الرفاق الثلاثة
تحدث الرواد الثلاثة بحماسة جمة لما يزيد على الساعة. فقد كان هناك الكثير ليُروى. وعندما أخبرت نيكول عن الذعر الذي انتابها عندما قابلت تاكاجيشي الميت في وكر مخلوقات الأوكتوسبايدر، صمت أوتول لحظة ثم هز رأسه. وقال وهو يحدق إلى السقف المرتفع: «ثمة الكثير من الأسئلة التي لا إجابة لها هنا.» ثم طرح سؤالًا لا يرجو منه جوابًا: «هل أنتما شريران بحق؟»
وأثنى كلٌّ من ريتشارد ونيكول على شجاعة الجنرال في عدم إدخال الشفرة وتفعيل الأسلحة، وقد هلعا أيضًا عندما علما أن مجلس الحكومات قد أمر بتدمير راما. قالت نيكول: «لن يُغفر لنا على الإطلاق استخدام أسلحة نووية ضد هذه المركبة الفضائية. وأنا مقتنعة بأن راما ليست عدوانية من الأساس. كما أومن أنها غيَّرت مسارها لتعترض مسار الأرض لأن لديها رسالة خاصة لنا.»
عنَّف ريتشارد نيكول بعض الشيء لأنها كوَّنت رأيها على أساس العواطف أكثر من الحقائق. فعجلته بالرد: «لعلي أفعل ذلك، لكن هناك خلل منطقي أيضًا خطير في قرار التدمير. نحن لدينا الآن الدليل المادي على أن هذه المركبة كانت على اتصال بالمركبة التي سبقتها. وهذا مبرر جيد للشك في أن مركبة راما الثالثة موجودة في مكان ما، وربما تكون قادمة بهذا الاتجاه. وإذا «كان» هناك احتمال أن أسطول مركبات راما عدواني، فلن يكون هناك مفر للأرض. ربما ننجح في تدمير هذه المركبة الثانية، لكن بفعل هذا حتمًا سنسترعي انتباه المركبة القادمة. ولما كانوا متقدمين تكنولوجيًّا أكثر منا جدًّا، فلن تكون هناك إمكانية للإفلات من هجماتهم المدبرة.»
نظر الجنرال أوتول إلى نيكول في انبهار. وقال: «هذه نقطة رائعة. من المؤسف أنك لم تكوني حاضرة المناقشات التي دارت مع وكالة الفضاء الدولية. نحن لم نأخذ بعين الاعتبار قط …»
قال ريتشارد فجأة: «لمَ لا نرجئ باقي الحديث حتى نعود إلى نيوتن؟ طبقًا لساعتي، سوف يحل الظلام في غضون ثلاثين دقيقة، قبل أن يصل أحدنا إلى أعلى المصعد. ولا أرغب في الركوب في الظلام لمدة أطول من اللازم.»
•••
كان كلٌّ من الرواد الثلاثة متيقنًا من أنه يغادر راما للمرة الأخيرة. لذا أخذ كلٌّ منهم يتفرس بشدة في المنظر الفضائي الرائع الممتد في الفضاء الفسيح في غضون الدقائق المتبقية التي كان يتضاءل فيها الضوء. وكان الشعور المسيطر على نيكول هو شعور النشوة والبهجة. ولكونها بطبيعتها تنظر لتوقعاتها بعين الحذر، ففي هذه اللحظة التي كانت تركب فيها التلفريك لم تترك نفسها لنشوة الاعتقاد بأنها سوف تحتضن ابنتها المحبوبة جينيفيف بين ذراعيها مرة أخرى. وكان يتدفق على ذهنها في هذه اللحظة مناظر الجمال الريفي في بوفوا، وأخذت تتخيل بالتفصيل المشهد بالغ السعادة عندما يجتمع شملها مرة أخرى مع والدها وابنتها. قالت نيكول في نفسها بنبرة مترقبة: «قد لا يستغرق الأمر سوى أسبوع أو عشرة أيام.» وفي الوقت الذي وصلت فيه نيكول إلى القمة، كان من الصعب عليها أن تكبح فرحتها.
أما مايكل أوتول ففي أثناء رحلته لأعلى أخذ يسترجع مرة أخرى قراره بشأن تفعيل الأسلحة. وعندما حل الظلام براما في اللحظة المتوقعة، كان قد انتهى من إعداد خطته لنقل حكمه النهائي إلى الأرض. لسوف يتصلون بإدارة وكالة الفضاء الدولية فور وصولهم، وسوف تروي نيكول وريتشارد قصصهما باختصار، وسوف تطرح نيكول المبررات الخاصة باعتقادها أن تدمير راما سوف يكون خطأً «غير مغفور». وكان أوتول مقتنعًا أن أمر تشغيل الأسلحة سوف يُلغى عندئذٍ.
أضاء الجنرال مصباحه قبل أن يصل مقعده إلى قمة السلالم مباشرة. سار الجنرال على هذا المكان الذي ينعدم فيه الوزن ثم وقف إلى جانب نيكول. وانتظرا ريتشارد ويكفيلد قبل أن ينتقلوا معًا إلى السلالم المؤدية إلى ممر المعدية الذي يبعد مائة متر فحسب. وبعدما صعد ثلاثتهم على متن المعدية وصاروا مستعدين للانتقال عبر الهيكل الخارجي لراما إلى نيوتن، وقع شعاع الضوء الخارج من مصباح ريتشارد على شيء معدني كبير على جانب الممر. فسأل: «هل هذه إحدى القنابل؟»
وكان جسم السلاح النووي يشبه بحقٍّ رصاصة عملاقة. قالت نيكول لنفسها وهي ترتد للوراء، إذ اقشعر بدنها: «يا له من شيء يسترعي الانتباه بحق. ربما كان من الممكن أن تأخذ أي شكل آخر. أتعجب أي انحراف هذا سواء كان في الوعي الظاهر أم في الوعي الباطن الذي جعل المصممين يختارون هذا الشكل بالأخص …»
سأل ريتشارد أوتول: «لكن ما هذه الأداة الغريبة الشكل الموجودة بأعلى؟»
عبس وجه الجنرال إذ رأى شيئًا غير مألوف يسطع في ضوء المصباح. فأجابه: «لا أعرف. لم أرها قط.» ثم نزل من المعدية وتبعه ريتشارد ونيكول.
هُرع جنرال أوتول إلى السلاح وأخذ يمعن النظر في الشيء الغريب المثبت أعلى لوحة المفاتيح. كانت لوحة مسطحة، تكبر قليلًا عن لوحة المفاتيح نفسها، مثبَّتة بمفصلات لها زوايا في جوانب السلاح. وفي الجانب السفلي من اللوحة عشر آلات نقر ذاتي صغيرة، على الأقل هكذا بدت لأوتول. وتأكدت ملاحظته بعد لحظات عندما برزت إحداها لعدة سنتيمترات لأسفل وضغطت على الرقم «٥» بلوحة الأرقام. وبعد الرقم «٥» ضغطت على الرقم «٧»، ثم تبع ذلك ثمانية أرقام أخرى قبل أن يومض الضوء الأخضر مشيرًا إلى النجاح في إدخال العشرة الأرقام الأولى.
وفي غضون ثوانٍ، أدخل الجهاز عشرة أرقام أخرى وأومض ضوء أخضر آخر. تجمَّد أوتول في مكانه. وقال في نفسه: «يا إلهي، هذه شفرتي! لقد فكوها بطريقة ما …» لكنَّ ذُعره قل بعد ذلك بلحظة واحدة عندما أومض الضوء الأحمر بعد العشرة الأرقام الثالثة معلنًا أن خطأً ما قد حدث.
قال الجنرال أوتول بعد مرور بضع لحظات ردًّا على تساؤل ريتشارد: «يبدو أنهم ارتجلوا هذا النظام في محاولة لإدخال شفرتي في غيابي. وقد تمكنوا من معرفة المجموعتين الأوليين فحسب. لقد هلعت لحظة …» توقف أوتول عن الحديث بعد شعوره بمشاعر قوية تجتاحه.
قالت نيكول بنبرة جادَّة: «قطعًا افترضوا أنك لن تعود ثانية.»
رد أوتول: «هذا إن كان هيلمان وياماناكا هما من فعلا هذا. فبالطبع لا يمكننا أن نستبعد تمامًا إمكانية أن تكون المخلوقات الغريبة أو حتى … المخلوقات الآلية هي من وضعت هذه الآلة الغريبة.»
علَّق ريتشارد قائلًا: «هذا مستبعد تمامًا. فالهندسة المستخدمة في صنع هذه الأداة بدائية للغاية.»
قال أوتول وهو يفتح حقيبة ظهره كي يخرج بعض الأدوات كي يفصل بها الجهاز: «على أي حال، لا يمكنني أن أغامر.»
عثر أوتول وويكفيلد ونيكول في نهاية ممر نيوتن على القنبلة الثانية مزودة بالجهاز نفسه. وشاهد ثلاثتهم الجهاز وهو يحاول إدخال الشفرة — بنفس النتيجة، وهي الإخفاق عند رقم معين في مجموعة العشرة الأرقام الثالثة — وعندئذٍ أوقفوه بالمثل. وبعدها فتحوا القفل ورحلوا من راما.
عندما دخلوا مركبة نيوتن العسكرية لم يرحب بهم أحد. افترض الجنرال أوتول أن كلًّا من الفريق البحري هيلمان وياماناكا شعرا بالنعاس وذهبا لتوهما إلى غرفتيهما. على أي حال لقد أراد التحدث إلى الفريق البحري هيلمان على انفراد. غير أن الرجلين لم يكونا في غرفتيهما. ولم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى يكتشفوا أن الرائدين الآخرين لم يكونا في أي مكان في المساحة الصغيرة نسبيًّا التي يعيشان ويعملان بها على متن المركبة العسكرية.
وبحثوا في مكان المؤن بمؤخرة المركبة دون طائل أيضًا. غير أن الثلاثي اكتشفوا أن إحدى المركبات الفضائية الصغيرة مفقودة. أثار هذا الاكتشاف مجموعة من التساؤلات المحيرة. أين يمكن أن يذهبا بهذه المركبة الصغيرة؟ ولماذا خرقا سياسة المشروع ذات الأولوية القصوى التي تنص على أنه ينبغي أن يبقى هناك دائمًا رائد واحد على الأقل على متن نيوتن؟
تحير الرواد الثلاثة وهم عائدون إلى مركز التحكم لمناقشة الإجراءات المحتملة. وكان أوتول هو أول من أثار الشك حول وقوع حادث مدبر. فقال: «أتظنان أن هذه المخلوقات الأوكتوسبايدر أو حتى بعض المخلوقات الآلية قد اقتحموا نيوتن؟ بالرغم من كل شيء، لا يصعب اقتحام نيوتن ما لم يكن نظام الحماية الذاتية قيد العمل.»
لم يرد أحد منهم أن يقول الأمر الذي كانوا جميعهم يفكرون فيه. فإذا كان أحد ما أو شيء ما قد أسر زميليهم أو قبض عليهما على متن نيوتن، فإذَن قد يكون هذا الشيء أو الشخص لا يزال قريبًا منهم من ثم ربما يكونوا «هم» أنفسهم في خطر …
كسر ريتشارد حاجز الصمت: «لماذا لا نتصل بالأرض ونخبرهم أننا أحياء؟»
ابتسم الجنرال أوتول. وقال: «فكرة رائعة.» ثم اتجه إلى لوحة مفاتيح مركز التحكم وشغلها. ظهر على الشاشة الكبيرة عرض للوضع القياسي للنظام. علَّق الجنرال: «هذا غريب. فهذا يدل على أننا ليس لدينا اتصال فيديو مع الأرض في الوقت الحالي. وكل ما لدينا هو إرسال ضعيف فحسب. والآن لماذا تغير تعريف نظام البيانات؟»
ضغط أوتول على مجموعة من الأوامر كي يثبت الاتصال المعتاد المتعدد القنوات والعالي السرعة مع الأرض. ظهرت على الشاشة مجموعة كبيرة من رسائل الأخطاء. صاح ريتشارد: «ما هذا بحق الجحيم؟ إن الأمر يبدو كما لو أن نظام الفيديو قد تعطل تمامًا.» ثم التفت إلى أوتول. وقال: «هذا تخصصك يا جنرال، ماذا ستفعل في كل هذا؟»
كان الجنرال متجهمًا للغاية. قال الجنرال: «أمقت هذا الأمر يا ريتشارد. لم أرَ رسائل خطأً بهذا الكم سوى مرة واحدة في حياتي، في خلال أحد تدريبات المحاكاة الأولى عندما نسي أحد الحمقى تحميل برمجة الاتصالات. قطعًا لدينا مشكلة كبيرة في البرمجة. إن احتمالية حدوث إخفاقات كثيرة لتشغيل الأجهزة في مثل هذه الفترة القصيرة منعدمة أساسًا.»
اقترح ريتشارد أن يُخضع أوتول برمجة اتصالات الفيديو لاختبارها الذاتي القياسي. وفي غضون عملية الاختبار، أوردت سجلات تشخيص الأعطال أن خاصية التخزين المؤقت للأخطاء في الخوارزمية الخاضعة للاختبار الذاتي قد تجاوزت السعة المحددة قبل إتمام تنفيذ الإجراء بنسبة أقل من الواحد بالمائة. قال ريتشارد وهو يحلل البيانات الواردة في التشخيص: «إذن برمجة اتصالات الفيديو هي قطعًا المسئولة عن كل ذلك. ثم أدخل بعض الأوامر. وأردف: «وسوف يستغرق الأمر بعض الوقت لتصويبها …»
قاطعته نيكول قائلة: «لحظة من فضلك. ألا ينبغي أن ننفق بعض الوقت لإيجاد تفسير لكل هذه المعلومات الجديدة قبلما نبدأ في أي مهام بعينها؟» توقف الرجلان عن العمل وانتظراها حتى تكمل حديثها. قالت نيكول وهي تسير بتؤدة في أنحاء مركز التحكم: «هيلمان وياماناكا وإحدى المركبات الفضائية الصغيرة اختفوا من السفينة، وأحدهم يحاول تشغيل القنبلتين النوويتين آليًّا في الممر. وفي الوقت نفسه، نجد برمجة اتصالات الفيديو التي كانت تعمل جيدًا على مدار مائة يوم — شاملة فترة تدريبات المحاكاة قبل الإقلاع — تعطلت على حين غِرة. هل يملك أحدكما تفسيرًا منطقيًّا لكل هذا؟»
ساد صمت طويل. ثم قال ريتشارد مقترحًا: «قد يكون الجنرال أوتول محقًّا بشأن الغزو العدواني لنيوتن. ولعل هيلمان وياماناكا قد هربا لإنقاذ أنفسهما، ثم تعمدت الكائنات الفضائية إفساد البرنامج.»
لم تقتنع نيكول بكلامه. فقالت: «لا أرى أمارات تشير إلى أن أي كائنات فضائية أو حتى مخلوقات آلية دخلت إلى نيوتن. إلا إذا رأينا بعض الأدلة …»
حاول ويكفيلد أن يختلق أسبابًا فقال: «ربما حاول هيلمان وياماناكا فك شفرة الجنرال، وكانا خائفين …»
صرخت نيكول فجأة: «انتظر. انتظر. ثمة شيء يحدث للشاشة.» استدار الرجلان في الوقت نفسه كي يشاهدا وجه الفريق البحري أوتو هيلمان يظهر فجأة على الشاشة.
•••
قال هيلمان متبسمًا على الشاشة العملاقة: «مرحبًا، يا جنرال أوتول. يعمل شريط الفيديو هذا آليًّا بدخولك غرفة معادلة الضغط على متن نيوتن. لقد أعددناه أنا والرائد ياماناكا قبل رحيلنا مباشرة في إحدى المركبات الفضائية الصغيرة منذ ثلاث ساعات قبل انقضاء المهلة التي كان أقصاها تسعة أيام. لقد أُمرنا بالإخلاء بعد أقل من ساعة على ذهابك لاستطلاع راما. وقد تلكأنا قدر المستطاع، لكن كان علينا أخيرًا أن ننصاع للأوامر.
الأوامر الخاصة بك سهلة وصريحة. عليك أن تُدخل شفرتك إلى القنبلتين في ممر المعدية وإلى القنابل الثلاثة الباقية في القمرة. وينبغي أن ترحل في المركبة الصغيرة الأخيرة في فترة لا تتعدى ثماني ساعات من ذلك الحين فصاعدًا. لا تكترث للأجهزة الإلكترونية التي تعمل على القنبلتين الموجودتين في هيكل راما. لقد أمرت القيادات العسكرية بمجلس الحكومات بوضعها كي تختبر تقنيات جديدة غاية في السرية لفك الشفرات. وسوف تكتشف بنفسك أنه يمكن إيقافها بسهولة باستخدام كماشة وقاطعة أسلاك، أو أحدهما.
وقد أُضيف نظام دفع إضافي عند الطوارئ إلى الزورق الفضائي الصغير وقد جرت برمجته بحيث يقودك إلى مكان آمن حيث ستلتقي بزورق وكالة الفضاء. كل ما عليك هو أن تدخل ميعاد رحيلك بالضبط. لكن ينبغي لي أن أؤكد عليك أن الخوارزميات الجديدة لملاحة المركب صالحة «فقط» إذا غادرت نيوتن قبل مدةٍ أقصاها ستة أيام. أما بعد ذلك الوقت، فقد برمجت مؤشرات الإرشاد أن تصبح مُلغاة باطراد، وسوف يكون من المستحيل إنقاذك بعد ذلك الحين.»
توقف حديث هيلمان لبرهة وصارت نبرة صوته تنم عن إلحاح متزايد. ثم استرسل: «لا تُضِع المزيد من الوقت يا مايكل. شغل الأسلحة ثم اذهب إلى الزورق الصغير مباشرة. لقد زودناه بالفعل بالطعام والأشياء الضرورية الأخرى التي ستحتاجها … حظ طيب في رحلة العودة. نراك قريبًا على الأرض.»