الفصل الأول

العرب والوعي التاريخي

(١) من جيل إلى جيل١

ما زال جيلنا قادرًا على العطاء منذ الأربعينيات حتى الآن، بنضاله ضد الاستعمار والقصر والإقطاع في الأربعينيات، وبلورة الحركة الوطنية المتعددة الفصائل، وبانتسابه إلى الثورات العربية في الخمسينيات والستينيات، ومقاومته للاستعمار والصهيونية في الخارج، والتخلف والرجعية في الداخل، ثم بمحاولاته المستميتة لرأب الصدع الذي حدث في السبعينيات والثمانينيات باختفاء عبد الناصر والتحول الذي طرأ على الوطن العربي، وبالاستمرار في الشهادة على التاريخ؛ حرصًا على الثوابت التي شكلت النضال الوطني لهذا الجيل.

وحرصًا على تواصل الأجيال، من جيل إلى جيل جاوز الستين والسبعين إلى جيل الأبناء والأحفاد في الثلاثين والعشرين، وشدًّا لأزر الجيل المتوسط في الأربعين والخمسين الذي ما زال يصارع بمفرده محاصَرًا بين جيل قديم حزين وجيل جديد غاضب. تبدأ سلسلة هذه المقالات لتحقيق هذه الغاية لعلها تقدر على درء الإحباط عن الجميع ودفع روح التشاؤم، وبدون هذا التجاوز لحالة الضياع وروح اليأس لا يتم عمل ولا يحدث إبداع.

لقد سرى الإحباط، وعمَّ التشاؤم، ودبَّ اليأس في روح الكثيرين من أبناء هذا الجيل. بينما ينعى بعض أبناء الجيل الماضي الحظ العاثر، ويبكون على الأمل الضائع والحلم المجهض وهم الذين ساهموا في صياغته وتحقيقه. لجأ بعض أبناء الجيل الجديد إلى تفضيل حل أزمة الشخص على أزمة الوطن؛ فلجئوا إلى الهجرة إلى دول الخليج أو إلى العراق أو إلى الشام أو إلى ليبيا بحثًا عن الاستقرار المادي حتى لو تعثر الأمن الفردي. بينما لجأ البعض الآخر إلى الهجرة إلى الغرب، وتجريب الحظ في دول أوروبا حتى أصبحت أوطاننا تلفظ أبناءها؛ مما سبَّب معاداةً للعرب والمسلمين، وظهور نعرات للتخلص من الهجرة الأجنبية في إنجلترا وفرنسا وألمانيا حمايةً لسوق العمالة المحلية، وحفاظًا على الهُوية العرقية التي تميَّز بها الغرب. وآثر فريق ثالث الهجرة إلى الداخل، إلى تناول المخدرات، نسيانًا للهم، وتفريجًا وهميًّا للكرب كما ظهر في عديد من الأفلام. فالحلم أفضل من الواقع، والخيال فضاء من الحركة والتحقق. وقد تكون الهجرة إلى الداخل في الدين واللجوء إلى الملاذ الإيماني سُلمًا، أو الانخراط في الجماعات الإسلامية سرًّا استعدادًا للخلاص في المستقبل مع ممارسة بعض أشكال العنف في الحاضر؛ إذ يندفع الشباب من اللاشيء إلى كل شيء، من الواقع الأليم إلى الحلم الطوباوي، من البطالة والتهميش إلى إمارة العالم.

ما زال إنجاز جيلنا، بالرغم من الإحباط النفسي والتغيرات على أرض الواقع، واضحًا وقائمًا؛ فقد ساهم في معارك التحرر الوطني حتى تحقَّق، وترك بصماتِه على مسار القرن التاسع عشر عصرُ الاستعمار والهيمنة، كما ساهم في إنشاء الدول الوطنية المستغلة كمؤسسات سياسية وتشريعية وتعليمية وإعلامية. وقام بعمليات التحديث، وصاغ خطط التنمية، وحقق أعلى المعدلات لها في الستينيات مقارنةً بتجارب العالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وبدأ التصنيع محوِّلًا اقتصاد البلاد من الزراعة إلى الصناعة، وساهم في إدارة القطاع العام بعد تأميم الشركات الأجنبية، واشترك في بلورة أكبر مشروع نهضوي عربي منذ محمد علي. وتحقَّقت في جيله أكبر تجربة وحدوية حديثة بين مصر وسوريا. كما حافظ الجيل المتوسط على وحدة اليمن، وإقامة دولة الإمارات العربية المتحدة. وما زال التعاون الإقليمي قائمًا في مجلس التعاون الخليجي، واللجان العربية المشتركة للتنسيق بين الأقطار العربية، والاتحاد المغاربي؛ مما يجعل الوحدة أملًا يتحقق بالرغم من التعثر في الخطوات والتضارب في الأهواء. وما زالت أحزاب المعارضة تحاول أن تقاوم ما طرأ على الوطن العربي من تغيرات تحيد به عن ثوابته. والمثقفون يقاومون التطبيع، ومنظمات حقوق الإنسان تُدافِع عن الحريات العامة، وتقف في مواجهة هيمنة الدولة على الداخل وتبعيتها في الخارج. تقاوم الخصخصة وبيع القطاع العام والتحول إلى اقتصاد السوق والذوبان في الاقتصاد العالمي.

لقد تغيَّر العالم، وظهرت متغيرات عربية ودولية تكاد تعصف بالثوابت. لم تعد مقاومة الاستعمار أحد مكونات الجيل الجديد؛ فلم يعش مهانة الاستعمار، ولم يساهم في إزاحته. ونشأت صورة جديدة للغرب الغني المتحضر، ولأمريكا الثري القادر. وبعد النضال ضد الصهيونية كحركة توسعية استيطانية تم الصلح مع عدو الأمس، وبدأت مشاريع السلام تعم المنطقة على الأرض وفي الاقتصاد والسياسة حتى الثقافة. وبعد حلم الوحدة العربية وظهور القومية العربية كأيديولوجية سياسية فرضت نفسها على نظام العالم بين الأيديولوجيتين الرأسمالية والاشتراكية بدأ التفتت والعودة إلى القطرية والحروب بين الأقطار والحروب الأهلية داخلها. وظهرت النعرات العرقية والطائفية والقبائلية والعشائرية. واستحال تحديد مَنْ عدو العرب ومَن الصديق! وبدأت المشاريع الإقليمية المفروضة من الخارج كبديل عن القومية العربية مثل الشرق أوسطية والمتوسطية، تكون فيها إسرائيل هي المركز والعالم العربي ومن حوله العالم الإسلامي المحيط. وتم التحول تدريجيًّا من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن التخطيط الاقتصادي إلى الانفتاح واقتصاديات السوق، ومن القطاع العام والملكية العامة لوسائل الإنتاج إلى القطاع الخاص والملكية الخاصة لقطاع الخدمات العامة وللبنوك. وبعد أن كان الاستقلال الوطني لا تفريط فيه ضد سياسة المحاور والتكتلات والأحلاف العسكرية، بدأت مظاهر التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية والمناورات المشتركة. وتم ارتهان الإرادة الوطنية تحت رحمة الغذاء؛ فأكثر من نصف غذاء العالم العربي يأتي من الخارج، وأكثر من ثلاثة أرباع الغذاء في مصر يأتي أيضًا من الخارج. واتسعت الهوة بين الفقراء والأغنياء؛ الأغنياء يزدادون غنًى، والفقراء يزدادون فقرًا بعد أن كانت الاشتراكية العربية هدفًا قوميًّا للجميع لتذويب الفوارق بين الطبقات وتدعيمًا لمحدودي الدخل. وغابت الزعامات التاريخية داخل الوطن العربي مثل عبد الناصر وفي محيطه في العالم الثالث؛ نهرو، تيتو، شوين لاي، سوكارنو، سيكوتوري، نكروما، جيفارا … إلخ. ولم تستطع حركات الشعوب أن تكون بديلًا عن زعاماتها التاريخية إلا في أوقات الضنك في هيئات شعبية وقتية من أجل الخبز ودون مؤسسات حزبية أو ثقافية قادرة على الاستمرار. وانتهى عصر العملاقين الكبيرين، وبدأ قطب واحد يستأسد بالعالم. ولم تجد الشعوب المتحررة الحليف التقليدي، فانصاعت للقطب الواحد أو كادت.

ومع ذلك فما زال النضال المشترك بين الجيل الذي أوشك على الانتهاء والأجيال الجديدة قائمًا؛ فالقضايا ما زالت مستمرة، والتحديات ما زالت موجودة؛ بل تزداد قوةً وعنفًا؛ فالتواصل بين الأجيال ضروري، وتبادل الخبرات بينها إثراء للجميع.

ما زالت قضايا الحريات العامة مطروحة، حرية الرأي خاصةً وعدم التكفير أو التخوين أو العزل والاستبعاد، دفاعًا عن التعددية، وحق الاجتهاد، وأن هذا الوطن للجميع. الفكر ليس جريمة، والرأي ليس خروجًا على النظام، والنصح واجب، والإرشاد فضيلة. وما زالت قضايا حقوق الإنسان مطروحةً ضد انتهاكها أمام غرب يدَّعي باستمرار أنه صاغها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن، ويمارسها في نظمه السياسية، ويكوِّن المنظمات الدولية والمحلية دفاعًا عنها. وما زالت الجمعيات القُطرية والقومية مطارَدةً غير شرعية في الوطن العربي، لا تجتمع إلا خارجه. وتقوية المؤسسات الاجتماعية والجمعيات الأهلية دفاعًا عن المجتمع المدني ما زال مطلبًا في مواجهة سيطرة الدولة في الداخل تغطيةً لتبعيتها في الخارج؛ لذلك كثر الحديث عن أهمية المجتمع المدني في مواجهة الدولة وليست بديلًا عنها. وما زالت العراق وليبيا محاصرتين امتهانًا للكرامة العربية؛ فلم يعد العرب أحرارًا في بلادهم للتنقل والسفر، لا فرق بين شعوب وقادة. وما زال العرب يعانون من الحدود والتأشيرات، كلهم متهَمون على الحدود بالإرهاب والمعارضة والاتصالات المشبوهة، بينما يمر الأجانب وكأنهم أهل البلاد. تعز الكتب والمجلات العربية في كل قُطر خشيةً من مقال أو تحليل. ولا تكاد تحضر ثقافة قُطر عربي في أجهزة الإعلام في قُطر آخر. رَفعُ الحدود الثقافية بين العرب قضية، وحرية تنقل العرب في الوطن العربي ضرورة، والتكامل والتعاون والتنسيق العربي على الأرض أفضل من شعارات الوحدة في السماء، وعودة مصر إلى مركزها وقيادتها في قلب العالم العربي يحمي الأطراف من ردود الأفعال العكسية أو الشلل؛ فمركزية مصر لا بديل عنها من مركزية إسرائيل، وتعدُّد المراكز في مصر وإيران وتركيا حماية للعرب والمسلمين بدلًا من أن يكونوا هامشًا لإسرائيل أو على أطراف أمريكا. والتنمية المستقلة ما زالت هدف الجميع، حرصًا على الاستقلال وحمايةً للأوطان من التبعية. وحشدُ الجماهير العربية وراء مثقفيها الوطنيين يُخرجها من سلبيتها وإدارة ظهورها للنظم وللقادة على السواء.

إن العالم العربي مخصب اليوم، وينتظر الحادث السعيد، المولود الجديد، ذكرًا أم أنثى، ولادة طبيعية أم قيصرية، في سبعة أشهر أو تسعة، أقل أو أكثر. إنما يتوقف ذلك على الجهد العربي، وفي مقدمته جهد المثقفين ودورهم في إنارة العقول، وإذكاء الوعي القومي، وبلورة وعي الجماهير. ويتحقق ذلك من خلال الجامعات ومراكز البحث العلمي أولًا، ثم من خلال أجهزة الإعلام خاصةً الصُّحف السيَّارة ثانيًا.

كما أن تعدُّد مراكز الفكر والإبداع في مصر والشام والمغرب والخليج، في الجنوب والشمال والمشرق والمغرب يجعل الوطن العربي متعدد المراكز، متنوع الفكر. لقد بدأت مصر والشام منذ القرن الماضي فجر النهضة العربية. ثم تلَتهما المغرب في النصف الثاني من هذا القرن، ومن يدري فربما يبدأ الخليج بإمكانياته الجديدة موجةً ثالثة من الإبداع الفكري مستفيدًا من التجربتين السابقتين في القرن الماضي وفي هذا القرن.

وإذا كانت تجارب الماضي في مصر والشام والمغرب قد انفتحت على الغرب والثقافة الغربية فقد تكون تجربة الخليج رائدةً في الانفتاح على الشرق وجسرًا بين العرب وآسيا، ليس فقط من حيث السكان، ولكن أيضًا من حيث تجارب التنمية والعمق الثقافي؛ فقد كان العمانيون أسبق من الغربيين عامةً والبرتغاليين خاصة، وقد سرت فيهم روح الأندلس، إلى اكتشاف جنوب شرق آسيا، وليس مستبعَدًا أن تلحق «الصقور» العربية ﺑ «النمور» الآسيوية.

(٢) تشاؤم أم تفاؤل؟٢

يسود الوعيَ العربي منذ ما يقارب عقدين من الزمان روحُ التشاؤم والإحساس باليأس والإحباط، وكأن نهاية العالم قد قربت، وأن التاريخ قد انتهى وتوقف عن المسار. وقد بدأ هذا الإحساس منذ هزيمة يونيو حزيران ١٩٦٧م، ولم تُخفِّف منه حربُ الاستنزاف في ١٩٦٩م، ولا حربُ أكتوبر في ١٩٧٣م؛ فما زال جرح الهزيمة غائرًا لم يندمل، يحتاج إلى انتصار حاسم في حلم جديد. وقوَّى هذا الروحَ اختفاءُ عبد الناصر ورحيله من الساحة العربية في ١٩٧٠م، وإحساس العرب بأن القائد الذي أولوه ثقتهم قد اختفى؛ فقد سقط هذا الحائط المنيع الذي كان يحمي العرب من غوائل الزمان، والقادر على استمرار الحلم ولو على مستوى الكلمات والأحلام.

لقد تسارعت الأحداث بالتحول عن السياسات الأولى واختيارات الخمسينيات والستينيات، بل والانقلاب عليها من النقيض إلى النقيض؛ ممَّا أصاب الجيل الحالي بالارتباك وعدم التصديق لأي منها. وانتهت الثوابت في السياسات العربية، من النضال ضد الاستعمار إلى التحالف معه، ومن مقاومة الصهيونية إلى الصلح معها، ومن الاشتراكية إلى الانفتاح، ومن القومية إلى القُطرية، ومن الوحدة إلى التجزئة، ومن التخطيط والاقتصاد الوطني المستقل إلى الديون الخارجية والطاعة للبنك الدولي وصندوق النقد.

وغابت الرؤية الجديدة التي تأخذ هذا الواقع العربي الجديد في الاعتبار؛ فقد اختلط العدو بالصديق، ولم يعرف العربُ مدى ثقلهم في الداخل وأين وضعهم في النظام العالمي الجديد، خاصةً بعد انهيار الحليف الاشتراكي في الشرق، ومراوغة الصديق الجديد في الغرب. وعزَّ الإبداع السياسي إلا من حلول مفروضة من الخارج مثل الشرق أوسطية والمتوسطية استعادةً للأحلاف القديمة؛ حلف بغداد، وحلف طهران، والحلف المركزي.

وزاد من ذلك العجز عن التأثير في مجرى الأحداث، وإيقاف مذابح البوسنة والهرسك في الغرب، والدفاع عن استغلال الشيشان في الشرق، وأخيرًا الدفاع عن الجزر العربية في باب المندب في الجنوب. وتبدَّلت الأحلاف، روسيا والصين تُسلِّحان إسرائيل، وأمريكا تُسلِّح العرب! تعارض روسيا وقف العدوان الصربي وتؤيده، وتعارضه أمريكا وتوقفه! وفي الداخل، العراق عدو وإسرائيل صديق عند البعض، والسودان عدو وأمريكا صديق عند البعض الآخر!

ضاعت الثوابت في الوعي العربي، فتوقف عن حركته في التاريخ. يستمر في مقاومة الاستعمار أم يتحالف معه؟ يستمر في مقاومة الصهيونية أم يكون حليفًا معها في مقاومة الإرهاب وعنف الحركة الإسلامية مهرولًا إليها مخاطبًا وُدها وساعيًا إلى صداقتها؟ وحدث فصام في شخصية العربي الجديد بين تاريخ يتعلَّمه ويفرح به، وحاضر يحزن له ولا يتكيَّف معه؛ فالقديم لم ينتهِ بعد، والجديد لم يبدأ بعد.

ولمَّا استحالت الرؤية العامة لواقعه وللعالم من حوله انكفأ العربي على نفسه، يحل مشاكله، ويسعى في الأرض ليُقيم أوده، ويصارع فقره، ويهرب من قهره. فدَخْلُه لا يكفيه، ورزقه لا يرضيه؛ فقد ارتفعت الأسعار ومرتباته محلية. ويقضي اليوم سعيدًا لو استطاع توفير وجباته، وتدبير مواصلاته، وتهيئة التعليم والصحة وتوفير المسكن له ولأسرته. اقتصر طموحه على إشباع الحاجات الرئيسية، والاكتفاء بهموم الدنيا، والتفريج عنها بسعادة الآخرة.

فإن لم يستطع التكيف والرضا بالقليل فإنه يهرب إلى عالم المخدرات أو ينخرط في الجماعات السرية، وكلاهما تحت الأرض. وإن آثر العمل فوق الأرض فليس أمامه إلا العنف المسلح مع عالم لم يتكيَّف معه، ووسط مجتمع يناصبه العداء.

وما يحدث من ضياع على مستوى الفرد يحدث أيضًا على مستوى الوطن، فينزوي كل قُطر عربي. وفي غياب القومية التي تربط بين الأقطار يتفتت القُطر ويتجزَّأ تحت الدعاوى الطائفية والقبلية والنعرات العرقية والدفاع عن الأقليات في مجتمعات الأغلبيةُ فيها مضطهدة وبغير حقوق. ويشب الخلاف بين الأقطار، بين مصر والسودان، ومصر وإيران، وسوريا والعراق، والكويت والعراق، وقطر والبحرين، والسعودية واليمن، وموريتانيا والمغرب، والجزائر والمغرب، وأخيرًا سوريا والأردن وفلسطين على الحمة!

وتشتد أزمة الديمقراطية لدرجة العنف المسلح في الجزائر ومصر والسعودية. وتعيش المعارضة العربية خارج الأوطان. كما تشتد أزمة حقوق الإنسان، ولا تجد منظمات حقوق الإنسان القُطرية أو العربية مكانًا لعقد مؤتمراتها إلا خارج الأوطان، وتظل ملاحَقةً من أجهزة الأمن، ووزارات الداخلية أو الشئون الاجتماعية لا تعترف بشرعية نشاطها أو تُهدِّدها بالحل في كل وقت.

هذه المتغيِّرات وغيرها هي التي تبعث روح اليأس والقنوط، وتصيب الوعي العربي بالإحباط والتشاؤم، بحيث تطغى على الجوانب الأخرى التي تبعث أيضًا على التفاؤل والإصرار، ومواصلة النضال دفاعًا عن الثوابت التي كوَّنت الوعي العربي الحديث منذ القرن الماضي. وبالتفاؤل يمكن استمرار الإبداع واجتهاد وإعادة صياغة الحلم وتجنيد الناس.

لقد أعاد عبد الناصر قبل أن يرحل بناء الجيش، وأعد خطة «بدر» التي بها تم العبور، وكان يحدد وقف إطلاق النار شهرًا بشهر، رافعًا شعارات «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، «إزالة آثار العدوان»، «الأراضي العربية المحتلة قبل سيناء»، «اللاءات الثلاثة»، «لا صلح ولا مفاوضة ولا اعتراف»، «خسرنا المعركة ولم نخسر الحرب». ومارس ذلك في معركة رأس العش، وإغراق المدمرة إيلات. وفي نفس الوقت أعاد بناء الداخل، وقضى على مراكز القوى، وأقر بالتعددية السياسية داخل تحالف قوى الشعب العامل، وأعاد رسم خريطة لمصر من أجل مضاعفة الدخل القومي كل عشر سنوات، واستمر في البناء الاشتراكي بنيته في تأميم تجارة الجملة وقطاع المقاولات للقضاء على الرأسمالية المستغِلة.

وهناك في الوعي العربي عدة تساؤلات عن المتغيرات المحلية والدولية، وهناك اجتهادات عديدة نابعة من الداخل حول التكامل العربي: إعادة صياغة ميثاق جامعة الدول العربية، إحياء التضامن العربي، والدعوة إلى المصالحة العربية بعد المصارحة، الحوار مع دول الجوار، إيران وتركيا. لم تصب كلها في اختيار عربي أو رؤية عربية جديدة. وتصدر مراكز الأبحاث نتائجها، ويُشارك كثير من معاهد الأمن القومي في ذلك كله من أجل إعداد رؤية عربية للوطن العربي في القرن الواحد والعشرين. ويظهر الإبداع الأدبي كارهًا للإبداع السياسي، فلا يوجد وطن مثل الوطن العربي بهذا القدر الهائل في الإبداع في الشعر والرواية والقصة والمسرح والموسيقى والفن.

وما زالت بعض الأقطار العربية وأقطار الجوار صامدة في مواجهة التبعية والأحلاف في المنطقة، ويتجلى ذلك في صمود ليبيا والعراق ضد الحصار، وانتهاج السودان وإيران وسوريا سياسات مستقلة تعبِّر عن استقلال الأوطان. واندلعت المظاهرات في مصر والمغرب والأردن ضد العدوان الأمريكي على العراق أثناء حرب الخليج الثانية، وما زالت بعض الأقطار العربية صامدةً في مواجهة التطبيع مثل جماهير الشعب في مصر والسودان، وما زالت المقاومة للاحتلال الصهيوني في جنوب لبنان وفي فلسطين، والدولة الفلسطينية قادمة على استحياء. كما استقلَّت جنوب أفريقيا من النظام العنصري الذي نشأ فيها وفي فلسطين في ١٩٤٨م، ويتحرران معًا في نفس الوقت في أوائل التسعينيات بعد حوالي نصف قرن.

وفي مواجهة الفقر هناك ملايين من الشباب العربي ومن الأمهات العربيات ينحتون في الصخر، ويعملون في الحقول وفي المصانع، ويشقون الطرقات، ويبنون المساكن، ويحفرون المناجم، ويشيدون المباني الجديدة. وتم إبداع آليات للبقاء لمقاومة الفقر، في التجارة والبيع على نواصي الطرقات وفي الأكشاك وفوق الرءوس والظهور. وفي نفس الوقت تندلع مظاهرات الخبز في مصر والمغرب والأردن، تطالب برفع الأجور، وخفض الأسعار، ومشاركة الفقراء في أموال الأغنياء.

وفي عديد من الأقطار العربية يبدأ الخيار الديمقراطي في الأردن، ويستمر نضال المعارضة في مصر من أجل انتخابات نزيهة، والنضال من أجل حقوق الإنسان، وحماية حرية الصحافة، والوقوف أمام القانون الجديد. ويستمر القضاء في مصر حاميًا لحقوق المواطنين والدستور، ويتم الإفراج عن المعتقلين السياسيين في سوريا، وتتم الانتخابات في الجزائر مع مراقبين من الجامعة العربية ودوليين، ونجح المرشح بحوالي ٦٠٪ وليس بنسبة ٩٩٫٩٪ كالعادة في باقي الانتخابات العربية. كما توجد معارضة قوية للمثقفين في البحرين دفاعًا عن الحريات السياسية والدستور، وضرورة إجراء انتخابات حرة تقوم على التعددية السياسية. كما بدأ المثقفون في السعودية وجمعيات حقوق الإنسان وبعض الأئمة والخطباء المستنيرين في التساؤل حول الأوضاع العامة ومستقبل شبه الجزيرة العربية، وصحافة الخليج ما زالت تعبِّر عن التيارات الرئيسية؛ القومية والليبرالية. كما استقطبت الصحافة العربية في العواصم الأوروبية عديدًا من الأقلام البارزة في الثقافة والسياسة والأدب والتاريخ.

وفي مواجهة التفتت والتشرذم في الوطن العربي تبرز أُطر جديدة للمجتمع العربي؛ فقد حافظت اليمن على وحدتها. كما استمرت دولة الإمارات العربية المتحدة، وبقي مجلس التعاون الخليجي. نشأت لجان التنسيق بين مصر والأردن الأهلية في لبنان، وبدأ الحوار مع دول الجوار، إيران وتركيا. وأصبحت الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا رصيدًا للعرب في السياسة بعد أن خلا رصيدهم في الثقافة وفي القلوب. وشدت النمور الآسيوية العرب نحو نموذج جديد للتنمية المستقلة في ماليزيا والملايو. وانتشر الإسلام في أوروبا وأمريكا كرافد ثقافي وسياسي للشعوب الأوروبية بالرغم من عنف هذه الجماعة الإسلامية أو ذاك في مواجهة العنف العنصري ضد المسلمين في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا.

هذه العوامل كلها تجعل الوعي العربي أيضًا أقرب إلى التفاؤل. ودون هذا التراكم من الخبرات والتجارب الوطنية في الوعي العربي لا يحدث استئناف لإبداعات الجيل الماضي في هذا الجيل، وكيف تنسى ذاكرة العرب الخير ولا تتذكَّر إلا الشر فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.

(٣) الموقف الحضاري٣

كثر الحديث عن «أزمة» الفكر العربي، «أزمة» الثقافة العربية، «أزمة» الواقع العربي خاصةً في هذا الجيل بعد هزيمة يونيو حزيران ١٩٦٧م بعد أن كان الحديث عن النهضة العربية، المشروع القومي العربي، والوجدان العربي المشترك الذي يتمثل في وحدة الهدف والمصير. ويبدو أنه إذا ما تعثر الواقع بدا الفكر في أزمة. وإذا ما أُصيب بردَّة وانتكاسة أُلقيت المسئولية على الذهن والعقل والتصور والرؤية في مجتمع مثالي يرى أن قيمته في ماضيه وتراثه ومُثله وفكره.

والحقيقة أن هذا الإحساس بالأزمة إحساس حقيقي بالرغم من حرب أكتوبر تشرين ١٩٧٣م، وبالرغم من بزوغ الدولة الفلسطينية هناك إحساس فعلي بأزمة الفكر، وأزمة الواقع، وأزمة الوعي العربي المعاصر بين فكر غير مطابق لواقع منفلت غير مسيطَر عليه، ووعي عربي حائر ومتسائل، يكاد يقرب من الإحباط ويصل إلى حافة اليأس.

وإن تحليل هذه الأزمة لا يمكن إلا أن يكون في إطار أعم؛ فهي جزء من كل، ونتيجة لموقف حضاري أعم. ويعني الموقف الحضاري وضع العرب في التاريخ بين ماضيهم ومستقبلهم، بين ذاتهم وغيرهم، بين مُثلهم وواقعهم؛ أي بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن. الوجود الأول في الزمان؛ أي في مسار التاريخ، والوجود الثاني مع الآخرين في اللحظة الراهنة، والوجود الثالث مع النفس وقواها، بين ما تريد وما تستطيع.

ويمكن تشبيه الموقف الحضاري بمثلث ذي أضلاع ثلاثة وإن كانت غير متساوية في الطول؛ فالضلع الأول يمثل التراث القديم الذي ما زال حيًّا في قلوب الناس كما وصل إلينا من الفترة الأولى للحضارة الإسلامية بعد أن تكونت واكتملت في القرون السبعة الأولى. ويمتد عبر أربعة عشر قرنًا في آخر صياغة له وهو التراث الإسلامي. وقد يمتد إلى أبعد من ذلك في التراثين اليهودي والنصراني في شبه الجزيرة العربية، وقد يمتد إلى أعمق من ذلك في حضارات الشرق القديم في مصر والشام وحضارة ما بين النهرين وفارس واليمن، وهي الحضارات التي كانت تصب في شبه الجزيرة العربية، ولكن التراث الإسلامي هو الأكثر حضورًا في العمق التاريخي للوعي العربي على مستوى الشعور، وإن كانت الصياغات الأخرى للحضارة العربية قبل الإسلام حاضرةً على مستوى اللاشعور؛ ففي وعي كل عربي ما زال يرقد حمورابي وآمون.

والضلع الثاني هو تراث الآخر الحاضر، والمتفاعل مع تراث الأنا، وهو التراث الغربي في اللحظة الراهنة في مسار الثقافة العربية عبر التاريخ؛ فمنذ فجر النهضة العربية في القرن الماضي والثقافة العربية على صلة بالغرب الحديث، تُترجم وتنقل وتلخِّص وتشرح وتمثِّل وتقابل وتعارِض وتُجمِّع وتختار. فأصبحت الثقافة الغربية جزءًا من فكرنا المعاصر فيما سُمي بازدواجية الثقافة، ولكنها أكثر حداثةً لا يتجاوز عمقها أكثر من مائتي عام منذ رفاعة رافع الطهطاوي في القرن الماضي وحتى الآن. لقد كانت الحضارة العربية في علاقة دائمة مع الآخر، اليوناني والروماني غربًا، والفارسي والهندي شرقًا، والتركية والآسيوية شمالًا، والأفريقية الزنجية جنوبًا. ولكن الذي عاش في الوجدان العربي وهزه وكاد أن يُفقده توازنه هو الغرب الحديث بالرغم من قِصر المدة والتعامل معه.

والضلع الثالث هو الواقع العربي المعاصر الذي نعيش فيه والذي يتفاعل فيه الموروث القديم والوافد الغربي. هو مجموعة الأمثال العامية والتقاليد الشعبية والأذواق الفنية والإبداعات الأدبية وسِير الأبطال والأزجال والملاحم والروايات الشفاهية في الأفراح والمآتم، بالإضافة إلى الضنك والفقر والضيق والكبت والإحباط المتولد عن الأنظمة السياسية والقوى الاجتماعية وشتى أنماط السلطة في المجتمع، لا فرق بين سِير الصحابة الموروثة أو العلم والتكنولوجيا الوافدة أو أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة على المقاهي والمصاطب والساحات الشعبية. وإشكال الضلع الأول بسيط وواضح، وهو أن الموروث القديم نشأ في ظروف وتكوَّن في فترة تاريخية لم تعد موجودة. وقد تكون أحد مظاهر أزمة الثقافة العربية المعاصرة أننا نفكِّر بثقافة الانتصار ونحن نعيش في واقع الهزيمة. نتصوَّر العالم بعقلية خير أمة أُخرجت للناس، ونعيش واقع الاحتلال والقهر والتجزئة والتبعية والتخلف واللامبالاة والاغتراب. ما نتعلمه ونعلِّمه شيء، وما نفكر فيه ونعيشه شيء آخر. ما زلنا نمارس عقائد الفرقة الناجية ونكفِّر الفرق الضالة، نتمثل أيديولوجية السلطة ونستقصي المعارضة. وما زالت برامجنا الدينية تقوم على الإلهيات والغيبيات دون الإنسانيات والمشاهدات، وما زلنا ندرس في معاهدنا فقه الغنيمة، وفقه العبيد، وفقه الذمة، وفقه النساء، وفقه العبادات، العالم قد تغيَّر؛ فلا غنائم في الحرب، ولا عبيد في المجتمع، ولا فرق بين مواطن وآخر في عقيدة أو بين رجل وامرأة في المواطنة. وما زالت الطرق الصوفية تناجي على ضفاف النيل بالسودان والأرضُ في حاجة إلى زراعة وشق الطرق لنقل الفواكه المتساقطة. وما زلنا في التشريع نعطي الأولوية للنص على المصلحة، والمصلحة أساس التشريع. وحضرت في وعينا العلوم النقلية كما ورثناها، القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه دون أن نحولها إلى علوم عقلية، في حين غابت عن وعينا العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية. ومن ثم غاب من الحس التجريب، ومن الذهن الاستدلال، وفي العلوم الإنسانية غابت الجغرافيا والتاريخ، وُضع الإنسان في الأرض وفي الزمان، وحضرت اللغة والأدب وكأن العرب قد عادوا إلى بؤرة إبداعهم القديم في الشعر العربي. أزمة الثقافة العربية أن الروح في عصر والبدن في عصر آخر.

وإشكال الضلع الثاني، وهو الوافد الغربي، بسيط وواضح كذلك؛ وهو أننا ننقل تراثنا في عصر الاستعمار ومن ثقافة المستعمر نفسه منذ استعمار إنجلترا للهند والقضاء على دولة المغول، ثم استعمار البرتغال وإسبانيا لجنوب شرق آسيا منذ بداية العصر الحديث الأوروبي، ثم استعمار فرنسا للجزائر في ١٨٣٠م. فارتبط فجر النهضة العربية بثقافة الغرب الاستعماري. وبدأت عملية تحديث المجتمع العربي على يد الأقلية المتغرِّبة، وارتبطت تجربة الحداثة بالتغريب؛ فنشأت ازدواجية الثقافة، وزاحم الوافد الغربي الموروث القديم؛ الأول ثقافة الأقلية الحاكمة، والثاني ثقافة الأغلبية المحكومة. الأولى معاصرة والثانية تقليدية. فنشأ الخُلف الثقافي بين النخبة والجماهير. فإذا ما تأزمت النخبة ثارت ثقافة الجماهير عليها كما هو واضح الآن في الجزائر بوجه خاص وفي مصر عن بعد.

وأصبحت علاقة الأنا بالآخر علاقةً غير سوية؛ فالآخر يُبدع والأنا تنقل. الآخر ينتج والأنا تستهلك. وجيلًا وراء جيل ينشأ عند الآخر مركَّب عظمة، ويتكون عند الأنا مركَّب نقص؛ فالآخر هو المعلم الأبدي، والأنا هو التلميذ الأبدي. وكلما أبدع الآخر نقل الأنا. ولمَّا كان معدل إبداع الآخر أسرع بكثير من نقل الأنا تزداد المسافة الحضارية بين المبدع والناقل. ولا يستطيع الناقل اللحاق بركب الحضارة وهو يلهث سعيًا حتى يُصاب بالصدمة الحضارية، ويقبل مكانه في التاريخ هامشيًّا على مركز، ثم ركنًا في متحف للآثار.

تتجلى أزمة الثقافة العربية في هذا الضلع الثاني في نقل ثقافة من حضارة وزرعها في حضارة أخرى، وهي مجتثة الجذور من الأولى ولا تنبت في الثانية. جزء منفصل عن الكل في الأولى، وجسم غريب في الثانية. أصبح للوافد الغربي وكلاء حضاريون داخل الثقافة العربية؛ مما سبَّب انتفاضة الموروث القديم الذي ما زال حاملًا للثقافة الوطنية. ولم تُجدِ محاولات التأقلم شيئًا في الليبرالية العربية أو الاشتراكية العربية أو الماركسية العربية. وظل الإصلاح الديني هو الوعاء الطبيعي لمسار العرب في التاريخ.

إذا كان الضلع الأول، الموروث القديم، يمثِّل الماضي في الحاضر، وكان الضلع الثاني، الوافد الغربي يمثل المستقبل في الحاضر، فإن الضلع الثالث، الواقع العربي المعاصر، يمثل الحاضر نفسه الذي يتم فيه تفاعل الماضي والمستقبل، وتفاعل الموروث والوافد؛ فهو أقصر في الزمان من الضلعين الأولين. إنه مجرد اللحظة المتجددة في كل جيل.

وتسيطر على هذا الضلع الخطابة السياسية وهي أقل مستوًى من الأيديولوجيا السياسية المحكمة. ويتم ذلك من خلال الإعلام من أجل السيطرة على أذهان الناس، بما في ذلك الإعلام الديني الذي هو صدًى للإعلام السياسي. يختلط فيه الجد بالهزل، الوطن بالرقص، ونشرة الأخبار بحديث الروح، وحرب الخليج مع المسلسلات الإذاعية، وتأسيس الوطن بفوازير رمضان، ومذابح البوسنة والهرسك ودخول ياسر عرفات رام الله وبيت لحم بفتيات الإعلانات.

واشتدت الأزمة الاقتصادية، واحتاج الناس إلى تسلية وتفريج للهم وهم في ضنك العيش من الفقر والقهر. وأحيانًا تضيع الكرامة أمام التسول والتبعية، ويزداد الإحساس بالعجز والشعور بالإحباط، وينعزل المثقفون، ويدينون بالولاء لوسائل الإعلام الأجنبية، يستقون منها أخبار الأوطان.

لقد نشأت أزمة وطنية مماثلة قبيل الثورات العربية الأخيرة، وجاء خلاصها عن طريق «الضباط الأحرار»، والآن تبدو أزمة أكثر تعقيدًا ولا يبدو لها خلاص قريب بعد أن شوَّهت الثورة العربية الليبرالية القديمة، وشوَّهت الانتكاسة والردة الحالية إنجازات الثورة العربية. والحركة الإسلامية غاضبة عنيفة تخاصم الكل وتعاديها النظم السياسية، والعالم يتشكل من جديد بعيدًا عن العرب وعلى حسابهم.

(٤) الوعي التاريخي٤

الوعي التاريخي هو أساس الوعي السياسي، وإذا ما تعثرت السياسات وتفككت أواصر الوحدة الوطنية إلى حد الاقتتال بين الإخوة الأعداء كما هو الحال في الجزائر بين السلفيين والعلمانيين فإنما يرجع ذلك إلى غياب الوعي التاريخي؛ فالسلفيون يقومون بأدوار أجيال مضت دفاعًا عن الدين والهُوية، والعلمانيون يقومون بدور أجيال قادمة دفاعًا عن الدنيا والعصر. والسؤال لكل من الفريقين: في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ ما دور الأجيال الحالية؟ ما طبيعة الحاضر الذي لا يمكن رده إلى الماضي كما يفعل السلفيون أو إلى المستقبل كما يفعل العلمانيون؟

والحاضر أيضًا ليس مجرد الحصول على السلطة كما هو الحال في نظم الحكم أو فيما تتطلع إليه أحزاب المعارضة؛ بل هو القدرة على معرفة طبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع في مسار التاريخ. وفي حالة المجتمع العربي، هو الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، من القديم إلى الجديد، من التراث إلى الحداثة دون التفريط في أحدهما كما يفعل الإخوة الأعداء، وتمسكًا بالأصالة والمعاصرة، وحرصًا على التغير من خلال التواصل، وإبقاءً على الهُوية العربية الإسلامية في مسار التاريخ.

وقد حاول الفكر العربي المعاصر طرح الإشكال منذ فجر النهضة العربية في القرن الماضي. حاول الفكر الليبرالي البحث في التاريخ، فوجده الطهطاوي في تاريخ العرب قبل الإسلام وفي سيرة ساكن الحجاز أو في التاريخ الغربي، تاريخ شارل العاشر أو تاريخ مملكة فرنسا، ولكنه ظل يبحث عن نموذج مطلق وجده في فلسفة التنوير كنموذج للنهضة العربية: الحرية، والشورى، والتعددية الحزبية، والدستور، والبرلمان، والملكية المقيدة، والتعليم. وهو ما انتهى إليه أيضًا خير الدين التونسي، ولم يحاول السؤال: لماذا غاب مبحث التاريخ باعتباره وعيًا تاريخيًّا في الوعي العربي؟ ظلت الليبرالية حلمًا وأملًا سرعان ما أُجهض بعد اندلاع الثورات العربية الأخيرة. وما زال النضال من أجلها قائمًا دفاعًا عن الحرية والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان دون البحث في الجذور التي تمنع المجتمع المصري من أن يكون حرًّا.

كما حاول الفكر الإصلاحي الديني تأسيس وعي بالتاريخ في صورة فلسفة للتاريخ عند الأفغاني تقوم على القيم الأخلاقية؛ مثل: الحياء والإخلاص والشرف، وكأن مسار التاريخ هو سلوك أخلاقي للأفراد والجماعات. كما أضاف محمد عبده في آخر «رسالة التوحيد» تحليلًا للوعي بالتاريخ كجزء من علم العقائد، انتشار الإسلام بسرعة لم يشهد لها التاريخ من قبل؛ وذلك لأن الوحي ممكن الوقوع. كما وصف نشأة العقائد وتطورها في التاريخ مبينًا أنها في صياغاتها ومشاكلها من صنع حوادث التاريخ، وفي مقدمتها الفتنة الكبرى، والخلاف حول الإمامة والسياسة، ثم الخلاف بعد الاقتتال، حول الإيمان والكفر والفسوق والعصيان والنفاق. وآثر أديب إسحاق صياغة فلسفة للتاريخ تماثل مبادئ الثورة الفرنسية وأفكار التنوير، ثم حاول عبد الله النديم العودة إلى الواقع المصري العربي الإسلامي لصنع التاريخ والمساهمة في مسار الأحداث، مقاومةً للاحتلال، وتوحيدًا للأمة، وشحذًا للهمم، وصمودًا في المقاومة. فالتاريخ يسير طبقًا لقانون حيوي تملؤه طاقات الأفراد، وتُسيِّره حركة الجماهير، ولكن الفكر الإصلاحي انتهى في الجيل الحالي عند الحركة الإسلامية إلى فكر مطلق خارج التاريخ، وإلى إسلام مطلق خارج الزمان والمكان يقوم على شعارات: «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «الحاكمية لله»، «تطبيق الشريعة».

وحاول أيضًا الفكر العلمي العلماني أن يصوغ وعيًا تاريخيًّا على مماثلة مستحيلة وقياس تاريخي بين الوعي العربي والوعي الغربي. فنظرًا لأن تجربة الغرب الحديثة كانت الانقطاع مع الماضي، الكنيسة وأرسطو، لصالح العقل والعلم والمجتمع المدني، فكذلك تكون تجربة العرب الحديثة. قام بذلك شبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف وسلامة موسى وزكي نجيب محمود؛ وهو إغفال لخصوصية كل وعي تاريخي ولكل تجربة حضارية لصالح نموذج أوحد هو النموذج الغربي.

وعلى هذا النحو وبالرغم من محاولات الفكر العربي المعاصر بتياراته الثلاثة البحث في التاريخ، إلا أنه لم يساعد في بلورة الوعي التاريخي. بل إن الدعوات القطرية والقومية والإسلامية التي تجلَّت فيها تُغفل أيضًا التحليل التاريخي؛ فالدولة القُطرية وريثة تمزيق دولة الخلافة بعد الحرب العالمية الأولى وتوزيع تركة الرجل المريض والاحتلال الأوروبي لها، ثم الاستقلال بعد حركات التحرر الوطني. الدولة القطرية بنت هذا التاريخ في هذا القرن، وليست لها أية شرعية أخرى إلا في هذا المسار التاريخي.

والدولة القومية أيضًا بنت التاريخ، وكرد فعل على القومية الطورانية لعجز دولة الخلافة عن توحيد الأمة في إطار التعددية واضطهاد النزعات القومية، العرب والأرمن، دفاعًا عن وحدة الدولة. هكذا كانت البداية عند ساطح الحصري. ثم تطورت أثناء حركات الاستقلال الوطني، وأصبحت تُمثِّل وحدة النضال الوطني وكما جسَّدها حزب البعث العربي الاشتراكي. وبلغت الذروة عندما تبنَّتها الناصرية، فأصبحت القومية العربية ومبادئها في الحرية والاشتراكية والوحدة أساس الثورات العربية والتجارب الوحدوية الحديثة، خاصةً وحدة مصر وسوريا.

والأمة الإسلامية كما عبَّر عنها الأفغاني في الجامعة الإسلامية، وكما هي موجودة الآن لدى الحركات الإسلامية المعاصرة، تمسُّكٌ بالتاريخ القديم وبالموروث السياسي حتى دولة الخلافة، وتأكيدٌ على الشرعية ووحدة الأمة التي لا تقوم على الجغرافيا القُطرية، ولا على العرق، بل على وحدة العقيدة وشمول التصور. تحولت إلى مطلق لا تاريخي، بل وأحيانًا كحركات مناهضة للوطن القُطري وللقومية العربية.

وأمام هذه الاختيارات الثلاثة التي هي أبعاد فعلية في الوعي التاريخي غمضت الرؤية، وتضاربت الأهداف، وتصارعت القوى السياسية دون تحليل لأعماق الوعي التاريخي أو للدوائر الحضارية المتداخلة التي يعيش فيها الوعي التاريخي، باستثناء الخطاب السياسي الإسلامي والناصري الذي تحدَّث عن الدوائر الثلاث: مصر والعروبة والإسلام.

وبالرغم من هذه المحاولات المعاصرة لبلورة الوعي التاريخي إلا أنه لم يتحقق بعدُ في الزمان والمكان في اللحظة الحاضرة، يئن تحت المطلقات، ويتبخَّر بفعل الأيديولوجيات السياسية. غاب الوعي التاريخي النظري؛ أي التأمل في التاريخ؛ لذلك رفض محمد علي أن يقرأ كتابًا في التاريخ أهداه إليه ابنه إبراهيم باشا بعد فتح الشام وعثوره عليه هناك؛ لأنه يصنع التاريخ. وقد يكون هذا هو السبب في غياب التفكير في التاريخ عند القدماء؛ لأنهم كانوا يصنعون التاريخ منذ الفتوحات الأولى حتى سقوط الأندلس. وهي الفترة التي أرَّخ لمعظمها ابن خلدون قبل أن تبدأ الفتوحات الثانية في المشرق ابتداءً من محمد الفاتح والدولة العثمانية والتي كتب في بدايتها السخاوي «الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ» دفاعًا عن علم التاريخ وطبقات المؤرخين اعتمادًا على الروايات ودون بلورة مسار التاريخ في الوعي التاريخي.

وقد يرجع السبب الفعلي لغياب الوعي التاريخي إلى غياب الجذور؛ أي تصور التاريخ باعتباره تقدمًا في الموروث الثقافي. فقد اقتصر التاريخ عند المؤرخين على الحوليات أو الطبقات سواء اعتمادًا على الروايات أو على وصف الأحداث. والحوليات سرد زمني دون تحديد لمسار وعي تاريخي، والطبقات سرد لأجيال دون تحديد تراكم تاريخي عبر الأجيال يكوِّن الوعي التاريخي.

وفي العلوم الإسلامية القديمة حضرت تصورات للتاريخ، ولكنها لم تساهم في الوعي بالتاريخ باعتباره تقدمًا؛ ففي علم العقائد في ملحقات الإمامة، كان التاريخ انهيارًا وسقوطًا من النبوة إلى الخلافة إلى الملك العضود، من الأفضل إلى المفضول، من الفرقة الناجية إلى الفرق الضالة، من الوحدة إلى التشتت والتفرق، من الحق إلى الأهواء، فخير القرون قرن النبي ثم الذين يلونه. ثم تتم مقابلة ذلك التصور المنهار للتاريخ بظهور المجدد على رأس كل مائة سنة أو بالمهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا؛ ممَّا يفسر الاعتماد حتى الآن على البطولة أو الزعامة في تاريخنا السياسي الحديث.

وفي علوم التصوف ظهر التاريخ الصاعد، في رمز الإسراء والمعراج؛ فالطريق الصوفي صعود إلى أعلى، على سلم المقامات والأحوال، ابتداءً من التوبة حتى الفناء، إنقاذًا للنفس بعد أن استعصى إنقاذ العالم، واعتمادًا على الخيال إن استعصى تحليل الواقع، ورؤية بالقلب إن صعب الفهم بالعقل.

وفي علوم الحكمة ظهر التاريخ باعتباره تاريخ الشعوب والحضارات وإبداعات العرب والترك والفرس والهند مع مقارنات بينها لا تخلو من شعوبية، وهو ما وقع فيه ابن خلدون أيضًا في تاريخ العرب والبربر. اختلط التاريخ هنا بعلم العمران، كما اختلط عند الفارابي بالعلم المدني، ومع ذلك لا يكوِّن التاريخ محورًا في علوم الحكمة؛ فالحكمة ثلاثية: منطق وطبيعيات وإلهيات.

وفي علم أصول الفقه ظهر التاريخ في شرع من قبلنا، واستبعاده كمصدر من مصادر التشريع واكتفاء بالبراءة الأصلية. ثم ظهر تقدُّم مصادر التشريع من النص المدوَّن إلى الاجتهاد البشري، من القرآن والسنة إلى الإجماع والقياس. كما ظهرت دلالة الناسخ والمنسوخ على التقدم في التشريع وإجماع العصر السابق ليس ملزمًا للعصر اللاحق. ومع ذلك ظل الوعي التاريخي تشريعيًّا قانونيًّا نصيًّا استنباطيًّا دون تراكم تاريخي كافٍ لبلورة الوعي التاريخي.

كان يمكن لقصص الأنبياء ولأحاديث آخر الزمان أن تكون جذور الوعي والإعجاب بدور الأنبياء في الماضي دون إدراك مساهمتهم في صنع التقدم واكتمال الوعي حتى يستقل عقلًا وإرادة في مرحلة خاتم الأنبياء واكتمال الوحي. وغلبت على أحاديث آخر الزمان الرغبة في الخلاص في المستقبل وانتظار لحظة الفرج. وقوي ذلك في الوعي بالزمان، الماضي والمستقبل، دون تعميق الحاضر، صب الماضي فيه، وانطلاق المستقبل منه.

يظل ابن خلدون هو الذي حاول بلورة الوعي التاريخي للقرون السبعة الأولى، واضعًا الدورة الأولى، ومبينًا أسباب النهضة وأسباب الانهيار.

(٥) بداية القرن الخامس عشر أم بداية القرن الواحد والعشرين؟٥

يكثر الحديث منذ عدة سنوات وسيستمر حول بداية القرن الواحد والعشرين، تحديات القرن الواحد والعشرين، العرب والقرن الواحد والعشرين؛ حتى أصبح القرن الواحد والعشرون همًّا ثقيلًا على النفس، نخافه أكثر مما نثق به، نبتعد عنه أكثر مما نقترب منه، نخرج منه أكثر مما ندخل فيه.

والحقيقة أن هذا الهاجس يدل على اغتراب حضاري، خروج الأنا من حضارتها ودخولها في حضارة الآخر. ليس الأمر مجرد تقليد أو عادة، بل يدل في العمق على غياب الرؤية التاريخية لمسار الأنا ولمسار الآخر.

الوعي التاريخي هو وعي بمسار الأنا في التاريخ، هو إحساس بالذات المتمايز عن الآخر، إحساس بالهُوية قبل الإحساس بالتغاير، وهو تمايز طبيعي مبدئي، يثبت وجود الأنا قبل وجود الآخر؛ ففي المنطق الصوري أن أَلِفًا تساوي أَلِفًا قبل أن تكون ألف غير باء.

هذا الوعي التاريخي بالأنا هو أساس الوعي الحضاري؛ فالتاريخ هو مسار الحضارة في الزمان، التاريخ هو تفاعل الحضارة مع الزمان، الحضارة بنية التاريخ، والتاريخ مسار الحضارة، الحضارة حاضر التاريخ، والتاريخ ماضي الحضارة، الحضارة آخر مرحلة في تطور التاريخ، والتاريخ هو مسار الحضارة كلها.

ودون هذا التفاعل بين الوعي الحضاري والتاريخي يستحيل العمل الوطني وتغمض الرؤية؛ فالعمل ليس مجرد الإنتاج المادي أو التنفيذ الآلي للأمر، بل إنه جزء من كل، يصب في مشروع أكبر يحدِّده الموقف الحضاري، ويصوغه الوعي التاريخي.

وإذا كان للعرب تاريخ قبل الإسلام وبعده فإن وعيهم التاريخي ليس بمثل هذا الحضور، وكأنهم شعوب حديثة العهد منذ التحرر من الاستعمار، وكأن دولهم الوطنية من بقايا الدولة العثمانية، ودولة الخلافة، بعد أن تفتتت كي يقضمها الاستعمار الغربي قطعةً قطعة. وإذا كان للعرب حضارة قديمة فإن ولعهم بالحداثة والعصرية جعلهم يجترون الماضي دون وعي حضاري بتكوينه ونشأته وتطوره من أجل استئنافه وليس تكراره، والانتقال من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى.

وحتى القرن الماضي، عصر بناء الدولة المصرية الحديثة، وعندما أراد محمد علي إنشاء دولة قوية في مصر تكون مركزًا جديدًا للخلافة كان التاريخ الهجري هو الشائع في مطبعة بولاق، وكان الوعي التاريخي العربي الإسلامي ما زال حاضرًا في وعي المفكرين والأدباء. لم توجد دولة منفتحة على الغرب قدر دولة محمد علي. ومع ذلك، لم يتحول الوعي التاريخي للأنا إلى الوعي التاريخي بالآخر، إحساسًا بالتمايز، وربما لوجود صراع بين دولة الخلافة والاستعمار الغربي الجديد الذي بلغ الذروة في القرن الماضي.

ومنذ بداية هذا القرن، وعلى وجه التحديد منذ خسارة تركيا الحرب الأولى ١٩١٤–١٩١٨م، بدأ التداخل بين وعي الأنا ووعي الآخر، وبدأ يظهر على الصفحات الأولى للكتب وعلى أغلفتها التاريخان الهجري والميلادي نظرًا لانهزام تركيا وبداية الاستعمار الغربي الحديث. وكان التلاميذ في المدارس يكتبون التاريخ الهجري على اليمين والتاريخ الميلادي على اليسار حتى الحرب الثانية وقبيل الثورات العربية الأخيرة.

ثم انزوى التاريخ الهجري كليةً أو كاد في مصر والشام والمغرب؛ أهم ثلاثة مراكز حضارية، وساد التاريخ الميلادي مما يكشف عن بداية الاغتراب، اغتراب الأنا في الآخر، والتخلي عن المسار التاريخي للأنا، والدخول في المسار التاريخي للآخر. أما في المناطق الحضارية التقليدية في شبه الجزيرة العربية فما زال التاريخان مستعمَلين وربطهما معًا بكلمة «الموافق»، ولكن البداية بالميلادي الذي يوافَق بالهجري. البداية بالآخَر ثم النهاية بالأنا؛ فالآخر هو الذي يحدِّد مسار الأنا أولًا ثم تنعكس الأنا على ذاتها كي تكتشف مسارها الخاص. الآخَر هو المركز، والأنا هو المحيط. اغتربت الأنا في الآخر ثم همَّشت نفسها بنفسها. ومن يدري؟ فربما بمزيد من الحداثة، وعندما تلحق المناطق الحضارية التقليدية بالمناطق الحضارية الأكثر حداثةً في مصر والشام والمغرب قد يختفي التاريخ الهجري ويسود التاريخ الميلادي، وتُصبح الحضارة العربية العالمية جزءًا من الحضارة الغربية، وتسير في مسارها.

وتكون النتيجة الاغترابَ الكلي للأنا في الآخر، وترك الأنا مسارها التاريخي الخاص وتخرج عن ذاتها، وتضيع هُويتها التاريخية، وتلبس ثوب غيرها، وتسكن في غير مسكنها؛ فتضيع خصوصيتها. ومن ناحية أخرى يقوى مسار الآخر الذي تصب فيه كل الحضارات، وتُصبح كل الحضارات هوامش له، فروعًا صغيرة تصب في النهر العظيم، وبدلًا من التحرر تستمر التبعية، وبدلًا من استغلال المحيط من المركز تُصبح جوانب هامشيةً فيه، وبدلًا من أن يتعدد المركز، يقوى المركز الأوحد في عالم ذي قطب واحد؛ فتتفق الحضارة والسياسة، ويتطابق الماضي مع الحاضر، مصير واحد لا فِكاكَ منه وكأنه قَدَر تاريخي للجميع.

والحقيقة لا يوجد مسار تاريخي واحد لكل الحضارات والشعوب، هناك مسارات متعددة بتعدُّد الشعوب والحضارات. والمسار الأقوى هو الذي يجذب باقي المسارات، وتكشف التواريخ الموجودة الآن عن هذه المسارات المتعددة؛ فالتاريخ اليهودي يبدأ منذ أكثر من خمسة آلاف عام منذ خلق الله الأرض ومن عليها، ولم تتنازل عنه حتى الآن تدعيمًا للدولة العبرية. والحضارة الفارسية في عصر الشاه لم تتنازل عن التاريخ الشاهنشاهي القديم اعتزازًا بعصر البطولة الأول حتى جاءت الثورة الإسلامية فأعادته إلى مساره الإسلامي. وتاريخ اليابان يبدأ بعام تولية كل إمبراطور كما كان الحال في مصر القديمة؛ فالإمبراطور الحديث أو الفرعون القديم بداية مرحلة جديدة من مراحل التاريخ.

وفي الوعي العربي الحديث يتداخل الوعي التاريخي العربي الإسلامي، وعي الأنا، والوعي الغربي، وعي الآخر، نظرًا للقرب الجغرافي وللتفاعل التاريخي؛ فكلا الوعيين على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في الجنوب والشمال وفي الشرق والغرب. وعي الأنا جنوبي شرقي، ووعي الآخر شمالي غربي. أما الشرق الأقصى باعتباره وعيًا آخر فلم يتداخل مع الوعي العربي الإسلامي حتى الآن بالرغم من الجوار الجغرافي؛ فثلاثة أرباع المسلمين في آسيا، والقرابة التاريخية، وبالرغم من غزوات الشرق من التتار والمغول وروسيا القيصرية على أواسط آسيا واليابان في جنوب شرق آسيا.

وعي الأنا، الوعي العربي الإسلامي، ووعي الآخر، الوعي الغربي، يتداخلان في وعينا المعاصر بالرغم من تمايز المسارين. يشمل الوعي العربي الإسلامي التاريخ القبطي والأرثوذكسي والمسيحي الشرقي بوجه عام، بما في ذلك اليهودي العربي، في حين يشمل الوعي الغربي اليهودية الغربية والمسيحية الغربية. ونظرًا لشيوع العلمانية في عصوره الحديثة فإن هُويته أصبحت غربيةً أكثر منها يهودية مسيحية.

وعي الأنا العربي الإسلامي مر بمرحلتين سابقتين في الماضي وهو على أعتاب مرحلة ثالثة؛ الأولى: هي المرحلة الزاهرة التي تكونت فيها الحضارة الإسلامية وبلغت الذروة في القرن الرابع، عصر ابن سينا وأبي حيان التوحيدي والبيروني والمتنبي. كانت منفتحةً على الحضارات الأخرى، الهندية والفارسية شرقًا واليونانية والرومانية غربًا، والتركية شمالًا والزنجية جنوبًا. كانت متعددة الاتجاهات، مدارس فقهية أربع، اتجاهات فلسفية عقلية وإشراقية، طرقًا صوفية كثيرة، وفرقًا كلامية يُحاور بعضها بعضًا. وبلغت حرية الفكر والتعددية الذروة. ثم جاء الغزالي وفضَّل الحسم والقضاء على التعددية باسم العقيدة الواحدة، الأشعرية، للسلطان، والتصوف العملي للجماهير. وكفَّر الفلاسفة والباطنية والمعتزلة حتى تقوى الدولة في مواجهة الأعداء في الخارج. وكانت الحروب الصليبية قد بدأت؛ فبدأت المرحلة الأولى في الأفول، وكرَّر القرنان السادس والسابع ما أبدعته القرون الأولى. وحاول ابن رشد في المغرب في القرن السادس إحياء العقل والاجتهاد من جديد، ولكن بُعد المسافة، ونهاية المرحلة الأولى، وسيطرة الفقهاء لم تحوِّل الرشدية إلى حركة في التاريخ. ثم جاء ابن خلدون في القرن الثامن ليؤرخ للحضارة العربية، بدايةً وتطورًا ونهاية، واضعًا قانونًا للتاريخ، من البداوة إلى الحضارة ثم إلى البداوة من جديد، يفسِّر به قيام الدولة وسقوطها.

ثم جاءت المرحلة الثانية بعد ابن خلدون من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر، سبعة قرون أخرى تشرح فيه الحضارة ما أنتجته من قبلُ في الفترة الأولى. فإذا توقف العقل نشطت الذاكرة، ودُونت الموسوعات الكبرى في مصر والشام وتركيا كما يجترُّ جمل الصحراء وهو بارِكٌ ما أكله من قبلُ وهو واقف. كان هذا في العصر التركي المملوكي. وفي نهايته بدأت حركات الإصلاح في المائتي سنة الأخيرة لتضع حدًّا لهذا التوقف والركود، تقارن وعي الأنا بوعي الآخر بعد أن بدأ التداخل بينهما، ويضع شكيب أرسلان السؤال: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ ويسأل الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ ويحاول الأفغاني وإقبال والكواكبي وأديب إسحاق ومحمد عبده وضع فلسفة جديدة في التاريخ تقوم على النهضة وليس على الانهيار دون أن تبزغ شخصية في وزن ابن خلدون لتنتهي هذه الفترة الثانية في القرن الرابع عشر، وتبدأ فترة جديدة ثالثة في القرن الخامس عشر؛ فنحن الآن في نهاية الفترة الثانية وبدايات الفترة الثالثة التي تحاول اللحاق بالفترة الأولى فترة الإبداع والازدهار، العصر الذهبي الثاني.

أما وعي الآخر فيسبقنا بمرحلة سابقة من القرن الأول الميلادي حتى القرن السابع الذي ظهر فيه الإسلام. ومن ثم يكون الوعي الأوروبي قد مر بثلاث مراحل؛ الأولى: مرحلة آباء الكنيسة اليونان والرومان منذ القرن الأول الميلادي حتى القرن السابع في الغرب أولًا ثم في الشرق، وهي المرحلة التي تم التفاعل فيها بين الحضارتين اليونانية والرومانية من ناحية، والديانتين اليهودية والمسيحية من ناحية أخرى. تمت فيها صياغة العقائد الرسمية وإزاحة حركات الهرطقة وتقنين الأناجيل ودخول المسيحية في قلب الإمبراطورية الرومانية، وتأسيسها في الشرق العتيد قبل انطلاقها إلى شمال أوروبا، وكانت هذه فترة المسيحية الأفلاطونية.

ثم بدأت الفترة الثانية من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر، فانتشرت المسيحية من الجنوب إلى الشمال على مدى قرنين من الزمان، وبدأت الكتابات الأولى منذ القرن التاسع، ونشأت المدارس والجامعات في القرن الحادي عشر، ثم بدأت الفلسفة العقلية والجدل العقلي في الظهور في القرنين الثاني عشر والثالث عشر والفلسفة العلمية التجريبية في القرن الرابع عشر. قرنان للتبشير، وقرنان في العصر الوسيط المتقدم، وقرنان في العصر الوسيط المتأخر. ونشأ ذلك كله تحت أثر الفلسفة الإسلامية وترجماتها عبر العبرية إلى اللاتينية، وكان أرسطو هو نموذجها.

ثم بدأت الفترة الثالثة من القرن الخامس حتى القرن الواحد والعشرين، وهو ما يسمى بالعصور الحديثة، ابتداءً من الإصلاح الديني في الخامس عشر، والنهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والوضعية في القرن العشرين. وفي نهايته تبرز الأزمة، ما بعد الحداثة، والتنوير السالب، وتنكشف نهاية المرحلة الثالثة في القرن القادم دونما بداية جديدة في الأفق.

ومن مقارنة المسارين التاريخيين للأنا والآخر نجد تقابلًا كسَيفين يتبارزان؛ في المرحلة الأولى التي أبدعنا فيها عصرنا الذهبي الأول كان الغرب في مرحلته الثانية، مرحلة العصر الوسيط؛ وفي المرحلة التي توقفنا فيها نحن في المرحلة الثانية العصر التركي المملوكي كان الغرب في مرحلته الثالثة، مرحلة العصور الحديثة التي أبدع فيها العقل والعلم وحقوق الإنسان والعقد الاجتماعي والتقدم التاريخي.

والآن يسير المساران في اتجاهين مختلفين؛ مسار الأنا ينهي الفترة الثانية فترة الركود ويبدأ فترةً ثالثة فترة النهضة الثانية، ومسار الآخر يُنهي الفترة الثالثة، فترة النهضة الحديثة ودون أن يبدأ فترةً رابعة، ما زالت ملامحها بعيدةً في المجهول.

نحن إذن لسنا في نهاية القرن العشرين وعلى مشارف القرن الواحد والعشرين، بل في نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر منذ ستة عشر عامًا. وعي الآخر في نهاية فترة دون بداية أخرى، ووعي الأنا في نهاية فترة وبداية فترة أخرى. وعي الآخر في غروب، ووعي الأنا في شروق.

ولماذا لا نتنبَّأ والعلماء ورثة الأنبياء؟

(٦) نهاية التاريخ أم بداية التاريخ؟٦

انتشرت في الآونة الأخيرة عدة نظريات أبدعها الإعلام الغربي وأجهزته ومراكز أبحاثه لشغل العالم به وتهميشها والتعليق عليها، قَبولًا أو رفضًا، حتى يظل الغرب مركز الإبداع، والعلماء والمفكرون في محيطه شارحون على المتون كما كانوا يفعلون طوال التاريخ منذ الغرب القديم عند اليونان حتى الغرب الحديث في أوروبا وأمريكا.

ومن هذه النظريات في العقد الأخير: «نهاية التاريخ»، «صدام الحضارات» «نظام العالم الجديد»، «ما بعد الحداثة»، والبقية تأتي حتى لا يكون عند باقي الشعوب والحضارات وقت للإبداع الذاتي على تحليل الواقع الذاتي وعلاقته بالآخرين. فتُحدَّد علاقة الأنا بالآخر بناءً على ما سيقدِّمه الآخر من صور مختلفة للأنا من صُنعه وخلقه، ولا يكون أمام الأنا إلا الرفض أو القَبول دون إيجاد البديل.

ونظرية «نهاية العالم» ليست جديدة، بل هي معروفة طوال التاريخ الغربي في عصوره الحديثة، منذ القرن الرابع عشر حتى القرن العشرين؛ أي على مدى سبعة قرون هي عمر الغرب الحديث.

ففي القرن الرابع عشر تم أيضًا إعلان نهاية التاريخ للمرة الأولى؛ تاريخ العصر الوسيط والفكر المدرسي لبداية تاريخ جديد تتم فيه العودة إلى اليونان القديم وإحياء آدابه، رجوعًا إلى الوثنية القديمة التي عظَّمت الإنسان والطبيعة، وأرست دعائم الديمقراطية بدلًا من النظام العقائدي الكنسي الوسيط. وفرح الغرب بسقوط الكنيسة ونهاية العقيدة القديمة، وبالعودة إلى مصادره الوثنية في الأساطير اليونانية والرومانية القديمة.

وفي القرن الخامس عشر، عصر الإصلاح الديني، تم أيضًا إعلان نهاية التاريخ للمرة الثانية، تاريخ المسيحية منذ نشأتها عند السيد المسيح حتى عصر مارتن لوثر؛ فهذا التاريخ المسيحي «الكاثوليكي» كله تاريخ انحراف عن جوهر تعاليم السيد المسيح؛ تركُ أقواله ومواعظه وأخذُ أقوال الكنيسة وقراراتها، ووضعُ سلطة وتأسيسُ كهنوت لم يضعها المسيح ولم يدعُ إليها. وفرضت عقائد وأقامت طقوسًا لم يفرضها ولم يُقِمها السيد المسيح، وحاربت ورفعت السيف وأقامت إمبراطوريةً على الأرض والسيد المسيح دعا إلى الرحمة والتسامح، فملكوت السماء ليس في هذا العالم. جاء مارتن لوثر وأعلن نهاية التاريخ الكنسي كله معلنًا حريةَ الإنسان المسيحي، وعودتَه إلى الكتاب المقدس وحده، وحقَّه في التفسير دون احتكار أحد، والصلاةَ بلغته الوطنية، الألمانية، والاعتزاز بمُواطنته ووطنه ألمانيا، وطلب المغفرة من الله مباشرةً دون توسُّط الكنيسة أو واسطتها.

وفي القرن السادس عشر، عصر النهضة، تم إعلان نهاية التاريخ للمرة الثالثة، نهاية العصور القديمة كلها وبداية العصور الحديثة، نهاية التبعية لأفلاطون أو أرسطو أو العرب وبداية الاعتماد على الذات، نهاية سلطة القدماء، سلطة النصوص المنقولة عن اليونان أو المترجَمة عن العرب، وبداية سلطة العقل، نهاية سلطة المعارف المسبقة، والمسلَّمات، وبداية النقد والتمحيص والفحص، نهاية سلطة القدماء في الشعر والأدب والفلسفة والقانون والاجتماع وبداية التحول نحو المحدثين، نهاية عصر الآباء والأجداد، وبداية عصر الأبناء والأحفاد، نهاية الموروث القديم وبداية الطبيعة ككتاب مفتوح، وباجتماع العقل والطبيعة تنشأ العصور الحديثة.

وفي القرن السابع عشر تم إعلان نهاية التاريخ للمرة الرابعة؛ نهاية الفكر دون المنهج، ونهاية التأملات دون إرساء القواعد التي تهدي الذهن إلى الحقيقة، نهاية المعارف القديمة كلها وبداية مناهج المعرفة، سواء المنهج العقلي عند ديكارت أو المنهج التجريبي عند بيكون. ولا يوجد إلا هذان الطريقان للمعرفة؛ العقل وهو طريق الرياضيات، أو التجربة وهي طريق العلوم الطبيعية. والفلسفة موزعة بين الطريقين وكذلك العلوم الإنسانية الوليدة دون أن يكون لها طريق خاص. وتصارعَ الطريقان، وتناقض المنهجان مما كان بدايةً لأولوية الجزء على الكل ونهاية عصر الكل الشامل، والمعرفة المطلقة، والمنهج الواحد.

وفي القرن الثامن عشر تم إعلان التاريخ للمرة الخامسة؛ عصر الثورة الفرنسية، نهاية الملكية والإقطاع وبداية الجمهورية والدستور، نهاية العبودية والقهر وبداية الحرية والثورة، نهاية الظلام وبداية التنوير، نهاية السلطة في المعرفة والسياسة، ونهاية الكنيسة ورجال الدين، ونهاية الظلم الاجتماعي والتفاوت الطبقي، وبداية العقل المتفجِّر في المجتمع، وبداية المجتمع المدني العلماني، وبداية الحرية والإخاء والمساواة. وفجَّر نابليون بونابرت في الشعر والأدب والموسيقى إبداعات لا نهاية لها، تُعلن نهاية التاريخ، بل توقفه كليةً على مبادئ الثورة الفرنسية التي ستعم العالم كله؛ ألمانيا وأمريكا وروسيا ومصر.

وفي القرن التاسع عشر تم إعلان نهاية التاريخ للمرة السادسة، بمصر المثالية المطلقة في ألمانيا وعصر الوضعية المطلقة في فرنسا، وعصر العلوم الطبيعية والثورة الصناعية في إنجلترا؛ فقد تحقق الفكر في التاريخ، وانتهى مسار الحضارات من الشرق القديم حتى اليونان والعرب، ثم صعب أخيرًا في الغرب الحديث. والدولة الوطنية، ألمانيا الموحدة، هي تجسِّد الحقيقة في التاريخ. وانتهت الفلسفة، واكتمل الفن، ولم يعد للتاريخ مستقبل يتحقق في عقل الفيلسوف أو في وجدان الفن أو في نظام الدولة.

وفي القرن العشرين تم إعلان نهاية التاريخ للمرة السابعة بعد الحرب الثانية؛ نهاية الحلم الغربي والعصور الحديثة والمثالية الغربية بعد حربين طاحنتين، وبداية الاجتهاد في الوعي الأوروبي، وظهور أفكار العدم والتناقض، وموت الإله ثم موت الإنسان، وتردُّد مفاهيم: السقوط، والأفول، والنهاية، والقلب، والانهيار، والانحدار، والاضمحلال، وضياع الروح، والموت في النفس، وظهور أدب العبث واللامعقول، وبداية تحطيم العقل، ونقد التنوير ونقد الحداثة؛ فبدأ الغرب يهدم ما بناه من مُثل التنوير وقواعد الحداثة.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي والنُّظم الشيوعية في ألمانيا وأوروبا الشرقية، وهو أحد علامات الانهيار العام في القرن العشرين، أراد الغرب الرأسمالي انتهاز الفرصة وأعلن «نهاية التاريخ». ويعني بذلك نهاية الاشتراكية، هذا التحدي الأعظم الذي واجه الغرب الرأسمالي منذ القرن الماضي. وكان هذا الإعلان أحد مظاهر تجديد الرأسمالية لنفسها على مستوى الفكر، بإعلان نهاية التحدي الاشتراكي ونهايته إلى الأبد، وأن الرأسمالية والليبرالية الغربية هو النظام الأبدي للبشر، لم يعد التاريخ مُبدِعًا لنُظم جديدة بعد أن تحقَّق إبداعه الأول والأخير، وعلى جميع الشعوب الاستفادة من هذا النصر الأخير، فلم يعد التجريب ممكنًا، ولم تعد المحاولات مجدية، «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا»!

والحقيقة أن التحدي الاشتراكي، والبديل الآخر للرأسمالية ما زال قائمًا؛ فالذي انهار ليس الاشتراكية باعتبارها هدفًا أو حلمًا أو غاية، بل النظم السياسية التي تبنَّتها الداروينية المادية التطورية على مستوى الفكر، والنظم الشمولية على مستوى الواقع. فضاعت الروح في الفكر، وانعدمت الحرية الفردية والاجتماعية في الواقع، وتظل الاشتراكية والعدالة الاجتماعية مطالب ثابتةً للإنسان، ومقاصد دائمةً في الوعي الاجتماعي. والاضطرابات الأخيرة في فرنسا ونتائج الانتخابات الأخيرة في البلاد التي كانت تحت الحكم الشيوعي تشهد على ذلك.

وفي حموة الفرح بنهاية التاريخ وإعلان نهاية النظم الشمولية تُغطِّي صيحات الفرح وطبوله أزمة المجتمع الرأسمالي: البطالة، التضخم، توقف معدل التنمية، المنافسة بين الدول الصناعية، الديون، الخلل في ميزان المدفوعات، الهبات الشعبية ضد الاستغلال، سيطرة رأس المال على الحكومات والدول. وإذا انهارت الرأسمالية فلمن يبقى التاريخ؟

إن الإعلان المستمر عن نهاية التاريخ هو تأكيد على السيطرة، والرغبة في الهيمنة، الجديد على القديم، وألمانيا على سائر أوروبا، والغرب على الشرق، والرأسمالية على باقي المذاهب السياسية، واقتصاديات السوق والربح على اقتصاديات الحماية، والاقتصاد الحر على التخطيط. يعني الإعلانُ عن نهاية التاريخ أن القوة المسيطرة أصبحت هي المركز؛ فقد تم النصر لها. فهو إعلان أيديولوجي سياسي وليس إعلانًا عن حقيقة علمية تاريخية؛ فالتاريخ لا يتوقف في حضارة المركز المسيطر أو حضارات الأطراف. إنما المهم المسار لصالح من؟ وفي اتجاه ماذا؟

وإذا كانت نهاية التاريخ حقيقة، والانتصار النهائي الكاسح للرأسمالية واقعًا فلماذا هذه الحرب الدائرة ضد حضارات الأطراف في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية لوضع حدٍّ لإيجاد بديل آخر غير الخيار الرأسمالي الذي أصبح ضرورةً حتمية بعد انهيار النظام الاشتراكي؟ لماذا كل هذا الاهتمام بالصحوة الإسلامية، وبالحركات الإسلامية وبالبديل الإسلامي إن كان التاريخ قد توقف بالفعل؟

إن نهاية التاريخ تعني في الحقيقة وبالنسبة لنا نهاية النمط الغربي للحياة، ونهاية المشروع الغربي، أكبر قدر ممكن من الإنتاج، لأكبر قدر ممكن من الاستهلاك، لأكبر قسط ممكن من السعادة، بشقيه الشيوعي والرأسمالي. تعني نهاية التاريخ نهاية تجربة الحداثة في الغرب منذ بدايتها في القرن الرابع عشر حتى نهايتها في القرن العشرين.

ولكن التاريخ ليس هو تاريخ الغرب، التاريخ أعم وأشمل من تاريخ حضارة بعينها في فترة زمنية محددة. إنما التاريخ مستمر داخل الغرب ونهايته، في آسيا والتجربة الآسيوية في الصين واليابان وكوريا وهونج كونج وتايوان وسنغافورة وتايلاند وإندونيسيا والملايو، والجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا وإيران وفلسطين. والتاريخ مستمر في أفريقيا، في مصر والجزائر وجنوب أفريقيا، والتاريخ مستمر في أمريكا اللاتينية في الأرجنتين والبرازيل وكوبا.

قد تعني نهاية التاريخ بالنسبة للغرب بداية التاريخ بالنسبة لنا، بعد عصر التحرر من الاستعمار، وتأسيس الدولة الوطنية، وإقامة المجتمع الحديث، وبداية عصر قوميات جديد في آسيا وأفريقيا، وبداية الصحوة الإسلامية لتستأنف مسيرة القومية العربية، وبداية الدولة الفلسطينية، وبداية التعلم من تجارب العرب منذ فجر النهضة في القرن الماضي حتى هذا القرن، وبداية مرحلة جديدة من التعاون العربي بين العرب وأنفسهم، وبين العرب ودول الجوار، إيران وتركيا، إندونيسيا والملايو، والجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا.

إن مهمة مراكز أبحاثنا وأجهزة إعلامنا ليس شرح «نهاية التاريخ»، بل إبداع «بداية التاريخ»؛ وذلك يتطلب الثقة بالنفس، والخروج من دائرة التبعية الفكرية للآخر، والقضاء على الإحساس بالنقص النظري عندنا، والتفوق النظري للآخر.

لا توجد نهاية مطلقة لشيء، إنما النهاية لشيء هي البداية لشيء آخر، فإذا ما أعلن الغرب نهاية التاريخ فلماذا لا يُعلِن العرب بداية التاريخ؟ ولا توجد حضارة واحدة هي التي تُحدِّد النهاية أو البداية لكل الحضارات والشعوب، فهذا أحد أشكال الهيمنة. إنما التاريخ مُتعدِّد المسارات بتعدُّد الحضارات.

إنها مسئولية العرب: هل يعلن الغرب نهاية التاريخ له ولغيره؟ أم يعلنون هم أنفسهم بداية التاريخ لهم دون غيرهم؟

(٧) الحضارات، صدام أم حوار؟٧

كما أفرز الغرب إعلان «نهاية التاريخ» مؤصِّلًا سقوط الشيوعية واستمرار الرأسمالية، فإنه أعلن أيضًا «صدام الحضارات» مشرِّعًا لهجوم الغرب على الحركات الإسلامية مباشرة، أو من خلال نُظم الحكم القائمة. وكالعادة، انبرى المثقفون والمحلِّلون العرب شرح النظرية الثانية والتعليق عليها والدوران في فلكها بين قابل ورافض؛ حتى يظل زمام المبادرة التاريخية والثقافية في يد الغرب؛ فالمركز هو المركز، والأطراف هي الأطراف.

لقد أقرَّ الغرب بهذا الإعلان الثاني ما كان يمارسه بالفعل في الشعوب المستعمَرة قديمًا، وما زال يمارسه في الشعوب المتحررة حديثًا. لقد حاولت فرنسا القضاء على الثقافة واللغة العربية في الجزائر منذ القرن الماضي، ثم في تونس والمغرب في بدايات هذا القرن. كما حاولته إنجلترا مع الهند، حتى أصبحت اللغة الإنجليزية أو تكاد لغةً وطنية بدعوى توحيد الهند. وانتشرت مراكز الثقافة الأجنبية في كل البلاد العربية لتنشر ثقافاتها في موازاة الثقافات الوطنية، ثم منافِسةً لها، ثم بديلًا عنها على الأقل عند قطاعات كبيرة من النخبة خاصةً في لبنان. وانتشرت في البلاد العربية حركات تدعو إلى الفرانكفونية أو الأنجلوفونية، متصارعتين أو متعاونتين من أجل شق الثقافة الوطنية.

وبالإضافة إلى هذا الإعلان الشرعي للممارسات العملية انشغلت الثقافة العربية وكأن المعارك السياسية والاقتصادية ما هي إلا تعبير عن صدام الحضارات؛ فتوارت عن الأنظار، ممَّا يُحقِّق الهدف الثاني لإعلان صِدام الحضارات، وهو تهميش الاهتمام بالشركات العابرة للقارات، والرأسمالية العالمية، والاقتصاد الحر، وقوانين السوق، وشروط البنك الدولي، وصندوق النقد، والزيادة في نفقات التسليح والتجارب النووية. والعرب مولَعون بالثقافة، ويسيرون في الخصخصة، ويُهرولون في السياسة، وراضون بالاعتماد في الغذاء والسلاح على الأجنبي.

والسؤال هو: هل صحيح أن الحضارات في صدام؟ وماذا يعني حوار الحضارات إذن؟ وكيف يبقى الصدام في عالم تنتهي فيه الصراعات ويعمُّ فيه السلام؟ وهل تنفصل المعارك الثقافية والحضارية عن المعارك السياسية والاقتصادية؟

لم يعرف العرب في ماضيهم صدام الحضارات. كانت شبه الجزيرة العربية فضاءً مفتوحًا للثقافات المجاورة، اليهودية والنصرانية والفارسية والحبشية، وكانت التعددية الثقافية أمرًا طبيعيًّا يمارسه العرب دون صِدام بين هذه الثقافة أو تلك. وكانت الثقافة العربية المحلية قاسمًا مشتركًا بين الثقافات الوافدة تُوحِّد بينها على مستوى الرؤية والواقع، في اللغة والتصور والعادات والأعراف.

واستمرَّ الحال كذلك بعد ظهور الإسلام، وعبَّر القرآن عن أعلى مستوًى من مستويات الحوار في عرض الديانات الأخرى وحجج أصحابها والرد عليها، بل وقَبول بعضها من اليهودية والحنيفية؛ فالقرآن أتى مصدِّقًا للكتب السابقة ومهيمنًا عليها؛ أي مكملًا لها.

وفي عصر المأمون، وبعد تأسيس ديوان الحكمة، بدأت ترجمة تراث القدماء، يونان وفارس والهند، دون خوف أو تهيُّب أو عُزلة أو رفض أو تكفير. كان الإسلام منتصرًا، وكانت جيوشه قد فتحت العالم القديم كله من المغرب والأندلس حتى خراسان، في أوروبا وأفريقيا وآسيا، وقام بذلك نصارى الشام ورهبانه الذين كانوا نصارى دينًا وعربًا لغةً وثقافة. وقامت أكبر عملية ترجمة في العصر القديم للتراث اليوناني والفارسي والهندي. ثم بدأت عمليات التعليق والشرح والتلخيص، ثم العرض والتأليف، ثم الإبداع. تم ذلك كله في حوار خصب مع الثقافات القديمة. ولم تُعظِّم حضارة حضارات أخرى كما عظَّمت الحضارة الإسلامية الناشئة الحضارات اليونانية والفارسية والهندية؛ فأرسطو هو المعلم الأول، وجالينوس فاضل القدماء والمتأخرين، وسقراط أحكم البشر، وأفلاطون صاحب الأيدِ والنور. الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية أختان رضيعتان، متفقتان بالطبع، متحابتان بالغريزة. الدين والفلسفة متفقان في الغاية، طلب الحكمة، وإن اختلفا في الوسيلة، الوحي والعقل. ولكن الوحي والعقل متفقان من حيث الغاية والهدف، إسعاد البشر. معرفة الثقافات الأخرى والحوار معها واجب ديني، طلب العلم ولو في الصين، والمسلم يأخذ الحكمة حتى ولو كانت من الأمم القاصية عنه كما قال الكندي. ولا ينشأ الصراع بين الفلسفة والدين إلا من أجل مصالح شخصية وصراع على السلطة والمنصب.

بل تم تأسيس علم المذاهب والفرق، وهو ما يُعادل تاريخ الأديان المقارن والحضارات المقارنة لمعرفة أوجه الاختلاف والاتفاق بين ديانات الشعوب وثقافاتهم. ويبدأ بعرض الفرق غير الإسلامية قبل الفرق الإسلامية تقديرًا لثقافات الشعوب، وحوارًا معها، وتطبيقًا للتوجه القرآني لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ أو آية المباهلة قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ.

وفي مرحلة تالية، وفي لقاء ثانٍ بين الإسلام والغرب أثناء الحروب الصليبية كان الإسلام في موضع قوة بعد انتصار صلاح الدين. وكان الغرب في موضع ضعف على المستوى الاقتصادي والسياسي والعمراني، وأيضًا على المستوى العلمي والثقافي. بدأ حوار جديد بين الثقافة العربية الإسلامية بعد أن تمت ترجمتها إلى اللاتينية مباشرةً أو عبر العبرية وبين الثقافة الغربية في العصر الوسيط المتأخر وحتى قُبيل عصر النهضة. بدأه معظم الفلاسفة والعلماء وعادته الكنيسة؛ لأنه كان يمثِّل خطرًا على العقائد الكنسية، أسرارها وسلطتها واحتكارها. وتعلَّم الغرب العقلانية وإعمال العقل في النص وفي فهم العقيدة، كما تعلَّم العلوم الطبيعية التجريبية والمنهج العلمي لمعرفة الظواهر واكتشاف قوانينها، كما تعلَّم أساليب العمران وتخطيط المدن بعد عودة الصليبيين. وكان من نتيجة هذا الحوار الحضاري النهضة الأوروبية الحديثة في القرن السادس عشر.

ولما بدأ الغرب الاستعماري الحديث منذ ما أطلق عليه «الكشوف الجغرافية» في القرن الخامس عشر وبعد سقوط الأندلس، ورغبة الغرب في الالتفاف حول العالم القديم بحرًا بعد أن فشل في الاستيلاء عليه برًّا أثناء الحروب الصليبية في أخذ مكان الصدارة في العالم، بدأ ينشر حضارته من منطلَق قوة. وبدلًا من الحوار مع حضارات الشعوب التي تم غزوها في أفريقيا وآسيا وأمريكا بدأ يستأصل هذه الثقافات والقضاء على هذه الشعوب طمعًا في أراضيها وثرواتها وأخذ سكانها عبيدًا لبناء حضارته وشق طرقه وإقامة صناعاته وبناء عمرانه. وبدأت أكبر عملية سلب في تاريخ الشعوب والثقافات، كل شيء يتحول من الأطراف إلى المركز؛ فالعلاقة بينهما علاقة صراع وتضاد، وليست علاقة حوار وتفاهم مشترك.

وبدأ التبشير يتصدى أيضًا لثقافات الشعوب ودياناتها من أجل القضاء عليها باسم التنصير كمقدمة ثقافية وحضارية لاستتباب الاستعمار السياسي والاقتصادي، وتحول صراع الحضارات إلى قضاء حضارة المركز على حضارات الأطراف. فإذا استطاع حوَّل ما تبقَّى منها إلى المتاحف لتاريخ الإنسان والشعوب البدائية. وأسس لذلك علومًا جديدة، الأنثروبولوجيا، والإثنولوجيا، والإثنوجغرافيا. بل وقام بتبرير هذا الصراع بنظريات في التبادل الثقافي أو التفاعل الثقافي أو التداخل الثقافي. وهي في الحقيقة غطاء نظري لمحو ثقافة المركز لثقافات الأطراف والقضاء عليها.

وقد ساعد على ذلك ارتقاء الغرب الحديث إلى مركز الصدارة، واستنفار مركزيته الرومانية القديمة، واستثارة عنصريته الدفينة، وبُعثت فيه الرومانية القديمة. وبالرغم من انتشار المسيحية فوقه إلا أنها ظلَّت على السطح، ولم تدخل إلى القلب؛ فغلبت عليه المادية وتصوَّر العالمَ كسوق يقوم على الربح والتنافس بل والصراع، وانعكس ذلك في الثقافة، فأصبحت أحد عناصر هذا الصراع.

ونظرًا للانتصارات العلمية التي أنجزها الغرب الحديث، ونظرًا لإقامته المجتمع المدني الذي يتأسس على الحرية والديمقراطية والقانون والعقد الاجتماعي، ففيه أيضًا قد تم إعلان حقوق الإنسان والمواطن، ووُضعت أسس التنوير. أصبح الغرب نموذجًا للحضارة العالمية ومقياس تقدم البشر، فنشأت امتدادات لها في ثقافات الأطراف فيما عُرف باسم «التغريب»، وكلما ازداد التغريب قوي الدفاع عن الثقافات المحلية، وكلما اشتد هجوم ثقافة المركز على ثقافات الأطراف تشويهًا لها في أجهزة الإعلام والكتب المدرسية بدأ الصراع معها ونقدها للتخلص من آثارها.

وهذا هو الذي يفسِّر عداء الحركة الإسلامية المشروع لثقافة الغرب، رفضًا للتغريب ودفاعًا عن الهُوية والثقافة الإسلامية التي أصبحت الرافد الرئيسي في الثقافة الوطنية. وفي هذه الحالة، ثقافة الغرب الحديث مع الثقافات الوطنية، ينشأ صدام الحضارات.

ينشأ صدام الحضارات إذن عندما تأخذ حضارة واحدة صفة الحضارة العالمية، وتجعل نفسها معيار كل الحضارات، وتنفي عن نفسها الطابع التاريخي الصرف وكأنها الحضارة الحق، وكل ما سواها من الحضارات، محلية، تاريخية، لا عقلانية سحرية، خرافية، بدائية، متخلفة، دينية، رجعية، أسطورية إلى آخر هذه السمات التي أُطلقت على الثقافات في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وهي حالة فريدة من نوعها في تاريخ الحضارات؛ فالصراع مفروض من طرف على طرف، من المركز على الأطراف.

وينشأ حوار الحضارات عندما تكون الحضارات المتحاورة على مستوى الندية تأخذ وتعطي، تتفاعل وتتبادل الألفاظ والتصورات، ولا يكون الهدف من ذلك السيطرةَ لإحداها على الأخرى، وإعطاء المشروعية أو التمهيد للهيمنة الاقتصادية والسياسية. والحضارة الإسلامية عبر التاريخ كانت نموذجًا لهذا الحوار.

والحوار بين الحضارات حوار بين الداخل والخارج، ولا يتم إلا بحوار الداخل مع الداخل؛ أي عندما تكون الحضارة نفسها قائمةً على حوار داخلي بين تياراتها الفكرية المختلفة دون استقصاء واستبعاد، ودون تكفير أو تخوين. فالحوار أسلوب في التعامل مع النفس أولًا قبل أن يكون أسلوبًا في التعامل مع الآخر، وانفتاح على الداخل قبل أن يكون انفتاحًا على الخارج.

وشرطه عدم امتلاك الحقيقة مسبقًا، وقفل باب الاجتهاد، وتمثُّل قول الشافعي: أنا على صواب وقد أكون على خطأ، وأنت على خطأ وقد تكون على صواب. وذلك يستلزم عدم التعصب للرأي، وعدم تحكيم أهواء النفس وانفعالات البشر، مع قدرة على مجاهدة النفس من أجل الاقتراب من الآخر.

وشرطه أيضًا تجاوز الألفاظ والتصورات والاعتقادات إلى الأفعال؛ فخير حوار هو الحوار العقلي، والتنافس على الخير لتحقيق مصلحة عامة وهدف مشترك. لا يكون الحوار نظريًّا، لغويًّا، عقائديًّا، تاريخيًّا فيما مضى من أحداث، بل يكون عمليًّا، نفعيًّا، مستقبليًّا، في التحديات المشتركة بين المتحاورين.

صراع الحضارات طارئ، يظهر فقط في حالة الهيمنة لحضارة على أخرى. وحوار الحضارات هو الدائم. الصراع وقتي ريثما يتم التحرر من الثقافة المسيطرة، والحوار مستمر من أجل الإثراء المتبادل، وهو ما قصدته الآية الكريمة يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.

١  البيان ١٤ / ١٢ / ١٩٩٥م.
٢  البيان ٢٥ / ١٢ / ١٩٩٥م.
٣  البيان ٨ / ١ / ١٩٩٦م.
٤  البيان ١ / ١ / ١٩٩٦م.
٥  البيان ٢٢ / ١ / ١٩٩٦م.
٦  البيان ٥ / ٢ / ١٩٩٦م.
٧  البيان ١٢ / ٢ / ١٩٩٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥