تصدير

«الدين والثقافة والسياسة» في الوطن العربي يحتوي على عدة مقالات أسبوعية (يوم الإثنين) صدرت في جريدة «البيان» اليومية بدبي بدولة الإمارات العربية المتحدة على مدى عام بأكمله أو أكثر، وهو عام ١٩٩٦م. تم توزيعها على تسعة فصول تشمل السياسة والثقافة والدين. ولما كانت السياسة ثقافةً وكان الدين أيضًا مكونًا من مكونات الثقافة كان العنوان «الدين والثقافة والسياسة» يعبِّر عن مضمون الفصول التسعة. ويحتوي الفصل التاسع والأخير على ثلاثين مقالًا يوميًّا كُتبت خلال شهر رمضان انتقالًا من الكتاب والسنة والفقه إلى العادات الاجتماعية والممارسات الشعبية١

الفصول الأربعة الأولى «العرب والوعي التاريخي»، «صحوة مصر»، «صحوة العرب»، «العرب والعالم» في التحليل السياسي المباشر. والفصول الثلاثة التالية «الثقافة والسياسة»، «السلفية والعلمانية» (تحليل الشعارات)، «السلفية والعلمانية» (الاختلاف والاتفاق) في الثقافة السياسية. والفصلان الأخيران «ما بعد الأصولية»، «رمضانيات» أقرب إلى الثقافة الدينية السياسية.

وقد توقَّفتُ عن كتابة هذه المقالات في الثقافة السياسية لعدة أسباب منها جوهرية ومنها عرضية؛ فقد مُنع البعض منها؛ لأنه تجاوز الخط الأحمر.٢ وقد يكون ذلك من وهم رؤساء التحرير الذين يريدون أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك حفاظًا على مناصبهم؛ فالسياسات العربية أقرب إلى تحييد إيران والأتراك ومنع تناقض دول الجوار مع الأمة العربية حتى لا تستفرد بها أمريكا وإسرائيل، ويصبح الخليج لا عربيًّا ولا فارسيًّا بل أمريكيًّا. يُسمح بنقد مصر والعراق، ولكن لا يُسمح بنقد الأوضاع في شبه الجزيرة العربية، الوسط والأطراف. يُسمح بنقد أمريكا والدول الكبرى، ولكن لا يُسمح بنقد الدولة الصغرى إن كانت عربية، مصدر قهر للمواطن العربي ودون تسمية أي منها. ولا يُسمح بنقد رجال الدين؛ إذ يبدو أن رجال الدين دعامة رجال السياسة في الأنظمة السياسية المحافظة.

وهنا تبرز قضية المفكر والسلطة السياسية غير المباشرة عبر رؤساء التحرير. هل مهمة المقال السياسي تبرير النظم القائمة أم ترشيدها ونقدها في إطار من الشرعية والعلنية بدلًا من النزول تحت الأرض وتحيُّن الفرصة للانقضاض عليها أو النيل من هيبتها؟ هل رسالة المقال السياسي الدفاع عن السياسات القائمة أم التبصرة برؤية المستقبل والتوجيه في رؤية استراتيجية على الأمد الطويل؟

وهل يقبل المفكر العربي أن تستعمله السلطة السياسية من خلال صفحات الرأي في الصحف اليومية، يُسمح بالمقال حين الرضا ويُمنع حين السخط؟ ألَا تستعمل السلطة السياسية المفكر من خلال المنبر الإعلامي، ولا يستعمل المفكر المنبر الإعلامي من أجل ترشيد السلطة وبلورة الوعي السياسي؟ هل المفكر أجير أُسوةً بالعامل المهاجر أم هو صاحب رسالة لا يعمل إلا عند الضمير؟

أليس من الأجدى بعد شهادة عام على العصر، التركيز على الأعمال العلمية التكوينية على الأمد الطويل؟ أليست الشهادة على التاريخ أبقى من الشهادة على العصر؟

وهي شهادة على العصر، وخطاب للناس، غير متوجه للمتخصصين، بل إلى الجماهير العربية، مساهمة في توضيح وعيها السياسي بأبعاده الثقافية والدينية والتاريخية، محاولة للجمع بين رسالة العالِم وهموم المواطن، ودرءًا لتهمة البرج العاجي التي تلصق بالفلاسفة.

فإذا كانت الكتابة على أنواع ثلاثة: الكتابة العلمية المتخصصة للنخبة، الكتابة التكوينية التي تهدف إلى التغير الثقافي والاجتماعي على الأمد الطويل ومن منظور تاريخي، والكتابة نصف المتخصصة ونصف العامة الموجهة إلى جماهير المثقفين والجامعيين والتي تهدف إلى إثارة الفكر على الأمد المتوسط في جيل أو عدة أجيال، والكتابة العامة الموجهة إلى الجماهير من أجل بلورة وعيها السياسي بعيدًا عن تزييف الإعلام له على الأمد القصير؛ فإن هذا الكتاب «الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي» يكون من النوع الأخير، الثقافة العامة المباشرة والتي تهدف إلى التغير المباشر في القريب المنظور.٣

وبهذا المعنى قد تأخذ «نداءات إلى الأمة الألمانية لفشته» دلالةً جديدة؛ من فلسفة المقاومة في ألمانيا المحتلة إلى فلسفة الصمود في الوطن العربي الحزين.

١  المقال الأول بتاريخ ١٨ / ١٢ / ١٩٩٥م، والمقال الأخير بتاريخ ٢٠ / ١ / ١٩٩٧م.
٢  وذلك مثل «الدين في الأمثال العامية» (الفصل الثاني)، وقد تم تخفيف العنوان إلى «الدين للحياة»، «العرب وإيران»، «العرب والأتراك» (الفصل الرابع)، «التنوير والتثوير»، «إرهاب الأفراد وإرهاب الدول» (الفصل الخامس).
٣  الكتابات المتخصصة لنا مثل: «مناهج التأويل» (بالفرنسية)، «ظاهريات التأويل» (بالفرنسية)، «تأويل الظاهريات» (بالفرنسية)، «التراث والتجديد»، «من العقيدة إلى الثورة». «مقدمة في علم الاستغراب»، وأيضًا تحقيقاتنا مثل «المعتمد في أصول الفقه» لأبي الحسين البصري، وترجماتنا مثل «اسبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة»، «لسنج: تربية الجنس البشري»، «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط»، «سارتر: تعالي الأنا موجود».
والكتابات المتوسطة مثل: «دراسات إسلامية»، «دراسات فلسفية»، «قضايا معاصرة» (جزءان)، «هموم الفكر والوطن» (جزءان)، «جمال الدين الأفغاني»، «حوار الأجيال»، «حوار المشرق والمغرب» (بالاشتراك مع الجابري)، «الحوار الديني والثورة» (بالإنجليزية)، «الإسلام في العالم الحديث» (جزءان) (بالإنجليزية).
والكتابات الشعبية مثل: «الدين والثورة في مصر» (ثمانية أجزاء)، «اليسار الإسلامي» (مجلة، العدد الأول)، وتحقيقاتنا لنصين للخميني «الحكومة الإسلامية»، «جهاد النفس أو الجهاد الأكبر»، وهذا الكتاب «الدين والثقافة والسياسة في الوطن العربي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥