صحوة مصر
(١) صحوة مصر١
دبَّت الحياة في مصر والعرب من جديد، وعاد الأمل إلى القلوب، وظهرت الحميَّة، وعاد القلب يضخ الدم إلى الأطراف بعد ركود طويل، وبان للناس وللعالم أن الظاهر خادع، وأن الباطن هو الحقيقة، وأن فوق المياه الراكدة هناك المياه الجوفية التي ما زالت تسري وتتحرك.
منذ اختفاء عبد الناصر في سبتمبر ١٩٧٠م، وبعد حرب الاستنزاف في ١٩٦٩م واستمرار روحه في حرب أكتوبر ١٩٧٣م بعد أن أعاد بناء الجيش، وتمسَّك بمبادئ القضية «إزالة آثار العدوان»، ورفع شعارات «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة»، «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، «نُسالم من يسالمنا ونُعادي من يعادينا»، «الضفة قبل سيناء»، رُفعت شعارات أخرى تكشف عن تعب مصر وإرهاقها مثل «حرب أكتوبر آخر الحروب»، «السلام طريق الرخاء». وتحوَّل ذلك إلى سياسات فعلية في الانفتاح الاقتصادي، والخصخصة، واقتصاد السوق.
ارتكنت مصر إلى الجسد المرهق، وأعطت الأولوية للاقتصاد على السياسة في آخر ربع قرن، تُعيد بناء أبنيتها التحتية: المياه، والصرف الصحي، والكهرباء، وشبكة الاتصالات، والطرق، وبناء المدن الجديدة، جلبًا للاستثمار؛ فقد أصبحت مصر آخر بلاد العرب من حيث الخدمات، وقد كانت أولها في الاستقلال والصناعة والزراعة والتعليم والثقافة. عكفت على إبراء البدن فاعتلت الروح، واتجهت إلى الخبز فافتقدت الحرية، وانطوت على النفس فتبعثر الغير.
وكانت النتيجة أن ترهل الجسد، وضعفت الأعضاء من قلة الحركة ودوام السكون؛ فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. وأصبح جمل الصحراء باركًا لا يستثيره صاحبه على النهوض لأنه فقد الرؤية باتساع الأفق، ولم ير الرُّبان إلا سفينةً في بحر مترامي الأطراف. ضاع الخيال العربي لصالح حسابات السوق، وغاب الشعر العربي لصالح مساومات التجار.
ونشأ شرخ في جدار مصر، أعقبه شرخ آخر في جدار العرب. ضاعت الرسالة، رسالة مصر مع نفسها، وحدتها وتواصلها عبر آلاف السنين، ورسالتها مع غيرها في محيطها العربي. والرسالة هي الروح الذي يسري في بدن التاريخ، هي النبض الذي يدل على حياة الجسد. وأدَّى شعار «مصر أولًا» إلى «مصر آخرًا». وغابت القضية، وانعكس ذلك على كل مظاهر الحياة العامة في مصر خاصةً على الشباب والحياة الوطنية. وتساءل الجميع: ما القضية؟ أين القضية؟ وأُصيب أصحاب القضية من الجيل السابق، جيل الأربعينيات والخمسينيات والستينيات بالغم، وحملوا الهم، وأُصيب شعراؤهم وفنانوهم بالأزمات القلبية، وماذا يُفيد الجسدُ إذا ما ضاعت الروح؟ وكيف تسير الحياة بلا قضية؟!
أُصيبت مصر بالتفتُّت في الداخل وبالعزلة في الخارج، وتحوَّل الشباب إلى الجنس والمخدرات منطويًا على نفسه إن استعصت الهجرة إلى الخارج، وأين الهجرة بعد حرب الخليج، وحصار العراق، وتقلُّب ليبيا، وحرق الأتراك بألمانيا، وصعود العنصرية الغربية لتطهير أوروبا من العرب وإعادتهم إلى بلادهم؛ تطهير الشمال من غزو الجنوب؟! وبدأت إسرائيل في النَّيل من شباب مصر عن طريق تجارة الجنس والمخدرات وفتح أبواب الرزق لهجرات مصرية تحل محل العمالة الفلسطينية، وتتساوى مع المهاجرين؛ الروسي والفلاشا والعمالة الآسيوية القادمة. ولجأ البعض إلى الدين وجماعات العنف يجد فيه مهربًا وملاذًا ليتحول من العدم إلى الوجود، ومن البطالة إلى العمل، ومن التهميش الاجتماعي إلى إمارة العالم، ومن الكفر بالمجتمع إلى الإيمان بالحاكمية. وتزداد الأمراض الاجتماعية يومًا وراء يوم. غابت القضية العامة وحضرت المنافع الخاصة، فاستشرى الفساد والإثراء السريع وتهريب الأموال، واجتمعت السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية في الحزب الحاكم، وحوصرت النقابات، وزُيِّفت الانتخابات حتى أُصيب الجميع بالإحباط.
وتراكمت الديون الخارجية وأصبحت تُعادِل أموال مصر المهرَّبة إلى الخارج، وقلَّ الاستثمار العربي، وزاد الأجنبي، حرًّا في التعامل، ومُعفًى من الضرائب. استقرار في الظاهر، وقلق في الباطن، سكون على السطح وغليان في العمق. والكل يترقب متى الانفجار، ومتى عودة الروح. ووقع الفصام بين الماضي والحاضر، وبدأت الحسرة تعم الجميع، والكل يشعر بالأسى لِمَا حدث لجمل الصحراء ولأحفاد رمسيس، ولجنود صلاح الدين، ولخلفاء محمد علي، وأجيال عبد الناصر.
وامتُهنت كرامة مصر والعرب: ضربُ المفاعل النووي في العراق، غزوُ جنوب لبنان وحصارُ بيروت، خطفُ الطائرة المصرية، ضربُ مركز المقاومة الفلسطينية في تونس، اغتيالُ أبو جهاد، حصار العراق وتجويع شعبه، حصار ليبيا بمجرد الشبهات، حصار السودان، تهديد إيران، الحلف الإسرائيلي التركي، ومذبحة قانا، والقائمة تطول.
ومع امتهان الكرامة جاء ارتهان الإرادة، وعجز مصر عن التململ أو المعارضة أو الوقوف في مواجهة الضغوط الخارجية من البنك الدولي وصندوق النقد، يشهر باستمرار في وجهها سلاح القمح والتجويع من أجل مزيد من التركيع. كان المقصود إجهاض روح مصر في الداخل وعزلها عن محيطها العربي في الخارج، تفتيتها في الداخل وتذويبها في الخارج، تجفيف منابعها في الداخل حتى يقف الضخ في الخارج.
وجاءت صحوة مصر بفضل التحدي الخارجي وتعاظم الخطر على الأرض والسلام معًا. حتى الكثير الذي تنازل عنه العرب والقليل الذي أخذوه لم يعد مقبولًا. ليست الأرض في مقابل السلام، بل الأمن في مقابل السلام، فيخسر العرب، وتحصل إسرائيل على كل شيء، واستُنهضت مصر الراقدة، ودبَّت الحياة فيها، وتسارع النبض حتى فاقت وجمعت من حولها، تبحث عن نفسها ويجدها الآخرون.
عاد الأطراف إلى القلب، في تآزر حركي طبيعي، وتآلف الأجزاء في كل واحد، في مصالحة تاريخية بعد خصومات وقتية صغيرة محدودة الأفق؛ فالخطر الأقل يتوارى أمام الخطر الأعظم، وما أسرع التآلف والصب في تيار أدنى؛ الحد الأدنى من الحق العربي، والكرامة العربية، والصمود العربي، وبدلًا من السخرية بأن العرب اتفقوا على ألَّا يتفقوا، اتفق العرب على أن يتفقوا؛ ففلسطين أمانة في عنق التاريخ، والقدس أمانة في عنق العرب.
آثرت مصر العودة إلى مكانها الطبيعي، مركز الثقل للعرب، وأن لا بديل عن الخارج في الداخل، ولا حليف خارجي، أمريكي إسرائيلي، بديل عن حليف عربي حتى ولو كان ذلك السودان أو العراق؛ فالتناقض الجزئي للأنظمة السياسية يتوارى أمام التناقض الكلي في الوجود والمصير. ونَبَضَ في قلوب السامعين من جديد بعض الأغاني الوطنية في الستينيات ذكَّرت العرب بماضيهم القريب عندما كانوا يملئون الدنيا تحررًا ووحدة وتنمية، واحتجَّت إسرائيل على مجرد إذاعة نشيد «وطني حبيبي الوطن الأكبر»، واعتبرته من تراث الحروب بعد أن تعوَّدت على التعامل مع الأوطان الصغرى، تلتهم الواحد تلو الآخر، ولم يبقَ إلا سوريا ولبنان.
وتمسَّكت مصر باستقلالها الوطني، وحقها في الدفاع عن نفسها وبجوارها ترسانة من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل والصواريخ المتعددة الرءوس والأحلاف العسكرية الجديدة لحصار العالم العربي من الشمال بعد حصاره من الشرق بحصار العراق، وحصاره من الغرب بحصار ليبيا، وحصاره من الجنوب بحصار السودان، ورفضت أن تبيع تاريخها، وأن تتنازل عن دورها مقايضةً مع مناطق حرة واستثمار مشترك مع إسرائيل؛ فقد تعوَّدت إسرائيل على الصفقات الفردية، وتناول العرب الطعم حتى نسدَّ الحلق.
إن صحوة مصر قادرة على أن تعيد للوطن العربي استقلاله ووحدته، وأن تعيد إليه قطبه المستقل ليكون القطب الثاني في عالم أحادي القطب أو هكذا ظن. وفي الوقت الذي تعود فيه روسيا بحلف مشترك مع الصين حتى ينشأ قطب ثانٍ في مواجهة القطب الأول، تعود مصر في قلب الوطن العربي حتى تتعدد الأقطاب، وينتهي هذا الماضي القريب عندما استأسد بالعالم قطب واحد.
وسيظل التركيز على المنطقة العربية بالإجهاض من الداخل والحصار من الخارج حتى تصبح إسرائيل المتحدث الأول فيها، وترث القومية العربية، وتعيد إحياء الأحلاف مع تركيا لخلق دولة كبرى في المنطقة تستولي على ما تبقى من الخلافة العثمانية تحت اسم جديد: الحلف الأمريكي الإسرائيلي التركي. ولكن صحوة مصر قادرة على أن تعيد الموازين، وتقلب المخططات كما فعلته من قبلُ في العهد الناصري المجيد، وإسقاط حلف بغداد والحلف الإسلامي.
إن صحوة مصر كما بدت في مؤتمر القاهرة وفي التعامل مع أمريكا وإسرائيل بعده ليست صحوةً مؤقتة هذه المرة، بل صحوة دائمة؛ فمصر عائدة بعد أن كانت ذاهبة، قادمة بعد أن كانت مولية. وكما جمعت صحوة مصر العرب فإنها قادرة أيضًا على أن تجمع المصريين بدايةً بالدفاع عن حرية الصحافة وانتصار نقابة الصحفيين. إن مصالحة مصر مع نفسها تسبق مصالحتها مع الغير، وتنعكس الصحوة في الداخل عن طريق الحوار الوطني بين مختلِف القوى السياسية والتيارات الفكرية في البلاد، وتكوين الجبهة الوطنية المتحدة. الحرية للجميع، والحوار الديمقراطي هو القادر على تجنيد الناس وتوحيد القوى بلا استبعاد أو استقصاء. ولأول مرة في تاريخ مصر الحديث ومنذ حرب أكتوبر ١٩٧٣م تقف المعارضة في صف واحد مع الدولة تشد أزرها في صحوتها لتجميع العرب.
وهنا يأتي الدور الإيجابي للحركة الإسلامية التي تُعتبر أزهى نقطة في تاريخ نضال العرب الحديث في جنوب لبنان وفي فلسطين؛ فالحركة الإسلامية ليست كلها شرًّا، وإن لم تستطع أجهزة الأمن القضاء عليها في الداخل فإن الدولة قادرة على الدخول في مصالحة تاريخية معها لمواجهة الأخطار في الخارج. الحركة الإسلامية حاليًّا في السبعينيات والثمانينيات استمرار للحركة الوطنية في الخمسينيات والستينيات بعد أن توقفت وربما انتكصت وتراجعت.
إن صحوة مصر كانت منتظرة، إنما الذي غاب هو عود الثقاب الذي يشعلها. المهم أن تتعلم مصر الدرس القريب من أجل الرؤية البعيدة؛ فقد خسرت مصر والعرب منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣م حتى الآن من الثروة والكرامة ما كانت قد كسبته من قبل، وابتلعت حرب الخليج الثانية ما تبقى من ثروة العرب وكرامتهم.
لقد كشف اليمين الإسرائيلي قولًا وفعلًا ما مارسه اليسار الإسرائيلي فعلًا لا قولًا، وكما بدا ذلك في مذبحة قانا، وعبَّر عن لاءاته الثلاث: لا للانسحاب من الأرض، ولا للانسحاب من القدس، ولا لتجميد المستوطنات. تستثير لاءات العرب الأولى: لا صلح، ولا مفاوضة، ولا اعتراف، ويعود الأمر كله إلى مرحلة الصفر.
لقد صحت أم الدنيا، مصر المحروسة، مصر المحمية؛ فجُندها خير أجناد الأرض، وشعبها مرابط إلى يوم القيامة، لقد بدأت مصر نهضتها منذ القرن الماضي وشاخت في نهاية هذا القرن، وتصحو من جديد على مشارف القرن القادم في دورة أبدية بين الغيبة والحضور. حينئذ، قد لا تكون حرب أكتوبر فقط آخر الحروب بل قد تكون أيضًا أول الانتصارات.
(٢) مركزية مصر٢
انعقد مؤتمر القاهرة الاقتصادي الأخير بعد تردد مصر كنوع من الضغط على إسرائيل للاستمرار في عملية السلام والالتزام بما تم الاتفاق عليه من أوسلو ومدريد والقاهرة؛ فالاتفاقات بين الدول وليست بين النظم السياسية، وبين حكومات شرعية وليست بين أحزاب، تتغير بتغيرها. ثم رأت مصر لأسباب خارجية وداخلية، دولية ومحلية عقده من أجل حصار إسرائيل سياسيًّا بعد أن تحوَّل الرأي العالمي ضدها؛ المجموعة الأوروبية، وروسيا الراعي الثاني، وقطاع كبير من الرأي العام الأمريكي على غير ما يبدو، عام انتخابات الرياسة واستجداء أصوات اليهود والمزايدة عليها من المرشحَين الجمهوري والديمقراطي.
لقد تعلَّمت مصر من المؤتمرين السابقين في الدار البيضاء وعمان حيث حاولت إسرائيل أن تكون مركز التنمية الجديد في الشرق الأوسط؛ فالبنك المركزي للاستثمار فيها، والأموال الأجنبية خاصةً الأمريكية والأموال العربية تنهمر عليها، والتخطيط الاقتصادي وعقود الشركات يتم أيضًا فيها؛ فقد بقي العرب منذ تأسيس الجامعة العربية لا يزيد حجم التبادل بينهم على ٥٪ من مجموع التجارة الخارجية العربية، وها هي إسرائيل تحقِّق ما لم يحقِّقه العرب، في جذب رءوس الأموال الأجنبية والعربية إلى المنطقة والمساهمة في تحقيق السوق العربية المشتركة عبرها، وهو ما لم يحقِّقه العرب بأنفسهم طوال نصف قرن.
وإذا كانت مصر قد تم تهميشها سياسيًّا لحساب الولايات المتحدة وأوروبا، فإنه أيضًا يمكن تهميشها اقتصاديًّا في الدار البيضاء وعمان تحقيقًا لنبوءة كسنجر عندما عاتبته جولدا مايير أنه لا يقدِّم لإسرائيل، وهو اليهودي، مثل ما يقدِّمه لمصر ولصديقه السادات، وحين قال: «أنتِ لا تعلمين يا سيدتي مدى الخدمة التي أسديتها لإسرائيل: لقد أخرجت مصر من المعركة.»
واستيقظت مصر في المؤتمر الاقتصادي في القاهرة، وأرادت إدارة الدفة من مركزية إسرائيل إلى مركزية مصر، من الدار البيضاء وعمان إلى القاهرة لتحقيق هدفين: الأول كشف إسرائيل أمام العالم بأنها تريد الاقتصاد دون السياسة، والتعاون الاقتصادي قبل تحقيق السلام والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في سوريا ولبنان وفلسطين، محقِّقةً بذلك هدف سوريا ولبنان من مقاطعة المؤتمر الاقتصادي بالقاهرة. والثاني جذب الاستثمار ورءوس الأموال الأجنبية إلى مصر، وبيان نجاح إجراءات الإصلاح الاقتصادي وإمكانية الاستثمار المشترك في مصر حيث الضمانات الكافية والتسهيلات المقدَّمة بالنسبة لامتلاك الأراضي والإعفاء من الضرائب، ومساهمة من مصر في إيجاد فرص للعمالة المصرية في الداخل بعد أن تعثَّر سوق العمالة في الخارج في الخليج والعراق وليبيا والأردن، وانغلاق شبه كلي للعمالة المصرية خارج المنطقة العربية أمام العمالة المغاربية والآسيوية والأفريقية.
وقد قدَّمت مصر مئات المشروعات، ونجحت في عقد أول صفقة لمد أنابيب الغاز مع تركيا، وقدَّمت مشروع الدلتا الجديدة في جنوب الوادي في الصحراء الغربية لخلق وادٍ جديد موازٍ للوادي القديم وربط الواحات الخمس بعد سريان الماء في مفيض توشكا؛ فلا حلَّ أمام الانفجار السكاني في مصر إلا الاندفاع نحو الصحراء الغربية في وادي الواحات الجديد، والصحراء الشرقية؛ لربط البحر الأحمر بالوادي القديم، ونحو سيناء بمد مياه النيل إليها في الشمال والجنوب حتى لا تكون سيناء فقط مقبرةً للغزاة من الشمال الشرقي منذ الهكسوس حتى إسرائيل بل تجمُّعًا سكانيًّا جديدًا، يد تزرع ويد تحمل السلاح. موشاف في النقب في مواجهة مصر، ومزارع جماعية يقوم بها فلاحو مصر من جيش مصر في مواجهة النقب.
وتم حصار إسرائيل سياسيًّا، فلا أحد من ممثلي الدول يرى أن الاقتصاد يأتي قبل السياسة ومنفصلًا عنها؛ فرأس المال لا يأتي والحرب على الأبواب، والبناء لا يتم والهدم والدمار قادم. وقد لاقت كلمة ممثل المجموعة الأوروبية وممثل فلسطين إجماع الجميع على أنه لا تنمية اقتصادية قبل تحقيق السلام. وحوصرت إسرائيل اقتصاديًّا حتى من داخلها؛ فرأس المال الإسرائيلي يريد الربح، واليمين الإسرائيلي يريد الأرض ولو بالحرب؛ فشبَّ الصراع بين رجال الاقتصاد ورجال السياسة، بين يهود المعبد الذين حوَّلوا معبد الرب إلى سوق — كما يقول السيد المسيح — وبين يهود الاستيطان.
وتم حصار إسرائيل عربيًّا ودوليًّا؛ فالوفود العربية لا تتحمَّس لملاقاة الوفد الإسرائيلي، وتدير الظهور له. والوفود الأوروبية تربط بين السلام والتنمية، بين السياسة والاقتصاد. باتت إسرائيل مرهونةً لليمين والتطرف والحرب، وعمَّت الشائعات بانسحاب وفد إسرائيل ووزير خارجيتها بعد أن كان مترددًا من قبلُ في الحضور، فليس لديه ما يقال أو ما يقدِّم، والعالم يتغير إلا في إسرائيل، والعنصرية تنتهي من جنوب أفريقيا إلا في إسرائيل، والعالم قرية واحدة إلا في إسرائيل، قريتها العالم، والعالم قريتها.
وظهر تهافت المشاريع البديلة عن القومية العربية والوحدة العربية أو التضامن العربي واللجان العربية المشتركة بين الحد الأقصى والحد الأدنى، مشاريع الشرق أوسطية وإسرائيل مركزها، والمتوسطية وأوروبا مركزها؛ فالشرق أوسطية الهدف منها هو إدخال إسرائيل في المنطقة كمركز له وأداة لتحديثه لنهبه والاستيلاء على ثروته وأسواقه ثم عقله وقلبه وصهينته باسم الاقتصاد، والجسد الضعيف، وهل لا يستطيع العرب التعاون بينهم دون مركزية إسرائيل؟ ألَا يستطيع العرب التجارة والتنمية فيما بينهم دون المرور بالمركز الجديد؟ وهل يمكن اختفاء ألفاظ العرب وتعبيرات الوطن العربي، العالم العربي، المنطقة العربية، الأمة العربية، القومية العربية، الوحدة العربية لحساب ألفاظ أخرى مثل الشرق الأوسط وكأن قيمة العرب هي أنهم وسط بين الشرق والغرب يتنازعان عليه كما كان الحال أيام الاستقطاب الثنائي والحرب الباردة؟ هل الشرق الأدنى، هذا المفهوم الاستعماري البريطاني، أدنى بالنسبة إلى بريطانيا، والشرق الأقصى، هذا المفهوم الاستعماري الآخر، أقصى بالنسبة إلى بريطانيا، ما زالا بديلين عن الأمة العربية التي تقيس مسافة وجودها بذاتها وليس ببعدها وقربها عن غيرها؟
ولا يختلف مفهوم المتوسطية عن الشرق أوسطية إلا بتوسيع دائرة المركز الجديد من إسرائيل إلى الغرب إلى العالم العربي كهامش للمركزين في ثلاث دوائر متداخلة: إسرائيل والبحر الأبيض المتوسط ثم العرب في مقابل الدوائر الثلاث في حلم الستينيات أثناء الناصرية: مصر، والعالم العربي، والعالم الأفريقي الآسيوي، ومن وراء إسرائيل والغرب السوق العالمية. فيتم تهميش العرب بما في ذلك مصر اكتفاءً بدورها المتوسطي. ويا ليت المتوسطية تعني حوار الشمال والجنوب، شمال البحر الأبيض الأوروبي وجنوبه الأفريقي أو المشرق العربي في آسيا والمغرب العربي في أفريقيا؛ بل تعني سيادة إسرائيل على المتوسط؛ فهي الدولة النموذج في المدنية والتحديث. أقامها الغرب ورعتها أمريكا، وما زالت حلم هرتزل في أن تصبح قلعةً غربية متقدمة وسط العالم العربي، وحلم بريطانيا العظمى في فصل المشرق العربي عن مغربه، وعزل صحراء الشام عن صحراء سيناء، وتهديد حدود مصر الشرقية كما حاصرها الغرب من حدودها الشمالية، ويهددها من حدودها الجنوبية في مياه النيل ومنبعه في الحبشة.
لقد بدأت الأمور تعود إلى نصابها في مؤتمر القاهرة الاقتصادي، بعودة مصر إلى مركزيتها، وإمكانية العرب التعامل مباشرةً مع بعضهم البعض دون المرور بإسرائيل التي ما زالت تعتبر الوطن العربي مجالها الحيوي، أعطاها الله الأرض والشعب والمدينة والمعبد والنصر والغُنم تحقيقًا للوعد والعهد والميثاق. وطالما أن إسرائيل بؤرة للعدوان والتوسع فإنها ستظل هامشيةً في الوطن العربي مستبعدة منه، ملفوظة من وجدانه.
أرادت إسرائيل أن تكون وسيطًا بين العرب والعرب، وكأن العرب في حاجة إلى وساطة بينهم. وأرادت أن تكون عميلًا للبعض على حساب البعض الآخر، تأييدًا سياسيًّا له وتقويةً لنظامه في مقابل الاستثمارات المشتركة. وأرادت أن تكون وسيطًا وعميلًا للغرب، وجسرًا له إلى العرب، ثروةً وأسواقًا، وعقلًا ووجدانًا، كما تفعل إسرائيل ذلك في السياحة، زيارة مصر عبر إسرائيل، ومشاهدة سيناء بعد النقب. فتُتاجر بآثارنا، وتتاجر بثرواتنا وأسواقنا، ولها العمولة. فالتجارة شطارة، ولا أشطر من اليهود عبر التاريخ في الصفقات حتى ولو كانت مقايضة اللحم البشري بالمال كما فعل شيلوك، وكما صور شيكسبير في «تاجر البندقية». وبدل أن تكون إسرائيل عميلًا لنفسها تصبح عميلًا لغيرها؛ فالغير موجود لها لأنه ليس عليها في الأميين سبيل.
وقد يكون مؤتمر القاهرة الاقتصادي بدايةً لاكتشاف العرب لأنفسهم كما استردت مصر مركزيتها؛ إذ يمكن إحياء السوق العربية المشتركة وتنشيطها من خلال تنشيط مؤسسات الجامعة العربية وأجهزتها؛ ففي سكونها تنشط إسرائيل، وتقوم بدورها في إيجاد الترابط بين العرب، والحرص على المركز في مصر خير من التفريط فيه. كما حرصت مصر على ذلك برفضها الذهاب إلى مؤتمر واشنطن الأخير حتى لا تتخلى عن دورها السياسي لأمريكا، القوة الأعظم. مما أعطاها دفعًا لعدم التخلي عن دورها الاقتصادي لإسرائيل، القوة الأصغر. زحزحة مركزية مصر إلى مركزية إسرائيل فيه تهميش للعرب والمساومة على السياسة بالاقتصاد، وعلى العقول بالمال، وعلى الوجود بالوعود.
لقد استطاع مؤتمر القاهرة الاقتصادي إعطاء دفعة جديدة لإيقاف التطبيع، والهرولة إلى إسرائيل؛ فبعد أن حصلت إسرائيل على الاعتراف السياسي بها إثر معاهدات السلام بينها وبين مصر والأردن كانت في سبيل الحصول على الاعتراف الاقتصادي في بعض أقطار المغرب والخليج، وكما حدث الإجماع العربي في حده الأدنى في مؤتمر القمة العربي الأخير في القاهرة حدث الإجماع الاقتصادي في حده الأدنى، لا اقتصاد قبل السياسة، ولا تعاون قبل السلام، في مؤتمر القاهرة الاقتصادي.
وبرزت فلسطين على لسان وزير التنمية والتجارة الخارجية وهو يشرح معاناة شعب فلسطين الاقتصادية تحت الحصار والتجويع لتفريغ الضفة الغربية من شبابها العاطل واستبدال العمالة الآسيوية وربما العربية، خاصةً المصرية به. وكيف يتم التعاون الاقتصادي بالكلام وحصار شعب فلسطين اقتصاديًّا بالأفعال؟ ألَا يكفي لشعب فلسطين مأساته أنه لا يستطيع أن يعيش إلا بفتح حدوده الاقتصادية والبشرية مع إسرائيل، فيصبح هامشًا للمركز أكثر منه جزءًا من الأمة العربية واقتصادها، وفتح حدود فلسطين مع مصر في الجنوب والأردن والعراق في الشرق وسوريا ولبنان في الشمال أرضًا وأوروبا في الغرب بحرًا؟ وكيف يمكن المطالبة بالدولة الفلسطينية المستقلة إن كان اقتصادها مرتبطًا بإسرائيل إلى حد الاختناق إذا ما أغلقت الحدود معها؟ إن المسئولية ليست على عاتق إسرائيل، بل على عاتق العرب بترك الدولة الوليدة تفقد استقلالها السياسي بتبعيتها الاقتصادية لإسرائيل. ولولا أموال الفلسطينيين في الشتات وتحويلها إلى الداخل لزاد الاختناق إلى حشرجة الموت.
لقد لوَّحت إسرائيل بالحرب أخيرًا ضد لبنان في الجنوب وضد سوريا لإخراج نفسها من عزلتها في الداخل مع نصف شعب إسرائيل الذي يريد السلام بدلًا من الحرب، وفي الخارج مع أوروبا وروسيا ونصف المجتمع الأمريكي الذي سئم من مطالب إسرائيل الاقتصادية وتحميلها على الخزانة الأمريكية ودافعي الضرائب. تريد إسرائيل بالحرب خلق واقع جديد يمكن التفاوض عليه سنوات وسنوات، إيقاف القتال ونسيان الانسحاب من الخليل وباقي أراضي الضفة الغربية وجنوب لبنان والجولان والمفاوضات حول الحل النهائي ومستقبل الأراضي والقدس.
ولكن تصريحات مصر بالوقوف إلى جانب سوريا جعلت هذا الخيار الإسرائيلي صعب التحقيق؛ إذ ترتكب إسرائيل غلطة العمر بالتحول عن طريق السلام الهش إلى الحرب الساخنة حيث الخراب والدمار في منطقة مملوءة بالصواريخ البعيدة المدى وبأسلحة الدمار الشامل التي لا تعرف الحدود والمسافات الصغيرة؛ فمدن إسرائيل كلها تقع على مدى الصواريخ العربية كوقوع المدن العربية على مرمى الصواريخ الإسرائيلية، والإشعاع النووي والغاز والكيماويات يطول الجميع بتحرك الهواء بضعة كيلومترات.
كما لوحت إسرائيل بحكومة وحدة وطنية مع حزب العمل من أجل إيقاف المد اليميني الذي خلقته وإرهاب المستوطنين الفلسطينيين بالسلاح، وهو أيضًا احتمال بعيد للخلاف بين نهجين وتصورين لعملية السلام.
لم يبقَ لإسرائيل إلا الانتحار داخليًّا وخارجيًّا، تقتل نفسها بنفسها، وتهدم المعبد على كل من فيه كما فعل شمشون وكما وصف القرآن بأنهم يدمِّرون حصونهم بأيديهم بعدما ظنوا أنها مانعتهم من الموت. هكذا تنبأ بعض أنبيائها، تدمير الدولة لأنها قتلت الأنبياء، وعصت التوراة، وخرقت العهد والميثاق.
هذا ليس إغراقًا في التفاؤل العربي، إنما هو إحساس بالتاريخ، واستثمار للرصيد العربي من أجل حسن قيادة المعركة واستئناف النضال السياسي، والسياسة أيضًا هي في الحرب، وهي القدرة على الرؤية لمسار التاريخ.
(٣) الحالة الدينية في مصر (١)٣
صدر منذ عدة أشهر «تقرير الحالة الدينية في مصر» عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام أسوةً بالتقرير الاستراتيجي العربي الذي يصدر سنويًّا عن نفس المركز. هذا التقرير الجديد يركِّز على أحد أقسام التقرير القديم، الحركات الإسلامية وعلاقتها بالدولة وبالحياة السياسية العامة؛ فالتقرير الجديد تكبير لأحد أجزاء التقرير القديم وتسليط مزيد من الأوضاع على الحالة الدينية في مصر.
وقد قام بإعداد التقرير جيل جديد من الباحثين الشبان المتخصصين في العلوم السياسية بإشراف جيل متوسط وبإشراف عامٍّ للرعيل الأول. ويدل ذلك على تواصل الأجيال في ميدان البحث العلمي والقدرة على التواصل والاستمرار بجدية وعلم ومثابرة. يقدِّمون كل فترة اختراقًا جديدًا في أحد الميادين من أجل تأسيس المجتمع وترشيده على العلم الدقيق في عالم يعلم كل شيء ويجمع كل شيء، وتصدر فيه القرارات بعد دراسة شاملة ومعرفة دقيقة، دون ارتجال أو بناء على أهواء وأمزجة شخصية للقادة والزعماء.
وهذا العرض النقدي للتقرير من أجل تحسينه وإكماله في التقارير السنوية العادية مع احترام كامل لكافة الانتماءات السياسية للباحثين، ومع تقدير عظيم لحرية الفكر للعالم والمواطن الذي يجمع بين هموم الفكر وهموم الوطن، وقد تم عرض هذه الملاحظات النقدية في لقاء موسَّع تم في الإسكندرية بين الباحثين وبعض المتخصصين من أجل مناقشة علنية للتقرير بعد أن تعرَّضت إليه الصحف بالتحية أحيانًا وبالنقد أحيانًا أخرى.
وقد صدرت منه حتى الآن ثلاث طبعات في غضون شهرين، وتُعَد الطبعة الرابعة الآن، مما يدل على الاهتمام الواسع به، ورغبة الجمهور في معرفة «الحالة الدينية في مصر»، بعد أن أصبح الدين على المستويين المحلي والعالمي محور اهتمام رئيسي يحرِّك الجماهير، ويحدِّد سياسات الدول، ويدخل ضمن محددات العلاقات الدولية.
وأول ما يسترعي الانتباه هو العنوان «الحالة الدينية»، وكأن هناك حالةً دينية مستقلة عن الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، خاصةً وأننا نعيش في مجتمع لا يفرِّق بين الدين والحياة، بين الآخرة والدنيا. فاستقطاب الدين في العنوان انحياز للمفهوم الغربي الذي يفصل بين الدين والدنيا، ويعتبر الدين حالةً فردية، علاقةً خاصة بين الإنسان والله، طبقًا لتجربة الغرب الحديث في الفصل بين الدين والدولة منذ بدايات عصوره الحديثة.
ويزداد الأمر صعوبةً في سياق دولي عام ورؤية غربية للصراع العربي الإسرائيلي على أنه صراع ديني، ورؤية لإحدى مشكلات مصر بأنها صراع طائفي، وربما تصوُّر عام للمنطقة العربية وما بها من مِلل وأعراق، وطوائف وديانات في العراق وسوريا ولبنان ومصر والمغرب العربي والسودان، ومن ثم يصبح لإسرائيل شرعية وجود ديني؛ فهي دولة لليهود كما أن هناك دولًا للمسلمين، سنة وشيعة، وللأكراد وللدروز، وللعرب وللبربر، وللعلويين وللإباضية، وللشافعية وللزيدية.
ويزداد الأمر تعقيدًا بدخول الدين في العلاقات الدولية، واعتبار الإرهاب الديني هو الخطر الأول في العالم، وكما ظهر ذلك في مؤتمر شرم الشيخ الأخير، وتهديد إيران والسودان، والتخوف من تركيا، وصمود المقاومة الإسلامية المتنامي في فلسطين وجنوب لبنان، وما يدور من مآسٍ في الجزائر وأفغانستان.
فالحالة الدينية في الحقيقة هي جزء من حالة أعم، وهي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل إنها تعبير عنها وأداة لتغييرها كما هو الحال في الحركات الإسلامية المعاصرة. الحالة الدينية مرتبطة بحالات الفقر والقهر والضياع والتهميش والتبعية العامة التي يشعر بها الشباب، وليست حالةً مستقلة عن الإيمان أو التديُّن أو الشعائر والعبادات. الحالة الدينية هي حالة الوطن.
ويقسم التقرير الحالة الدينية إلى أربعة أقسام: المؤسسات الدينية الرسمية، الحركات الدينية غير الرسمية، العمل الأهلي التطوعي، العلاقات والتفاعلات. وهي قسمة أقرب إلى العلوم السياسية منها إلى التعبير عن الحالة الدينية. هي أقرب إلى الأوضاع أو النظم أو الحركات أو الجماعات والجمعيات.
الحالة الدينية أقرب إلى الحالة النفسية التي تستدعي قياس الاتجاهات، هي أقرب إلى معرفة الدين باعتباره تجارب شعورية للأفراد والجماعات وممارسات في الحياة اليومية، ويمكن أن تُقسَّم، من خلال علوم إنسانية أخرى مثل علم النفس الديني أو علم الاجتماع الديني، إلى أفكار وسلوك واتجاهات وممارسات عملية، ويمكن أن تنقسم إلى تيارات فكرية وتنظيمات سياسية وحركات تاريخية وجماعات معارضة كما هو الحال في العديد من الدراسات حول الإسلام السياسي.
ويمكن أيضًا دراسة الحالة الدينية عن طريق تحليل توظيف الدين كأداة للضبط الاجتماعي كما تفعل النظم السياسية، أو كأداة للحراك الاجتماعي كما تفعل الحركات الإسلامية المعاصرة، واستعمال كل فريق تأويله الخاص. تستعمل النظم السياسية تراث السلطة، كما تعتمد الحركات الإسلامية على تراث المعارضة، ويمكن تحليل شعارات كل فريق: السلام والأمن والتسامح ونبذ العنف والتطرف، وعدم الإكراه لفريق، والحاكمية وتطبيق الشريعة الإسلامية، والإسلام هو الحل لفريق آخر.
المؤسسات الدينية ووصف هياكلها وأنظمتها وأبنيتها وهيئاتها وموظفيها تصور غربي للدين، والإسلام لا كهنوت فيه، وصورة المؤسسات الدينية صورة سلبية في أذهان الناس نظرًا لتبعيتها للنظم السياسية وكما تدل على ذلك الأمثال العامية: «خذ من كلام الشيخ ولا تأخذ من أفعاله»؛ لذلك كثر تحليل تصريحات المسئولين؛ شيخ الأزهر أو المفتي، وكثر استعمال النشرات الإعلامية للمؤسسات الدينية وكتب العلاقات العامة التي تعرِّف بها.
لذلك غلب على التقرير التصور الإداري التنظيمي الهيكلي الصوري للحالة الدينية في مصر التي تتطلب تحليلًا حيًّا في الشعور وفي العمق. وكان القسم الأول عن المؤسسات الدينية الرسمية أكبر الأقسام؛ أكثر من ثلث التقرير كله.
ووردت تفصيلات عن الهيكل التنظيمي لوزارة الأوقاف وهيئات الأزهر، وأسماء مشايخه ومذاهبهم الفقهية وأسماء البطاركة والكنائس، واجتماعات البابوات ومحاضرها وأسماء أعضاء المجلس الإنجيلي، وأسماء الأديرة والكنائس داخل مصر وخارجها، ونظام الرهبنة والتكريس والتفرغ في الكنائس، وقوانين إشهار الجمعيات الدينية وأنواعها، وأسماء الطرق الصوفية، ونوادي أعضاء هيئة التدريس، وتفصيل عن طريقة الحامدية الشاذلية.
وغاب الإشكال أو الهدف من التقرير. هل المقصود إعطاء أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الحالة الدينية في مصر في الداخل والخارج لمزيد من المعرفة، أم إن المقصود هو زيادة وعي الناس بالأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تُفرز الحالة الدينية؟
هل المقصود هو تغيير الوضع القائم، والمساهمة في حل الصراع بين النُّظم السياسية والحركات الإسلامية؟ هل المقصود هو التخفيف من حدة الدجماطيقية والشعائرية التي تُسيطر على الممارسات الدينية للجماعات الإسلامية؟ هل الغاية تجاوز الحالة الطائفية وبيان وحدة الشعب المصري بهذا التجاور والتوازي بين الخطاب الإسلامي والخطاب القبطي؟ هل الغاية بيان أن الدين يمكن أن يكون أداةً للثبات الاجتماعي وأن يكون أداةً للحركة الاجتماعية؟ هل الغاية بيان أن هناك تيارين في فهم كل دين: تيار محافظ وتيار ليبرالي، تيار سلفي وتيار تقدمي؟
غاب الخيط الذي يربط بين أجزاء التقرير الأربعة، وصب المعلومات كلها نحو غاية واحدة حتى يستطيع الناس في النهاية الإجابة عن سؤال: ما هي الحالة الدينية في مصر؟ من أين أتت وإلى أين تنتهي؟
والصعوبة الأكثر في المنهج الذي تأرجح بين التاريخ والوصف والتحليل وتقديم المفاهيم الجديدة والسِّجال مع الحركات الإسلامية وأخْذِ موقف مناهض لها.
غلب منهج التاريخ الذي يؤرِّخ لكل هيئة ومؤسسة إسلامية أو مسيحية: نشأتها وتطورها وحالتها الراهنة. كما ساد منهج التحليل والتقسيم والتفريع حتى اضطربت التقسيمات وتداخل الأساس منها مع الفرعي، وبرز بين الحين والآخر منهج التنظير وتقديم المفاهيم الجديدة دون شرح أو تفصيل.
ولكن الذي غلب هو منهج السجال مع الإخوان المسلمين منذ نشأتهم وحتى روافدهم في الجماعات الإسلامية المعاصرة، واتهامهم فكرًا وتنظيمًا؛ وهو ما يُخرج عادةً التقريرَ الموضوعي المحايد.
فالخطاب الإسلامي عند الإخوان عامٌّ فضفاض، يتسم بالشمول والعمومية، والحقيقة أنها سِمة الخطاب الأيديولوجي بوجه عام وليس الإسلامي وحده؛ فالإسلام تصور عام شامل للحياة والكون. أما الغموض فطبيعي لأن التفسير الشامل لا يُوضِّح الجزئيات، ولا يُجيب على كل الأسئلة التفصيلية. المبدأ العام بطبيعته يحتاج إلى تفصيل متروك للزمن ولمقتضيات كل عصر.
وهو خطاب مزدوج ينقده التقرير، ويتناقض مع الممارسات السياسية، وهذه أيضًا من سِمات الخطاب السياسي؛ خاصةً لو كان دينيًّا؛ لأن الاشتباه جزء من تكوين الخطاب حتى يتفق مع كل عصر. ووظيفة التفسير أو التأويل أو الاجتهاد هي بيان المجمل، وإحكام المتشابه، وتقييد المطلق. بالإضافة إلى أن الممارسة السياسية مشروطة بظروفها، وعادةً ما تتراوح بين الشدة واللين، بين الثورة والإصلاح، بين الأفغاني ومحمد عبده، بين عبد الناصر ومبارك، طبقًا لتقدير الموقف.
والخطاب الإسلامي له مفاهيمه الخاصة التي ورثها من القدماء؛ لذلك لزم عليه تجديدها وفهمها بإعطاء معنًى جديد للفظ القديم وليس بالضرورة عن طريق استبدال لفظ جديد به؛ فالشورى لفظ قديم وتعني بوجه عام الديمقراطية بالمعنى الحديث؛ لأنها ضد الاستبداد بالرأي بصرف النظر عن أشكالها، أغلبية ضد أقلية، ملزِمة أو غير ملزِمة. ويطالب التقرير الخطابَ الإسلامي بترك لفظ الشورى كليةً وإحلال لفظ الديمقراطية بدلًا عنه.
ولا يوجد أساس فلسفي واحد للحرية؛ فهي في الإسلام تعبير عن الشهادة «لا إله إلا الله» ونتيجة لها، وليس بالضرورة حرية فردية نسبية كما هو الحال في الليبرالية الغربية.
وبالرغم من أهميتها فهي ليست المقياس الوحيد للحكم على صحة مذهب سياسي أو خطئه؛ فهناك معايير أخرى مثل العدالة الاجتماعية ومقاومة الاستعمار والصهيونية والتبعية والتجزئة والتخلف واللامبالاة. الحرية والعدالة الاجتماعية واجهتان لقضية واحدة.
وأحادية الطرف في الفهم والتفسير ليست سمةً للخطاب الإسلامي وحده، بل سمة لكل خطاب عقائدي سياسي أو ديني، بل هي سمة للمجتمع المتخلف الذي يسيطر عليه الرأي الواحد، ويحتكر الفكر، وينكر حق الاختلاف.
وليست أهم قضايا الفكر الإسلامي الخلافة وتطبيق الشريعة، بل هناك أيضًا مقاومة العدو الصهيوني والاستعمار الأمريكي، قضايا الخارج مع قضايا الداخل. أما شعارات الحاكمية فقد وردت إلى الإخوان من المودودي نظرًا لظروف الهند وأحوال المسلمين فيها وضرورة المفاصلة وواقعها. عرفها سيد قطب وهو في السجن بعد قراءته كتاب «المصطلحات الأربعة في القرآن»؛ الحاكمية والربانية والألوهية والعبودية.
ومن الطبيعي في الفكر الديني أن تكون المرجعية دينية، إلا أن الدين والواقع شيء واحد، وكذلك الشرع والمصلحة، والآية وسبب النزول، وحق الله وحق الناس.
كما أن التركيز على الأسباب الخارجية للحركات الإسلامية الراديكالية مثل أفغانستان إهدار للسياق، وتنكر للأسباب الداخلية من فقر وقهر وفساد وتحلل وتبعية وميوعة وإحساس عام بالضياع.
وأحيانًا يدخل التقرير في قلب الإخوان، وتحليل المسكوت عنه في خطابهم والحكم عليه بالصدق أو عدمه. كما ينتقد رئاستهم وإمارتهم وتشتتها مع أنه من المعروف أن هذا هو حال المجتمعات المهمشة والمجرمة والمستبعدة، عندما تستعصي الإمارة في الخارج تتشرذم في الداخل كما كان الحال في الفرق الإسلامية القديمة. إذا استعصت السلطة في الخارج تحولت إلى الداخل.
ولا يضع التقرير الحالة الدينية في ظروف اضطهادهم السياسي وتسليط سيف اللاشرعية عليهم؛ فالقضية في الفكر الإسلامي الآن هي إثبات وجوده وليس الحكم على نوعيته، ولا يصبح الفكر صحيحًا سليمًا معافًى إلا في إطار من الشرعية والتفاعل مع الواقع السياسي والتغير والتجديد بِناءً على تجارب المحاولة والخطأ؛ حتى يحدث التراكم التاريخي الكافي لبلورة الوعي التاريخي الذي هو أساس الوعي السياسي.
لقد حمَّل التقرير أوزار المجتمع كلها على الخطاب الإسلامي المعاصر، ودخل معه في سجال دون وضعه في سياقه ودون إمكانية للدفاع أو الرد؛ مما يتنافى مع قواعد الحوار المتكافئ والحكم المتعادل.
(٤) الحالة الدينية في مصر (٢)٤
ويقوم التقرير الذي صدر عن الأهرام «الحالة الدينية في مصر» منذ عدة أشهر برصد الخطابين الإسلامي والمسيحي في الأقسام الأربعة الرئيسية التي يتكون منها التقرير: المؤسسات الدينية الرسمية، الحركات الدينية غير الرسمية، العمل الأهلي والتطوعي، العلاقات والتفاعلات، وكأن هناك خطابين وطنيين متمايزين في مصر من حيث المنطلَقات النظرية والتوجهات الرئيسية؛ ممَّا يقضي على وحدة الخطاب السياسي الوطني، وممَّا يوحي بأن في مصر شعبين متجاورين منفصلين لا يجمعهما وطن واحد. وقد يوحي ذلك وهو الأخطر، بقسمة طائفية لشعب مصر، وبمدخل طائفي للقضايا الوطنية، وهو ما لا وجود له عند أقباط مصر. هم أقباط ولكن مصريون، مصريون أولًا وأقباط ثانيًا.
وتتضح هذه القسمة في بعض الألفاظ والمصطلحات المستعملة مثل: الشعب القبطي، بل يتم عرض الجمعيات الأهلية المسيحية في مصر ومسارها التاريخي وكأنه صراع بين الكنيسة والدولة أسوةً بالتجربة الغربية وبمقاييس الكنيسة، وليس بمقاييس النظم السياسية عبر تاريخ مصر الحديث.
فالمرحلة الأولى: مرحلة النشأة والتطور في القرن التاسع عشر وحتى ١٩٢٣م، وكأنها مرحلة ليس للدولة فيها نظام سياسي، دولة محمد علي حتى دستور ١٩٢٣م. والمرحلة الثانية: العهد الليبرالي ١٩٢٣–١٩٥٢م، وهو عهد وليس نظامًا سياسيًّا للدولة الوطنية المصرية، والمرحلة الثالثة: مرحلة الدولة التعبوية ١٩٥٢–١٩٧٠م، وهي المرحلة القومية الناصرية؛ الثورة المصرية، ويوحي لفظ التعبوية بمعنى الشمولية وسيادة الدولة على المجتمع، ممَّا يقضي على تنظيمات المجتمع المدني بما في ذلك استقلال الجمعيات الأهلية. والمرحلة الرابعة: مرحلة تزايد الدور الخدمي والتنموي للكنيسة ١٩٧١–١٩٩٥م. وهو مقياس كنسي مثل مقياس المرحلة الأولى، دور النشأة والتطور؛ فالجمعيات الأهلية في مقابل الدولة، ومراحلها الأولى والرابعة هي مراحل الدولة. والعلاقة بينهما علاقة عكسية إذا قويت الدولة ضعفت الجمعيات المسيحية كما هو الحال في الثورة المصرية، وإذا ضعفت الدولة قويت الجمعيات المسيحية كما هو الحال في السبعينيات والثمانينيات وعصر الثورة المضادة. ويذكر التفاهم التاريخي بين الكنيسة والدولة وكأنهما قوتان متصارعتان.
ولا يذكر اليهود في مصر. صحيح أنهم فئة قليلة لا يتجاوز عدهم المائتين الآن، وهم مصريون آثروا البقاء في مصر وعدم الرحيل في الموجة الأولى جبرًا في ١٩٤٨م أو طردًا في ١٩٥٦م أو اختيارًا بعد ١٩٦٧م.
ويغيب التوازن الكمي في تحليل الخطابين لصالح الخطاب المسيحي؛ ففي تحليل القسم الأول من التقرير عن المؤسسات الدينية الرسمية يحتل الخطاب الإسلامي (٥٤ ص) والخطاب المسيحي (٧٨ ص)، والصحافة الإسلامية (٤ ص)، والصحافة المسيحية (٨ ص)، ويتم تفصيل المعلومات عن الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية (٥٢ ص) أكثر مما يتم تفصيل المعلومات عن الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء. وفي القسم الثالث عن العمل الأهلي والتطوعي يزداد حجم الجمعيات الأهلية المسيحية (٢٦ ص)، عن الجمعيات الأهلية الإسلامية (١٤ ص). وفي القسم الرابع عن العلاقات والتفاعلات يزداد القسم الخاص بالأقباط وانتخابات ١٩٩٥م (٢٦ ص)، عن القسم الخاص بالتيار الإسلامي (١٦ ص).
وتُعقد دراسة خاصة عن نظام الرهبنة والتكريس والتفرغ في الكنائس (٢٦ ص) أكبر من الدراسة عن الحركة الصوفية كلها (١٤ ص)، وكأن الغاية إعطاء أكبر قدر ممكن من المعلومات في الداخل والخارج عن وضع الأقباط في مصر وإبرازه في التقرير وفي الحياة العامة ودون التعرض للنسبة العددية لهم والاختلاف حولها بين ١٠٪، ١٥٪ من مجموع شعب مصر. وفي القاموس الأخير الذي يوضح أهم المصطلحات والأسماء والألقاب الواردة في التقرير تحظى المفردات الإسلامية بمقدار ٣٤ لفظًا، والمسيحية بمقدار ٧٤ لفظًا، ربما بسبب شيوع الأولى أكثر من الثانية.
وبالرغم من أن الانتماء الوطني للباحثين لا يشوبه أدنى شك لا في النوايا ولا في الأهداف، إلا أن مساهمة مؤسسة كونراد أدناور في تمويل التقرير قد يوحي للبعض بأن الغرب مهتم بجمع المعلومات عن الحالة الطائفية في مصر في عصر جمع المعلومات الدقيقة هو الأساس الأول في ترشيد القرار السياسي.
وقد كان الكيل بمكيالين في طريقة تناول الخطابين الإسلامي والمسيحي؛ إذ يوجد عرض لأهم الاتجاهات الفكرية عند الأقباط ولا يوجد عرض مماثل عند المسلمين، ويوجد تفصيل لتنظيمات الأقباط في الخارج ولا يوجد تفصيل مماثل بالنسبة للمسلمين. وتُعرض شخصية القُمص سمعان الكارسيمية ولا يوجد عرض مماثل للقيادات الإسلامية الوطنية والاجتماعية مثل حافظ سلامة زعيم المقاومة الشعبية في السويس في حرب ١٩٧٣م، وكذلك الشيخ الملاوي والشيخ عيد والشيخ مصطفى عاصي من المعارضة السياسية لكامب دافيد والفساد والتبعية لأمريكا وباقي السياسات المضادة بعد وفاة عبد الناصر، ومن رموز الحركة الوطنية، وضحايا مذبحة سبتمبر مثل الأنبا شنودة على حد سواء. ويُعرض المؤتمر الإسلامي السابع في نشاط الكنيسة الكاثوليكية في مصر ولا تُعرض المؤتمرات عن الحوار الإسلامي في نشاط المؤسسات الإسلامية، ويُعرض إسلاميو الخارج كمعارضة للنظام السياسي في مصر في حين تُعرض الكنائس المسيحية كأنها امتداد للوطن في الخارج، مع أنها أيضًا تقوم بالمعارضة السياسية من أجل السماح لحرية أكثر لمزاولة النشاط المسيحي في مصر. ويُعرض النشاط المسيحي وكأنه نشاط اجتماعي مثل جمعية جامعي القمامة في منشية ناصر. أما النشاط الإسلامي فإنه سياسي مناهض للدولة دون ذكر للنشاط الإسلامي الاجتماعي من خلال المساجد والعيادات الطبية ودُور المناسبات والدروس الخصوصية وصناديق الزكاة والإعانات في أوقات الكوارث.
ويوجد نقد للحركة الإسلامية فكرًا وتنظيمًا ولا يوجد نقد مماثل للحركة القبطية، وكأن الأولى شر مطلق والثانية خير مطلق، بالرغم من تغليب القبطية أحيانًا على المصرية عند بعض الأقباط، وانتمائهم للخارج أكثر من انتمائهم للداخل عند بعض المتغربين منهم، مسيحيين ومسلمين على حد سواء.
بهذه الطريقة تم تصوير المجتمع المصري وكأنه مجتمعان: مجتمع إسلامي ومجتمع قبطي؛ وأن هناك دينين: الإسلام والمسيحية. والحقيقة أن في مصر دينًا واحدًا، وشعبًا واحدًا، ووطنًا واحدًا. وتتجلى هذه الوحدة في الدين الشعبي الذي لا يفرِّق بين الإسلام والمسيحية، وهو الدين الذي يمارسه الناس في الحياة اليومية، والقائم على تعظيم الأولياء والقديسين، والتبرك بهم والتوسط من خلالهم لتحقيق الرغبات. وهو يقوم أيضًا على الموالد والزيارات، لا فرق في ذلك بين زيارة ماري تيريزا في شبرا والسيدة زينب في حي السيدة، بين زيارة مار جرجس في مصر القديمة وزيارة الحسين في حي الحسين، ولا فرق بين تقديم النذور والبخور والعطور وإضاءة الشموع وإقامة الموائد وإطعام الفقراء ومساعدة المحتاجين.
هناك دين واحد يقوم على الإيمان بالله والقضاء والقدر والمكتوب والرزق واليوم الآخر والحساب والعقاب وباحترام الموتى وزيارة القبور، لا فرق في ذلك بين مسلمين ومسيحيين في الممارسات الشعبية.
وربما يمتد ذلك إلى مصر القديمة، وهذا ما يفسِّر اختيار صورة الغلاف، فلاح مصري قديم تُوفي وهو ساجد يصلي لله؛ فالدين في مصر دين واحد، دين التوحيد كعقيدة والعدل كشريعة. تختلف أشكاله وصوره عبر العصور منذ دين مصر القديم وعبر اليهودية والمسيحية وحتى الإسلام؛ فالدين في مصر له بيئة اجتماعية واحدة، وظروف تاريخية واحدة. وله جوهر واحد: التوحيد والعمل الصالح.
والحقيقة أن هذه الوحدة في الخطاب السياسي الوطني تظهر في القسم الرابع من التقرير عن العلاقات والتفاعلات بين المسلمين والأقباط في مصر باعتبارهم مواطنين يشاركون في الحياة السياسية وكما يبدو ذلك من تحليل الخطاب السياسي.
ولكن يظل السؤال: هل الانتخابات السياسية هي المؤشر الرئيسي للتفاعل بين المسلمين والأقباط أم المشاركة في الحياة اليومية في الأفراح والأحزان في المنزل ومكان العمل؟ إن الانتخابات عادةً ما تكون مزيفةً لا يشارك فيها إلا صاحب غُنْم أو منصب أو رياسة. وضعف المشاركة فيها ليس ظاهرةً إسلامية أو قبطية، بل هي ظاهرة سياسية نظرًا لفقدان أهميتها منذ الثورة المصرية وحتى الآن؛ فالنتائج معروفة سلفًا على مستوى رئاسة الدولة، وسيطرة الحزب الحاكم على أغلب المقاعد حتى أصبحت نسبة ٩٩٫٩٪ سخريةً في أفواه الناس.
وتصوير الانتخابات على أنها انتخاباتٌ بين المسلمين والأقباط منافِسةٌ على الحكم، قد يُحوِّل الظاهرة الوطنية إلى ظاهرة طائفية؛ فالانتخابات في مصر انتخابات سياسية وليست طائفية، وإلا كانت مصر مثل لبنان، والتعامل مع الأصوات القبطية مثل التعامل مع أية كتلة سياسية لجذب أصواتها على مستوى الطبقة أو المهنة أو الحي أو المدينة أو المحافظة أو الأسرة أو النسب؛ بل لقد اقترح الحل النسبي لتمثيل الأقباط وكأن الانتخابات قد تمَّت على أساس طائفي تطغى فيه الأكثرية الإسلامية على حقوق الأقلية القبطية، وإن ضمَّ بعض أعضاء مجلس الشورى الأقباط بالتعيين حل لمشكلة سياسية، التمثيل، على نحو طائفي، مثل حل تمثيل المرأة بنساء أو العمال والفلاحين بنسبة ٥٠٪ منهم في المجالس النيابية. ثم جاءت النتيجة مجرد رصد لأسماء المرشَّحين الأقباط دون بيان التفاعل السياسي والحركة السياسية، مراعاةً للظروف الدولية دون المحلية.
ومع ذلك تظهر وحدة الخطاب السياسي بين المسلمين والأقباط تجاه الموضوعات السياسية وتقسيمها في مجموعات خمس تُعتبر هي المؤشر على الحياة الوطنية في مصر. أولًا: القدس، إسرائيل، التطبيع، الموقف العربي، الموقف من أمريكا، الموقف من الفاتيكان، فتوى الاستشهاد. ثانيًا: التطرف والعنف، الإرهاب، الجماعات، الأصولية، الجهاد، والفتنة، تكفير المجتمع، حقوق الإنسان. ثالثًا: الدين والسياسة، الإسلام السياسي، تطبيق الشريعة الإسلامية الحكومة الدينية/الإسلامية، العلمانية، علاقة الحاكم بالمحكوم، المعارضة، حق الاختلاف مع الآخر. رابعًا: الوحدة الوطنية، حوار الأديان، الحوار مع الغرب، أساس العلاقات الدولية. خامسًا: فتاوى البنوك، الفن، الختان، وثيقة الزواج، نقل الأعضاء، تنظيم الأسرة، الجهاد في فلسطين.
وقد ظهرت وحدة الموقف الوطني في تحليل الخطابين الإسلامي والمسيحي تجاه هذه القضايا الوطنية في الخارج والداخل؛ فالاتفاق على بعض منها يتجاوز التمايز بين الإسلاميين والمسيحيين. والخلاف على بعض منها أشد بين المسلمين أنفسهم أو بين المسيحيين أنفسهم أكثر من الخلاف فيها بين المسلمين والأقباط.
تُثبت القراءة عبر الخطابات أن التمايز ليس بين المسلمين والأقباط بل بين الحكومة والمعارضة، بين الأغنياء والفقراء، بين أنصار التبعية للغرب ودعاة الاستقلال الوطني، بين الدين الشعائري العقائدي المؤسس والدين الشعبي الذي يقوم على رعاية مصالح الناس؛ فالاتفاق أو الاختلاف بين الناس سياسي وليس دينيًّا، وبالتالي تسقط شرعية التمايز في الخطاب السياسي بين الخطاب الإسلامي والخطاب المسيحي.
ولا يكفي تحليل الخطاب السياسي الرسمي الإعلامي كما يبدو في الصحف، بل أيضًا توزيع الكتب الدينية ودور النشر ومعارض الكتاب وتحويل مشروعات البحث العلمي من أجل قياس الحالة الدينية في مصر.
وقد احتاط التقرير في النهاية من الاقتراب من مناطق الخطر، وهي أولى بالدراسة والتحليل لبواعثها، وهي نسبة إشغال الوظائف العامة في الدولة، وبعض التوترات حول إنشاء الكنائس، وحضور المسيحية في أجهزة الإعلام، والتنافس على السيطرة على مقاليد السلطة في المؤسسات العامة، وكأن كل شيء على ما يرام.
يحتاج التقرير في الحقيقة إلى رؤية أخرى لوحدة الدين في مصر، والتحليل في العمق بدلًا من بعض المؤشرات السطحية، وتحليل العملية السياسية في مصر كظاهرة سياسية من أجل السلطة والمال، وليس كظاهرة دينية بالرغم من ظهور الشعارات والرموز الدينية من الحكومة والمعارضة على السواء من أجل جلب الأصوات واستمالة العواطف الدينية للجماهير، وهذا أيضًا أحد جوانب الحياة الدينية في مصر.
(٥) الحالة الدينية في مصر (٣)٥
بالرغم من استقلالية مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية النسبية داخل مؤسسة عريقة مثل «الأهرام»، وبالرغم من تمتُّع الباحثين بقدر كبير من الشجاعة الأدبية والرؤية السياسية والقدرة على تنوُّع أساليب التعبير في المواقف الصعبة، وبالرغم من الهامش الكبير في حرية التعبير في مصر، إلا أن تقرير «الحالة الدينية في مصر» أتى تقريرًا حكوميًّا أمنيًّا يعبِّر عن رؤية الدولة في الموضوع أكثر ممَّا يعبِّر عن الآراء الصريحة للحركة الإسلامية في مصر، وأيضًا لرأي الأقباط في مصر بعيدًا عن الخطاب الرسمي. وحديث اللسان شيء وحديث القلب شيء آخر. وهو نوع من ازدواجية الخطاب بين العام والخاص، الخارج والداخل.
فمادة التحليل هي الخطاب الرسمي لمشايخ الأزهر السابقين مثل عبد المجيد سليم، والشيخ تاج، وحسن مأمون، وعبد الحليم محمود والبيصار. وخطابهم هو الخطاب الديني الرسمي الموجَّه ضد أعداء النظام: الإخوان والشيوعيين، على التبادل أو في آنٍ واحد لإضعاف جناحَي المعارضة الرئيسيين في الدولة من أجل تقوية القلب؛ السلطة المركزية، دولة الجيش والشرطة، دولة السلطة التنفيذية.
ولتغطية التوجهات السياسية غير المباشرة في الخطاب الديني الرسمي المباشر امتلأ الخطاب بفتاوى تقليدية لا تمس الحياة العامة. فبدا الخطاب الديني الرسمي وكأنه فقه الحيض والنفاس مثل ختان البنات، أو فقه السلطة مثل رفضهم لأساليب الدعوة في الحركة الإسلامية، والتأكيد على الدور الرقابي للأزهر.
ويختلف المشايخ فيما بينهم كمظهر من مظاهر التعددية الشكلية في الخطاب الرسمي حول موضوعات لا تمس الحياة العامة، وهو خلاف يكشف عن التسابق نحو السلطة، مثل الخلاف بين رئيس جامعة الأزهر ورئيس مجمع البحوث الإسلامية ووزير الأوقاف وبين شيخ الأزهر واتهامه بتعطيل انعقاد مجمع البحوث الإسلامية والسماح بتدخل السلطة السياسية في المؤسسة الدينية بعيدًا عن معترك الخلاف السياسي والاجتماعي بين المشايخ فيما بينهم أو بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية.
ويبدو الطابع الحكومي للتقرير في تحليل الخطاب الديني الإسلامي كما تمثِّله جماعة الإخوان المسلمين، ويكاد ينتهي التحليل بعريضة اتهام تعبِّر عن وجهة نظر الدولة بالرغم من الظروف الاجتماعية الجديدة التي فرضت نفسها على الجماعة وجعلتها تُغيِّر في شكلها التنظيمي، وتُسرع في الأخذ بالتعددية السياسية والتحول الديمقراطي في المجتمع، وتعبِّر عن الثقة بالنفس نظرًا لمرور ما يزيد على سبعين عامًا منذ نشأة الجماعة، وصعود جيل جديد؛ جيل الوسط والشباب، ورغبته في القيام بدور مؤثِّر في حياة الجماعة وتحديد رؤيتها وإعادة تنظيمها بما يتفق والظروف السياسية الراهنة.
فالجماعة تتسم بالمركزية الشديدة، والغموض في أفكارها وعمومياتها وشموليتها وشعاراتها مثل «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «الحاكمية لله»، «تطبيق الشريعة الإسلامية». والحقيقة أن هذه الشعارات إنما تمثِّل آليات للحشد السياسي للجماهير وبلورة وعيهم من أجل تجنيدهم للمعارضة السياسية كما تفعل كل أحزاب المعارضة؛ فالإسلام هو الحل يعبر عن تفاقم الأزمة الاجتماعية يومًا عن يوم وعدم القدرة على الخروج من عنق الزجاجة كما يتم الوعد بذلك بين الحين والآخر. والإسلام هو البديل تعني السأم من التجارب السياسية المعاصرة؛ الليبرالية والاشتراكية والرأسمالية بعد أن دار الزمن عليها جميعًا بالخسران والبوار. والحاكمية لله تعني الملل من أحكام البشر التي تتغير وفقًا لأمزجة الحكام ومصالح الطبقات وصراعات القوى في العالم. وتطبيق الشريعة الإسلامية تعبر عن ضيق الناس بالقوانين الوضعية المدنية وعذابهم في الحياة اليومية وهم يتعاملون مع أجهزة الدولة واستعمال الرشوة لقضاء الحاجات؛ فالقوانين لتعطيل المصالح وليست لتحقيقها.
كما يتسم خطاب الجماعة بالازدواجية بين الديني والسياسي، بين العام والخاص، بين النظر والعمل. وهي ازدواجية عامة في الفكر العربي المعاصر تعم كل الاتجاهات الفكرية والتيارات السياسية ولا يتفرد بها الإخوان، وتنتج عن طبيعة العمل السياسي الذي يوازن بين المبدأ والواقع مما لا يخلو من المناورة وتغيير المواقف في الممارسات السياسية.
ومعظم التيارات الفكرية والأيديولوجية السياسية مبدئية شعارية؛ «الحق فوق القوة، والأمة فوق الحكومة» لليبراليين، «الحرية والاشتراكية والوحدة» للقوميين، «يا عمال العالم اتحدوا» للماركسيين. ثم بعد ذلك تأتي التفصيلات الجزئية في التطبيق والممارسات السياسية. وهكذا أيضًا الإسلام في مبادئه العامة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة، ودور الاجتهاد هو استنباط الأحكام الجزئية المتغيرة في كل عصر من هذه المبادئ العامة.
ومن الطبيعي أن تحدث أجنحة وانشقاقات داخل كل جماعة نظرًا للخلاف في الرأي، والقضية هي كيفية مواجهة هذا الانشقاق، بالقطيعة أم بالحوار، بالتكفير المتبادل أم بالتفاهم والاتفاق. وهو ما يحدث في كل تنظيم سياسي وتيار فكري.
وبالرغم من إدانة الإخوان العنف الذي تمارسه جماعات الغضب والرفض، إلا أن الدولة تتهمهم بأنهم لا فرق بينهم وبين هذه الجماعات الرافضة، الكل سواء بسواء، وتضع الجميع في سلة واحدة؛ بل إن الإخوان هم التنظيم الشرعي والفكري والقيادي الذي يعطي الغطاء والسند القانوني لممارسات العنف. وفي نفس الوقت تتهم جماعات الرفض الحركة الأم بممالأة النظام السياسي ومهادنته وبالتالي تكفيرهم أسوةً بباقي المجتمع؛ فأصبح الإخوان محاصرين بين اتهام الدولة لهم بأنهم مظلة العنف، وتكفير جماعات الرفض لهم بأنهم أتباع النظام.
ويفصل التقرير الحوادث الأمنية الناتجة عن ممارسات العنف، ويرصدها شهرًا بشهر، وعامًا بعد عام وكأنه تقرير عن حالة الأمن في مصر. ويعطي خريطة عنف الجماعات الإسلامية الراديكالية في خمس عشرة صفحة تفصل تاريخ وقوع الحوادث باليوم والشهر وأنواع الضحايا من الشرطة والجماعات والمواطنين، قتلى ومصابين، والمحافظات التي ينتسبون إليها. وهي المعلومات التي تذكرها الصحف اليومية بناءً على تقارير الشرطة أو المستشفيات أو أجهزة الإعلام.
وعلى هذا النحو يذكر التقرير كل عيوب الجماعات الإسلامية من وجهة نظر الدولة، ولا يكاد يذكر لها ميزةً واحدة في قدرتها على تجنيد الجماهير، وحشد الناس، وتنظيم المظاهرات دفاعًا عن البوسنة والهرسك والحرم الأقصى وفلسطين، وتحويلها المساجدَ الأهلية إلى مركز للخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية. كما لا يذكر جهادها في أفغانستان والشيشان والبوسنة وفلسطين وجنوب لبنان.
ولا يكاد يذكر شيئًا عن الظروف النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للشباب والتي تجعلهم ينخرطون بسهولة في جماعات الرفض ويستجيبون لها مثل: البطالة والفقر والجهل، وفتاوى المشايخ بتكفير العلمانيين بل واستحلال دمائهم، والضياع والانحلال كما يبدو في أجهزة الإعلام خاصةً التليفزيون وفتيات الإعلانات، والتبعية للخارج والاعتراف بالصهيونية والفساد والطغيان السياسي وتزوير الانتخابات. وهي كلها أوضاع فعلية تُحرِّك قوى المعارضة السياسية، والحركة الإسلامية جزء منها تستعمل الإسلام كأداة للاحتجاج والرفض كما يستعمل الماركسيون الاشتراكية، والليبراليون الحرية، والقوميون الناصرية.
ولا يكاد يذكر عيوب الدولة، وكأن الدولة على حق طوال الوقت والحركة الإسلامية على خطأ طوال الوقت، وهو نفس الخطاب الإسلامي معكوسًا الذي يعتقد أن الحركة الإسلامية على حق طوال الوقت وأن الدولة على خطأ طوال الوقت. كلاهما خطابان مطلقان يتصارعان على شيء واحد هو السلطة السياسية، والسلطة السياسية بطبيعتها تجميعية، تُحيل الخطابات السياسية النسبية كلها إلى خطاب سياسي جماعي ائتلافي كما يحدث كثيرًا في الجبهات الوطنية والائتلافات الحزبية في مراحل الإنقاذ أو الخلاص الوطني.
لا يكاد يذكر التقرير استحالة القضاء على الحركات الفكرية والتيارات السياسية عن طريق أجهزة الأمن وحدها؛ الشرطة والجيش. وتشهد على ذلك الأحوال في الجزائر، ولا يكاد يذكر التقرير عن رفض أجنحة أمنية في الدولة، قد تكون هي المتسترة على الفساد السياسي والاقتصادي، الحوار مع المعارضة السياسية، إسلامية أو ناصرية أو ليبرالية، وهي الأجنحة الرئيسية الثلاثة للمعارضة السياسية في مصر. وإذا ما حاول أحد وزراء الداخلية الحوار من أجل الوصول إلى تفاهم مشترك، إيقاف العنف في مقابل الإفراج عن المعتقَلين غير المدانين في حوادث العنف تتم إقالته.
ولا يكاد يذكر التقرير رفض أي وجود شرعي للحركة الإسلامية أسوةً بالمعارضة السياسية الوفدية والناصرية. فلم تجد الحركة الإسلامية إلا استعمال أسلوب التخفي وراء الأحزاب السياسية الضعيفة إلى أحزاب ذات توجه إسلامي قوي، وهو ما حدث في النقابات والاتحادات والنوادي والجمعيات عندما وصلت إلى مجالس إدارتها الحركة الإسلامية نظرًا لضعفها وتفرقها وتشتتها.
ولا يكاد يذكر التقرير الفساد السياسي في الدولة، وتزوير الانتخابات العامة أو على مستوى المحليات، واستيلاء الحزب الحاكم على كل المقاعد تقريبًا في المجالس النيابية، والسماح فقط لأحزاب المعارضة المستأنسة بأقل القليل استيفاءً للشكل الديمقراطي، مما يجعل النظام السياسي أحادي الطرف، يقف على ساق واحدة، وينظر إلى العالم بعين واحدة، ويتنفس برئة واحدة، وهو ما يعارض روح الديمقراطية القائمة على التعددية، واستمرارًا لنظام الحزب والدولة الشمولية وإن تعددت الواجهات، واختلفت الأسماء.
ولا يكاد يذكر التقرير تغلغل الحركة الإسلامية في أجهزة الدولة، بل وفي أجهزة الإعلام، فلا يتحدث فيها إلا المشايخ التقليديون، فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس، مما يساعد على غضب الجماعات وتكفيرها للدولة ودعاتها في الإعلام وفي المساجد الحكومية. ويقيمون إعلامهم الخاص؛ الزي والذقن والتكبير، ويؤسسون مساجدهم الأهلية دون مساجد الضرار. فما يقال في حديث الروح كل يوم في التليفزيون قبل نشرة الأخبار تخدير للناس، حديث عن الإيمان والصبر والعبادة والتقوى والمعاد وبعدها مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك، وضرب الفلسطينيين وتعذيبهم في الأراضي المحتلة.
ويحيِّي التقرير الدولة المركزية وقدرتها على التصدي للحركات الإسلامية عن طريق أجهزة الأمن. يحيِّي التقرير «مكانة الدولة المركزية ومؤسساتها ورموزها في الوعي الجماعي للسواد الأعظم من المصريين لاعتبارات تاريخية وثقافية وقيمية عديدة. ومن ناحية أخرى فإن أجهزة القوة والعنف المشروعة في الدولة المصرية تتصف بالتماسك البنائي والفاعلية، وقادرة على التكيف والتوازن الدينامي مع هذا النمط من الجماعات» (ص١٦٢). كما يحيِّي «سياسة الضربات الأمنية الشديدة والمكثفة، واتباع قاعدة التوسع في الاشتباه على المناطق التي تتركز فيها عمليات العنف التي أدَّت إلى التحجيم النسبي لهذه العمليات» (ص١٩٢).
ويقترح التقرير حل تنشيط الدور السياسي للجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية لملء الفراغ السياسي والثقافي في البلاد، وهو أيضًا حل حكومي ينبع من جهاز الدولة ولا تسمح به الدولة نفسها؛ نظرًا لتحريم عمل هذه الجمعيات في الأنشطة السياسية والدينية طبقًا لقانون إنشائها، وخضوعها المستمر لوزارة الشئون الاجتماعية، والتهديد بحلها في حالة أية مخالفات للقانون. وما أكثر الحجج التي لدى الذئب لأكل الحَمَل حتى لو كانت المياه تجري من أعلى حيث يشرب الذئب إلى أسفل حيث يشرب الحَمَل!
قد يكون أحد الأسباب الرئيسية لهذا الطابع الحكومي الأمني للتقرير أن الباحثين الذين كتبوا الأجزاء الإسلامية فيه من خارج الحركة الإسلامية وأحيانًا من المعادين لها. بينما كتب الجزءَ المسيحيَّ فيه باحثون من داخل الحركة القبطية، والمنتمون لها؛ فوقع التقرير في ثنائية الخير والشر، الحق والباطل، الصواب والخطأ، وهو ما يميز خطاب الدولة وخطاب المعارضة على حد سواء.
(٦) الأمثال العامية المصرية والثقافة الوطنية٦
أمثال العرب جزء من أدبهم ومكوِّن لوجدانهم القومي. أعاد الرسول في أحاديثه النبوية بناء بعض منها مثل: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، وهو مثل عربي قديم أعاد الرسول بناءه بإضافة أن نصر الظالم بمنعه عن الظلم.
وما زالت بعض الأمثال العربية حيةً في الذاكرة القومية، يستشهد بها الناس في حياتهم اليومية وهي ما زالت في حاجة إلى إعادة بناء لحسن فهمها واستعمالها، وذلك مثل كثير من الأمثال العامية التي تتعرض للقضاء والقدر والتواكل والاستكانة وقَبول الضيم والفقر والغلب والضنك. وتحتاج إلى إعادة بناء عن طريق تفسيرها وتأويلها بحيث لا تمنع من التغير الاجتماعي، واسترداد الحقوق، ورفع الظلم عن الناس.
والأمثلة على ذلك كثيرة، فإذا قيل «ربنا ريح العريان من غسيل الصابون»، فإن ذلك يعني قَبول القذارة وكأنها نعمة من الله وقَبول العُري لأنه لا يحتاج إلى صابون وغسيل، مع أن الطهارة والغسل والوضوء والاستحمام من فضائل الشريعة. والأفضل البحث عن الصابون والماء للتطهر والنظافة للجسد والثوب.
وإن قيل أيضًا «ربنا ما سوانا إلا بالموت»، فإن ذلك معنى أن الناس سواء في الموت؛ فلكل أجل كتاب، وكل الناس ميتون. ولكنه قد يعني أيضًا قَبول عدم المساواة في الحياة، والتفاوت الشديد في الأرزاق والدخول، ممَّا يستوجب طِبقًا للشريعة تحقيق العدالة الاجتماعية، حق الفقراء في أموال الأغنياء. فالمساواة في الموت حق ولكن اللامساواة في الرزق واقع؛ لذلك شُرعت الزكاة وغيرها من أجل تحقيق المساواة أيضًا في المجتمع.
فإن قيل أيضًا «ربنا ما يقطع بك يا متعوس، يروح البرد وييجي الناموس»، وكأن المتعوس متعوس لا مفر من تعاسته؛ إما بالبرد أو بالناموس مرةً أخرى، وأن الله كتب على البعض التعاسة والضنك والفقر والحرمان والعوز. فيقبل الإنسان وضعه وغلبه، ولا يسترد حقه، وكأن الحق الضائع عزيز المنال؛ مما يسبب رضوخ الشعوب واستسلامها وتنازلها عن حقوقها.
ومثال ذلك أيضًا «المغلوب مغلوب، وفي الآخرة يضرب طوب.» فالضنك ليس فقط في الدنيا بل يمتد أيضًا إلى الآخرة، والمغلوب مغلوب في الدارين. مع أن المغلوب في الدنيا منصور في الآخرة كما تقتضي بذلك العقائد، وكأن الهدف من المثل هو القضاء على كل أمل في الدنيا وفي الآخرة كذلك، وفي الإسلام لا تضيع الحقوق، وإن ضاعت في الدنيا فإنها تُسترد في الآخرة ويقتص من الظالم.
وهناك أمثال أخرى تدعو إلى قَبول الفقر، مثل: «المفلس في أمان الله»؛ لأن الغنى يبعث على الخوف على الثروة وعدم الاطمئنان عليها، وهو ما يعارض الشريعة التي تدعو إلى محاربة الفقر؛ فالصنعة في اليد أمان من الفقر، وقد قال عمر: «والله لو كان الفقر رجلًا لقتلته.» واليد العليا خير من اليد السفلى.
كذلك تُروى بعض الأمثال العامية عن الصبر دون ربطه بالفعل مثل: «من عامود إلى عامود يأتي الله بالفرج القريب»، وكأن مهمة الإنسان هي مجرد التنقل من حائط إلى حائط ومن رصيف إلى رصيف حتى يأتيه الله بالفرج القريب دون سعي أو كدٍّ أو كفاح.
وهناك أمثال عامية أخرى يمكن أن تُفهم على نحو إيجابي أو على نحو سلبي، مثل: «الرب واحد، والعمر واحد»؛ فقد يُفهَم المثل بطريقة تؤدِّي إلى التهلكة وعدم التبصُّر بعواقب الأمور بدعوى أن الرب واحد والعمر واحد، دون تمييز بين المواضع ودون حساب احتمالات النجاة والهلاك؛ وقد يُفهَم على نحو إيجابي بمعنى الإقدام على الصعاب وعدم الخوف أو التخوف أو المهابة من مواجهة المخاطر، كما فعل الأفغاني في إعادة تفسيره للقضاء والقدر لا على أنه استسلام للمقادير، ولكن بمعنى الإقدام على الخطوب، ومواجهة الصعاب، طبقًا لقول الشاعر:
ومثال ذلك أيضًا: «رب هنا، رب هناك.» قد يُفهم على نحو سلبي، يؤدي إلى عدم التمييز بين مَوَاطن الخطر وعدم الفطنة وأخذ الحذر، وقد يُفهم على نحو إيجابي بمعنى الإقدام والسعي والكدح في الأرض، وكلها أرض الله، ميدانًا للجهاد. إن ضاقت هنا اتسعت هناك.
كما قد يُفهم المثل العامي «ربك رب العطا، يدِّي البرد على قد الغطا» على نحو سلبي، أن الله يرضى بفقر العبد وعوزه وضنكه وألَّا يُصيبه من الشرور إلا قدر ما يتحمَّل. وقد يُفهم على نحو إيجابي، أن كل ضرر يمكن الاحتراس منه بما عند الإنسان من وسائل لدفعه، فلا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها. ومن مبادئ الشريعة عدم جواز تكليف ما لا يُطاق، والله لا يظلم الناس، ولا يصيبهم ضرر إلا استطاعوا الحذر منه واحتواءه.
وبالرغم من وجود بعض الأمثال العامية التي تنكر أفعال العباد وتدعو إلى الاتكال على الله أو على الرسول مثل: «ما قالها إلا النبي»؛ وكأن الإنسان يعلن عجزه عن الفعل ويسلِّم مقاديره لله أو للرسول، هناك أمثال عامية أخرى تجمع بين الفعلين؛ فعلى الإنسان أن يسعى وليس عليه النجاح. عليه أن يأخذ بالأسباب والله محقق النتائج.
مثال ذلك: «خذ من عبد الله، واتكل على الله»؛ أي إنه لابد من الفعل الإنساني أولًا، الطبيب للشفاء، والسلاح للنصر، والعلم للكد والسعي. فالتوكل على الله مشروط بالمبادرة الإنسانية كما يقال في مثل شعبي آخر: «اسعَ يا عبد وأنا أعينك.»
وكثير من الأمثال عن الصبر تفيد نفس المعنى، وهو أن الصبر فعل إنساني يأتي بعده الفرج. والحزن، والغيرة، والأهواء، كلها واقع إنساني والإنسان يصبر عليها حتى يستطيع السيطرة على نفسه وتجاوز المحنة، وذلك مثل: «الغيرة مُرَّة، والصبر على الله.» فالمثل الشعبي يُقر بالغيرة كأمر واقع، ويدعو إلى الصبر عليها حتى تنفرج الأزمة؛ فالأهواء وانفعالات النفس بطبيعتها وقتية هوائية عابرة، وليس لها جذور في الوجود الإنساني في الأعماق.
مثال ذلك أيضًا: «إن صبرتم نلتم وأمر الله نافذ، وإن ما صبرتم قبُرتم وأمر الله نافذ.» فأمر الله نافذ في كلتا الحالتين، الصبر أو نفاد الصبر، ولكن بالصبر يتم نيل المراد، وبنفاد الصبر قد ينفجر الإنسان غيظًا، ويموت همًّا وكمدًا.
وإذا كانت حكمة الشعوب أميل إلى الاستكانة والرضا والتسليم عبر التاريخ، فالثبات هو الدائم والتغير هو الطارئ، الواقع هو القاعدة والتغير هو الاستثناء، إلا أن هناك بعض الأمثال العامية التي تعبِّر عن هذه اللحظات التي يثور فيها الإنسان على واقعه ولا يستسلم له؛ إذ يدرك أن الإحالة إلى المقادير عجز عن الفعل: «العجز في التدبير يحيل على المقادير.» والقادر على الفعل لا يلجأ إلى تبرير عجزه بالمكتوب والمقدَّر.
وهناك أمثال عامية أخرى لا تربط بين العلة والمعلول، والمقدمات والنتائج والفعل الإنساني وآثاره؛ فقد يتعب الإنسان ولا يصيب شيئًا فيذهب التعب سدًى، مثل: «اللي زمَّرناه راح لله»، وهو مضاد لموقف الشرع الذي يطالب بالأخذ بالأسباب وبإعمار الأرض.
وقد يفيد المثل العامي المعنى العكسي، أن الرزق يأتي دون سعي وكد؛ فالنتائج غير مشروطة بالمقدمات وذلك مثل: «أهي الأرض سودة، والطاعم الله»؛ فالأرض سوداء لم يزرعها أحدٌ بعد، ولم تتحول إلى أرض خضراء بفعل البذر والسقي والحرث، ولكن الله هو الرزاق؛ مما قد يؤدي إلى إهمال الفعل انتظارًا للرزق.
وقد يخفي الإنسان الرزق الذي جلبه بجهده وعرقه انتظارًا للرزق من الله زيادةً في الطمع وإيهامًا للناس مثل: «المضلف (وهو الإنسان الشبعان) يقول الرزق على الله.» وقد يُضرب المثل بالطير مثل: «الغراب الدافن (الذي أخفى رزقه من سعيه) يقول النصيب على الله.»
وتفيد بعض الأمثال عدم التدخل في الإرادة الإلهية وعدم توسيع ما رزقه الله الإنسان؛ فالرضا بالقليل رغبةً في الكثير قد يؤدِّي إلى ضياع القليل والكثير معًا مثل: «رزق نازل من السماء من خرم إبرة جه يوسعه سده»، وكأن الإنسان عليه فقط أن يقبل ما يُعطى له دون العمل من أجل الزيادة والكثرة، وكأن الحد الأدنى، حد الكفاف هو أقصى ما يطمح إليه العبد.
وكذلك أيضًا: «قال يا رب سلِّم وغنِّم قال يا رب سلِّم وبس»، وكأن طموح الإنسان محدود باتقاء الغُرم دون الغُنم، وكأن تفادي الأضرار يكفي عن جلب المنافع، وهو ما يجعل الشعوب ترضى بالقليل وتترك لغيرها الكثير. يكفي عدم وقوع المصائب والسلامة منها دون طلب الحقوق والأرزاق.
وتدعو بعض الأمثال العامية إلى الاكتفاء بالرزق اليومي دون الإعداد للغد، الطعام يومًا بيوم، والعيش ساعةً بساعة، وترك هم المستقبل، وذلك مثل: «رزق يوم بيوم، والنصيب على الله.» وتؤثر مثل هذه الأمثال في الوجدان العربي تتركه يهمل الإعداد للمستقبل والتخطيط له، فلا يفكِّر في المصائب إلا بعد أن تقع، ولا يُعِد للكوارث إلا بعد أن تحل. وترك الغرب يخطِّط لعشرات السنين مستقبلًا في حالة نفاد الطاقة، وجفاف الأرض، وشح المياه، وتلوث البيئة. ونشأ علم بأكمله هو علم المستقبليات، ورصد سيناريوهات المستقبل، والإعداد لأفضلها، متحكِّمًا في مسار التاريخ، وثروات الأمم.
ومع ذلك هناك أمثال قليلة تدعو إلى الحركة والفعل مثل «الرزق يحب الخفِّية»، وأن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة دون سعي الإنسان. وهو ما يتفق مع الشرع ودعوته إلى الكد والسعي والعمل والكفاح والجهاد، ولكن الغالب على الأمثال هو النوع الأول الذي يدعو إلى القعود والاتكال منتظرًا الرزق والفرج من الله.
إن تجربة العرب الحديثة بدأت بالتنمية للموارد وبناء الدولة الحديثة منذ محمد علي حتى عبد الناصر؛ التصنيع، والزراعة، والإسكان، وإنشاء الأساطيل للتجارة. وكل ما استطاعت الثقافة أن تعطيه هو التوفيق بين القديم والجديد، بين الموروث والوافد، بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر، بين علوم الدين وعلوم الدنيا؛ إما عن طريق الانتقاء من كل من الثقافتين العناصر المتشابهة من أجل توحيد الثقافة، أو عن طريق قراءة القديم قراءةً عصرية، أو عن طريق قراءة الجديد قراءةً قديمة. وكانت النتيجة أن ظلت الثقافة القديمة دون تطوير من الداخل ودون إعادة بناءٍ كي تكون دعامة النهضة الحديثة.
لذلك قد يكون الأدوم والأثبت والأصوب الإعداد لنهضة قادمة لا تكبو، وتقدم لا ينتكس عن طريق إعادة بناء الثقافة القديمة سواء العلوم الدينية أو الأمثال العامية من أجل تكوين ثقافة وطنية تقوم بدور الأيديولوجية السياسية الشعبية، وتدفع الناس إلى المشاركة السياسية والعمل القومي.
وتلك رسالة مراكز البحث الاجتماعي والفنون الشعبية والعلوم السياسية من أجل صياغة ثقافة وطنية تكون دعامة الثقافة السياسية، تنبع من تراث الأمة وتواجه تحديات العصر.
وهي رسالة أجهزة الإعلام خاصةً البرامج الدينية والمسلسلات التليفزيونية التي يشاهدها الملايين والتمثيليات الإذاعية، وهي موضوعات للأعمال الدرامية والأفلام السينمائية من أجل أن يصبح الفن أداةً للتوعية الثقافية.
وهو دور أئمة المساجد في خطبهم ودروسهم، والأحزاب السياسية في منتدياتهم، والجمعيات الأدبية والثقافية في نشاطها ومجلاتها. وهي أيضًا مهمة التربية الوطنية في المدارس ودروس الأدب الشعبي حتى تصبح إعادة بناء الثقافة الوطنية حملةً قومية يشارك فيها الجميع.
لقد تعددت الأولويات في الممارسات السياسية بين الأولوية للاقتصاد والأولوية للسياسة، ولكن بالنسبة للمجتمعات التراثية، مثل المجتمع العربي، الأولوية لإعادة بناء التراث القديم من أجل صياغة ثقافة وطنية تصبح دعامةً لأيديولوجية عربية؛ فالأولوية للثقافة في مجتمع دوَّن تاريخه في شعره، وورثه الوحي في «إعجاز القرآن».
(٧) اليهود في الأمثال العامية المصرية٧
في الوقت الذي تتعثَّر فيه مباحثات السلام بعد صعود اليمين الإسرائيلي إلى الحكم، وفي الوقت الذي يدرك فيه العرب حدود العملية السلمية ومراوغات إسرائيل وعدم وفائها باتفاقيات السلام ورفضها لها يتماسك العرب من جديد، وتظهر وحدتهم. ومن تقدَّم أكثر ممَّا ينبغي يتراجع، ومن هرول توقف.
وقد يعتمد البعض على القرآن الكريم والحديث الشريف من أجل التحذير من الغدر والخيانة، وتحريم موالاة بني إسرائيل الصريحة، وأنه لا يجوز شرعًا الصلح مع بني إسرائيل لِمَا عُرفوا به من نفاق وعدوان؛ فالتراث الديني تراث شعبي مؤثر في سلوك الناس وفي رؤاهم للعالم للتحذير من التعامل مع اليهود أو الهجرة إليهم من العمالة العربية.
وقد يعتمد البعض الآخر من أنصار التطبيع والربح والتجارة بصرف النظر عن الشرف والكرامة والحق على آيات قرآنية أخرى بدعوى السلام مثل وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا مع أنهم لا يجنحون للسلم، ويُقيمون المستوطنات الجديدة، ويُوسِّعون المستوطنات القديمة، ويُهوِّدون القدس، ويستولون على الأراضي الفلسطينية.
أما الأمثال العامية فهي تُوضِّح صورة اليهود دون لبس أو اشتباه، صورة واحدة قادرة على أن تقضي على بقايا وهم التطبيع والسلام، والأمثال العامية لا تقل أثرًا عن التراث الديني في توجيه ثقافات الناس وسلوكهم خاصةً في المجتمعات التراثية التي ما زال تراثها يُمثِّل الرافد الرئيسي لثقافتها، بل وأيديولوجيتها السياسية الشعبية. تُعبِّر عن خبرة الشعوب، ويجمعها القدماء مثل الأبشيهي، والمُحدَثون مثل أحمد تيمور. ودرسها علماء الاجتماع في «هتاف الصامتين»، وكتابتها على عربات النقل وعربات الطعام المتجولة، لا فرق بين الآيات والأحاديث والأمثال العامية.
ففي «الأمثال العامية» لأحمد تيمور الذي جمع ٣١٨٨ مثلًا عاميًّا مصريًّا يظهر اليهود في اثني عشر مثلًا بمفردهم باستثناء مرة واحدة مع النصارى، وكلها ترسم صورة اليهود المعاصرين، صورة الصهيوني، ويبدو أنها صورة نمطية عبر التاريخ بالرغم من وجود بعض الحركات الإصلاحية التي ترفض هذه الصورة وتسعى إلى تغييرها، ولكن الصهيونية المعاصرة أكَّدت هذه الصورة النمطية التي عرضتها الأمثال العامية، ويمكن عرضها في سبع سمات:
- أولًا: أن اليهودي فقير لأنه يتاجر بماله ويرابي فيه، فهو فقير بالرغم من غناه، بخيل بالرغم من وفرة ماله، مُقتِّر بالرغم مما يمتلك؛ لذلك ضُرب به المثل في الإفلاس: «أفلس من يهودي نهار السبت.» ومع ذلك يظل يبحث في أوراقه القديمة لعله يجد دَينًا له عند أحد يطالبه به، يظل يُقلِّب في الأوراق ويبحث في الماضي ليجد حجةً للمطالبة في الحاضر كما يفعل اليهود الآن في البحث في التاريخ لإيجاد شرعية لإعادة إقامة هيكل سليمان ومقابر الأنبياء وأرض المعاد، «لما يفلِّس اليهودي، يدور في دفاتره القديمة.» يتصف بالنهَم لأنه لا يشبع، وبالطمع لأنه لا يكتفي ويطالب بالمزيد. والفقير في الدنيا فقير في الآخرة: «زي فقر اليهود، لا دنيا ولا آخرة.» يحكم المثل العامي على اليهود إذن بالخسران في الدارين، بدايةً بالخسران في الدنيا؛ ومن لا دنيا له لا آخرة له.
- ثانيًا: أن اليهودي لا يصدق في شيء يُبلغه لأنه يعرف الحق ويكتمه، يكذب ويحجب الحق عن الناس: «زي ساعي اليهود، ما يودي خبر ولا يجيب خبر»، ومن ثم يصعب التعامل معه والاعتماد عليه، الحق له وحده يمنعه عن الناس، يأخذ أكثر مما يعطي، ويتعلَّم أكثر مما يُعلِّم. يخدمه الناس أكثر مما يخدم الناس.
- ثالثًا: أن اليهودي لا ضمير له ولا إيمان له ولا قيمة له بالرغم من ادعائه الإيمان وتأسيس دعوته السياسية على الدين. لقد مات موسى بالنسبة له وبالتالي استحل كل القيم، وبدَّل الشرائع، وقتل النفس التي حرمها الله في التوراة: «سيدنا موسى مات، ناشف، طري، هات.» لا يهم الدين فقد انقضى عصر الأنبياء، وبالتالي استحل اليهودي لنفسه كل شيء من أراضي الغير وممتلكاتهم، وأحلَّ لنفسه القتل والغدر والخيانة، لا فرق لديه بين الحلال والحرام، يستولي على كل شيء بصرف النظر عن مصدره، ويأخذ كل شيء بصرف النظر عن حقه.
- رابعًا: أن اليهودي أناني، لا يخدم أحدًا، ولا يُقدِّم العون لأحد: «احتاجوا لليهودي، قال اليوم عيدي.» يتذرع بالدين وبمراعاة شريعة السبت كي يمتنع عن خدمة الناس؛ لذلك نقدهم السيد المسيح بأن الإنسان هو سيد السبت وليس السبت سيد الإنسان، وأن اليهودي لو وجد شاته قد وقعت في حفرة يوم السبت لأنقذها؛ لذلك يأخذ اليهود كل شعائر الدين كذرائع لتحقيق أهدافهم السياسية، لا فرق في ذلك بين المتدينين والعلمانيين منهم، بين المدنيين والعسكريين.
- خامسًا: أن اليهودي يُظهر غير ما يُبطن، ويُبدي غير ما يكتم، يدَّعي أنه ضحية المحرقة والاضطهاد والإبعاد عبر التاريخ، وهو أول المعتدين الذي يستعبد غيره، يقتل ويعذب ويطرد ويهدم المنازل، ويحرق بالنابالم، ويكسر الأصابع. يبكي عند حائط المبكى وبيده السيف، والخنجر يضعه في قلب الفلسطيني؛ لذلك قيل: «زي طُرب اليهود، بياض على قلة رحمة.» الظاهر العدل والباطن القسوة، في الخارج البراءة وفي الداخل الإجرام. وكل قراءة اليهودي للتوراة كذب في كذب، ولا يؤمن بما فيها ولا يطبِّقها. إنما يأخذها فقط كذريعة لمخالفتها وعصيانها. يقرأ باللسان ويكذِّب بالقلب، يقرأ بالصوت ويعصي بالفعل: «زي قراية اليهود، تلتينها كدب.» فما يقوله اليهود كذبه أكثر من صدقه، وخيانته أكثر من وفائه، وخداعه أكثر من صراحته.
- سادسًا: لقد مات الإيمان في قلب اليهودي، وحل فرعون فيه محل موسى، وحلت القوة محل العدل: «اللي تقول عليه موسى تلتقيه فرعون.» فسلوك اليهود أقرب إلى فرعون منه إلى موسى، إلى العدوان والقوة منه إلى الرحمة والعدل. ومن لا يرضى بحكم موسى لا يجد إلا حكم فرعون: «اللي ما يرضى بحكم موسى يرضى بحكم فرعون.» لذلك لم يعد هناك فرق بين الصهيونية والنازية، كلتاهما نزعة عنصرية عدوانية توسعية، بعيدة كل البعد عن رسالة الأنبياء وأقوال الفلاسفة؛ لذلك لم يعد هناك من يستمع إلى مزامير داود؛ فقد غاب اليهودي وحل محله الصهيوني النازي: «راح تقرأ زبورك على مين يا داود.» لم تعد التوراة ولا الزبور ولا حكم سليمان ولا أقوال الأنبياء بذات صدًى في قلوب اليهود.
- سابعًا: اليهود والنصارى غرباء عن البلاد، دخلاء عليه، أقرب إلى الأجنبي منهم إلى الوطني. وليس المقصود هنا النصارى العرب الذين لم يأخذ الإسلام منهم الجزية لأنهم عرب، بل النصارى «الخواجات» الآتين من الغرب. وليس المقصود أيضًا هنا بعض اليهود الوطنيين مثل عبد الله بن سلام اليهودي في عصر الرسول الذي كشف إخفاء اليهود لآية الرجم بل اليهود الغربيون المستعمرون الذين استوطنوا في البلاد وعاشوا غرباء فيها، يستنزفون ثروات الناس ويستقطبون عمالتهم. «لليهود والنصارى، ولا لولاد الحارة»، فاليهود والنصارى الغربيون ليسوا من الحارة، بتعبير نجيب محفوظ، بل دخلاء عليها، وليسوا من أهل البلاد الوطنيين بل غرباء عنها.
وبالرغم من أن هذا المثل هو الوحيد الذي يقرن اليهود والنصارى، إلا أن صورة النصارى بمفردهم تظهر في خمسة أمثال أقرب إلى الإيجاب منها إلى السلب، ثلاثة منها عن الكنيسة وولاء النصراني لها، وصدقه مع النفس في إيمانه، وهو إيمان قلبي خالص وإن اختلفت المظاهر عنه: «اللي في القلب في القلب يا كنيسة.» سواء انطبق ذلك على النصراني تجاه الكنيسة أو على المسلم تجاه الكنيسة. والإيمان اعتقاد داخلي ثابت ودائم، لا يتحول. الصدق مع النفس جوهره بصرف النظر عن أقوال اللسان. «قالوا يا كنيسة اسلمي قالت اللي في القلب في القلب»، فليس المهم تولية الوجه قِبَل المشرق والمغرب، ولكن الإيمان بالله، والتقوى في القلب، والصدق مع النفس. وتضم الكنيسة جماعة المؤمنين، يعرف بعضهم بعضًا: «الكنيسة تعرف أهلها.»
كما يشير مثل عامي واحد إلى الزواج النصراني الأبدي الذي لا فراق فيه مهما علت الأصوات وكبر الخلاف واستحالت الحياة بين الزوجين مثل: «جوازة نصرانية لا فراق إلا بالخناق.»
ويشير مثل واحد إلى الموالاة للنصارى لدرجة التبعية، فينسى من يقوم بذلك الحق في سبيل الرزق والمصلحة الشخصية، وهو حال بعض العرب مع الغربيين ما دامت المصالح قد تشابكت: «اللي ياكل عيش النصراني يضرب بسيفه.» ولا ينطبق ذلك على نصارى العرب الذين هم جزء من الوطن، يدافعون عن حريته واستقلاله ضد الدخيل الأجنبي؛ فالغربي تنكَّر للمسيحية وآثر العدوان.
صحيح أن هذه الأمثال العامية جُمعت في مصر، ولكن لها ما يشابهها في باقي الوطن العربي. وقد تجمع اليهود في مصر والمغرب وتونس والعراق خاصة. وبتحليل أمثال هذه البلدان العربية تجاه اليهود لا تختلف الصورة بل تتأكد؛ فالسلوك اليهودي واحد في الأغلب، وهي نفس الصورة أيضًا في الغرب والتي صوَّرها شيكسبير في شخصية شيلوك في «تاجر البندقية».
ولا تعني هذه الصورة أية معاداة للسامية، بل هي تقرير واقع من خلال الثقافة الشعبية كما يحلِّلها علماء الأنثروبولوجيا. إنها حكم واقع وليست حكم قيمة، ومثلها مثل صورة العربي في الذهن الإسرائيلي أو الغربي، والجماهير تتحرك بناءً على هذه الصورة المتبادَلة بين الأفراد والشعوب والثقافات، وقد تؤيِّدها الأعمال والسياسات أو تخالفها، فإذا أيَّدتها ترسَّخت الصورة، وإذا خالفتها اهتزَّت الصورة حتى تتكوَّن صور بديلة عبر التاريخ.
وفي حالة اليهود، تترسَّخ الصورة التي رسمتها الأمثال العامية المصرية، وتتأكد يومًا بعد يوم منذ نشأة الحركة الصهيونية في أواخر القرن الماضي، وبداية الهجرات اليهودية حتى تأسيس دولة إسرائيل في ١٩٤٨م وحروبها التوسعية في ١٩٥٦م وفي ١٩٦٧م وبعد حرب ١٩٧٣م وبداية إسرائيل الكبرى وعودة حلم «من النيل إلى الفرات» بعد صعود اليمين الإسرائيلي إلى السلطة وممارسة سياسات القمع والاستيطان والتوسع سرًّا وعلانية.
والتاريخ القديم منذ خيبر والطائف والمدينة يؤكد ما أثبته التاريخ الحديث منذ بازل وحتى تأسيس دولة إسرائيل؛ بل ويتنبأ بالمستقبل القريب، من البذرة إلى الثمرة، ومن الجذور إلى الأوراق، ولكنها دورة حيوية أيضًا على الأمد البعيد، تنتهي بالجفاف.
لا يعني ذلك التهوين من أمر اليهود اعتمادًا على الصورة الشعبية الكاشفة لهم في الأمثال العامية؛ فالتاريخ لا يتحرك بالصورة وإن كانت الصورة أحد العوامل المجندة لقواه، إنما يتحرك التاريخ بالفعل، أفعال الأفراد والجماعات وحركات الشعوب. الصورة بداية اليقظة، والفعل بداية الحركة.
إن العرب قادمون على جولة جديدة في صراعهم مع الصهيونية كفكر ودولة، كعقيدة ونظام، كحق قوة. وربما كانت من مآثر السلام إدراك أنه وهم، وأنه لا سلام. لقد أدت الحروب القديمة إلى السلام وربما يؤدي السلام الحديث إلى حروب قادمة.
إنما المطلوب معرفة الإمكانيات، ومن ضمنها الإمكانيات الذهنية والمعنوية، ومنها الاستمرار على القضاء على ما تبقى من الوهم في تغيير الصهيونية مواقفها من أرض فلسطين وشعبها ووجوده، واتجاهها تجاه العرب تاريخًا وحاجزًا ومستقبلًا. ومنها صورة اليهود، بني إسرائيل في القرآن والسنة، وصورتهم في الأمثال العامية العربية، حمايةً للشعوب العربية من أوهام التطبيع والمستقبل الزاهر، والتعاون المستمر بين الدول في المنطقة في إطار نُظُمٍ جديدة مثل: الشرق أوسطية والمتوسطية. اليهودي يهودي عبر التاريخ وإلا لما كان يهوديًّا، ولما حافظ على وجوده في الشتات وفي المعاد.
في ثقافة العرب حماية للعرب من الوهم والتطبيع والسير وراء سراب خادع باسم السلام، وتلك مهمة المثقفين الوطنيين الذين يجعلون من بناء الثقافة الوطنية خير دعامة لحماية الأمة.