صلاة مستجابة
مكث الجنرال أوتول في غرفته بقية اليوم. عرج الفريق البحري هيلمان عليه بعد قرابة الساعة من إخفاقه في عملية إدخال الشفرة. وبعدما دارت محادثة قصيرة لا معنى لها (فقد كان هيلمان أخرق تمامًا في هذا الأمر)، سأله الفريق البحري أكثر الأسئلة أهمية.
«هل أنت مستعد لأن تتابع عملية التشغيل؟»
هز أوتول رأسه وقال: «اعتقدت أنني سأقوم بهذا الأمر صباح اليوم يا أوتو، لكن …» توقف أوتول عن الحديث إذ لم يكن بحاجة لأن يقول المزيد.
نهض هيلمان من على كرسيه. وقال: «لقد أمرت ياماناكا أن يأخذ القنبلتين الأوليين إلى الممر بداخل راما. سوف يكونان هناك بحلول وقت العشاء إذا عدلت عن رأيك. أما الثلاثة الأخرى، فسوف تُترك في القمرة في الوقت الحالي.» ثم أخذ هيلمان يحدق في زميله لبضع ثوانٍ. ثم استرسل: «أرجو أن تعود إلى رشدك قبل فوات الأوان يا مايكل. هناك اضطرابات عظيمة بالفعل في مقر القيادة.»
وعندما جاءت فرانشيسكا بكاميراتها بعد مرور ساعتين، كان واضحًا من الكلمات التي انتقتها موقفها تجاه الجنرال، على الأقل فيما بينها وبين باقي الرواد؛ إذ كانت ترى أن أوتول يعاني حالة توتر عصبي حادة. فهو لم يكن متمردًا. وفي الوقت نفسه لم يشأ أن يفصح عن وجهة نظره. ولم يستطع أحد من باقي أفراد الطاقم أن يقبل بهذه الخيارات؛ لأنهم سوف يبدون جميعًا أناسًا سيئين بسبب مشاركتهم في الأمر. لا، كان من الواضح أن ثمة مشكلة ما في حالته العصبية.
قالت فرانشيسكا برقة وهي تنظر في أرجاء الغرفة، وحاستها التلفزيونية تتخيل بالفعل صور الحوار القادم: «لقد أخبرت الجميع ألا يزعجوك بمكالماتهم. تنهال علينا المكالمات الهاتفية بطريقة جنونية ولا سيما بعدما أرسلت الشريط هذا الصباح.» سارت فرانشيسكا نحو المكتب وأخذت تتفرس فيما فوقه. ثم سألته وهي تمسك بالتمثال الصغير: «أهذا مايكل من كاتدرائية سيينا؟»
تصنع أوتول ابتسامة باهتة على وجهه. وقال: «نعم. وأعتقد أنكِ تعرفين الرجل المعلق على الصليب في الصورة.»
أجابته فرانشيسكا: «حسنًا، حسنًا جدًّا … اسمع يا مايكل، أنت تعلم ما سيحدث. أود أن يصورك الحوار الذي سأجريه معك في ألطف صورة ممكنة. هذا ليس لأنني سوف أعاملك برقة، أنت تفهم، لكني أود أن أتأكد من أن أولئك الأوغاد هناك على الأرض سيستمعون إلى القصة من وجهة نظرك …»
قاطعها أوتول: «هم يطلبون رأسي بالفعل؟»
أجابته فرانشيسكا: «أوه، أجل. ولسوف تئول الأمور إلى حال أسوأ من ذلك. فكلما أجَّلت تفعيل القنابل ازداد السخط والحنق عليك.»
احتج أوتول: «ولكن لماذا؟ أنا لم أقترف جريمة. كل ما هنالك هو أنني أرجأت تشغيل الأسلحة التي تفوق قوتها التدميرية …»
ردت فرانشيسكا سريعًا: «هذا ليس له علاقة بالموضوع. «فمن وجهة نظرهم» أنت لم تقم بعملك، وبالتحديد لم تحمِ البشر على كوكب الأرض. فهم مذعورون. هم لا يفهمون كل الهراء المتعلق بالفضاء الخارجي. لقد أُخبروا أن راما سوف تُدمر، والآن أنت ترفض أن تخلصهم من كوابيسهم.»
همهم أوتول: «كوابيس، هذا ما قام بوثويل ﺑ…»
تساءلت فرانشيسكا: «ماذا عن الرئيس بوثويل؟»
أجابها: «آه، لا شيء.» ثم تحاشى أوتول النظر إلى عينيها الفاحصة. وتساءل بفارغ الصبر: «وماذا أيضًا؟»
أجابته: «كما كنت أقول، أريدك أن تظهر قدر المستطاع في أحسن حال. صفف شعرك مرة أخرى وارتدِ زيًّا جديدًا بدلًا من بذلة الطيران. وسوف أضع على وجهك القليل من مساحيق التجميل حتى لا تبدو واهنًا هكذا.» رجعت فرانشيسكا إلى المكتب. وأردفت: «سوف نضع صور عائلتك في مكان واضح إلى جانب صورة المسيح وتمثال مايكل. فكر بعناية فيما تنوي أن تقوله. وبالطبع سوف أسألك عن سبب إخفاقك في تشغيل الأسلحة هذه الصباح.»
سارت فرانشيسكا ووضعت يدها على كتف أوتول. وقالت: «سوف أذكر في المقدمة التي سألقيها أنك كنت مجهدًا. أنا لا أريد أن أتحدث بالنيابة عنك وأقول ما لا تعنيه أنت، لكن الاعتراف ببعض الضعف سيؤدي الغرض. ولا سيما في بلدك.»
اضطرب الجنرال أوتول عندما انتهت فرانشيسكا من الإعداد للحوار. فسألها: «هل يجب عليَّ القيام بهذا؟» وكان يزداد اضطرابًا كلما كانت الصحفية تعيد ترتيب غرفته.
فجاء رد فرانشيسكا المقتضب: «فقط إذا أردت ألا يفكر فيك أي أحد على أنك الجنرال الخائن بندكت آرنولد الذي خان أمريكا خلال حرب الاستقلال الأمريكية وتحالف مع الإنجليز.»
•••
عرج جانوس على أوتول قبل العشاء مباشرة. وقال كاذبًا: «لقد كان الحوار الذي أجريته مع فرانشيسكا رائعًا. على الأقل أنت قمت بإثارة بعض القضايا الأخلاقية التي ينبغي أن نأخذها جميعًا بعين الاعتبار.»
أجابه أوتول في توتر: «من الغباء أن أقول كل هذا الهراء الفلسفي. كان عليَّ أن أتبع نصيحة فرانشيسكا وألقي بكل اللوم على إجهادي.»
رد عليه جانوس: «حسنًا، يا مايكل، قُضي الأمر. لم آتِ إلى هنا كي أسترجع أحداث اليوم. أنا واثق من أنك قمت بذلك بالفعل مرات كثيرة. لكني جئت إلى هنا كي أرى هل بمقدوري أن أقدم إليك يد العون.»
رد عليه: «لا أعتقد يا جانوس. لكنني أقدر مشاعرك.»
وساد صمت طويل خلال المحادثة. وفي نهاية المطاف وقف جانوس وهمَّ بالتوجه نحو الباب. وسأله بلطف: «ماذا ستفعل الآن؟»
أجابه أوتول: «أتمنى لو كنت أعرف. لا يبدو أنني قادر على إعداد خطة.»
•••
واصلت مركبتا راما ونيوتن المجتمعتان معًا اندفاعهما نحو الأرض. فمع كل يوم يمر، كان خطر راما يلوح في الأفق على نحو أكبر، فثَمة أسطوانة ضخمة تتحرك بسرعة مذهلة نحو الاصطدام المشئوم، ما لم يحدث أي تدخل في مسارها. وكانت نقطة الاصطدام المتوقعة عند ولاية تاميل نادو في جنوب الهند، بالقرب من مدينة مادوراي. وكان الفيزيائيون على شبكة الأخبار كل ليلة، يفسرون التوقعات. وصارت مصطلحات مثل «الموجات الصادمة» و«الطرد» هي المصطلحات التي جرى تبادلها أثناء تناول العشاء.
وحطت الصحافة العالمية من قدر مايكل أوتول. كانت فرانشيسكا محقة؛ إذ صب العالم جامَ غضبِه على الجنرال الأمريكي. حتى إنه اقتُرحَت محاكمته محاكمة عسكرية على متن نيوتن والحكم عليه بالإعدام بسبب عدم الانصياع للأوامر. أما الإنجازات المهمة التي حققها على مدار حياته والمشاركات التي تتسم بالتضحية بالذات فقد نُسيت جميعها. وأُجبرت كاثلين أوتول على ترك شقة الزوجية في بوسطن وأن تلجأ إلى صديقة في ماين.
وكان الجنرال يتعذب من الحيرة. لقد كان يعلم أنه بعدم تشغيل الأسلحة، فإنه يلحق أضرارًا بعائلته وبحياته المهنية يتعذر إصلاحها. لكن في كل مرة كان يقنع نفسه فيها بأنه جاهز لتنفيذ الأمر، كانت كلمة «لا» العالية والمدوية تصدح في أذنه.
ولم يكن أوتول متماسكًا بعض الشيء إلا في أثناء حواره الأخير الذي أجرته معه فرانشيسكا، في اليوم الذي سبق رحيل المركبة العلمية إلى الأرض. لقد طرحت عليه بعض الأسئلة القاسية جدًّا. وعندما سألته فرانشيسكا إذا كانت راما عازمة على أن تدور حول الأرض لمَ لمْ تقم بعد بأي مناورات تدل على انحرافها عن مسارها، انتعش الجنرال لحظات وأخذ يذكرها بأن عملية الكبح الهوائي — وهي تشتيت الطاقة في الغلاف الجوي في شكل حرارة — كانت أكثر الطرق كفاءة للدوران حول جسم كوكبي ذي غلاف جوي. لكن عندما طلبت منه أن يسهب في إفادته لشرح كيف يمكن لراما أن تعيد تشكيل نفسها حتى تحظى بأسطح ديناميكية هوائية، لم يجبها أوتول. لكنه أخذ يحدق بها شارد الذهن.
خرج أوتول من غرفته لتناول العشاء الأخير في الليلة التي سبقت رحيل براون وفرانشيسكا وتابوري وتورجينيف للأرض. أفسد حضوره العشاء الأخير. كانت إيرينا ناقمة عليه بشدة وتوبخه بقسوة جمة، بل رفضت أن تجلس معه على طاولة واحدة. أما ديفيد براون فتجاهله تمامًا، مؤثرًا أن يناقش بالتفصيل الممل أمر المعمل الذي صُمم في تكساس كي يسع السرطان الآلي المُقتنص. ولم يكن أحد ودودًا معه سوى فرانشيسكا وجانوس؛ لذا اتجه الجنرال إلى غرفته بعد العشاء مباشرة دون أن يودع أحدًا بطريقة رسمية.
وفي صبيحة اليوم التالي، وبعد مرور أقل من ساعة على رحيل المركبة العلمية، اتصل أوتول بالفريق البحري هيلمان وطلب الاجتماع به. سأله الرجل الألماني بحماسة عندما دخل الجنرال مكتبه: «إذن، هل عدلت عن رأيك أخيرًا؟ حسنًا. لم يفت الأوان بعد. إن المهلة أقصاها ١٢ يومًا. وإذا عجلنا الأمر لا يزال بمقدورنا أن نفجر القنابل في مدة لا تتجاوز تسعة أيام.»
أجابه أوتول: «أنا على وشك القيام بذلك، لكنني لست مستعدًّا بعد. لقد كنت أفكر في كل هذا بعناية بالغة. وهناك شيئان لا أزال أود أن أقوم بهما. أود أن أتحدث إلى البابا يوحنا بولس، وأن أذهب إلى راما بمفردي.»
أحبطت إجابة أوتول هيلمان. فقال: «تبًّا. ها قد رجعنا إلى نفس الأمر مرة أخرى. لعلنا …»
قال الرجل الأمريكي: «أنت لا تفهم يا أوتو.» وأخذ يحدق بثبات في زميله. وأردف: «هذه أخبار سارة. ما لم يحدث شيء غير متوقع بالمرة، سواء في أثناء مكالمتي للبابا أو في غضون استطلاعي لراما. سوف أدخل شفرتي في اللحظة التي أرجع فيها.»
سأله هيلمان: «هل أنت متأكد من ذلك؟»
أجابه أوتول: «أعدك بذلك.»
•••
لم يتردد الجنرال أوتول على الإطلاق في إجراء الاتصال الطويل والمثير للعاطفة مع البابا. وقد كان يعي جيدًا أن مكالمته تخضع للمراقبة، لكن هذا الأمر لم يعد يشغله. شيء واحد فقط كان له الصدارة عنده، ألا وهو أن يأخذ قرار تشغيل القنابل النووية بضمير يخلو تمامًا من أي مشاعر ذنب.
انتظر أوتول بفارغ الصبر رد البابا. ولما ظهر البابا يوحنا بولس الخامس أخيرًا على الشاشة، كان يجلس في نفس الغرفة في الفاتيكان حيث جاءت مقابلة أوتول بعد الكريسماس. وكان البابا يمسك لوحة إلكترونية صغيرة بيده اليمنى، وكان ينظر أحيانًا إلى أسفل وهو يتحدث.
بدأ البابا الحديث بلكنته الإنجليزية الدقيقة: «كنت أصلي معك يا بني، ولا سيما في خلال الأسبوع الذي كنت تعاني فيه اضطراباتك الشخصية الأخيرة. ليس بمقدوري أن أخبرك ماذا تفعل. وليس لديَّ إجابات أفصح من إجاباتك. كل ما يمكننا فعله هو أن نأمل معًا في أن يستجيب الله في حكمته لصلاتك استجابة واضحة.
لكن ردًّا على بعض تساؤلاتك الدينية، يمكنني أن أقدم لك بعض التعليقات البسيطة. وسوف أقدم لك هذه التعليقات على أمل أن تكون نافعة لك … لا يمكنني أن أجزم أو أنفي أن الصوت الذي سمعته هو صوت القديس مايكل، أو أن الأمر كان تجربة روحية. يمكنني أن أجزم أن هناك فئة من التجارب البشرية، وعادة ما أدعوها روحية لعدم وجود مصطلح أفضل، تحدث بالفعل ولا يمكن شرحها على ضوء أسس علمية أو عقلانية بحتة. لقد أعمى نور سماوي شاول الطرسوسي بلا أدنى شك مما جعله يعتنق المسيحية قبل أن يصبح الرسول بولس. قد يكون الصوت الذي سمعته هو صوت القديس مايكل. لا يستطيع أحد غيرك أن يحدد ذلك.
وكما ناقشنا منذ ثلاثة أشهر، خلق الله سكان راما بلا شك أيًّا كانت ماهيتهم. لكنه خلق أيضًا الفيروسات والبكتريا التي تسبب موت الإنسان ومعاناته. لا يمكننا أن نمجد الله سواء فرادى أو كجنس بأكمله ما لم ننج من المهالك. في نظري، أستبعد أن الله ينتظر منا أن نقف مكتوفي الأيادي عندما يتعلق الأمر بخطر يُهدد بقاءنا على قيد الحياة.
أما عن الدور المحتمل لراما باعتبارها نذير المجيء الثاني للمسيح فهي قضية صعبة. هناك بعض الكهنة داخل الكنيسة ممن يتفقون مع القديس مايكل، مع أنهم قلة قليلة جدًّا. معظمنا يشعر أن مركبة راما عقيمة روحيًّا على أن تكون نذيرًا من الله. إنها بلا ريبٍ مجموعة من العجائب الهندسية الرائعة، لكن لا يوجد شيء بشأنها يوحي بأي دفء أو عاطفة أو أي نوع من السمات الفدائية التي ترتبط بالمسيح. ومن ثَم، يبدو من المستبعد جدًّا أن يكون لراما أي أهمية دينية بحتة.
في النهاية هذا قرار يجب أن تأخذه بمفردك. يجب أن تستمر في صلاتك، وأنا متأكد من أنك تتفهم ذلك، لكن ربما عليك ألا تتوقع أن يستجيب لك الله من خلال جلبة وحديث صاخب. الله لا يكلم كل الناس بالطريقة ذاتها، ولا تصل كل رسائله لك بالطريقة عينها. من فضلك، تذكر شيئًا آخر وحيدًا. عندما تستكشف راما بحثًا عن مشيئة الله، سوف تصحبك صلوات الكثيرين على الأرض. تأكد أن الله سوف يستجيب لصلواتك، والتحدي الذي تواجهه هو تمييز هذه الاستجابة وتفسيرها.»
أنهى يوحنا بولس اتصاله بمباركته ثم صلى الصلاة الربانية. فركع جنرال أوتول تلقائيًّا وأخذ يصلي مع قائده الروحي. وعندما أظلمت الشاشة أخذ يسترجع ما قاله البابا وشعر بالطمأنينة. قال أوتول لنفسه: «حتمًا أنا أتبع المسار الصحيح. لكن لا ينبغي لي أن أتوقع إعلانًا سماويًّا يصحبه نفخ الأبواق.»
•••
لم يكن أوتول مستعدًّا لرد فعله العاطفي العنيف تجاه راما. ربما كان هذا بسبب حجم المركبة الفضائية العملاق الذي كان يفوق حجم أي شيء بناه البشر على الإطلاق. ربما أيضًا أسهم بقاؤه لفترة طويلة داخل نيوتن والحالة العاطفية العنيفة التي مر بها في حدة ردة فعله تجاه راما. أيًّا كانت الأسباب، أُعجبَ مايكل أوتول أيما إعجاب بالمشهد الذي رآه وهو يشق طريقه بمفرده إلى المركبة العملاقة.
ولم تكن هناك سمة معينة تهيمن على البقية في ذهن أوتول. تحشرج صوته واغرورقت عيناه بالدموع من الدهشة في مواقف كثيرة متنوعة: عندما كان يهبط باستخدام التلفريك في نزوله راما للمرة الأولى، وعندما كان ينظر عبر السهل المركزي بخطوطه الطويلة المضيئة التي هي أضواء راما، وعندما وقف بجانب الطوافة على شاطئ البحر الأسطواني وأخذ يحدق عبر منظاره في ناطحات سحاب نيويورك الغامضة، وعندما حملق مرات عدة، مثلما فعل كل الرواد من قبله، في القرون والدعائم الهائلة الحجم التي كانت تزين التجويف الجنوبي. كانت المشاعر التي تتملك أوتول هي الفزع والهيبة في الوقت نفسه، تمامًا مثل تلك المشاعر التي انتابته أول مرة دخل فيها إحدى الكاتدرائيات الأوروبية القديمة.
وقضى الجنرال ليل راما في مخيم بيتا مستخدمًا أحد الأكواخ الاحتياطية التي تركها الرواد أثناء الرحلة الثانية. ووجد رسالة ويكفيلد المؤرخة من أسبوعين، وتملكته رغبة لحظية في تجميع القارب الشراعي والعبور إلى نيويورك. لكن كبح أوتول جماح نفسه وركز على الغرض الحقيقي وراء زيارته.
واعترف لنفسه أنه بالرغم من أن راما إنجاز مذهل، لا ينبغي أن تؤثر روعتها على عملية التقييم. هل رأى هناك شيئًا جعله يعدل عن حكمه المؤقت؟ أجاب أوتول، على مضض، على السؤال الذي يدور في ذهنه بالنفي. وعندما عادت الأضواء مرة أخرى داخل الأسطوانة العملاقة كان أوتول واثقًا من أنه قبل حلول ليل راما التالي سيكون قد انتهى من تفعيل الأسلحة.
ما زال أوتول يتلكأ. قاد الطوافة بعرض الشاطئ، ممعنًا النظر في مدينة نيويورك والمناظر الأخرى من مواقع مختلفة تتيح رؤية أفضل، ومتأملًا في الجرف الذي يبلغ ارتفاعه خمسمائة متر والواقع على الجانب المقابل من البحر. وفي المرة الأخيرة التي مر فيها بمخيم بيتا، قرر أن يجمع بعض الأشياء المختلفة بما فيها بعض التذكارات التي كان قد خلفها أفراد الطاقم الآخرين عند رحيلهم المتعجل من راما. ولم تنجُ الكثير من الأشياء من الإعصار، غير أنه وجد بعض الأشياء التذكارية التي احتُجزَت في الأركان مقابل أقفاص المؤن.
راح أوتول في قيلولة طويلة قبل أن يقود الطوافة عائدًا إلى أسفل التلفريك. ونظرًا لأن أوتول كان مدركًا ما هو عازم على فعله عندما يصل إلى نيوتن، انحنى على ركبتيه وصلى مرة واحدة أخيرة قبل الصعود. وفجأة في أثناء رحلة صعوده، عندما كان لا يزال على ارتفاع لا يتعدى الكيلومتر أعلى السهل المركزي، أدار كرسيه ونظر للخلف نظرة شاملة الرؤيا لراما. تفكر أوتول: «قريبًا سيتلاشى كل ذلك، سوف يُطوى في فرن شمسي يشعله الإنسان.» ثم رفع عينيه من على السهل وركز على مدينة نيويورك. فظن أنه رأى بقعة سوداء تتحرك في سماء راما.
بيدين مرتعشتين رفع أوتول منظاره. وفي ثوانٍ قليلة حدد مكان البقعة السوداء التي أخذت تكبر شيئًا فشيئًا. على الفور غير درجة وضوح المنظار فانقسمت البقعة إلى ثلاثة أجزاء، كلٌّ منها طائر يحلق في سرب بعيدًا في الآفاق. طرف أوتول بعينيه، لكن الصورة لم تتغير. لقد كان هناك ثلاثة طيور بحق تحلق في سماء راما!
غمرت الفرحة قلب الجنرال أوتول. فصاح في بهجة وهو يتبع الطيور بمنظاره حتى غابت عن ناظريه. أما الثلاثون دقيقة المتبقية في غضون رحلة الصعود إلى أعلى سلم ألفا، فقد بدت وكأنها دهر.
على الفور تسلق الضابط الأمريكي إلى مقعد آخر وهبط مرة أخرى إلى راما. لقد رام بشدة أن يرى هذه الطيور مرة أخرى. قال أوتول في نفسه وهو ينوي العودة إلى البحر الأسطواني مرة أخرى لو تطلب الأمر: «لو كان بمقدوري أن أصورها، لكنت قد أثبت للجميع أن هناك أيضًا مخلوقات حية في هذا العالم المذهل.»
وعلى ارتفاع كيلومترين فوق الأرض، أخذ أوتول يفتش عبثًا عن الطيور في أثناء رحلة الهبوط. وقد فترت عزيمته قليلًا عندما أخفق في العثور عليها، بعدها صُعق بما رآه عندما نزع المنظار من على عينيه وأخذ يستعد للترجل من المقعد. لقد كان ريتشارد ويكفيلد ونيكول دي جاردان يجلسان جنبًا إلى جنب عند قاع المصعد.
حضنهما الجنرال أوتول بقوة، ثم انحنى على ركبتيه على أرض راما ودموع السعادة تنهمر على وجنتيه. وقال وهو يقدم صلاة الشكر في سره: «يا إلهي. يا إلهي.»