا الرقم بالأخص، ٤١، كان يثير اهتمام أوتول منذ حفل جعة وبيتزا كان قد أُقيم أثناء عامه الدراسي الثاني بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وكان أحد رفاقه حينذاك، الذي كان مُنظِّرًا بارزًا شابًّا، وقد نسي أوتول اسمه منذ زمن، قد أخبر أوتول أثناء نقاشهما وهما ثملان أن رقم ٤١ «رقم مميز جدًّا؛ إذ يمثل أول عدد صحيح في أطول متوالية متصلة للأعداد الأولية التربيعية.»
ولم يفهم أوتول قط ماذا كان زميله يقصد بالضبط بمصطلح «الأعداد الأولية التربيعية». غير أنه فهم جيدًا وانبهر بحقيقة أن متوالية الأعداد الأولية ٤١، ٤٣، ٤٧، ٥٣، ٦١، ٧١، ٨٣، ٩٧، حيث يُحسب كل رقم تالٍ من خلال زيادة رقم اثنين على الفرق بين كل رقم وسابقه، تؤدي في النهاية بالضبط إلى أربعين رقمًا أوليًّا متتاليًا. ولا ينتهي تتابع الأعداد الأولية هذا إلا عندما يتحول الرقم الحادي والأربعون في المتوالية إلى عدد غير أولي، وبالتحديد ٤١ × ٤١ =١٦٨١. لم يشارك أوتول أحدًا بهذه المعلومة الصغيرة التي لا يعرفها الكثيرون سوى مرة واحدة في حياته مع زوجته كاثلين في عيد ميلادها الحادي والأربعين، وكانت استجابتها فاترة مما جعله لا يخبر أحدًا بها مرة أخرى.
لكن هذه المتوالية كانت مناسبة تمامًا لشفرته السرية، ولا سيما إذا أخفاها جيدًا. ولكي يركب شفرته المكونة من خمسين رقمًا، كوَّن الجنرال أوتول أولًا متتالية مكوَّنة من واحد وأربعين عددًا، وكل عدد ينتج من حاصل جمع العددين الأولين في الطرف المقابل في متوالية الأعداد الأولية التربيعية المميزة التي تبدأ بالعدد ٤١. وعليه يكون العدد «٥» هو العدد الأول الذي يمثل العدد ٤١، يعقبه عدد «٧» الذي يمثل ٤٣، ثم «١» لرقم ٤٧ (أي ٤ + ٧ = ١١، ثم بُتر رقم ١١ إلى ١) ورقم «٨» يمثل ٥٣، وهلم جرًّا. بعدها بعثر أوتول أرقام تواريخ أعياد الميلاد باستخدام معكوس متتالية فيبوناتشي (٣٤، ٢١، ١٣، ٨، ٥، ٣، ٢، ١، ١) كي يحدد مواقع الأرقام التسعة الخاصة بتاريخَي الميلاد داخل المتوالية الأصلية المكونة من الواحد والأربعين رقمًا.
ولم يكن من السهل حفظ المتوالية، لكن الجنرال لم يشأ أن يكتبها ثم يحملها معه إلى مكان تشغيل الأسلحة. فإذا كتب شفرته فسيتسنى لأي أحد أن يستخدمها، شاء أم أبى؛ ومن ثَم لن يعود أمامه خيار تغيير رأيه مرة أخرى. وما إن حفظ أوتول المتوالية حتى تخلص من كل الحسابات التي قام بها ثم ذهب إلى غرفة الطعام كي يتناول الإفطار مع باقي الرواد.
•••
قال الفريق البحري هيلمان وعلى وجهه ابتسامة عريضة: «هاك نسخة من شفرتي يا فرانشيسكا، ونسخة لكِ إيرينا، وهذه النسخة الأخيرة سوف تكون لهيرو ياماناكا. آسف جانوس لكن ليس بحوزتي أي رصاصات. ربما يدعك جنرال أوتول تدخل شفرته إلى أحد القنابل.»
أجابه جانوس بسخرية: «لا بأس سيادة الفريق البحري. أستطيع أن أستغني عن بعض الامتيازات في الحياة.»
وكان هيلمان يهلل ويحدث جلبة حول موضوع تشغيل الأسلحة النووية، فقد نسخ نسخًا كثيرة من شفرته المكونة من خمسين رقمًا التي كانت مطبوعة، وكان يستمتع بشرحه للرواد الآخرين كيف كان ماهرًا في استنباط شفرته. والآن، وعلى خلاف العادة، كان يسمح لباقي أفراد الطاقم بالمشاركة في العملية.
واستمتعت فرانشيسكا بذلك. لقد كان هذا قطعًا أشبه بحلقة تلفزيونية رائعة. وقد خال لأوتول أن فرانشيسكا ربما اقترحت على هيلمان أن يقوم بمثل هذا الاستعراض، لكن جنرال أوتول لم يقضِ الكثير من الوقت في التفكير في هذا الأمر. لقد كان أوتول منشغلًا جدًّا باندهاشه من حالة الهدوء التي تملكته هو نفسه. فبعد فحص طويل ومعذب للذات، كان من الواضح أنه ينوي أداء واجبه بضمير مستريح.
كان الفريق البحري هيلمان مرتبكًا في أثناء إدخاله للشفرة الخاصة به (لقد اعترف أنه كان متوترًا)، وقد نسي إلى حين أين كان في متتاليته. وقد توقع مصممو النظام إمكانية حدوث مثل هذا الأمر، من ثَم وضعوا ضوءين أحدهما أخضر والآخر أحمر فوق لوحة مفاتيح الأرقام مباشرة، على جانب القنبلة. وكان بعد إدخال كل رقم عاشر، يضيء أحد الضوءين إشارة إلى ما إذا كان جرى إدخال العشرة الأرقام الأخيرة من الشفرة بنجاح أم لا. وكانت لجنة السلامة قد أعربت عن مخاوفها من أن هذه الخاصية «الزائدة» قد تضر بالنظام (ففك رموز شفرة مكونة من خمس مجموعات تحتوي كلٌّ منها على عشرة أرقام، أسهل من فك رموز شفرة مكونة من مجموعة واحدة من خمسين رقمًا)، لكن الاختبارات الهندسية المتكررة قبل الإقلاع أثبتت أن الأضواء ضرورية.
بعدما أدخل هيلمان مجموعة العشرة الأرقام الثانية، أضاء الضوء الأحمر فقال في حرج سافر: «لقد ارتكبت خطأً.»
صرخت فرانشيسكا من المكان التي كانت تصور منه: «وغد.» وكانت فرانشيسكا قد ضبطت الصورة بدقة حيث جعلت كلًّا من الأسلحة والأماكن الموضوعة بها تظهر في نفس الإطار.
قال الفريق البحري هيلمان صراحة: «لقد أخطأت. لقد شتتت كل هذه الضوضاء انتباهي. عليَّ أن أنتظر ثلاثين ثانية قبل أن أعيد الكَرَّة.»
بعدما انتهى هيلمان من إدخال شفرته بنجاح، أدخل دكتور ديفيد براون شفرة التشغيل للسلاح الثاني. وغالبًا ما كان يبدو عليه الملل في أثناء القيام بذلك، فمما لا شك فيه أنه لم يدخل إلى لوحة المفاتيح شيئًا يبعث على الحماسة. شغلت إيرينا تورجينيف القنبلة الثالثة. وقد علقت إيرينا تعليقًا وجيزًا لكنه حماسي يشدد على اعتقادها بأن تدمير راما هو أمر غاية في الضرورة.
ولم ينبس كلٌّ من هيرو ياماناكا وفرانشيسكا ببنت شفة في أثناء تشغيلهما للقنابل الباقية. أما فرانشيسكا فقد أذهلت باقي أفراد الطاقم بإدخالها الثلاثين رقمًا الأولين من ذاكرتها. مع الأخذ بعين الاعتبار، كما هو مفترض، أنها لم ترَ شفرة هيلمان إلا منذ ساعة فحسب، ولم تُترك وحدها منذ ذلك الحين لمدة تزيد عن الدقيقتين، من ثَم كان عملها الفذ هذا لافتًا للنظر بشدة.
بعدها جاء دور الجنرال أوتول. وسار بخُطًا هادئة وهو يبتسم ابتسامة تنم عن هدوء نفسه نحو السلاح الأول. صفق باقي الرواد إعرابًا عن احترامهم للجنرال وتقديرهم للصراع الذي كان يدور داخله. واستأذن الجميع أن يلزموا الهدوء مفسرًا لهم بأنه يحتفظ بكل المتتالية في ذاكرته. عندئذٍ أدخل أوتول مجموعة العشرة الأرقام الأولى.
ثم توقف لحظة بينما كان الضوء الأخضر يومض. وفي هذه اللحظة، أومضت فجأة في ذهنه صورة أحد اللوحات الجصية في الطابق الثاني من مزار القديس مايكل بروما. وكانت اللوحة لشاب يرتدي معطفًا أزرق، يشخص بعينيه نحو السماء، ويقف بأعتاب النصب التذكاري لفيكتور إيمانويل، يعظ حشدًا من الناس تظهر أمارات التقدير على وجوههم. عندئذ سمع الجنرال أوتول صوتًا مرتفعًا وواضحًا يقول: «لا.»
استدار الجنرال بسرعة. وقال وهو يحدق في باقي الرواد: «هل قال أحدكم أي شيء؟» فهزوا رءوسهم بالنفي. رجع أوتول المتحير إلى القنبلة. وحاول أن يتذكر مجموعة العشرة الأرقام الثانية. ولكن باءت محاولته بالفشل. تسارعت دقات قلبه على نحو مذهل. واستمر عقله يسأل مرارًا وتكرارًا: «ما هذا الصوت؟» وعندئذٍ تلاشى عزمه على القيام بواجبه.
أخذ مايكل أوتول نفسًا عميقًا، ثم استدار مرة أخرى وسار عبر الكبينة الكبيرة. وعندما مر بزملائه المصعوقين سمع الفريق البحري هيلمان يصرخ فيه: «ماذا تفعل؟»
أجابه أوتول دون أن يتوقف عن سيره: «أنا ذاهب إلى غرفتي.»
قال دكتور براون من خلفه: «ألن تشغل القنابل؟»
أجابه الجنرال أوتول: «لا. على الأقل ليس الآن.»